شاي المساء - قصة: إحسان شرعي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لا أعرف لماذا ولا كيف فتحت عيني في الغرفة المظلمة لأجد رجلا قبالتي عند حافة الباب يرتدي قميصا أبيضا، مصفف الشعر بشكل لامع، ضامر البطن حاد الملامح ينظر إلي ويبتسم ابتسامة مريبة مفزعة تشل حركتي، وتجعلني مستسلمة تماما لما سيقع. يقترب مني قبل حتى أن أعي تماما ما يحصل، ثم يقترب ويقترب كشريط رعب الى أن يلصق وجهه بوجهي ويغرس أنفه بخدي ثم يعود منسحبا الى الوراء كشريط عكسي: كل الحركات السالفة الى الخلف ثم يختفي عند حافة الباب التي بدا في فيها أول وهلة.
أجمع قواي لأصرخ لا يوجد صوت.
أسعى جاهدة ثم يخرج الصوت فأصرخ ملء ما أستطيع، أستيقظ بخفقان رهيب في صدري مع إحساس بالاختناق ألتفت الى الساعة جانب السرير، الساعة تشير الى الثالثة ليلا أحس بارتياح على الأقل لم يكن الأمر سوى كابوس نجوت منه بمعجزة، الاستيقاظ من الكوابيس أشبه بفرصة للنجاة والظفر بحياة أخرى.
انهض من السرير، حلقي جاف أكثر من العادة مع إحساس بالغثيان أحاول التذكر إن كنت أخدت جرعة الدواء المسائية، أتجه إلى المطبخ يبدو ترتيب الأدراج غريبا عما أعرف لابد أني أعاني بعض التشويش بسبب النعاس، بحثت عن كأس ماء أجد واحدا بعد عناء أشرب واتجه الى المرحاض حافية.
شيء ما يلتصق بأسفل قدمي أمسح قدمي ببعضها أخطو فانزلق وأكاد أسقط. ليلة سيئة بكل المقاييس ولا أتمنى أن تسوء أكثر.
عند باب المرحاض تزيد الأرضية لزوجة وازعاجا، أبحث عن مقابس النور أتخبط بين الجدران أحاول ان لا أسقط من إثر المادة الملتصقة بقدمي لا أعرف مكان المقابس، أجد الواحد تلو الاخر صدفة، أنا الان وسط برك دماء عديدة.

أتمنى لو كان كابوسا آخر أو نوبة هلوسة، لكن الأمر يبدو حقيقا ،أرتعش من رأسي إلى قدمي وأشعر أنني أموت خوفا، أرتاب من كل ما حولي حتى أثاث، لا أعرف ما قد تخفيه الغرف المظلمة ولا قوة لي لأعرف ، يبدو الأثاث على شكل وحوش والطاولات عناكب أتحسس ملابسي أجدني أرتدي قميص نوم شفاف أبيض لكنه أيضا ملوث بالدماء أحاول العودة الى الغرفة حيث أنام أتحسس مقابس الضوء ، لكن الغرفة شبه مضاءة بمصابيح الشارع ، في الجانب الأيمن أسفل السرير رجل ضخم ملقى على الأرض ملطخا بالدماء بشكل يعيب ظهور ملامحه بوضوح وسط بركة دم منسكب .
لا أعرف الرجل ولا أستطيع الاقتراب لتحسس ملامحه وأخاف الآن من كل شيء ومن أي حركة مباغتة تظهر.
أجلس القرفصاء منتحبة في البقعة المضيئة من الغرفة دون أدنى حركة لا صوت سوى صوت دقات المنبه الساعات تمر: الرابعة ثم الخامسة يتسلل الى الغرفة ضوء أرجواني تسمع صوت العصافير وأغفو من التعب أتمنى لو أصحو لأجد أن لا شيء مما رأيته حقيقيا ثم أستيقظ فينة بعد أخرى في نفس الوضع ولا شيء يتغير سوى طنين الذباب المتعقب رائحة الدم. أحاول ان أتذكر ما حدث؟ وكيف وصلت هنا؟ ومن الرجل؟ أغمض عيني وأركز لكن الذكريات تبدو غير متناسقة ومتضاربة، أتذكر نفسي عند البقال أرتدي فستانا صيفيا اشتري خبزا فرنسيا ولتر حليب وأخطط لفطور الصباح، ثم أتذكر أني أسبح رفقة طفل صغير بعيون عسلية لامعة يبتسم ألاعبه برش بعض الماء عليه فيقهقه ،تختفي هذه الذكرى وتبدو أخرى أستقل فيها سيارة أجرى يسرع السائق بشكل غريب وينظر إلي بريبة يركز على فخدي ربما ينظر على ساقي أعدل جلستي وأنزل الثوب أكثر متجاهلة النظر إليه، يحاول ككل السائقين أن يخلق حديثا ، أفضل أن أتبع مسار سيره، العمارات المتفاوتة والحركة السريعة تجعلني أصاب بالغثيان وسط الحرارة مفرطة، والرطوبة المرتفعة تجعل الملابس تضيق على صدري أكثر أحس العرق يشق أخدودا على الظهري وتتعرق راحة يدي ويزيد قلقي، ألوم نفسي لأني لم انتبه الى رقم السيارة وكيف أني غير حذرة كفاية كما يجب ان تكون النساء. تختفي الذكرى ولا أذكر بقية المشوار.
ترسم بذهني ذكرى طفولية، أتذكر استلقائنا انا واختي على أريكة في فناء المنزل العتيق بعد وجبة غداء دسمة، بينما للصيف رغم حرارته نشوة وطعم خاص، تمتلئ ذاكرتي برائحة الشاي المسكر، ينبعث ضوء الشمس بين وريقات دالية العنب فينعكس رسمها على الجدران المغطاة بزليج ملون بالأبيض وبالأخضر وبالنجمات الزرقاء، نقول النكات والطرائف تتعالى أصوات الضحكات يقابلنا أبي يجلس في زهو واسترخاء يسمع أغاني المذياع. ثم يختفي وهيج الذكرى وأجد نفسي وحيدة وخائفة وبعيدة عن كل من أحب، يقول صوت لا أستطيع تعيين مصدره: الأشباح التي تطاردك في نومك حقيقية، كل شكوك واقع، أحلامك المزعجة هي واقعك الذي تهربين منه لكنه لا ينفك يطاردك الى أن يصل بك حافة الجنون، حدسك لا يخدعك، من تشك في ولائه خائن بالنية قبل الفعل ومن يتردد مداعبا خيالك لابد أنك تداعب خياله وإلا لما تجلى لك، معتقداتك التي تخاطر بعمرك من أجلها قد تكون كاذبة.
عمرك ولون بشرتك وطعم جلدك المالح لا يمثل من تكون فعلا، أنت كائن وحيد رغم تعدد الرفاق، أنت نسخة وحيدة عن طموحك، لا شيء يشبهك في هذا الكون، والكون لم يصنع من أجلك، أنت صدفة حمقاء في لحظة شهوة عابرة، وحين تمرين في الشارع لا أحد يطالع وجهك كل يطالع وجهه فيك، وكل يسمع ما يريد منك أنت مجرد مرآة عاكسة لكل محي إلا محياك.
انتفض من مكاني انتفاضا كمن تزرع فيه الحياة مرة أخرى كطائر العنقاء أولد من حضن الدمار أولد من الخوف وأفتح عيني، أنا في فراشي والصور التي اشتريتها أمس من المتجر معلقة قبالتي، المنبه في مكانه منامتي القطنية نظيفة وضوء الشمس مشرق، لقد كنت أحلم بكابوس، لكنني نجوت منه ككل مرة ولا شيء مما تخيلته وقع.
يستحق الأمر احتفالا صباحيا ،لدي ساعتان ونصف قبل الالتحاق بالعمل ،أنهض من السرير أدس خفين ناعمين في قدمي ،استشعر فرو الأرنب الناعم بهما ،أجهز الحمام وأعدل صبيب الماء وحرارته لتكون أغزر وأدفئ ،أستشعر الماء ينهمر على رأسي ووجهي وثدياي ،أجس ملمسهما الناعم وثقل استدارتهما ينزل الماء على بطني وأسفل أفرك قدمي ببعضهما ،جل الفراولة يجعل نشوة الاستحمام في أوجها ،ثم أغسل شعري وأنتهي بتنظيف أسناني أمسح المرآة الندية بالبخار مازلت سعيدة لكون الكابوس مجرد حلم ،ألتف بنوار أبيض فقد بعض بياضه بسبب كثرة الاستعمال لكنه يفي بالغرض وأجفف شعري وأتجه إلى المطبخ لأجهز فطورا لذيذا : فنجان قهوة بالحليب وشرائح لحم مدخن ،مربى منزلي وخبز كامل خبزته قبل يوم ،زبدة و زيت زيتون .
لا أحتار في اختيار ملابسي، المهم أن تكون مبهجة الألوان ولا تظهر مؤخرتي عبرها ، رغم أن حرصي لا قيمة له أنا دائما شبه عارية بنظر زملاء العمل والمارة ،لم أعد استغرب أن يرمق أحدهم مؤخرتي المغطاة المتخيلة عارية بأذهانهم ،كنت أغضب عندما يستمع أحدهم إلى وقع حذائي دون أن يصغي إلى حديثي أو أن يلتفت إلى حمرة شفاهي دون أن ينتبه إلى رجاحة رأيي ، يقول الصوت :المؤخرة قبل الرأي ،الشفاه الحمراء أهم من محتوى الكلام، لا أرد عليه ، بل أشغل الموسيقى عالية تصارع الصوت حتى يختفي بعد مقاومة ،أرتدي وقتها ملابسي بينما أرقص فينساب العرق على ظهري قد يضيع الحمام لكن رائحة الفراولة ما تزال حاضرة على الأقل لجعل صباحي العادي والرتيب بطعم منعش ، أغادر الشقة متثاقلة لا يستحق اليوم المنتظر الركض ،أجمل ما قد يقع فيه أن لا يحصل جديد.
الشارع مزدحم والناس كالمجانين: أصحاب السيارات والعربات يزمرون في وجه بعضهم، الراجلون غافلون تماما عما يقع أو يتعمدون إغاضة السائقين، لا يمشون على الأرصفة، بل وسط الشارع المزدحم، يغيرون رأيهم إبان العبور قد يترددون ويخالفون كل الإشارات، أما أنا فأشغل أغنية حالمة على راديو السيارة وإن لم تشتغل وأشغلها وسط ذهني وأدندن في خضم ما يقع داخل المدينة الكبيرة المجنونة.
يستقبلني المدير يدق على ساعة يده ملمحا تأخري، أبتسم له ابتسامة صفراء وتقول نظراته أنه يرغب في التخلص مني بحركة ساحر لكنني أتجاهل هذا الكره الصباحي العميق المتبادل بيننا، أحاول أن أكون امرأة هادئة ومثالية ما أمكن أو أدعي ذلك على الأقل، أمر عابرة جماعة من الزملاء يبتسم البعض ويمتعض أخرون وتنظر إلي أخريات نظرات ثلاثية الأبعاد، الموظفة الجديدة ترتدي تنورة عليها نقوش ورد بينما العالم كئيب وبائس!.
يركض إلي بعض المتملقين وكان أشهرهم السيد كمال زوج وأب في الثامنة والثلاثين بجسم رياضي وخفة ظل منعدمة، لكنه ما يزال يظن قد يحظى بفرص علاقات حب جديدة مع عميلات أو زميلات عمل ، يسرع ليفتح لي باب المكتب كالحاجب ويلفت انتباهي انه عمل على تهدئة روع العملاء المسعورين مع بداية النهار ،يتمنى لي صباحا سعيدا ويصرح بعبارات شهوانية مبطنة أنه سيظل دائما في الخدمة ،وأنا أعي نوع الخدمة التي يريد تقديمها لي ،لكنه ليس من النوع الذي قد يلفت انتباهي قد يقتنع يوما استحالة الأمر.
أنهي عملي كشريط مملل ومكرر ولا أفكر إلا في برنامج للمساء قد أشاهد فيلما وقد أتناول عشاءا في مطعم قريب من الشقة أو أكتفي بعشاء خفيف على كرسي المطبخ.
أغادر العمل عند الرابعة والنصف ما أكاد أصعد الدرج لأصل شقتي حتى أصادف على الباب شرطيا بزي مدني يخبرني بأمر شكوى مكررة بسبب انزعاج أحد الجيران من صوت الأغاني الفرنسية التي تعلو منزلي كل ليلة، وأنهم اشتكوا بي عند شرطة الحي، يقول المخبر: السيدة الصغيرة تبالغ في رفع المذياع على القناة الفرنسية كل مساء.
(ينظر المخبر الوسيم الي متسائلا) وما سبب كل هذا الإزعاج ؟!،
أنظر إليه بغرابة من يتكلم دون منطق بينما أدير مفتاح الباب ألتفت إليه تفضل بالدخول أولا، ثم أكمل: وهل أدعهم يسمعون الصراخ في كل مرة، (أردد همسا)،
المخبر: يأخذ وقتا للتجول في أركان الشقة يفتح الأبواب، يطل من الشرفة، يلقي نظرة على المطبخ ثم غرفة النوم ثم يتجه نحو غرفة موصده الباب يطلب مني مفتاحها، أقول أني لا أملكه، فيكسر القفل في تحد
المخبر: دولاب ملابس أنيق (يردد بصوت هادئ وواثق)، ثم يفتح الدولاب، ماذا تفعل بدل رجالية في دولاب سيدة وحيدة؟ إلا إن كانت عاهرة بامتياز!
أنا: أضحك بقهقهة، أنهم عشاقي يا سيدي المخبر، الذين اختفوا من على وجه الأرض، ولم يتركوا إلا مخلفاتهم، أحذية جميلة، أو بذل أنيقة، أو ساعات فاخرة، أو مذكرات شخصية مكتوبة بخط اليد، أو علب سجائر، ولاعات، وأقلام فضية.....، يجب أن يكون العشيق أنيقا، وإلا لن يقبل في التجربة.
المخبر: أي تجربة تقصدين (في توجس)؟
أنا :تجربة الاختفاء والانصهار داخل شقة السيدة الجميلة ،(أنظر في عينيه بتهكم ودلال ) كلهم يأتون لنفس السبب ،يجرهم حدسهم الذكوري إلي ،بمنتهى الطواعية، حينما يخبرهم قلبهم أنني الأنثى المثلى ،يبدؤون بالتخطيط والتودد والمراسلة، والهدايا ،يقولون أفضل ما لديهم من كلمات ،ينتقون أجود العطور، و يظهرون كل مفاتن الرجولة ، جسد فارع، لحية مهملة ،ابتسامة لطيفة ،ثم في ليلة مزهرة يأتون إلي ، نضع الطعام سويا على المائدة، نوقد الشموع ،نتبادل الأحاديث حول الموسيقى العالمية ،عن الفلسفة والدين، الرسم ،الممكن والمستحيل ،ثم نشغل الموسيقى المفضلة لكلينا ،ثم .....لا أحب الحديث عن أجسادهم الثقيلة ،التي تجر بصعوبة بالغة إلى الحمام ، كما أن مهمة إزالة الدم عن الجدران والأرضية مهمة صعبة للغاية على امرأه ضئيلة الحجم مثلي ،ومع ذلك لا أترك أثرا ،ثم أعطر المكان وأرتب البدل حسب تناسق اللون ، أرفع المذياع على صوت أغنية حالمة ،بينما أشرب شاي المساء على الأريكة.
(ألتفت إليه بينما هو غارق في الدهشة ومأخوذ بالذهول) أتمم الحديث أتفضل الموسيقى الفرنسية يا مخبر أم الروك أند رول الأمريكية، ستكون الليلة ماتعة وسأضيف إلى تشكيلتي زيا رسميا هذه المرة.
لا يكاد يصدق ما يسمع ويفتح عيناه الكبيرات في استغراب ورعب ولا أعرف كيف ألفت هذه القصة: أفلام الرعب التي أشاهدها بدأت تؤثر على عقلي !، ما كدت أخبره أن كلامي مجرد دعابة سخيفة، مع محاولة شرح فاشلة حتى أخبرني أن شرطيان سيأتيان إلى صباحا قصد الالتحاق بمخفر الشرطة، مع تصريح بتفتيش شقتي ثم يغادر موصدا الباب خلفه، أنا الآن في ورطة مجانية نسجتها بنفسي ولا أعرف كيف أنهيها.
تنتهي سهرتي مع المخبر قبل أن تبدأ، سيقتادني للتحقيق دون أن يكون أي دليل عن صحة ما قلته، من قال إن البدل الرجالية المتراصة في دولابي تعني أني قتلت، بل مجرد كناية لغوية ومجاز لا أدري ما كان سيفعله لو امتلك قدرة قراءة ما بذهني أو تأتى له مشاهدة ما أشاهد من كوابيس، ومع ذلك لا أعترض على الذهاب معه.
على مثن سيارة الشرطة يلتصق بجانبي شرطيان الظاهر أنهما التحقا توا بسلك الشرطة حتى ان شاربيهما لم يشقا بعد طريق النمو طولهما فارع وأجسادهما ناحلة، وتوحي بابتسامتهما السطحية الواضحة البلادة أنهما لم يتعلما الحزم والحياد مع المشتبهين والمشتبهات مثلي، يلصق أحدهما فخده بحافة فخدي ويقترح الآخر سيجارة، انحي ركبة الملتصق بفخذي فيحس وخزا متعبا في رجولته المستحدثة، (أنظر إليه بحزم )أنا لا أدخن يا سيد ولن، قد أكون قاتلة وهذا ما قد يثبته التحقيق أو ينفيه لكني لست مدخنة.
يطول الطريق بنا وتبدو المسافة دون نهاية، لا أستطيع استشعار الجو بسبب غياب أي منافذ تهوية أكاد أفقد وعي لا أتحمل هذا الضغط. الأجدر أن أفكر بسيناريوهات للنجاة من هذه الورطة السخيفة أو اظهار بعض الندم على الأقل، لكني لم أفعل ما قد أندم عليه سوى ثرثرتي الزائدة وتصرفاتي الطائشة، لم أتصور نفسي أبدا أنتهي هذه النهاية ويتم اقتيادي الى مخفر الشرطة بسبب جرائم قتل متسلسلة لطالما كنت مسالمة لا رغبة لي حتى في تغير مسار درب نمل، حتى طفولتي مرت بهدوء أقضي اليوم بين المدرسة وحديقة المنزل مستلقية على ظهري أراقب حركة الغيوم وأتخيلها مراتع غنم أو جبالا من قطن، يقاطعني الصوت وماذا عن لعنة الغناء؟
يحاول الصوت تذكيري وأنا أفهم غرضه ان طفولتي كانت أبعد ما يكون عن الهدوء والسلام، فقد ظننت وأنا طفلة أن غنائي هو سبب ما نعيشه كل يوم من شجار وصراخ وطقوس من الغضب والغل، ضرب أمي المتكرر لأختي الكبرى سببه غنائي. عندما تبدء أمي في نوباتها الهستيرية لتعنيف أختي لأسباب تافهة عادة ،كنت أحمل كرسيا خشبيا صغيرا وأجلس عند عتبة الباب وأحاول أن ألهي نفسي بغناء مكتوم أقول ربما الغناء المكتوم قد يكون له فعل عكسي كالترياق، ما إن ينتشر الصمت في أركان المنزل أعرف أن نوبة الضرب انتهت، أسأل نفسي لماذا توقف أبي عن الدفاع عنها وكيف تقلص دوره إلى أن صار لا يغادر غرفته بالطابق العلوي مشغلا موسيقى حالمة مناقضة للوضع تماما أو مدعيا ذلك على الأرجح ،قلت ربما هو مثلي يظن أن الغناء لعنة أو ترياق.
استيقظت صباحا ، لاحظت أمي أكثر شحوبة من أي وقت سابق كان الحديث شبه سري أن أختي الكبرى اختفت من المنزل ،كنت أجلس قرب الباب على كرسي صغير في انتظار عودتها أو أطل من نافذة العلية أراقب ظهور أثرها لكنها لم تعد تركت كتبها المدرسية وملابسها ووزرة المدرسة وحذاء أحمرا كانت تفضله عن غيره ، وتركت وردة حمراء مزروعة في كراسة العربية ،تركت صورها وأقراطها واختفت ،لامت أمي حينها أبي واتهمته بكل شيء لكنها لم تذكر أمر العنف المتكرر ،أيقنت حينها أن صوت المذياع الذي يطلقه أبي من غرفته المعزولة بالطابق العلوي سبب كل شيء وأن الغناء قد يكون فعلا لعنة دون أن يكون ترياق.
أيقنت حينها أيضا أن الوحدة ستكون قدرا لي منذ اختفاءها قل أصدقائي ومشاريعي الطفولية ،أقضي معظم الوقت في الفصل أو خارجه أرسم سيناريوهات لعودتها ، ظللت هكذا طول عمري أحتمل عودتها يوميا ومع كل طارق باب ،وعندما أستقل الحافلة ابحث عن وجهها في الوجوه المارة ،هي في العادة بيضاء بخدود مشرقة الحمرة وابتسامة غامرة وشعر اسود ناعم ،تستمتع بالرقص والغناء في غرفتها بالطابق العلوي الذي يطل على أزقة المدينة ،تدخلني معها نوبات الرقص والغناء نغني و أتعلم منها خطوات الرقص وقد أندس معها في السرير أو مقعد المكتب لتقرأ لي ،هذا المشهد ينطبق بذهني كما تنطبع صورتها الأخيرة بذهني أيضا حيث لم يختلط بياض وجهها بحمرة الخد وإنما بالدم المنهمر على خديها لم أعرف مصدر النزيف كانت تخفيه بكفيها عني وتمسحه بذيل بيجامتها الزهرية فتنكشف كدمات زرقاء على ساقيها ،نظرت إلي وابتسمت رغم الوجع والدم وبكيت مطولا حتى غفيت، ما إن استيقظت حتى وجدت أنها اختفت ،وتركت لي المشهد الموجع المتكررة كل لحظة اختلاء بنفسي ، يقول الصوت : لم تخفي لقد ماتت إثر الضرب لكنك تنكرين ، ضعفك جعلك تتخلصين من مشاهد التأبين وعزلتك في المصحة النفسية لسنوات جعلتك تكذبين الحقيقة ، أقاطع الصوت ستعود أنا متأكدة من الأمر ، وسأنتظر حتى لو بقي في العمر دقيقة ،أتخيلها قادمة الي بوردة حمراء مشبوكة في الشعر الفاحم وبثوب أصفر كانت تحبه ،سأنتظرها مهما طال الزمن انا أعرف ان اختي لا تخلف وعدا.
أما أمي لم تذكر الحادث قط حتى في لحظات خلوتها حين تضع صينية الشاي على الطاولة الخشبية وتجلس أمام التلفاز بأبهة وقسوة تضع رجلا فوق أخرى، أقابلها في المجلس وأنظر في عيونها على أجد مبررا مقنعا لما وقع لكنها تتجاهل نظراتي ولا تجيب ولو صمتا عن السؤال فقط تشرب شاي المساء، أتساءل كيف لامرأة جميلة مثلها أن تكون بتلك القسوة والوحشة، وكلما كبرت وجدت نفسي أشبهها وكم يخيفني هذا الشبه.

نصل المخفر وأتجه نحو غرفة التحقيق، يقول الضابط بتشف إن تبت ما اعترفي به للمخبر فسيتم إعدامك شنقا، يقولها وهو يرتب الملفات ويزيح إبريق الشاي الصدأ عن الطاولة حتى لا يبلل السجلات بسائل أحمر من الشاي الرخيص والبارد.
كنت أظن أن غرفة التحقيق ستكون أكثر ترتيبا و مسرحية ،كرسيان متقابلان يفصلهما مكتب وفوق رأسينا مصباح متحرك يجعل التحقيق دراميا ومشوقا ، على الاقل كان عليهم أن يأتوني بمحقق وسيم بشعر فاحم وجسد ممشوق من العمل والكد يدخن اثناء الاستنطاق سيجارة غالية وينفث بوجهي الدخان ،لكن حظي التعيس جعلني داخل حجرة تحقيق ساطعة الضوء تخترقها أصوات السيارات و المارة والباعة ،غرفة غير مرتبة تتكدس داخلها الأدراج والملفات الورقية المصنفة على شكل رزم، تحلق في سقفها ثلة من الذباب و العفن، مع محقق سمين رأسه يقترب إلى الصلع و سحاب بنطاله يكاد يفتح ،أكاد أن أخبره طريقة تجعل سحابه لا يتفتح ابدا وهي طريقة فعالة لكنه لا يستحق هذه الخدمة المجانية والودودة .
يسألني أحدهم وآخر يكتب على الحاسوب خلفي، اسمك: كاميليا الأندلسي
سنك: واحد وثلاثون سنة تاريخ الميلاد سبعة يوليوز 1987
مهنتك: مترجمة مزدوجة عربي فرنسي
مستواك الدراسي: خريجة كلية الآداب شعبة لغة فرنسية وماستر دراسة النصوص وخريجة المعهد العالي للترجمة
وضعك الاجتماعي: أرملة منذ عشر سنوات
يتوقف عن الخبط على الحاسوب وكيف تم الأمر، ينظر كل واحد منهما للآخر، ينظر إلي المحقق ثم يخطو خطوات اتجاهي ويميل نحوي منحنيا ولا أفكر الا في رائحة العرق الذكورية المنبعثة منه، لا أحب من لا يستحم يوميا، يقطع شرودي أنا أسألك كيف تم الأمر، أجيب هل الزواج أم الوفاة،
المحقق: معا معا (مكررا).
أجيب: وقعا بنفس مستوى العبثية والسذاجة كاختصار للأحداث،
يسألني: وكيف كانت الوفاة؟
أجيب: بعد شجار زوجي نسيت سببه خرج من المنزل وأخد يسوق سيارته بحماقة وسرعة هائلة هذا ما جاء في تقرير الشرطة طبعا،
المحقق: وكيف تم إخبارك؟
أجيب: بينما كنت أشاهد مسلسلا على قناة فضائية، رن هاتفي فإذا بشرطة الطريق تبلغني انقلاب سيارته ووفاته في الحين وطلبت مني الحضور الى المستشفى، أغلقت سماعة الهاتف الأرضي، توجهت لدولابي لاختيار ما يناسب امرأة أرملة في العشرين، أتممت مراسيم التعرف على الجثة ثم هاتفت أمه، وعدت الى الشقة، استحممت وخلعت ثوب الارملة واكملت ما فاتني من حلقة على قناة يوتيوب. يزيد اندهاش الحقيقين ولا يزيدان سؤالا بعد، (يومئ المحقق للكاتب برأسه أكمل)، فيكمل،
المحقق: مكان الازدياد؟
أجيب: فاس،
المحقق: مكان الإقامة شقتي بمدينة الدار البيضاء، أنظر اليهما الشقة عينها التي فتشها رجالك أمس، والظاهر أنني سأجدها في حالة يصعب ترتيبها،
المحقق: (مقاطعا باستهزاء) ومن قال إنك ستعودين اليها؟ التحقيق في أوله،
أرد: (بتحدي) سأعود فأنا بريئة مما نسب إلي،
المحقق: (بغضب وتحدي) لكنك اعترفت بالأمر،
اجيب: (بابتسامة) لم يكن الأمر سوى دعابة، الظاهر ان مخبركم حديث الخبرة في المجال، كيف تنسب الي جريمة لمجرد مزحة، أتمنى ان يتضمن التقرير عبارة قدحية مخلة بالحياء العام نعتني بها مخبركم بعد أن اقتحم شقتي وتمشى بداخلها والان أنا متهمة بجريمة قتل فقط لأنه أراد ذلك أو بسبب وشاية ; وسيعود مفتشوك بتقرير مفاده أن لا أثر في الشقة لأي جريمة وأتمنى أن أجدها مرتبة كما تركتها فأنا لا أستطيع النوم في مكان غير مرتب،
المحقق: ما سر البدل الرجالية المرتبة ولما تتواجد بشقتك؟
، أجيب : عند انتقالي إلى مدينة الدار البيضاء لم تكن هناك شقق شاغرة قرب العمل ولم أكن أملك من المال ما يخول لي اكتراء مسكن أفضل ، كنت مجبرة على قبول بهذه الشقة حيث ترك مكتري ضمنها غرفة له وأخبرني أن بها أغراضا تخص متجر ملابس رجالية مستعملة ،فوافقت من باب الحاجة وظلت الغرفة مقفولة لم يزرها قط .
المحقق: هذا ما سيؤكده التقرير أو ينفيه، يفكر لحظة وهو يصب كأس شاي بارد ألي تلاحظين أنك حيثما وجدت يوجد الموتى، أجيب: إنك تبالغ بالتأكيد كل يوم تعرض الجرائد والأخبار عشرات القتلى والموتى بكل أنحاء العالم وأتمنى ألا يتم الحاقها بي بدل الحاقها بأسبابها الحقيقية المختلفة بين المرض والكوارث الطبيعية وأمراض الشيخوخة وحوادث السير (أقولها مع نظرة استهزاء)
المحقق: وبماذا يفسر وفاة زميلة العمل وطبيب الحي بعد أشهر من ترددك عليه وجارك الرجل العجوز الذي يسكن قبالة شقتك؟ أحس انقباض في قلبي وتلبكا في معدتي ولا أرغب أن يلاحظ ما يعتريني من توثر، ينساب تحت قميصي عرق بارد وعلى جبيني واطلب كوب ماء بغرض إلهاء محققي واستجماع قوتي للحديث.
تفضلي يا سيدة كاميليا إنا نريد سماع إفادتك عن الأمر وأتمنى أن لا تغفلي تفصيله من التفاصيل حتى وإن بدت لك غير مفيدة
أجيب: طبعا طبعا أفهمك

، كانت السيدة نادية امرأة في بداية الخمسين، كاتبة ادارية، لم نكن نستلطف بعضنا حقيقية فأنا لا أحب نوعها من النساء
المحقق: أي نوع تقصدين؟
كان ذوقها رديء للغاية حتى أنى في أول لقاء خلتها راقصة شعبية من الدرجة السفلى: ترتدي ألوان مبهرجة، سمينة يظهر شحمها رغم ارتدائها طبقات من الثياب تعلق على اذنيها أقراطا رخيصة بألوان مشينة، كانت لها عيوب كثيرة غير المظهر البهلواني، لقد كانت ثرثارة بشكل على يوصف تحب الاستفسار عن كل ظاهر وخفي متعمدة الاستفزاز بسؤالها عن أشياء خاصة.
المحقق: مثل؟
أجيب: عن وجباتي المفضلة، وعن مهارتي في اعداد الطعام، وعن سبب انتقالي لهذه المدينة، وعن سبب كوني عازبة الى الآن، كل هذا كان مقبولا على مضض قبل ان تتجاوز معي الحد المسموح في الازعاج.
المحقق: وما هو هذا الحد الغير مسموح به في نظرك؟
أجيب: (في ارتباك رغم رغبتي في اخفائه)
لم تحمل سؤالها واستفسارها المستمرين عن طبيعة علاقتي بجاري طبيب الحي وهو طبيب نفسي في الثامنة والثلاثين متخرج من جامعة فرنسية فتح عيادته توا وكان معروفا بلباقته ولطفه مع الجميع وابتسامته الجميلة مما اكسبه زبائن رغم حرفتيه ومهارته الضئيلتان في اقتراح العلاج المناسب وأنا احترت بين الانسياق معه أو التخلف إلى الوراء. تبقى زيارة الأطباء النفسيين في مجتمعنا وصمة قد يعيش الإنسان مع هلوسته وشكوكه دون محاولة علاجها فقط ليتخلص من شبهة العار أو التشكيك في قدراته العقلية أو استعداده النفسي.
المحقق: وما أجبرك التردد عليه؟
أجيب: حاجتي للعلاج فقد كنت أعاني ولا أزال أرقا وأحلاما مزعجة كما أن عيادته في نفس عمارة سكناي في الطابق الثالث وأنا في الطابق الأول، كما أنه وفر لي جلسات علاج أطول وقتا من غيري بغض النظر عن وقت الزيارة، ظننت الأمر تمييزا أو تعاطفا أو صداقة فقد كنت أزوره خارج موعد زياراتي الرسمية أو يأتي إلي بشقتي نشرب الشاي أو أقدم له بعضا مما أجهز من مخبوزات وكنا نتحدث طويلا عن كل شيء وكان يتفانى في الإنصات والاهتمام، (أنظر الى السقف في محاولة استحضار الذكرى) إلى أن حدث ما لم يخطر لي ببال فقد كان لهذا الطبيب الوسيم والودود جانبه المظلم والمخيف، -رغم ان لنا جميعا جانبا مظلما أو خفيا يقابل جانبنا المضيء-. (أنظر الى السقف محاولة استحضار الأحداث التي مر عليها أكثر من ثلاث سنوات)،
المحقق في ريبة: وما حدث؟
أجيب : مرة أثناء الفحص وفي أخر زيارة له صرح لي بحبه ولم يتردد في إخباري أني أحاكي ما يتمناه في امرأة وأن صورتي قد طبعت في ذاكرته منذ أول لقاء ثم غلق الأبواب علي وأراد مني ما يطلبه أي رجل من امرأة مشتهاة لكني نهرته وتسابقنا إلى الباب فركع أمامي على الأرض وتوسلني البقاء وعند محاولة الفرار قد ثوبي من دبر وكاد يحكم قبضته علي ، لولا أن طرقت الممرضة الباب بعد سماعها صوت الشجار المتصاعد ،رحلت لحظتها لكن المشهد لا ينفك يبدو أمام عيني وكأنه حصل للتو، ألوم نفسي أكثر مما لمته وتتضارب بداخلي المشاعر بين قبول عرضه ورفضه وبين الخوف منه ، لم أعرف لما انتهت علاقة الصداقة بيننا بهذه الطريقة الغريبة ، ثم ظل يطاردني فترة يرن هاتفي مرات عديدة من أرقام مجهولة ثم لا يرد أحد وتصلني رسائل نصية بدون اسم و في طريقي للعمل أو رجوعي منه كنت استشعر ان هناك من يراقبني ويتتبع خطاي .و في نومي تنتصب قامته الفارعة في منتصف الحلم ويدنو وجهه إلي في مشهد سينمائي متسارع النبض ويهمس في أذني، ذهبت إليه بغرض العلاج من الكوابيس فصار هو كابوسي المخيف والمزعج ، تكرر الحلم أو الكابوس مرارا حتى صرت أتحاشى أسباب النوم كلما غفوت جاء إلي ،كنت أتحاشى الحديث عن الأمر في مرة استسلمت للحلم كمن يريد أن يختبر أمرا وقد كنت في كامل زينتي ليلتها، وألبس ثوب نوم حريري خفيف لا شيء تحته ، وقد جاء إلى كما توقعت وكان له ما يريد لما انته وقف على حافة باب الغرفة ونظر إلي نظرة طويلة دون أن يخبرني أنه سيعود فجأة صار وجهه مغمورا بالدم وماهي إلا لحظات حتى سقط مغشيا خائر القوى ثم استيقظت من الحلم بضيق شديد في النفس ودوار مزعج، بعدها بأيام سمعت أنه وجد مقتولا في عيادته ليلا ، لا أدري إن كان جانبه الخفي هو ما أدى إلى نهايته؟ أم أن لي دخل فيما حصل له، لا أعرف إن كان هناك منفذ بين الحلم واليقظة وكيف لمحتويات خيالنا أن تأثر على ما يقع وتذكرت مرة تلو الأخرى الحلم وقدومه إلى واختفائه ولا أستطيع ان أجد الرابط بين ما حصل في الواقع أو ما حدث في الحلم. استجوبتني الشرطة كما استجوبت جميع من كان على صلة، دون أن يجدوا أي صلة لي بالأمر، (يصعق المحقق والكاتب من هول ما يسمعان ينظران إلى وإلى بعضهما يدون الكاتب كل حرف)
المحقق (في استفسار ودهشة) وكيف ماتت السيدة ناديا زميلتك في العمل؟
الكاتبة نادية ظلت ترمقني بنظرة مدينة وكأنني السبب فيما حصل له وما كنت أنا لأفشي سرا عن رجل منتحر، كانت أسألتها مريبة وما كان على إلا دعوتها إلى غداء دسم بمنزلي، دعوتها لأني افترضت أن وجبة دسمة قد تجعل حنقها علي يخف، تقول أمي أن الطعام دائما يفسح مجالا للود.
كان الأكل دسما وشهيا فأنا أتقن شي الدجاج بالفرن مع الخضر، لدي وصفة عائلية متوارثة لا تخيب أبدا، نهمها الشديد وسوء تذوقها جعلها تتغاضي عن الطعم المر في الدجاج -بسبب إفراطي في وضع مسحوق توابل شرقية في الإناء -فخلطات التوابل والليمون الأخضر تجعل المذاق متناغما بشكل لذيذ ،تناولت الأطباق وكان تملء الملعقة عن آخرها وتجعل الأزر قبة فوقها تدخل الملعقة في منتصف وجهها ويتناثر حبات أخرى منه على ثوبها وتفضه فضا فيسقط على الأرض فتسحقه ذهابا وإيابا إلى الصحن بينما جبينها يتصبب عرقا فتمتزج مساحيق التجميل الرخيصة التي تشتريها من الباعة المتجولين ببعضها يسيح الكحل على طرفي جفنها السفلي وتمتزج اللون البراق على الجفن بما حوله ويختفي أحمر الشفاه من سطح شفتيها إلى ما حول الشفاه حيث يرسو شارب ضئيل تحت فتحتي أنف متسعة لاستنشاق ما بقي من الهواء أو الأزر . ثم حلت بالفواكه وشربت أربع كؤوس شاي، وأخدت قطع حلوى في جيبي حقيبتها وفي جيوب المعطف ثم غادرت. قيل إنها توفيت بسبب تخمة في المعدة أو انقطاع تنفس أثناء النوم، لم أقتلها أنا قتلها نهمها وأنفها المحشور في كل مكان.
اما هو لا أدري سبب وفاته قد يكون جانبه الخفي المظلم هو سبب نهايته _ رغم ان لنا جميعا جانب مظلم خفي _.
لكنني بريئة من كل ما حصل وأعرف من صاحبة الوشاية أنها جارتي.
المحقق: وما يجعلها تحقد عليك أنت دون غيرك لدرجة أن تحيك لك مكيدة وتشي بك وشاية؟
أجيب: اكتشافي خيانتها لزوجها رغم أنه رجل ودود في الثامنة والسبعين من العمر
المحقق: وكيف عرفت بأمر الخيانة؟
أجيب: هي سيدة في بداية الستين لكنها لعوب: ما تزال تستعطف نظرات الإعجاب وغير مقتنعة بسنها وكان على أحدهم ان ينقد السيد العجوز من زوجته المتصابية ولو ليوم على الأقل، صوت صراخها المتزايد عليه يزعجني ويشعرني بالأسى ألي يستحق رجل في سنه أن يعيش جوا هادئا وأن يحظى برفقة واهتمام؟ من يدري ما مدة العمر المتبقي؟ وما جدوى أن يعيش الإنسان مشحون المشاعر معكر المزاج؟
، كنا نتقابل أنا وهي على الدرج ترمقني بنظرة ملؤها المقت وأرمقها بشفقة، أما الرجل فقد كان طيبا وأنيقا، ودودا في إلقاء التحية أو السؤال، أمر عليه جالسا على المقهى الصغير عند حافة الرصيف يقرأ كتابا أو يطالع جريدة، لو قابلت زوجته لفهمت سبب أن يجالس الورق الذي قد يخلو من خبر جديد بدل أن يواجه وجهها الشاحب ولسانها السليط،
الكاتب: (في تأكيد وحنق) أنا أفهمه، أفهمه حقا وعن تجربة
المحقق: (ملتفتا الى الكاتب مازحا) الآن أعرف سبب وجودك الدائم في المقهى، (ينظر الي) أكملي.
صعدت شقتي في يوم هممت بتغيير ملابسي وارتداء بيجامة قطنية تصل حد الركبة وانتعلت خفا يناسبها شطفت وجهي وجعلت شعري كعكة كل هذا وأنا أفكر في طريقة لإنقاذ السيد العجوز من الشمطاء المتصابية ،فكرت ثم قررت ،شغلت ماكينة القهوة وصببت فنجانا ، فتحت حسابا وهمية باسم شاب عشريني بعضلات مكشوفة بحث عن تشكيلة صور تناسب الهدف وأرسلت لها رسالة: بمضمون عاطفي وانتظرت الرد لم تتأخر في الإجابة ،دأبت على مراسلتها لأسبوع واعتادت الأمر إلى أن جاء اليوم الذي ضربت لها موعدا ،اقترحت ان يكون خارج المدينة واقترحت هي مدينة تبعد عن التي نسكنها بأكثر من نصف يوم من لرحلة فوافقت دون تردد ، أخبرتها اني سأرتدي بدلة وأدس وردة حمراء في جيب الجاكيت . صباحا التقيت السيدة الشمطاء نازلة على الدرج تعلو محياها ابتسامة، السيدة المتصابية تستطيع الابتسامة إذا !،نزلت متأبطة شنطة صغيرة تحمل فيها ثوب نوم أحمر كما اقترح عليها الشاب العشرين الذي اخترعته،
حملت قفتي ولبست ملابس مريحة واتجهت الى السوق لشراء ما يناسب وليمة لي ولجاري العجوز، جهزت المائدة ووضعت منديلا مطرزا وباقة ورد، الساعة تشير إلى الثانية والنصف ظهرا والعجوز المتصابية واللعوب لن تعود قبل الغد أتمنى ألا تصاب بأزمة قلبية أو ضربة شمس عندما تدرك أن ما وقعت فيه فخ، المهم أن يتسنى لي جعل الجار يستمتع بوليمة ورفقة طيبة. فتح بابه ونظر الي بلطف أخبرته بشأن رغبتي في مشاركة غدائي معه، فقبل دون تردد سألته عنها فأخبرني انها ذهبت لزيارة صديقة قديمة تقطن خارج المدينة.
استمتعنا بالأكل وبدت في عيونه إشراقة مبهجة وتحدثنا عن أناقة الماضي وسحره وحدثني عن عشيقات قديمات خسرهن بسبب التردد، وكيف تحولت المرأة التي أحب من آنسة ودودة وهادئة الى كتلة مسعورة من الغضب، سمعنا أغان الكلاسيكية ورقصنا على بعضها ورددنا مع أخريات ما نحفظ من كلمات، ثم حياني وغادر من أجل موعد الدواء المسائي.
صحوت صباحا على ضجيج الشمطاء الخائبة الظن والمتعكرة المزاج، دقت على الباب هممت لأشبك وردة حمراء في جيب منامتي كنوع من المكر، أما هي فوقفت مصدومة، قد تكون السيدة العجوز متصابية ومتعكرة المزاج لكنها الآن تعرف من فعل بها المقلب وأن فارسها العشريني من اختراعي. (ينفجر المخبر والكاتب ضاحكان مما يجعل جو التحقيق ألطف وتجعلني الذكرى أبتسم رغم ما أنا فيه).
هكذا ظلت تتعقبني وتترصد لي للهفوات فلما لم تجد أبلغت عني شرطة الحي أنى أبالغ في رفع المذياع على القناة الفرنسية كل مساء، أما الزوج العجوز فقد قرر مغادرة الوطن والمكوث عند صغرى بناته في مدينة روما الإيطالية وتوفي هناك بعد شهرين من الرحيل.
دام التحقيق ثلاث أشهر وبعد استيفاء أقوال الشهود وكل من يكون له صلة بالموضوع أغلق الملف، السيدة المدعوة قيد الملف أ25_12_2020 بإسم كاميليا الأندلسي والبالغة من العمر 31 سنة والكائنة قيد سكناها شارع مختار السوسي عين السبع الدار البيضاء، الشقة رقم 4 الطابق الأول، بريئة مما نسب إليها، وتعود الوفيات المصرح بها لأسباب طبيعية عدا ملف انتحار واحد حسب التقارير وتصريحات اللجنة الطبية المحلفة، في جلسة المحكمة الرابعة بالدار البيضاء تاريخ 04_05_2021 الموافق لثاني شوال 1441هجرية.
يهنئني محامي بانتهاء المحاكمة كما وعدني وينظر إلى بحماس طفولي، تضج المحكمة بالحاضرين يتمنى أغلبهم لوكنت مذنبة سيمنح الأمر نشوة غير مفسرة لتزكية إحساس الكمال لديهم، هكذا سيعود الجميع إلى يومياتهم المتشابهة إلى أن يلمح في الأفق خبر مشين أو بلبلة سياسية أو إعصار هنا أو هناك.
أتحدث الآن وكأنني أهم أحدا ،أن لست إلا إ مرأة مغمورة داخل المدينة الكبيرة العابثة ، عبث يشابه تفاصيل حياتها :لا تسلسل أحداث ، ولا حتى منطقية أجد نفسي دائما في الوقت الخطأ أو على مقربة من خطر وكأنني لعنة علي وعلى غيري ،ما يهمني أنا وسط كل هذه التفاصيل: أن أسمع موسيقاي وأجهز طعامي بحس وأستمتع بحمام دافئ كل مساء وأن أتوق للحب ،لا يهم كيف سيظهر ولا بأي صورة يتجلى المهم أن أعيشه ،تترآى لي صورة الطبيب فجأة في منتصف ذهني وأكاد أسمع صوته الغائب الحاضر في مسمعي رغم الضجيج حيث يقول : أني إمرأة شهية تنبع مني الطيبة والحياة، لكني في الحقيقة لست سوى كمية هائلة من الفراغ و الوحشة، لو كان يملك بعض البصيرة لما صار هو أيضا ذكرى موحشة . يستمر شرودي وسط الضوضاء أحاول تجاهل النظرات المتباينة بين التشفي والتعاطف والخيبة: لأن السيدة الجميلة حديث المدينة لأكثر من ثلاث أشهر لن تعدم !، ومع ذلك أوزع الابتسامات الهادئة في اتجاه المصورين غدا حين تظهر صوري في عدد الصباح يجب أن تكون لائقة بنهاية الأحداث.
أبيت ليلتي الأخيرة في الحجز دون نوم تشغلني أحداث الغد ،أفكر برحلة للاستجمام أو تغيير المسكن لتجنب المتطفلين أو تغيير مقر العمل ربما ،حتى لو تم طبع مئات النسخ لقرار تبرئتي سيظل الجميع يشكك فيها يحب الناس القصص المشوقة والسمعة الملطخ سيرها .أعود صباحا إلى شقتي بعيون متعبة وجفون متورمة من السهر بعد إنهاء تفاصيل المغادرة رفقة محامي ، لا أجد أحدا بانتظاري عائلتي لن يشرفها أن يحصل فيها ما حصل لي .لا أزيح نظاراتي حتى في سلم العمارة ، يعلو الغبار كل ركن في الشقة وتلف الأركان رائحة الرطوبة بسبب إقفال النوافذ ، أكثر ما كنت أتوق إليه في فترة احتجازي هو حمام ساخن وكوب قهوة والأمنية على وشك التحقق ،أقول لنفسي ما جدوى الاستحمام ثم الخروج لمواجهة الشقة العفنة ، اربط شعري على شكل كعكة ولا أترك من ملابسي إلا الثبان والصدرية وأهم للتنظيف ، أفتح النوافذ وأغسل كل الأواني التي ملأها الغبار وارسها في مكانها وأخلع أفرشة الغرف ،وأسكب الماء والصابون على الأرضية وأفرك بجد وكد ، أزيل إطارات النوافذ وأغسلها في حوض الحمام أنشفها وأعيدها الى مكانها بهمة وأغير الستائر وأغطية الوسائد وأضع أخرى ، الآن فقط صارت الشقة شهية وبهية للمكوث سأختبئ فيها لأسبوع أو اثنين على الأقل ، اتجه للحمام وأجعل الماء أكثر حرارة الماء الساخن يشعرني بالنقاء ،استعمل خلطات غاسول على سائر الجسد وقناع من الطين الأبيض على وجهي أفرك جسمي وأغسل شعري ،ثم أعيد الغسل بصابون طبعي برائحة الزيتون ،أدس جسمي داخل بنوار زهري خافت اللون وألبس الخف المناسب له وأتجه نحو المطبخ لتحضير شاي أعشاب ، لا فكرة بذهني ولا أريد أن أفكر حتى ، فقط أستمتع بلحظات السكون التي تتخللها صوت العصافير أو قرع الأطفال للكرة .
أبقى على هذه الحال ليوم، ثم يومين، ثم يمر أسبوع دون أن أحس أنتقل من غرفة لأخرى ومن البهو الى الشرفة ألف نفسي برداء دافئ وأضع كوب الشاي على صور الشرفة القصير، ينبعث صوت مذياع الحارس الليلي خافتا ويظهر بخار غلي الشاي جليا، أتمنى لو أشاركه خلوته وقد يتمنى أن يشاركني الجلسة في شرفتي كلانا وحيدان وساهران وسط الحي الساكن. أغفو على الكرسي الخشبي ولا أستيقظ الا ببزوغ الضوء وحدة برد الصباح لكني أصحو بذهن صافي وبفكرة نيرة وهي السفر. أختار من ملابسي أقلها ثوبي سباحة وفستانين وسروالا قصيرا وقمصان تغيير وملابس داخلية: تبابين وحمالات صدر ومنشفة نعلا وخف أضع الملابس في شنطة صغيرة بعجلتين أخد نظاراتي وكريم واق شمس أقفل باب الشقة بإحكام، أركب سيارتي أتأكد من البنزين واتجه نحو مدينة أكادير، اشغل المذياع على القناة الفرنسية، لا أفكر في طول الرحلة، بل أفكر في الوجهة، كلما أحسست بالتعب توقفت عند محطة استراحة أراقب العجلات وحرارة السيارة وألقي نظرة على صحف اليوم والأخبار المذاعة، لا خبر عني لقد تحررت!
أصل الى وجهتي ، مكان يبعد عن أكادير بثلاثين كيلومتر تقريبا يطلق عليه اسم ( ايمي ودار) ،يوجد به منتجعات سياحية لكني أفضل شقة تطل على البحر مباشرة أصحو صباحا وأخطو حافية على الشاطئ دون حواجز، أتوقف عند مطعم صغير مطل على البحر ترشدني إليه سمكة مرسومة على لوح بطبشور ملون وقائمة أطعمة مكتوبة بخط اليد لكن طلبي بسيط : طبق سمك مشوي وسلطة بصل وطماطم مع قطع حامض ، أجلس على طاولة بلاستيكية بلون البرتقال مع مظلة مخططة ، يتقدم إلي شيخ ودود يقترح علي سمكة كبيرة على المشواة أعترض بإحراج لأني لن أستطيع أكلها لكنه يصر ويعدني أن لدتها لا تقاوم ويتحقق وعده حقا ثم أطلب شايا وأختلي لشرودي مرة أخرى ،الساعة تشير إلى الواحدة والربع ظهرا علي أن أجد مكانا للمبيت ، استأذنه عند دفع الحساب هل يوجد مكان للكراء شرط أن يطل على الشاطئ ،يستأذنني لحظة ثم يعود رفقة سيدة عجوز في بداية السبعين بشوشة ومستديرة الوجه مشرقة التعابير بطريقة أليفة ، أعيد سؤالها فترد أن طلبي عندها وأني أستطيع المبيت ما شئت في المنزل المجاور للمطعم ،وهو شقة صغيرة ببهو مطل على البحر وشرفة واسعة ، أسفل محل سكناها هي وجوزها ، تدعوني لرؤية المكان ،لا أتردد تطلب مني تغير ملابسي أو أخد قيلولة ، ما إن دخلت المكان حتى أحسست ألفة لطيفة به :كل شيء بسيط ونظيف للغاية ، المكان عادة ليس للكراء ولكنهما أحسا فيما يشبه الحدس أنني أحتاج إلى الراحة ، أغير ملابسي وأهم للاستلقاء على السرير ثم أغفو بهدوء ،لا أفتح عيناي إلا على وجه مستدير لطفل صغير يميل إلى البدانة وفي غاية الظرف ، ما أن أبتسم له حتى يركض باتجاه الجدة ليخبرها أنني استيقظت ، ثم يعود حاملا خبرا إلي أن اللمجة جاهزة وأنهم في انتظاري ، يزيد إحساسي بالانسجام وكأن أحدا يحضنني ، مرة وقت طويل منذ أن أحسست أن هناك من ينتظر إلتحاقي بالمائدة ، كانت المائدة بسيطة كؤوس شاي و فطائر تقليدية وخبز المحلي ، زيت أركان وأملو وعسل أعشاب ، احس صفاءا روحي وامتلاء عاطفي لم أحسه الا بوجود والدي المتوفي قبل عشر سنوات ، نغرق في أحاديث عن كل شيء ، أتمنى أن لا يكونا ممن يشاهد الأخبار أو ينشغلان بالصحف أو المواقع ، يظل الصغير ينظر إلي خلف الجد يتودد الحديث بتمنع فأبتسم له ما استطعت وأدعوه للاقتراب فيأتي يقول أن أسمه محمد وأن الجدة إسمها طامو والجد ادريس ، اسأله عن المدرسة يقول أنه سيلتحق الموسم المقبل وأنه سيتعلم بجد لكنه يخاف أن يصادف معلما حازما أو أن يمنع من اللعب بالخارج ، ثم يعود ويطلب مني أن أعلمه كتابة الأحرف ، أخط له حروفا بطبشور لوح الإعلان يقلده على مضض ، يبق على حاله حتى يشعر بالنعاس ويأتي إلي لأحمله فأقبل دون تردد ، أحضنه بعطف وأمرر يدي على شعره الأسود سرعان ما تنغلق عيونه العسلية الجميلة ، أدخله فراشه وأذهب للنوم ، بلا كوابيس ولا أحلام مزعجة أنام لأول مرة كمن يسقط في بركة من الغيم
أستيقظ على وقر محمد صاحب العيون العسلية والخدود المكتنزة يمد يده إلي ويسحبني إلى الخارج ،لا أتردد في اكتشاف المفاجأة ، الساعة تشير إلى الثامنة والنصف ، يكتسب البحر زرقة مذهلة تخرج مراكب الصيد في شكل لوحة متحركة ساحرة يحمل الصيادون صناديق السمك الحي تتهافت النوارس إلى الحصيلة المستخرجة من البحر ،ينفلت محمد من قبضة يدي ويركض نحوهم بسرواله القصير ثم يأتيني بسطل صغير يتضمن سمكات راقصة في قدر من الماء ، لا أدري إن كان سيربيها أو أنها للأكل ، يجرني ثانية نحو الموج ويرتمي في حضن الموجات الصغيرة يعدني أني لو بقيت معه لنهاية الصيف سيعلمني السباحة أو يأخذني في رحلة بالقارب . أرتمي بدوري في البحر أستلقي على ظهري وأجعل الموج يحملني أنظر الى السماء، إحساس الإنغمار في الماء لحظة تحرر من الزمن ثم من المكان ومن الجسد وكأن لا فاصل بين البحر والروح.
يقطع الإحساس المذهل صوت السيدة طامو وتلويحها ، أعود مثقلة بالماء إلى الواقع ، يردني اتصال من المخبر يقول أنه يدين لي باعتذار عن سوء ذوقه معي وتسرعه في التقدير أستفسر إن كان هذا ما يقوم به مع كل المتهمين ، يقول أني ما كنت لأكون متهمة قط ومن الفضاضة حتى التفكير في الأمر ،وإن كنت كذلك فأنوثتي تغفر ليا الأمر ، أرد باستهزاء مبطن يجب إصدار بيان خاص بعدم القبض على الجميلات يقهقه مؤيدا الأمر ، أرد أن اعتذاره مقبول لكنه يصر على تقديمه شخصيا وحضوريا ،أتردد في الإفصاح عن مكاني ثم أخبره ،فيقول أنه سيحضر اليوم ولن يتأخر عن المساء ويعين لي مطعما فخما وسط المدينة وأفضل أن يكون اللقاء في مكان أكثر ألفة ، فيقترح منزل صديق شاغر .
أعود إلى شرودي وأتردد بين الذهاب أو الرفض لكن شيئا بداخلي يدفعني للذهاب ، أتهيأ للقاء بدءا بحمام دافئ وصابون فنيليا أختار فستانا طويل أحمر مكشوف الكتفين ،أجعل شعري على شكل حذوة حصان ،وأضع العطر خلف أذني مع أقراط صغيرة ،وألبس صندلا صيفيا بكعب عالي ، وأستقل سيارة أجرة ، أجده ينتظرني يبدو متوترا عند اللقاء ،يبتسم ابتسامة لطيفة ولمعة الإعجاب تغمر عينيه ، يقدم لي باقة من زهر كاميليا ، مرددا الكاميليا للكاميليا ، عساك تقبلين اعتذاري ، أشير برأسي أن الأمر تم بالفعل ، يحاول بطرق شتى إظهار نفسه كرجل واثق وفحل و ذو خبرة في الحياة والحب ، تنبعث موسيقى في المكان يلف الجو إحساس مفعم بالعاطفية وكأنها موسيقى تصويرية لفيلم حالم.
صباحا أستيقظ وحدي في غرفة صغيرة ، تتضمن نافذة خشبية ،أشعر بدوار رهيب وكأنني أنفلت من كابوس مرعب ، لا أثر على ملابسي أنط من السرير يزيد إحساسي بعدم التوازن ، أتماسك بصعوبة محاولة تعيين المكان ، تطل النافذة على درب ضيق وباعة متجولين ، أفتح باب الغرفة وأتبع درج النزول ، لا أجد إلا امرأة في حدود الأربعين ، أسألها كيف وصلت هنا ، تقول أن حارس المكان وجدني فاقدة الوعي قرب الباب وأن أغراضي محفوظة ، تمدها لي فتأكد من المحتويات لا شيء مفقود تطلب مني المكوث أكثر لكني أرفض وأطلب أن يقلني شخص إلى (إيمي ودار) ،ترد أننا في مراكش يزيد إحساسي بالضياع ، ويغمرني الإحساس بالغثيان ، فأطلب العودة إلى الدار البيضاء فتبحث لي عن سائق ، وتعطيني ملابس تناسب الرحلة ، أركب التاكسي الكبير ، يحشر قربي خمسة ركاب آخرين ، ثم أغط في نوم عميق مليء بالهلوسة لا يوقظني إلا عند مدخل المدينة وإذا بالجميع ينظرون إلي ، أصل شقتي وأدخلها أحس الآن ببعض الاستقرار ما عدت أريد الاستفسار عما حدث طالما أني بخير ، أنشغل بتحضير كوب شاي بينما أشغل الراديو بعد انتهاء أغنية صاخبة ،تورد الأخبار الكشف عن جثة رجل في الثلاثين من العمر ملقاة عند سفح منعرج ، أهم لفتح التلفزة على القناة الوطنية أجدهم يذيعون نفس الخبر ملحقة بصورة للمخبر الذي فتش بيتي في القضية التي برأت منها ، أتذكر أني قد هممت للقائه لكن تفاصيل هذا اللقاء قد مسحت تماما من ذاكرتي : أغير المحطة لأجد نف الخبر مع تفاصيل جديدة : شاب في الثامنة والثلاثين من عمره ينهي حياته مع وجود مستويات عالية من الخمر في دمه واشارات عن قضائه ليلة حمراء .
أقفل التلفزة دون أدنى إحساس أو فكرة لولا إحساس بالضيق من تداول أخبار مزعجة بداية النهار. أعود إلى محفظة يدي فأجد ربطة عنق حمراء لا أعرف مصدرها لكني أجدها أنيقة فأضعها في درج الملابس.