من الجبل إلى المحيط تذكرة ذهاب وإياب – نص: حسن إدحم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

1
صفحات فارغة،
ما قيدته في هذا الكناش قليل، كنت أود أن يكون هذا الكناش بمثابة ذاكرة ورقية أستودعها بعضا من أحداث هذه السنوات الستة التي أمضيتها بالصويرة، ولكن عندما أطالعه اليوم أصاب بخيبة كبيرة، إني لا أكاد أعثر بين صفحاته إلا على جمل لا معنى لها، أو على فقرات كتبت على عجل بدون سياق.

أنهزم دوما أمام أوهام التأجيل المستمرة، لا أتغلب على نفسي التي تغريني بمتسع الوقت الذي أمامي لتدوين الوقائع العظام التي ستأتي تباعا، أما توافه الأمور اليومية، فلا تستحق عناء التقييد، فقد لا تكون بقدر ثمن الحبر الذي تدبج به. أقلب هذه الصفحات اليوم وأنظر فيها كأنها تلعنني قائلة: أين فتوحاتك الكبيرة، وفي أي موضع خلفت انتصاراتك المباركة؟ ولماذا لم ترسم على وجهي؟. فرق كبير دوما بين رغباتنا الكبيرة وما نستطيع أن نسرقه من الأيام ونجعله واقعا متحققا، فعندما حللت بالصويرة، أخذت هذا الكناش وقلت أنه سيكون رفيقا ومعينا، أعود إليه كل مرة لأستودعه ما أراه، وما أتوصل إليه من نظر في شؤون الحياة الجديدة بهذه المدينة، غير أن هذا كله لم يقع على الوجه الذي أردت.

أنا أقول اليوم، بعد أن مرت هذه الفترة و ولت، أقول أنني لم أكتب لكوني اعتقدت دوما أن الأشياء التي تستحق الكتابة تأتينا دوما معلنة عن نفسها، تنكشف أمامنا بذاتها، أما وأن نفتش نحن في تلابيب الحياة عن ما يستحق  أن ننصت إليه ونسرقه من النسيان لنكتبه، فهذا كان يبدو لي كتسول للكتابة، واستجداء للكلمات التي من المفترض أن نشعر بها، تعلن عن نفسها كصرخة مدوية. كان هذا اعتقادي، وأكيد كان هو خطأي أو لأقل وهمي الكبير.

ربما كان محقا ذلك الذي قال، بأن الحكمة لا ندركها إلا عندما لا نعود بحاجة إليها. من السهل أن أقول لك اليوم، أن أهم ما في الأمور الهوامش، وأن استطرد مضيفا، بأن الكتابة ليست وحيا أو قدرة خارقة في اصطياد لحظات الالهام، بل هي جهد دؤوب لمحاولة التقاط توافه الأمور وهوامشها، أو قل هي الحفر ببطء في الطرق المنسية التي قد لا نليها دوما الاهتمام الذي تستحق. لو عملت بمثل هذه الحكمة أو بما شابهها على الأقل، لتجمع لذي اليوم في هذا الكناش الكثير من التفاصيل التي ضاعت، ومن المستحيل أن تحتفظ بها ذاكرة الانسان، ولكن والحال أنني لم أعمل بها، فما علي اليوم سوى أن أشحذ ذاكرتي لعلها تسعفني في استرجاع بعض اللحظات والواقائع التي وسمت سنواتي بالصويرة.

هناك وهم أخر يصرفنا عن الكتابة، ويحصل دوما أن لا نوليه الاهتمام الذي يستحق. ولكن قبل أن أستطرد في توضيح هذا الوهم كما عشته وأراه، فلابد من قول جانبي ـ إني لا أريد أن أظهر وكأني أعطي دروسا في فن الكتابة، فما أبعدني عن مثل هذا الفن الذي أستشعر دوما وعورته وتشعب مسالكه ـ إن هذا الوهم الآخر الذي لازلت أتعثر به اليوم ويعيق خطواتي هو عالم التقنية، الذي يتلخص في الصورة بالضبط، وبكل السياقات التي تحيط بها من سهولة النشر، وبساطة الاحاطة بالحدث مكانيا وزمنيا، فبدل أن ننسج اليوم أحداثنا وتشعباتها الدقيقة بالحروف والكلمات، نكتفي بالصورة، ربما لبساطتها، أو لسرعتها وتوفرها بيسر. ولكن لا يمكن أن ننسى أن المغري في الصورة أيضا هو خلوها من التعب وتقديم نفسها كبديل لكل الطرق العتيقة. الصورة اليوم تدخل في شبكة معقدة، تُنشر وتستثمر بطرق لا حصر لها، الشيء الذي يجعلها دائمة الإغراء. هذه العوالم الذي تدخلها الصورة اليوم تكلمنا قائلة، إنكم لم تعودوا بعدُ بحاجة للورق ولا الحبر، أنا حبركم وورقكم، أنا ذاكرتكم.

كنت أتمنى لكناشي هذا غير هذا المصير الذي جعله خاويا ودون فائدة تذكر، ولكن أيام الصويرة هذه التي أصبحت خلفي لن أترك تفاصيلها تتسرب بالكامل دون الابقاء على شيء منها، إنها أيام انطبعت صورتها هناك عميقا في الروح والذاكرة، إنها أيام لا محال أضحت جزءا من الهوية.

2
  آسني، 2015

غير هذا التاريخ لم أعد أذكر تفاصيل أخرى حول الزمن. التقيت صديقا لي بأسني حيث يقطن هو وحيث اتفقنا أن نلتقي. آسني، دائما ما كان مكانا للقاء عبر التاريخ. آسني ممر هو لمن يقصد تارودانت، أو أراد أن يلقي نظرة على "تنمل" مهد الموحدين. آسني هذا السهل الذي تلتقي فيه وديان قبيلة غيغاية، يمر به أيضا من يقصد سيدي شمهروش أو شاء أن يتسلق توبقال.

حزمنا أمتعتنا أنا وهذا الصديق المختص في الجغرافيا والتاريخ، نقصد الصويرة أو "تاصورت" كما يحلو له هو أن يقول. " أنا للطريق...هناك من سبقت خطاه خطاي. من أملى رؤاه على رؤاي." نسيت أي منا ردد هذا البيت الشعري عندما أصبحت الشمس أمامنا تسير رفقتنا جهة البحر. أحاديث الطريق تنسى، كيف لا وطريقنا هذا نسير فيه لأول مرة. نكتشف، ننظر بعيدا، نريد أن نرى كل شيء دفعة واحدة...، نبدأ حديثا، نبني توقعات وآمال، ثم سرعان ما يتبخر كل شيء أمام الطريق الطويل الذي يأخذنا إلى الغرب، إلى البحر. غمرتنا البهجة عندما ردد " الرايس" موالا يثني فيه كثيرا على حسناوات "حاحة" والصويرة حيث نقصد.

 بلغنا إقليم الصويرة وافترقت بنا السبل، صديقي في جهة وأنا في جهة أخرى. قبل أن نفترق، حمل معي الصديق حقيبتي الثقيلة للمكان الذي سيكون محل سكناي الجديد، نظر إلي وقال: " نحافظ على حبل الود والمودة ما استطعنا". نسيت بماذا أجبته.

3
الفلسفة بين الجبل والبحر،

الصويرة مطلة على البحر، ولكن إذا تحرينا الدقة أكثر، فسنقول أن البحر هو الذي يطل على هذه المدينة، ومن هنا بالضبط تستمد فرادتها وتميزها عن غيرها من حواضر المحيط. تستقبلك المدينة وتتراءى لك من عل، تبدو لك بالكامل، تهيمن عليها من نظرتك الأولى. إن كنت ممن يرهبهم البحر، فالأكيد أنك ستتساءل في دواخلك حول هوية هذا الشخص الأول، هذا المتهور الذي استأمن البحر واقترب منه لهذه الدرجة ثم بنى واستقر. هكذا هي الصويرة بالنسبة لأولئك الذين يدخلونها للمرة الأولى زائرين، قادمين من جهة مراكش، غير أن هذه الرهبة سرعان ما تتلاشى ما أن يألف الزائر دروب المدينة الضيقة، وبمجرد أن يقترب من المحيط ويمشي حافيا فوق الرمل.

" الفلسفة كما فهمتها وعشتها هي العيش طوعا وسط الجليد والقيم الجبلية الشاهقة، باحثا عن كل ما هو غريب ومثير للتساؤل في الوجود". هكذا يربط "نيتشه" الفلسفة الحقة بالجبل واستنشاق هواء الأعالي. نبيه "زرادشت" يأتي من هناك، من بين الثلوج والقمم الشاهقة، يأتي لهدم قيم الضحالة والأخلاق المتفسخة التي تمجد الوداعة والورع.

لست أنا زرادشت، ولست ديونيسوس إله الخمر الذي يتحصن به "نيتشه"، غير أن هذا المارد الألماني ربما وعلى حد علمي، كان من الفلاسفة القلائل الذين نجد عندهم هذا الاهتمام بالجبل ومزاياه. وبما أننا أتينا من الجبل، من أعلى الجبل، فلا مفر من تذكر نيتشه باستمرار.

أن تُكلف بتدريس الفلسفة بمدينة ساحلية أو بضواحيها، فأول شيء تخمن فيه هو البحر، وكيف كان البحر والأفق المفتوح دائما مجالا رحبا لازدهار الفلسفة، هذا ما خمنت فيه أنا على الأقل وأنا أخطو الخطوات الأولى على شاطئ الصويرة متذكرا الأرخبيل  اليوناني الذي يعانقه البحر. الإسكندرية، المحطة الكبيرة في تارخ الفلسفة في العصور القديمة، مدينة "هباتيا" هي الأخرى بنت مجدها على البحر.

ولكن أنا لا  أريد أن أستأنف النظر في قضية فلسفية إشكالية تناسلت من العصور الوسطى. ولا محاولة فك معضلة كلامية أعجزت المعتزلة. على كل حال، لا أدعي قدرتي على ذلك حتى لو أردت فعله.

فلماذا إذن قادني غروري للخوض في مثل هذه العلائق الكبرى بين الفلسفة والبحر في الحضارات القديمة؟ هل لكي أقول في الأخير بأن الحكمة ستأتي مع نسمات البحر وتحط على ساحل الصويرة، أو أن الحكمة سينثرها نورس من فوق رؤوسنا ونحن جلوس نتملى الأفق البعيد؟. لا أجد في نفسي اليوم أي مسوغ مقنع لمثل هذه الشطحات التي ترتبط ببداية المسار، ربما المسوغ الوحيد الذي قد أطمئن إليه هو تلك البداية ذاتها، أعني طوباوية أولية الطريق، الحلم، الاعتقاد بإمكانية جعل الناس، كل الناس يشكون ولو للحظة في قناعاتهم، الحلم ببعث سقراط يجوب شوارع الصويرة ويستوقف الناس ليجادلهم ويفحص معارفهم. بعد هذه السنوات الستة أدركت أن الأحلام لا تتلاشى كلها ولكن لا تبقى كاملة كما هي.

****

" ربما كان ينبغي أن نلقي أي درس، ولو كان درسا افتتاحيا، دون أن نتساءل بأي حق نقوم بذلك الإلقاء. فها هي المؤسسة قائمة لتوفر علينا عناء ذلك السؤال، ولتدفع عنا القلق الذي يسببه الاعتباط الذي يطبع البدايات."

هذا مطلع الدرس الأول الذي ألقاه بيير بورديو "بكوليج دوفرونس" وعنونه ب" درس في الدرس"، في هذا المقطع يقربنا صاحب "إعادة الإنتاج" من الاعتباط والارتباك الذي يطبع دائما البدايات، خصوصا حينما يتعلق الأمر بإلقاء درس ما. لا شك أن السؤال الذي سيجيء  إلى ذهن كل مدرس وهو يلقي هذا الدرس الأول هو المسوغ الذي سيحمل المتلقي( التلميذ، الطالب...) على تصديقه وأخذ كلامه على محمل الجد؟. لربما تتلف كل التفاصيل والدروس الأخرى التي تأتي فيما بعد، غير أن هذا الدرس الافتتاحي الذي تنقل فيه من صفة ووضع إلى وضع آخر، وتجعلك المؤسسة متحدثا مشروعا حتى قبل أن تصدق ذلك أنت في دواخلك، يبقى هذا الدرس راسخا.

يعود بي هذا الحديث إلى الدروس الأولى بالصويرة، الدروس التي لم تكن مجرد دروس وحسب، بقدر ما كانت مرافعات لنزع الاعتراف من الآخر، من التلميذ، المفتش، الإدارة والزملاء. إن أي مدرس جديد هو بالضرورة محل شك كبير، وهو بذلك يسعى إن واعيا أو لا واعيا إلى إثبات وجوده.

4
بين الشياظمة وحاحا،

هما القبيلتان اللتان تشكلان إقليم الصويرة، قبيلتان ذابت الكثير من الخلافات ببينهما، همدت النار التي كان تستعير كلما أثير الحديث عن الهوية واللسان. الكل نسي بابل أين بلبلت الألسن. من يحفر تحت الرماد لابد وأن يجد بقية حمية قبلية، من ينفخ فيها قد تلتهمه نيرانها.

يقول الأثنوغرافي الكولونيالي" إن شعبا يبقى هو هو لا يتغير في كل عصر. والغرائز الخمس أو الست الكبرى التي كانت له في الغابة تظل تتبعه إلى القصر وإلى المكاتب". يضيف واصفا المغاربة" إذا كان المغاربة لا يشكلون شعبا من المنظور السياسي واللساني والاثني أو الاجتماعي، فإن لهم، مع ذلك، عقلية مشتركة في سماتها الكبرى."( لويس برونو، الروح المغربية).

يخطئ دوما من يبحث عن الوحدة والتجانس ويعتبرهما عنصر قوة أمة ما، يحصي الأنثروبولوجي اختلافات المغاربة معتقدا أنه يضع أصبعه على مكمن الداء متناسيا أن تلك النقطة بالذات هي ما يخلق غنى شعب ما.

تستقبل المدرسة ـ باعتبارها منتوج الدولة الحديثة( الوطنية) ومشروعهاـ كل هذه الاختلافات قصد امتلاك الوعي بها، وبضرورتها. تساهم المدرسة في إذابة هذه الاختلافات والحفاظ عليها في الآن ذاته، تذيب ما يرتبط فيها بالتعصب والعنصرية واحتقار الآخر، وتستبقي هذا الذي يجعل الإنسان ذاتا لها اختلافاتها الهوياتية والعرقية والقومية...، هاته المقومات التي تجعل الإنسان إنسانا.

5
موسم ركراكة،

كمعظم قبائل المغرب لابد من الطقس السنوي الذي يتم على شكل "موسم"، تدور رحاه حول زاوية معينة، شيخ ما، هذا الاحتفال الكبير، الذي يراد منه لاواعيا أن يعزز الارتباطات بالقبيلة، بالوطن وبالمخزن أساسا. هذا ما قلت أنه يشكله "موسم رجراجة" بالنسبة للشياظمة وحاحا عندما حضرت بعضا من طقوسه أول مرة. سنة 2016. أنا الآتي من الحوز و فتحت عيني على موسم " مولاي براهيم" الذي يدوم أسبوعا كاملا كل سنة عندما يحل عيد المولد، يدوم أسبوعا في نفس المكان. رجراجة وجدته شيئا أخر مختلفا عن طقس مولاي براهيم.

يستمر "موسم" الشياظمة هذا أربعين يوما، متنقلا بين معظم مراكز إقليم الصويرة، لذلك يسمونه "بالدور". حركة الموسم هذه هي بالذات التي استوقفتني، أنا الذي ألفت مواسم الأطلس الكبير الثابتة أرى موسما متحركا، بهجة للأهالي  متنقلة تستغرق أكثر من شهر وتختتم "بأحد درى" مركز أكبر سوق أسبوعي بالإقليم. الموسم محاولة بعث لماضي القبيلة، بحث على الذي تبقى من ذلك الذي فات، بهذا الاحتفال ترسم القبيلة لنفسها صورة الاستمرار ومقاومة زحف الزمن، تستعين في ذلك بالأسطورة والخرافة، وكل ما لا يمكن مجابهته بالعقل وفهمه بمنطق الحاضر.

موسم ركراكة هذا يأتي في أوان الحصاد، شهري مارس أبريل، حينما يحين وقت جمع الشعير والقمح...، حتى عند الرومان قديما تتم الاحتفالات بمواسم الطبيعة بحلول شهر مارس موسم الضحك، عندما يزهر كل شيء، وتعلن الطبيعة عن تفتق حياة جديدة، الاحتفالات ذاتها التي ستجرمها المسيحية فيما بعد عندما تبنتاها الامبراطورية ديانة للدولة.

كلما عدت للحوز في زياراتي المعتاد للأهل أسأل من قبل الناس عندما يبدأ الربيع، خصوصا الكبار منهم المهتمون بحصيلة الموسم الفلاحي، هل بدأ موسم الحصاد بالشياظمة؟ هم دائما يسألون ولا ينتظرون مني إجابات أو توضيحات، ينطلقون في استطراداتهم ويؤكدون بحزم ويقين بأن الشياظمة هي التي يبدأ منها موسم الحصاد، فإن كان الشعير والقمح... وفيرا هناك، فالسنة مباركة والخير عميم. هؤلاء الخبراء ـ وهم من أهلي أيضاـ في أمور الفلاحة هذه، يحسبونني غرا ولا أفقه شيئا في الحصاد ولا في الحرث.

6
مقهى الصويرة،

" المعلم الكبير في الأغورا، من كان يلاحق الحقيقة بصوت عال بينما هو يتمشى في الساحة العامة...إنه مفسد الشباب، حكم عليه القضاة، مع أنهم رغبوا ربما في القول إنه مذنب بأنه أحب أثينا بالسخرية منها، بانتقادها كثيرا وعدم تملقها مطلقا"( إدواردو غاليانو. مرايا، ما يشبه تاريخ للعالم).

كل من يربط المدينة بالثقافة والمعرفة لابد له وأن يسترجع نموذج سقراط ومدينة آثينا، هذه العلاقة المركبة، هذا الارتباط السامي بين الفيلسوف ومدينته التي أحبها وقاتل من أجلها، وفي النهاية جرعته السم. لذلك المدينة كانت دوما كيانا ثقافيا بالدرجة الأولى، مجالا للتدافع الرمزي والإيديولوجي، توفر المدينة فرصة الكلام، فرصة القول والجدال في هموم ومصالح الناس، في المدينة بهذا المعنى تكون فرصة قول "لا" متاحة، فرصة التفكير ضد السائد والضحل.

ما ذكرني في سقراط ومدينته، هي العلاقة التي تربط بين صاحب مقهى الصويرة الثقافي بمدينته، فهو عاشق ومنتقد كبير لمدينته، منتقد أول، لا تبهره الأضواء ولا المساحيق التي تريد أن تغطي ألوان الواقع.

اكتشفتُ هذا الفضاء المدهش بعد أن أمضيت أكثر من أربعة أشهر بالصويرة، دلني عليه أول مرة زملائي الجدد، مدرسي الحكمة بالإقليم. عرفوني بصاحب المقهى " الحسين "، هذا الرجل الذي سأتعرف عليه أكثر فيما بعد، وسنخوض في نقاشات وسجالات طويلة.

  أذكر أنني في هذه الزيارة الأولى لم أقل شيئا، كنت مستمعا ومنشغلا باستكشاف المكان ومطالعة عناوين الكتب على الرفوف المحيطة بنا، أنظر إلى آلة عود هناك ملقاة، ثم فجأة أنتبه لشخصين صامتين وبينهما ملوك وجنود الشطرنج. صورة لتشي غيفارا كانت قبالتي وعلى يساري كان محمود درويش يطل علينا بهدوء وتباث...،  ما كل هذا؟ سأجانب الصواب اذا قلت بأنني سبق وأن رأيت مثل ذلك المكان من قبل. هذا المكان اقتلع من رواية أو أخذ من حكاية حالمة.

عندما عدت لزيارة المقهى للمرة الثانية، حرصت على أن أكون وحيدا، أريد أن أختلي بذلك المكان، كنت أريد أن أتملكه وآخذ منه حقي عنوة.

هنا تُطلب القهوة أو الشاي فقط، ولكن مع الكثير من العوالم الممكنة، خياران فقط مع موقف من العالم ومن الطبيعة. كرة القدم التي تعتبر الطبق الرئيسي لمقاهينا اليوم، هي الأخرى رغم إغرائها المادي لا تشكل جزءا من كينونة مقهى الصويرة الثقافي." هناك ...مثقفون يساريون كثيرون يزدرون كرة القدم لأنها تخصي الجماهير وتحرفها عن النشاط الثوري. سيرك وخبز، سيرك دون خبز"( إدواردو غاليانو. كرة القدم في الشمس والظل).

 لابد من محاربة ثقافة الإسمنت وبعث الحياة في الأحياء الشعبية، حياة ثقافية قادرة على مواجهة تيار الاستهلاك والضحالة والتفاهة الذي يجرفنا جميعا، هذا ما يردده " الحسين" ويعمل من أجله، بالكثير من نكران الذات ودون انتظار شيء.

بعد الطواف بين الرفوف والانتقال بين العناوين جالست " الحسين"، تحدثنا كثيرا حول الفلسفة وحول جسامة مهمة مدرس الفلسفة، بالأمس واليوم. ذهب بنا النقاش أيضا جهة الراوية، فإذا بي أحدثه عن رواية " اسم الوردة" لأمبرتو إيكو، التي كنت أقرأها آنذاك، احترم الرجل حماسي وظل مبتسما وأنا أصف له أحداث الرواية، الدير القروسطوي، متاهة مكتبة الدير، الجرائم الملغزة، السم في أوراق الكتاب...، بعد انتهائي، قام وذهب مباشرة لأحد الرفوف وأخذ كتابا ووضعه أمامي، وعاد يجلس مكانه محافظا على ابتسامته، قرأت العنوان "اسم الوردة" بالفرنسية، رفعت عيني أنظر إليه، وقال موضحا بأن هذه الرواية قرأها من مدة طويلة، وفي يوم وهو جالس على حائط الصقالة المواجه للبحر، انفلتت من بين يديه الرواية وسقطت في مياه البحر، أنقدها يقول، واعتنى بأوراقها حتى جفت وهي اليوم جزء من هذه الثروة التي تؤثث هذا المكان.

جمعتنا الكثير من النقاشات على مدى ستة سنوات بعد هذه الزيارة الثانية للمقهى الثقافي، ولكن ظلت حكاية هذه الرواية راسخة دون غيرها، لا تبرير أجده في نفسي لهذه الذكرى المتبقية في ركن ما بذاكرتي، ربما فكرة إنقاد كتاب من الهلاك وتاريخنا المليء بإحراق الكتب وطمس الحروف، أو قد يكون الأمر متعلقا بانغماسي الشديد في أحداث تلك الرواية آنذاك وارتباطي بها لمدة طويلة، ربما، ولكن تظل هذه افتراضات لا غير. ما أنا واثق منه هو أن هذا المقهى كان ملاذي وملاذ الكثيرين مثلي بالصويرة. كل واحد منا يأخذ من المدينة نصيبه، لا يكون الاختيار بيدنا دوما. تستدرجنا الأمكنة أحيانا وتدير حولنا حبالها ولا انفكاك لنا منها بعد ذلك.

الصويرة موجة تنكسر وأخرى تسير،

الصويرة صرخة "كناوية" في وجه العدم،

الصويرة هي ما تبقى من الحائط البرتغالي يقاوم تموجات الزمن الغادر،

الصويرة هي زفرة آخر عبد بيع فيها لسيد أبيض.