1 – لعل الفلسفة كإبداع، و ليس كدرس فلسفي، يتنفس هواء المؤسسة، و يروم التنميط، تواجَه هنا مع "سياسة التجميع" . و بين التنميط و التجميع علاقة قرابة قوية . يجعلنا موقع الفلسفة المبدعة، في هذا السياق، نطرح السؤال التالي : هل لِ "التجميع" "سياسة" ؟ أو هل لِ "السياسة" أن تقرن ب "التجميع" ؟ و من يُمارس فعل "التّجميع" ؟ و لماذا يمارسه في أصل الأمور؟ أم فقط، يحتاج فعل "التجميع"، الذي نحن بصدده، إلى فاعل من نوع معين، ليحقق واقع "التجميع" المقصود، و ذلك طبعا على حساب تأسيس تنميط الغير المختلف، الخاضع، و المنشغل بتفاصيل حياة الواجب، و المهيمَن عليه، باسم النظام السائد، أي المنفعِل، المحكوم بأداة في غاية الأهمية . نعني بها، خبث التسييس، و سلطة "السياسة"، التي يقصد بها هنا وصفة ماكرة للتخدير و التدجين، و التعتيم، حتى يستمر نسقُ النظام المهيمِن، في رحلة البقاء اللاشرعي، مُقنّعا، و مُقْنِعا، كما لو كان شرعيا .
أما فعل "السياسة"، في سياقنا الفكري، فنعني به جملة قواعد عامة، تدخل في إطار نسق نظام فاعل، يفرضه سلطان الحاكم، ماديا و اقتصاديا و رمزيا، اعتمادا على الكثير من الآليات و الأدوات، منها أسلوب "التجميع"، الذي نتحدث عنه، و ذلك لتشديد الخناق المُراد، و التحكّم الفعلي في تعطيل قدرات عناصر النسق المنفعِل، حتى تبقى تلك العناصر التائهة، وفية و طائعة لرحلة عجزها المفروض، و ضعفها الفاحش، الذي يجب أن يتجدد باستمرار، و يكون لانهائيا و أبديا، كلّما نمت و اتسعت، و تجددت قوةُ هيمنة و طغيان نسق النظام الحاكم .
لعلنا نخلص ها هنا، إلى أنّ مسألة "السياسة"، كفعل توجيهي صارم، و أحيانا عنيف، يرنو ممارسة المزيد من تفعيل و بسط واقع الاحتكار و الضمّ، و الاخضاع و الضبط، و الاحتواء التدريجي، بغاية تحقيق مظهر و شكل "التجميع"، الفارغ من قيمة المعنى الإنساني . إن إجراء "التجميع" هنا ك"سياسة"، هو بمثابة أسلوب ماكر لتطويق موضوع الفعل ( ما هو اجتماعي ) من جهة، و تقديم خدمة جد مربحة، لا تقدر بثمن، لمختلف أجهزة أنساق السلطة الفاعلة و المهيمنة، من جهة أخرى .
هكذا تبدي الملامح العامة لفكرة "التجميع"، باعتبارها فعل تنميط للإنسان بامتياز، أنها استراتيجية سياسية في عمقها العملي، بها تؤدي دور الموظّف الخدوم المساعد المتواري، للسيد : سلطان نظام السلطة المهيمن، في الحقل المجتمعي الحسي ..
في حين تنهض الفلسفة، بأسلوبها النقدي و التفكيكي، عكس "التجميعي" و التكثيفي للسلطة، بدور أساسي، لفضح فساد نسق الأنظمة الطاغية، و تأسيس تصورات مكتشفة، و دعم سلوكات تحترم الإنسان، و تشجع على الاقبال الطوعي و الإيجابي على الحياة الأرضية ..
هكذا، نصبح أمام مفهوم مركب، مؤسس على معنيين يبدوان بعيدين و متنافرين في المظهر، غير أنهما، في سياقنا الفلسفي العميق، يكوّنان زوجا مشكلا دلاليا، و متسق الداخل و الخارج :
( سياسة التجميع )، و ضدّها المحتمل : ( فلسفة التفكيك ) . أو لنقل، ( فلسفة التفكيك ) الفاضحة .. ضدّ ( سياسة التجميع ) المسمومة !!
2 – هل فعل "التجميع" هنا سبب أم نتيجة ؟
إن الجواب عن التساؤل المطروح أعلاه يفرض علينا التفكير مع القارئ، ليس نظريا، كما فعلنا في الفقرة السابقة، و إنما بتقديم نماذج عملية في الحياة الاجتماعية للناس و المواطنين . طارحين تساؤلا هاما هو : ما هي تجليات ( سياسة التجميع )، الممارسة من قبل نسق النظام المسيطر، من أجل "شرعنة" مشروعه العنيف، إذا صح التعبير ؟ و هل نجحت الفلسفة، كنسق فكري مفهومي و نقدي، في مشروعها التفكيكي المضاد، تحصينا لحق الإنسان الأساسي، في الحياة الكريمة الفاعلة، و ليس فقط الاكتفاء بالوجود الضروري، و الملحق التابع لمركز أجوف .
لقد اخترنا، كنماذج حيّة و عملية، لتوضيح فكرتنا حول مفهوم ( سياسة التجميع )، و علاقتها الضدية بما يمكننا نعته ب ( التفكيك الفلسفي )، نموذج رئيسي، انتقيناه بطريقة اعتباطية، علما أن هناك ثمة نماذج كثيرة أخرى، في حياتنا الاجتماعية و السياسية العامة و اليومية، بل قد تكون أهم من نموذجنا المختار، من حيث فعاليته الإجرائية، و نجاعته الحقة لموضوعنا .. كالإدارة، و الإعلام، و الصحة، و الثقافة، و السكن .. إلخ .
– الحقل التعليمي كنموذج :
إن ما يصطلح عليه في الأدبيات التعليمية و المدرسية، بضمّ متعلمي و متعلمات قسمين مختلفين، في نفس المدرسة، بسبب الغياب الاضطراري مثلا، لأستاذ أحد هذين القسمين، ليصبح هؤلاء التلاميذ، الذين كانوا في وضعية تربوية سابقة، يدرسون في قسمين منفصلين، يتابعون دراستهم "المعدّلة"، في الوضعية الجديدة، داخل الحجرة الدراسية عينها . هكذا تتحقق ( سياسة التجميع ) قسريا، على حساب المصلحة التربوية و النفسية و التعلمية للتلاميذ . ليكون الرابح الأكبر هنا، هو الأسلوب الإداري المُهيمِن، للسلطة الوصية على قطاع التربية و التعليم المغربية ..
أ ليس .. كان من الأجدر على صانعي القرار التعليمي المحلي ( النيابي )، الحفاظ على الوضعية البنيوية، لقسمي هؤلاء التلاميذ، كما كانت في أصلها، سليمة و بدون اكتظاظ، احتراما لإنسانية التلميذ و التلميذة، و أيضا احتراما للمفهوم الحقيقي لتلقي التربية، و اكتساب العلم و المعرفة، في معناهما الجوهري الحقوقي، لدى جميع الأمم، و تعويض الأستاذ الذي غيّبته ظروفه، بأستاذ جديد يحلّ محله، حتى لا يضيع حق التلميذ (ة) الطبيعي و الانساني و الدستوري، في متابعة تعلّماته التربوية و المدرسية و المعرفية، في الشروط التربوية السليمة و الجيدة المطلوبة ؟
غير أن واقع الحال للمدرسة المغربية، يخبرنا بعكس ما افترضناه في سؤالنا. و بالتالي، جاز لنا القول، أو أن نعتبر ظاهرة ضمّ الأقسام، في التعليم الابتدائي خاصة، لأسباب لا دخل للتلميذ (ة) فيها، التنفيذ الإجرائي و التحقيق الفعلي، لما سمّيناه أعلاه ب ( سياسة التّجميع )، خدمة لنسق السلطة الإدارية التربوية (هنا)، على حساب مصلحة التلميذ (ة) المعرفية و التربوية الخالصة، الذي يشكل عنصر أساسي، ضمن عناصر نسق سلطة الحقل التعليمي، كوضع اجتماعي متحول .
إنّ سياسة ( تجميع ) التلاميذ هنا، هي جزء لا يتجزأ من السياسة التعليمية العمومية، التي نهجتها الدولة المغربية، و لا تزال، في الحقل التعليمي و التربوي، بطريقة إكراهية و متعسّفة، و بالتالي ترتب عن الانتهاج المنهجي لهذه السياسة، السقوط المتكرر و المتعدد، لواقع التعليم المغربي في إشكالية الأزمة الموبوءة .. التي أصبح لها تاريخ في قاموس الحياة الاجتماعية المغربية، بالرغم من الجهود التي بذلت من أجل إنجاح التغيير و الاصلاح، منذ الانتفاضة "التلاميذية" في سنة 1965 .. هذه الانتفاضة التي فسرها نسق السلطة الحاكم آنذاك، بكونها مفّعلة و مؤطرة، من قبل هيئة نساء و رجال التعليم، لأنها انطلقت من ساحات المؤسسات التعليمية ( الثانويات )، و انفجرت في شوارع الدار البيضاء الكبرى ..
إلا أن واقع غياب الإرادة الفعلية، في التغيير و الاصلاح الحقيقيين، عند الدولة المغربية، منذ ذلك العهد، بسبب عدم قدرتها على التحرّر من عقدة ( اللاوعي ) العدائية، تجاه القطاع التعليمي المغربي، و هيئته التربوية، الفاعلة في حقله باستماتة قلّ نظيرها، و نكران الذات، على عكس ما ادعته الوزارة المكلفة بالقطاع، عندما ترجع اليوم، فشل كل الاصلاحات التعليمية، إلى اختلالات في بنية "كفاءة" نساء و رجال تعليم ؟ و حقيقة الأمر عكس ما ادعت، بحيث نرى أن الأزمة التعليمية، هي أولا أزمة الذهنية التي فكرت، و لا تزال تفكر بها سلطة الحكومة سابقا و حاليا. و ثانيا، هي أزمة اجتماعية و ثقافية و قيمية، نتيجة للسياسة تعليمية المركبة المتعسفة، و المتبعة بشكل اعتباطي، من قبل الدولة، قبل أن تكون أزمة قطاعية، كما يحلو لها أن تتوهم، أو أن توهم الآخرين !! أنها مسألة تسييس التعليم، بدل فصل قضية التعليم كقضية وطنية و مصيرية عن السياسة .. !!
يكفي أن نشير، إلى أنّ معظم القرارات التربوية الحاسمة، يتمّ اتخاذها و تفعيلها، داخل دواوين الوزارة، بطريقة فردية، يتم فرضها عشوائيا، دون الإشراك الفعلي للنقابات التعليمية، في إطار ما يسمى بالحوار الاجتماعي البنّاء، كما هو الأمر بالنسبة لوقائعه المتعثرة، في عهد الحكومة الاسلامية الحالية ..
هكذا، ظلّ التيه و الارتجال حينا، و التجريب و اللامسؤولية، حينا آخر .. هي السمات الأساسية، التي تطبع كل محاولات الاصلاحات السابقة .. و أيضا تلك التي تلتها فيما بعد ..
من هنا نخلص إلى أن واقع أجرأة ( سياسة التجميع )، كما حاولت، و تحاول فرضها، أنساقُ السلطة الحاكمة، بطريقة تعسفية و ديكتاتورية، و منها تعسّف نسق الدولة نفسه، هو وضع لا يمكن أن يؤدي إلا، إلى المزيد من مظاهر الاحتقان الاجتماعي، و إلى واقع اللاتواصل الفكري و القيمي، بسبب التراجع الخاطئ، أو التغييب المقصود للحوار، كأداة ديمقراطية حضارية، تلك التي يمكن المراهنة عليها اليوم، في زمن التوتر و اللاتواصل، بين القوى الفاعلة في الحقل المجتمعي المغربي، للانفصال التدريجي عن إرث الماضي المتعفّن، و التأسيس الفعلي، لروح مستقبل منفتح على الآخر المتعدد و المختلف . و هي المواصفات العقلانية، كما يبدو، للفلسفة الراقية و التفكير الفلسفي المبدع، اللذين نعتبرهما المنطلق القاعدي لأي إقلاع حضاري مجتمعي صاعد، في الشروط السليمة و القوية، ثقافيا و اجتماعيا و اقتصاديا و ابداعيا . لأن الإنسان لكي يفكر، بشكل قوي و سليم، لابد له من مُحاور قوي و سليم أيضا . و الحوار الفعّال، يحتاج دوما إلى التدبير الجيد لقدرة العقل البشري الخلاقة، على ممارسة النقد الذاتي، و التحقيق العملي لطفرة التجاوز، من أجل تأسيس الغد الأفضل .. في الحياة الآنية .. و الهُنا ..