الدين والفلسفة: حوار مع علي محمد اليوسف – أجراه: مراد غريبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

الأستاذ مراد غريبي:

 ما هو رأيك في اهم بوادر الاهتمامات الفلسفية بنشوء الاديان، وانت تناولت أفكار فيورباخ حول هذا الموضوع، نود تلخيصها لنا. وهل لا زالت الاسبقية الراجحة في الايمان الديني للفلسفة أم للاهوت؟ وهل كان للطبيعة دور ديني قامت به؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

بداية أود التنبيه هنا الى أن افكار فيورباخ في كتابه أصل الدين هي قراءة فلسفية تعتمد الطبيعة والذات في منهج تصوفي تأملي، وما هو مستجد حديثا ظهور علم متخصص في نشأة وتطور الاديان يدعى (علم الأديان) وهو علم:

1.لا يأخذ باجتهادات التفلسف في نشأة الاديان،

2.لا يأخذ بمدونات اللاهوت الذي لا تسعف ادعاءاته اكتشافات آثارية واركيولوجيا التاريخ،

ولا يأخذ حتى بالمعجزات الدينية.

 لكن مع هذا تبقى آراء فيورباخ الفلسفية حول نشوء الاديان تمتلك من الاثارة الفلسفية الشيء الكثير الذي لا يتوفر عليه علم الاديان باعتباره علما لا يقوم على نظريات تجريدية غير تجريبية ولا على فلسفات أو تنظيرات غير مدعمة باسنادات اركيولوجية وتنقيبات حفرية. الفلسفة تقول ما تعجز عنه بقية الاجناس الفكرية قوله أو التعبير عنه لكنها ليست علما طبيعيا خاضعا للتجربة.. الفلسفة ام العلوم لكنها ليست علما.                    

الأستاذ مراد غريبي:

إذن ماذا عن الطبيعة ونزعة التدّين البدائي؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

يقول أحد الفلاسفة المعاصرين في معرض حديثه عن تعالق الدين واللغة عند الفيلسوف بروديكوس (ان الانسان البدائي والذي بدا له أن كثيرا من الظواهر الطبيعية معادية له، ومع ذلك كان معجبا جدا بالهبات التي تزوده بها الطبيعة لتسهيل حياته ورفاهيته)، وفي تعبير ظريف ليوربيدوس قوله: أنه يتوجب على الارض أن تثمر شيئا لإطعام قطيعي سواء اكانت الطبيعة راضية أن تفعل ذلك أم لا. كانت ولازالت الى يومنا هذا الأم المرضعة لبقاء النوع البشري من الانقراض. هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الارضية، لم تكن طبيعة جامدة (روحيا) بمعنى الثبات والسكون الفيزيقي الذي يعدم تساؤلات ما وراءها، تساؤلات الانسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرد به عن باقي المخلوقات والكائنات، (عقليا - روحيا) خياليا تأمليا ميتافيزيقيا في ما وراء ظواهر الطبيعة المادية. كان هو الهاجس الذي لازم الانسان طيلة مساره الانثروبولوجي.

يقول فيورباخ (ان مصير الانسان هو ارادته وتفكيره، وبمجرد ان يتخطى المرحلة البدائية، ويصبح كائنا يقرر مصيره على اسس وقوانين تتسم بالحكمة والعقل، عندئذ تظهر له الطبيعة والعالم كشيء يعتمد على فكره وارادته وتأثره بهما).

وبحسب فيورباخ: حين يرتقي الانسان بفكره وأداته فوق الطبيعة، فانه يصبح خارقا للطبيعة، ويصبح الاله ايضا خارقا للطبيعة. هنا يتوجب التنبيه ان لا الخالق الغيبي في السماء، ولا الاله الانساني مجسدا بالإنسان نفسه في محاولته تسيّد الطبيعة، يستطيع خرق قوانين الطبيعة لتلبية رغائب الانسان، ماعدا ما جاء كمعجزات منسوبة للأنبياء لتدعيم ايمان الناس بهم.

اما الانسان العادي الذي لا يمتلك معجزة او معجزات فانه سيكون محكوما بقوانين الطبيعة في الزمان والمكان ولا يقوى على خرقها منذ بدء الخليقة والى اليوم. وليس بمقدور الطبيعة خرق قوانينها ذاتيا ايضا من أجل تلبية حاجات الانسان التي لا تعيها، فهي من جهة لا تعي ذاتها ومن جهة اخرى لا تعي وجود الانسان المميز عنها، لكن بمقدور الانسان منفردا خرق قوانين الطبيعة من اجل رغائبه واشباع حاجاته وملذاته، إذا ما توفرت له صفات الالوهية كما خلعها عليه فيورباخ من خلال علوّه واعلائه الانسان على الطبيعة وتنصيبه (إلها) عليها. وهذا لا يتم الا في وعي الانسان لذاته كائنا مميّزا عن كائنات الطبيعة الاخرى من حوله، وكونه جزءا من الطبيعة متمايز عنها متعاليا عليها لا أن ينقاد لها بل هو يقودها.

 إن انتقال الانسان من الحالة الحيوانية الانقيادية للطبيعة، هو انتقال نوعي مفارق عن علاقة تكيّف وانقياد الحيوان لها، فحين يعلو الانسان فوق الطبيعة، فبماذا؟ وكيف؟ فهو يعلو عليها بخاصيتي الذكاء النوعي والتخيّل اللتين لا يمتلكهما الحيوان في علاقته المتكيّفة مع الطبيعة المهادنة لها. وبهذا يتسيّد الانسان الطبيعة، ويكون تعامله معها غير متكيّف سلبيا انقياديا لها كما عند الحيوان، لذا نجد الانسان في علاقة رأسية احتدامية متصارعة مع الطبيعة. فهو يدرك الزمن بتصوراته البدائية لكنها العظيمة التأثير في دفع تفكير الانسان نحو المستقبل والامام.

وبهذا النوع من العلاقة نجد الانسان يعلو على الطبيعة ولا تعلو هي عليه. رغم ضآلة وجوده الكياني وقدراته المحدودة امام لا محدودية الطبيعة في متخيّله الارضي لها وفي امتلاكها من موجودات حياتية منوعة لا حصر لها مذهلة لا يستطيع الانسان الاستغناء عنها في معيشته وادامة حياته..

الأستاذ مراد غريبي:

أي أنه بعد مراحل تاريخية، اخترع الإنسان اللغة أو حقق تميزه النهائي على الطبيعة؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

أكيد، بل لمن المهم ان الانسان في مراحل تاريخية متقدمة في وجوده الانثروبولوجي تمكن من اختراع اللغة في اعتلائه ظهر الطبيعة. فأصبح الانسان متمايزا عن الطبيعة في كونه يعي ذاته ويعي الموجودات في الطبيعة من حوله، وكونه كائنا مفكرا لا تجاريه الطبيعة به ايضا، وكونه اي الانسان متمايزا عن الطبيعة بالخيال الذي تفتقده الطبيعة والكائنات الاخرى من حيوان ونبات وجماد، والصفة المتمايزة الاخيرة للإنسان والتي لا تمتلكها الطبيعة وكل موجوداتها انه كائن ناطق يتواصل مع غيره باللغة واحساسه بالزمن المعدوم لدى الحيوان.

وأكثر مما ذكرناه فان فيورباخ يصف الآلهة والتوحيد الديني قائلا ما معناه، أن التأليه أو التوحيد لإنسانية الطبيعة الالهية بمعنى انتساب الطبيعة للإنسان وليس انتسابه هو وتبعيته لها. انما ينبعان فقط من ربط الانسان الطبيعة بذاته لأن الطبيعة تخضع نفسها للإنسان دون ارادة ولا وعي منها، بعكس الحيوان الذي ينقاد للطبيعة من دون وعيه بها أو هي تعيه، كما أن الطبيعة غير ملزمة، ولا تعي أهمية تنفيذها لرغائب الانسان وتلبية احتياجاته منها،

كما وليس بمقدور الطبيعة خرق قوانينها التي تحكم وجودها الطبيعي رغما عنها أودون دراية منها، وفي استقلالية عن الانسان، من اجل تحقيق ما يحتاجه الانسان منها كما أشرنا سابقا لسبب يجهله الانسان كما تجهله الطبيعة ايضا. الانسان يعيش الطبيعة من اجل تلبية غذائه وادامة بقائه دونما وعي منها وكذا الحال مع الحيوان في علاقته بالطبيعة. ان الانسان البدائي القديم لم يدرك أن الطبيعة تختلف عنه جوهريا في انها لا تعي ذاتها ولا تعي وجود وظواهر الاشياء من حولها بخلاف الانسان عن الطبيعة في وعي الانسان ذاته ووعيه المحيط والموجودات من حوله في تساؤل سببي ودهشة. ومن منطلق تجاهل الجدل الحاصل في أن الطبيعة خالقة لنفسها وقوانينها على وفق الانتخاب الطبيعي الدارويني والتطور البيولوجي والأنثروبولوجي للإنسان والطبيعة، أو اعتمدنا المنحى الايماني الديني أن الله هو خالق الطبيعة ومنظّم قوانينها بإحكام لا تدركه الطبيعة ذاتها ولا الانسان ايضا، فالطبيعة تبقى (أم) الانسان في رضاعته منها، وكذلك ام الحيوان والكائنات الاخرى في تامين بقائها وتوفيرها الغذاء والبيئة في ادامتها بقاء الانسان والكائنات الاخرى وحمايتها لهم من الانقراض.

نجد من المهم التذكير بان الطبيعة التي تنتج وتسود قوانينها التي تحكمها هي والانسان معا، لكن الطبيعة لا تصنع تلك القوانين في إدراك اهميتها للإنسان واشباع رغائبه واحتياجاته، أي أن قوانين الطبيعة التي تعمل بمعزل عن ارادة الانسان في توفيرها وسائل بقائه وتلبية احتياجاته المعيشية له وللحيوانات معه كافة، هي ايضا لا دخل لعدم وعي الطبيعة بها أو بصنعها ووجودها، تلك القوانين الثابتة التي تحكم الانسان والطبيعة وحتى الكوني ايضا.

وفي الوقت الذي يندهش الانسان بالطبيعة، في تساؤله من اوجدها وكيف؟ فالطبيعة لا تمتلك جوابها لأنها لا تعي كيف وجدت ومن اوجدها. كما ان الانسان لا يقوى حل لغز حياته هو في وجوده الارضي في تعايشه مع الطبيعة والكائنات الاخرى منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا. الانسان لا يمتلك غير خاصيّة التكيّف مع الطبيعة.

الأستاذ مراد غريبي:

الدكتور علي اليوسف، هناك مقولة لفيورباخ (فإن الآلهة قادرة على فعل ما يرغب الانسان، بمعنى انها تطيع وتلبّي قوانين (قلب) الانسان وليس عقله، فعلاقة الانسان بروحه، تعادل علاقة الآلهة بالعالم المحسوس). ماذا يقصد بلحاظ النزعة الدينية لدى الإنسان؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

 هذه العبارة مشبّعة برؤى ميتافيزيقية ولا تقول أكثر من ان الانسان مبتدأ ومنتهى الدين، فكلتا العلاقتين علاقة الانسان بروحه، وعلاقة الانسان بالآلهة هي علاقة افتراضية خيالية معدومة التحقق ولا فارق بين العلاقتين لان مصدر خلقهما هو الانسان فقط في وعيه ذاته والطبيعة من حوله. وبالتالي هي علاقة الانسان مع نفسه فقط ولا وجود لآلهة تعلو الانسان الا تلك التي وضعها هو في موقع الاله المقدس المعبود في علاقة خياله بالطبيعة.

وتأكيدا لما ذهبنا له من جهة ثانية فعلاقة الانسان بروحه علاقة وجدانية ذاتية نفسية لا وجود حسّي او ادراكي مادي عقلي لها، لذا هي تعادل علاقة الآلهة الافتراضية بالمحسوسات والماديات والطبيعة والعالم التي ايضا هي غير موجودة سوى في مخيّلة وتفكير الانسان فقط. فالإنسان يعبد ما يتخيّله هو فقط حسب حاجته الروحية او المادية، ويؤمن بمعبوده بروحه المجردة وليس بعقله في كل ما يصنعه له خياله.

إذا ما علمنا أن فيورباخ فيلسوف وشاعر أيضا، أدركنا مدى قدرته الفكرية وقابليته الساحرة على تطويع لغة الفلسفة بألفاظ تعبيرية شفافة موحية تتوارى خلفها المعاني. فقد وضع فيورباخ نزعة التدين عند الانسان مستودعها (القلب) وليس العقل ولا تزال هذه الحقيقة النظرية مسّلم بها دينيا في جميع لاهوت وثيولوجيا الاديان والاساطير والفلسفة.،

فالعقل بمدلولاته الادراكية والحسّية والخيالية الذهنية، لا يتوسّله الانسان في محاولة الاستدلال المنطقي ولا الحسي التجريبي في اشباعه نزعة التدّين عنده، وانما يستعمل عقله في التساؤل التأملي التجريدي الخيالي في ترسيخ ايمانه الغيبي فقط، ولا زالت هذه الفرضية تغلب على تديّن أكثر الموحدين لله، ان الايمان الديني مصدره القلب وعجز العقل في الاستدلال على تثبيت الايمان الروحاني ببراهين عقلية او سببية عليّة.

فالإنسان يعمل عقله حسّيا وخياليا بعكس الحيوان الذي يدرك الطبيعة عقليا محدودة جدا، وحسّيا مباشرا في تامين الطبيعة ما يحتاجه في غذائه فقط، ولا يمتلك الحيوان قابلية ولا قدرة إعمال العقل خياليا تجريديا حتى في حالة تعطيل اللغة عنده.. علاقة الحيوان بالطبيعة علاقة لا ميتافيزيقية التي يمتاز بها الانسان وحده.

لذا الانسان يمتاز عن الحيوان بانه كائن ديني او متديّن كونه كائن عقلي مفكر وكائن خيالي في وقت واحد. اي هنا الانسان يدرك مفهوم الزمن والمكان من خلال اعمال مخيلته في التفكير الخيالي في استقرائه بعض ملامح مستقبله.

لنمعن النظر جيدا في العبارة التالية لفيورباخ: (إن الانسان يفعل من خلال الله، ما يفعله الله حقيقة بنفسه) ص96 من كتاب اصل الدين لفيورباخ، هذه العبارة المكتنزة فلسفيا لا تحمل اكثر من تأويل اوحد وحيد يمثل معنى، كان بدأه فيورباخ في بداية كتابه اصل الدين، من أن الآلهة مصنّعة خياليا من قبل الانسان، وليس هناك من وجود الهي من غير تأمل الانسان وإعمال عقله الخيالي في ما وراء الطبيعة، وايمانه بتخليق ما كان قد ابتدعه خياله انطولوجيا، في تحميل معبوده جميع الصفات الذاتية التي يخلعها الانسان عليه ، على إلهه المصنوع خيالا ميتافيزيقيا من قبله.

ان عبارة فيورباخ هذه في تأويلها بمنهجية علوم اللغة المسكوت عنه الذي يتخّفى فائض المعنى فيها دائما خلف المفردات اللغوية، تلخيصها يكون بأن الاله والانسان هما وجود انطولوجي واحد هو الانسان فقط في معايشة خياله في علاقته بكل من الطبيعة والميتافيزيقيا. ولا يختلفان الا بأهمية الخيال الانساني في البحث عن الامان الروحي في الدين في حين لا تحتاج الالهة ذلك. إن جميع المصادر البحثية في نشأة الدين تذهب الى بداياته حتى مراحل الوثنية قبل الاديان السماوية تشير الى الشرق العراق السومري والبابلي ومصر الفرعونية والهند والصين وفلسطين، ثم انتقلت الاديان الوثنية والميثولوجية والاسطورية والسحرية الى بلاد اليونان والرومان والقرطاجيون والفينيقيين الى ما قبل ظهور اليهودية والمسيحية عن طريق فتوحات الاسكندر المقدوني للشرق حوالي 320 قبل الميلاد.

فعلى لسان هيرودوتس يذكر فيورباخ في كتابه أصل الدين (انه في الشرق يقلل الانسان من قيمة نفسه الى مستوى الحيوان كي يثبت ولاءه الديني، ما عند الاغريق والرومان فأن تأكيد الانسان لكرامته تضعه في مصاف الالهة). ص100

طبعا في هذا مغالطة آرية عنصرية عرقية، اذ الى وقت ليس ببعيد تاريخيا فأن الاغريق كانوا يضّحون بالأطفال قرابين للآلهة زيوس او جوبتير كما كان بفعل (آخيل) او غيره من وثنيي الارباب ولم تكن تحسب تلك حيوانية دينية، بعدها بزمن ايضا ليس ببعيد كانت قبائل الفايكونغ تضحي بالقرابين الآدمية ارضاء للإله إيتش. واخلافهم اليوم من أرقي وفي مقدمة دول العالم حضاريا الذين هم شعوب الدول الاسكندنافية الذي يعتبر نموذج الحياة الانسانية عندهم أرقي نموذج حضاري وصله الانسان على امتداد تاريخه.

الأستاذ مراد غريبي:

 لماذا رفضت الماركسية طروحات فيورباخ حول الصوفية التأملية في الدين وعارضتها بشدة رغم انها فلسفة تمتلك نزعة مادية تتجاوب مع الماركسية في جدل الديالكتيك؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

لقّب فيورباخ بانه صاحب منهج فلسفي مادي تصوفي او تأملي ذاتي، البعض ينعت فيورباخ فيلسوف الذات فهو عالج موضوعة اغتراب الذات فلسفيا في سبق فلسفي يحسب له.  ومن الماركسيين المحدثين الذين ينكرون التأثير المادي لفيورباخ على ماركس، بنفس معيار انكارهم الجدل الهيجلي على اعتباره هو الآخر مثاليا تجريديا فكريا تأمليا.. علما أن جميع دارسي وباحثي الماركسية يذهبون الى أن المادية الفيورباخية والجدل أو الديالكتيك الهيجلي كانتا دعامتا الديالكتيكية المادية الماركسية، والجدل المادي التاريخي الذي اعتمده ماركس في صياغته قوانين تطور المادة والتاريخ، بعد تخليصه مادية فيورباخ من تصوّفها التأملي الديني، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة. لكن لا يمكن لأحد نكران أن المعارف والفلسفات وحتى العلوم الإنسانية، هي تراكم معرفي وحضاري تاريخي محكوم بالكم والكيف، في تقادم زمني لا يلغي تماما جهد السابقين على اللاحقين تاريخيا، مهما اعتور وشاب تلك المسيرة من النقد والمراجعة والحذف والتفسير والتفنيد.،. إلخ، كما يتعذر ولادة معارف علمية أو فلسفية من فراغ سابق عليهما.

وإذا سمحنا لأنفسنا اسقاط الفهم الحداثي وما بعد الحداثي على اي نص مكتوب، فهو بحسب رولان بارت في مقولته الشهيرة موت المؤلف، في ردّه كل نص الى تناصه المتعالق مع سابقاته من النصوص من جهة، ومن جهة اخرى فأن النص بعد كتابته ونشره يصبح ملكا صرفا للقارئ المتلقي، او بالأحرى المتلقين الآخرين في تعدد وتنوع قراءاتهم للنص في ملاحقتهم ما يسمى فائض المعنى اللغوي المتبقي بعد كل قراءة جديدة. وهو ما ينطبق على كل نص تداولي مكتوب سواء في الثقافة او المعارف او الفلسفة او السرديات الكبرى كالإيديولوجيا والتاريخ الخ.

ويؤكد البرتو ايكو هذا المعنى لدى بارت قائلا: ان بارت يقوم بتفريق هام بين نص القراءة، الذي يستهلكه القارئ، والذي يمنح نفسه للقارئ بلا مشّقة، ومن ثم يقوم بترسيخ العادة والمألوف، وبين نص الكتابة الذي يقوم القارئ بكتابته مرة اخرى، ومرات عديدة في كل قراءة اخرى جديدة له.

طبعا من المتوقع جدا أن يكون فيورباخ المادي المنشق عن هيجل، وينحى نحو اشكالية علاقة الدين بالإنسان وان كانت علاقة ميتافيزيقية وليست مادية فهي كانت من صنع الانسان وحده. حاربت الماركسية ممثلة بماركس وانجلز صوفية فيورباخ التأملية الدينية نتيجة الفهم الخاطئ الذي تحمّل فيورباخ وزره عندما نسبت الماركسية له اعتبار انثروبولوجيا التطور الانساني في مراحل ماضية سحيقة كان مبعثه اهمية الدين في تطور تاريخية الوجود الانساني وليس كما تريد الماركسية اثباته ان الاساس المادي لانثروبولوجيا الانسان هو صراع التفاوت الطبقي الاقتصادي والاجتماعي الذي حكم التاريخ في مختلف العصور والازمان بما أطلقت عليه الماركسية المادية التاريخية.

 الأستاذ مراد غريبي:

كتبت عدة مقالات عن مذهب وحدة الوجود في الصوفية والفلسفة لدى سبينوزا بالذات هل يمكن توضيح علاقة هذا المبدأ بكل من الدين والفلسفة؟ ومن يحدد فهم الانسان الايماني الجوهر أم معجزات اللاهوت الديني؟ وما هو الفرق بين مذهب وحدة الوجود بين هيجل وسبينوزا؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

مذهب وحدة الوجود لا تنحصر مداولته فلسفيا فقط بعيدا عن الاديان حيث لا يخلو دين من الاديان في العالم قديما وحديثا من مذهب وحدة الوجود والفرق الصوفية التي تدين به. ومذهب وحدة الوجود مبحثا إشكاليا على صعيدي الاديان والفلسفة على السواء. وتختلف معالجته في تداخله بين الدين والفلسفة، ونتطرق بهذه الاجابة الى مفهوم وحدة الوجود في فلسفتي سبينوزا المثالية وهيجل ألتأملية المادية. مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا يشبه الى حد كبير وحدة الوجود عند هيجل.. وأكثر مما يشبه وحدة الوجود عند الهنود المايا، ويقرّ هيجل على أن سبينوزا كان محّقا الى حد ما عندما تصّور المطلق جوهرا واحدا، لكن المطلق بالفهم الفلسفي الهيجلي أبعد ما يكون عن فهمه أنه جوهر إلهي كما هو في فلسفة سبينوزا. لذا نجد هيجل يؤكد، وجوب معاملة الجوهر "ذاتا" وليس هناك شيء بالمطلق لا يكون عقليا، من الممكن معرفته وتصوره عقليا...

وحدة الوجود عند سبينوزا حين يلتقي مع فهم هيجل، فهذا مؤشر على وجود اختلاف جوهري كبير بينهما يصل مرحلة التضاد. أهمها بداية أن أسبينوزا يفهم وحدة الوجود فلسفيا بمرجعية لاهوت الإيمان الديني بالخالق خارج الإيمان بالمعجزات، في حين يعمد هيجل فهم وحدة الوجود من منطلق فلسفي مادي على صعيد الفكر لا ديني يقوم على وحدة الادراك الكليّة العقلية في نزعة واقعية مثالية لا ميتافيزيقية.

سبينوزا يرى بالمطلق الأزلي الشامل الإلهي جوهرا لا يمكن إدراكه فهو خالق غير مخلوق، بدلالته ندرك الجواهر الاخرى في الطبيعة والاشياء. بينما نجد النزعة العقلية لدى هيجل تذهب خلاف سبينوزا أن الله والطبيعة والانسان والميتافيزيقا تقوم على فكرة مطلقة واحدة عقلية لا دينية تجد أنه لا يوجد شيء حتى الروح لا يطالها الإدراك العقلي. فكرة المطلق الهيجلية تجدها تمّثل مدركات موجودات الواقع في كل شيء يدركه العقل.

مفهوم الجوهر يختلف تماما بين الفيلسوفين، فنجد هيجل متناقضا مهزوزا في فهمه الجوهر الذي يقصده سبينوزا ولا يؤمن به، حيث يقول هيجل: سبينوزا على حق في اعتباره المطلق هو جوهر لا يمكن إدراكه، ليعود ينقض قوله هذا أن المطلق لا يلتقي الجوهر وهو خال من جوهر لا يدركه العقل. تناقض هيجل يتعدّى هنا مفهوم الجوهر في الوجود الى الفكرة المطلقة التي يطال فيها العقل كل شيء. هيجل يرى المطلق هو الواقع الذي يدركه العقل. مطلق وحدة الوجود عند هيجل هو مطلق إدراك العقل لكل شيء يكون موضوعا لتفكير العقل به. الفكرة المطلقة عند هيجل لا يمكن تحديدها فهي الوجود والصيرورة وهي الكيف وهي الماهية وهي الطبيعة والفكرة الشاملة. هيجل لا يؤمن بجوهر مثالي غير عيني غير مدرك لا على مستوى الطبيعة ولا على مستوى المطلق الكوني الالهي. لذا يدعو الى معاملة الجوهر "ذاتا" يمكن حدّها وإدراكها العقلي المباشر في التعامل معها، هو خلاف صميمي بالإجهاز على فكرة سبينوزا وجود جوهر كليّ شامل متكامل نعرف الوجود كاملا بدلالته.

حينما نعامل الجوهر) ذاتا) كما يرغب هيجل نعامله كمدرك عقلي، يمكن تذويته بالموجودات التي ندركها على أنها صفات خارجية هي ماهيّة لا يحتجب جوهرا وراءها، وهذا ينطبق على الحيوان والنبات والجمادات التي تكون جواهرها هي صفاتها الخارجية المدركة في ملازمة وجودها الواقعي. لذا يوجد من يعتبر كائنات الطبيعة ما عدا الانسان جواهرها الماهوية تسبق وجودها في الطبيعة وعلاقة الانسان بها أحدهم سبينوزا. بخلاف الانسان وجوده المادي يسبق ماهيته كما رسّخت ذلك الفلسفة الوجودية الحديثة ومن قبلها الماركسية. نستدرك أن معظم الفلسفات المعاصرة والحديثة تذهب الى أن جميع كائنات الطبيعية هي بلا ماهية ولا جوهر خفي، وصفاتها الخارجية المدركة هي ماهيتها وجوهرها ايضا.

اعتبار الجوهر ذاتا كما يدعو هيجل يعني يمكن إدراك جواهر كل الاشياء عقليا حسّيا كصفات خارجية للموجودات، وإذا سحبنا هذا التصور التذويتي في تشييء الخالق الجوهر المطلق) ذاتا) عندها يتاح للعقل إدراكه وينسف معنى التصور الديني الاسبينوزي أن الجوهر لا يدرك عقليا بل يحدس بمخلوقاته وموجودات الطبيعة. والجوهر عند سبينوزا هو سبب الموجودات وليس نتائج محتوياتها. ولا يدرك الجوهر الإلهي بدلالة موجوداته بخلاف ما يعتقده العديد من الفلاسفة.

سبينوزا يعتبر الجوهر الانساني سابقا على الوجود الشيئي بخلاف الفلسفة الوجودية تماما، بمعنى ما عدا الانسان الذي لا يمكننا معرفة جوهره من ناتج ومحصلة إدراكنا لصفاته الخارجية، وجود الانسان سابق على ماهيته وجوهره الذي هو تصنيع ارادة ذاتية خاصّة بالإنسان في حين نجد الحيوان والنبات والجمادات لها صفات خارجية سلوكية فقط خالية من احتجاب جوهر داخلها، وماهيتها كصفات وسائلية للإنسان تسبق وجودها الانطولوجي. كل كائن حيوان او نبات تحتويه الطبيعة ما عدا الانسان هي موجودات لا تمتلك جوهرا.

حين يعتبر هيجل المطلق ذاتا يعني أضفى عليه صفة الإدراك الممكن له، وبذلك يفقده خاصّية الجوهر المطلق الإلهي في تعاليه على الطبيعة والكون والانسان. حين يقول سبينوزا في معرض محاججته عن الجوهر إنني لم أنزل التعالي الإلهي الى مصاف الطبيعة الارضية في وحدة الوجود ، بل حاولت رفع شأن الطبيعة بتقريبها من الجوهر الخالق لها ، نجد هيجل أراد العكس في محاولته تذويت الالهي الشيئي كي ينزله من تعاليه على الطبيعة الى مساواته بها فيكون هذا التذويت التشييئي للخالق لا يختلف عن إدراك فكرة المطلق أنه يدرك كل شيء من ضمنها الذات الالهية فلا يوجد مطلق لا يدركه العقل لا دينيا ولا واقعيا كونيا ولا يبقى بعدها معنى ميتافيزيقي يراود قلق الانسان بالحياة..نجد من المهم توضيح أن هيجل لا يأخذ مذهب وحدة الوجود وسيلة الكشف عن شك يفقد برهان الوصول لإيمان ديني، بوجود الخالق كجوهر نعرفه بدلالة الاعجاز التنظيمي في موجودات الطبيعة، فالفكرة المطلقة عنده هي الكلّي الشمولي الادراكي، وهي كل الواقع والكوني الذي في قدرة العقل إدراكه. ليس للبرهان على وجود مطلق كوني إلهي لا يدركه العقل حسب مفهوم سبينوزا، وهو خالق الطبيعة وقوانينها الثابتة التي تحكمها بكافة تكويناتها من ضمنها الانسان.

هيجل لا يؤمن بميتافيزيقا خارج الطبيعة والمطلق الكوني رغم نزعته الفلسفية المثالية التأملية. لكنه يبقى ماديا.  ولا يوجد ما هو خارج قدرة العقل على إدراكه. والطبيعة والكوني حسب هيجل أنهما القوانين التي تحكمها ويدركها العقل كونه جزء من الفكرة المطلقة إن لم يكن هو كل تلك الفكرة.

الأستاذ مراد غريبي:

وماذا عن عبارة سارتر "جوهر الإنسان الحقيقي بلا جوهر"؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

جميل جدا، هذه العبارة سارتر (جوهر الانسان الحقيقي أنه بلا جوهر) وقفت عندها متأملا طويلا فيها إدهاش فلسفي يستهويك معرفته. من السهل جدا أن نحسم خطأ العبارة بمصادرتها من نهايتها، ونقع نحن أيضا بالخطأ مع سارتر، أن الانسان لا جوهر له في حين هو يمتلك جوهرا قيد التكوين والتصنيع مدى الحياة حسب فلسفة سارتر الوجودية نفسه. وكي نناقش العبارة نقول الانسان يمتلك كينونة وجوهرا، لكن متى يكون الانسان فاقدا جوهره ومتى يكون مالكا له؟

هذا يتوقف على المرحلة العمرية للإنسان ويتوقف على موقفه النفسي الصحّي، فالطفل يولد موجودا بلا ماهيّة ولا جوهر، والجوهر الانساني في جميع المراحل العمرية هو عملية تصنيع ماهوي تلازم الانسان منذ الولادة والى الممات. أما المجنون فيكون يمتلك وجودا لا جوهر حقيقي طبيعي سوّي له.

تصنيع الجوهر عند الانسان يقوم على ثلاثة ركائز:

  • الأولى: أنه يعي ذاته عقليا طبيعيا كموجود في عالم،
  • الثانية: يعي مدركاته الخارجية بنوع من المسؤولية التي تتطلب قدرة على امتلاك الحرية في اتخاذه القرار الصائب.
  • الثالثة: الجوهر الانساني ماهيّة يشّكلها الوعي الذاتي والمحيطي الطبيعي وتتجلى في صورة سلوك مجتمعي هادف بالحياة.

 الأستاذ مراد غريبي:

هذا دكتور علي، يحتاج إلى توضيح أكثر، إذا ممكن تقديم أمثلة؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

الوجودية تؤمن أن الانسان موجود طبيعي نوعي قبل أن يكون جوهرا خفي، فالإنسان يوجد أولا وبعدها تتشكل ماهيته أو جوهره ذاتيا حسب مؤهلاته وقدراته وإمكاناته الفردية ومميزاته الخاصة به كفرد. يمتلك الانسان جوهرا ماديا مكتسبا مصدره الحياة التي يعيشها وتجاربه وخبراته ومميزاته الثقافية والسلوكية في تكوينه لشخصيته. بمعنى الانسان يصنع جوهره بقواه وإمكاناته الذاتية.

الانسان كائن نوعي موجود بالطبيعة جزء منها متمايز عنها بصفات العقل والذكاء والوعي بالذات والمحيط، امتلاكه لغة تواصلية معرفية، شعوره بالزمن، إدراكه أن الطبيعة تحكمها قوانين طبيعية عامة ثابتة، كما أن الانسان يعي حاجته للطبيعة ولا تعي الطبيعة حاجتها للإنسان. وغير ذلك مما تفتقده الطبيعة ويمتلكه الانسان مثل الوعي، المخيّلة، العواطف، الاحساسات، والمشاعر الخ.

أصبحت لدينا مقولة سارتر أن" جوهر الانسان الحقيقي بلا جوهر" صحيحة، تحمل إمكانية تخطئتها كما مر بنا توضيحه.

والآن نعود لطرح تساؤل يخّص موضوعة وحدة الوجود:

ما علاقة مذهب وحدة الوجود بالطبيعة من غير الانسان؟                                  مذهب وحدة الوجود هو نزوع صوفي ديني ليس لإثبات الوجود الانساني كما مر بنا وإنما لإثبات وجود الخالق كموجود لا يدرك بذاته ولكن يمكن إدراك وجوده من خلال تقصّي وجود الجوهر في نظام الطبيعة، جميع الكائنات من موجودات الطبيعة الحيوان والنبات والجماد هي موجودات بلا جوهر يحتجب خلف صفاتها، وصفاتها الخارجية هي جواهرها.

مثال:

هل الحيوان يمتلك جوهرا؟ أم لا يمتلك جوهرا وكيف؟ الحيوان لا يمتلك جوهرا متمايزا عن صفاته الخارجية لا في داخله ولا في سلوكه خارج صفاته، والقول في منطق وحدة الوجود حسب فلسفة سبينوزا أن جميع الكائنات في الطبيعة من ضمنها الانسان تمتلك جواهرا مستمدة من جوهر مطلق خالق لها غير مخلوق وهو فوق إدراك العقل، جواهر يستطيع الانسان إدراكها في مخلوقاته ولا يستطيع إدراكها في خالقها الجوهر الكلي المهيمن عليها، هي نوع من المنهج الذي يصادر برهان تحققه. بمعنى النظام الطبيعي الإعجازي في قوانين الطبيعة الثابتة، يمتلك من القدرة والإمكانية ما هو فوق عقلي، وهذا النظام الإعجازي بالطبيعة لا يعني امتلاك مكوناته لجوهر دفين موزّعا عليها يشير لوجود خالق عظيم ولا يشير لإثبات وجود موجودات لوجودها في الطبيعة كمظهر وجوهر متكاملين.. هذا التكامل من قبيل الحدس الايماني لا أكثر، إذ هل من المتاح لإدراك عقل الانسان إدراك جواهر الاشياء خارج صفاتها في موجوداتها؟

 الجواب: لا يمكن ذلك لأن تلك الموجودات والكائنات عدا الانسان بلا جواهر خارج صفاتها.

للتوضيح أكثر، الحيوان الذي هو أعلى مرتبة بيولوجية من النباتات والجمادات، فهو موجود بلا جوهر ولا ماهية. لماذا وكيف؟

الحيوان لا يعي ذاته ولا يدرك الطبيعة ويفتقد اللغة وشعوره بالزمن من حوله إلا على نطاق ضيق جدا يتحدد في إشباعه لغرائزه الاكل والتكاثر ودفع الاخطار المحدقة عنه وعن نوعه. الطبيعة هي التي تعطي الحيوان صفاته الخارجية التي هي مجموع كينونته المنفردة كحيوان.

الحيوان لا يمتلك ميزات انفرادية نوعية كما هي عند الانسان مثل الذكاء العقلي، الوعي الذاتي، امتلاك اللغة، الإحساس بالزمن وغيرها من صفات.

الحيوان يكتسب صفاته الخارجية من خلال إذعانه المتكيّف بما تمليه عليه الطبيعة من غير إرادتها ولا وعي منها. عدم وعي العلاقة الحيوانية – الطبيعية من كليهما المشّكلين لها هو سبب امتلاك الحيوان قدرات التكيّف الطبيعي البيئي كي يبقى حيا. وأنثروبولوجيا تاريخ الحيوان تؤشر لنا انقراض العديد من السلالات البشرية والحيوانية على السواء لفقدانها قدرة التكيّف مع ظواهر طبيعية شديدة القسوة مثل الانهيارات الجليدية والفيضانات، والزلازل، البراكين، وقلة الغذاء وهكذا. التكيّف الطبيعي يمتلكه الانسان والحيوان على السواء لكن باختلافات جوهرية هامة. إذن علاقة التكّيف الحيواني بالطبيعة يجري بين قطبين هما الطبيعة والحيوان وكلاهما لا يتبادلان الوعي الادراكي بهذه العلاقة بينهما. فالطبيعة لا تدرك معنى تكّيف الحيوان في استمرار بقائه، ولا الحيوان يدرك أن تكيّفه مع الطبيعة لا تعيه الطبيعة ولا تدركه.

كذا نفس الحال يتكرر مع النباتات في علاقتها بالطبيعة فكلاهما لا يتبادلان الادراك المشترك بينهما. وليس مهما تفتيش الانسان عن جوهر يمتلكه النبات أكثر من اعتبار الانسان للنبات وسيلة الطبيعة في توفير احتياجاته من الغذاء.

أما الجمّاد الطبيعي غير المصنوع وجوده في الطبيعة من قبل الانسان فلا جوهر له خارج صفاته. وتختلف عن الجمادات التي يصنعها الانسان فهي لسد رغبته بالحاجة لها في تأمين خدمته. فالقلم يحمل ماهية استخدامه من قبل الانسان قبل تحقق وجوده المادي كقلم، وكذا مع جهاز التلفاز أو مع أي شيء آخر مادي يصنعه الانسان لسد حاجته له، فهو يمتلك ماهية وجوهر وجوده بذهن الانسان صانعه قبل امتلاك وجوده المادي حينما يكون فكرة صناعية في تفكير الانسان حاجته لها أن يقوم بصنعها فهو يعرف ماهيتها الاستعمالية قبل وجودها المصنوع. الأستاذ مراد غريبي:

نجد أنفسنا دكتور علي، أمام مفترق طرق بخصوص الجوهر بين تجريد عن المادية من جهة ومادية عقلية من جهة أخرى، وهذا في العمق جدل بين الدين والفلسفة حول ماهية الجوهر، أليس كذلك؟ 

الدكتور علي محمد اليوسف:

ممتاز، يمكننا استخلاص أن مفهوم الجوهر في وحدة الوجود الذي يفهمه سبينوزا وسيلة ميتافيزيقية لتدعيم إيمان ديني بوجود الخالق، ويفهمه هيجل مطلق متعيّن في هيمنة العقل على كل شيء يمكن إدراكه لا وجود له انطولوجيا هو فوق متعال عقلي يدركه العقل ولا يدرك هو العقل؟ فكرة المطلق عند هيجل إدراك عقلي، وفكرة الجوهر لا إدراك عقلي يطاله.  كلا المفهومين فكرة المطلق الذي لا يفهم بدلالة الجوهر، ولا الجوهر يقبل الاستدلال العاجز التعريف به. يصبح معنا كلا المفهومين الفكرة المطلقة والجوهر تجريد فلسفي عاجز عن الوصول للمادة واحتوائها كوجود.

هل يمكننا التساؤل أن خلع توصيف المادية العقلية على مطلق الفكرة الادراكية عند هيجل ينفي الجوهر كتجريد سبينوزي غير موجود ولا يمكن البرهنة على إثبات هذا الوجود؟ كونه بالمعيار الهيجلي مطلق خارج ذاته، لذا وجدنا مطالبة هيجل معاملة الجوهر كذات أو ذاتيا أي بمعنى الجوهر الالهي في تذويته بخلاف سبينوزا يصبح قابلا للإدراك العقلي. ويعود هيجل رد الاعتبار الذي أجهز عليه سبينوزا الى الرجوع للمقولة التي كانت متداولة فلسفيا لعصور طويلة أن الجوهر يعرف بدلالة الوجود المادي، وليس كما عكس سبينوزا المعادلة أن الوجود يعرف ويدرك بدلالة الجوهر الذي لا يمكن إدراكه خارج التسليم الايماني الغيبي الاسبينوزي في وجود الطبيعة قبل السماء. لازال الفلاسفة يتغاضون عن التفسير الاسبينوزي حول أن الجوهر مطلق كوني يحتوي كل شيء في الكون، كون هذا التفسير الاسبينوزي يستند الى مرجعية دينية لا تأخذ بها الفلسفة. فالفلسفة ترغب معرفة الجوهر ليس وسيلة إثبات برهاني حدسي ديني، بل بوصفه مبحثا فلسفيا معرفيا قائما بضرورة حسم الجدل النقاشي له..

يذكر بعض المعنيين بتاريخ الفلسفة الى أن هيجل كان يردد دائما مقولة سبينوزا (كل تحديد هو سلب) بمعنى كل تحديد لمواصفات شيء مدرك شيئيا يسلبه صفاته الايجابية الأخرى، فالتحديد الشيئي هو مدرك متعيّن الصفات، ولا يمكن للفكر المجرد إضافة مواصفات انتزعها التحديد له. تحديد الشيء بمواصفات معينة يعني غلق الإمكانات التجديدية له وجعله كينونة مقفلة.

من الغريب أن نجد كلما أوغل سبينوزا وشيلنغ في تأكيدهما المطلق هو إدراك عقلي مجرد، بمعنى هوية بلا مضمون في حين يصر هيجل أن المطلق أكثر الاشياء عقلانية إذ يعتبر المطلق محتوى إدراكيا عقليا وليس وسيلة إدراك معرفي بدلالته. يفهم هيجل المطلق أنه يستوعب مدركاته، في تكوينه العضوي الاحتوائي بلا تفريق بين ما هو مادي عما هو تجريدي غير مادي.

المطلق عند كل من سبينوزا وشيلينغ هو جوهر كلي مجرد عن ماديته، فالجوهر عندهما محض هوية مجردة لا تحتوي المادة، وتعرف كل الاشياء المادية بدلالة هذا الجوهر الكلي الالهي غير المدرك.  وينكر هيجل المطلق هو دلالة بلا مضمون بل هو عيني يحتوي الواقع بكل شيء، ولا يحتويه شيء، وأنكر مقولة شيلنغ "المرء لا يمكن أن يكون أكثر من موجود " أي موجود لا يمتلك جوهرا. وهذه نظرة تجريدية تنزع من الانسان جوهر انسانيته التي تميزه عن باقي مكونات ومخلوقات الطبيعة التي هي فعلا موجودات لا جوهر لها في بقاء الانسان كينونة وجوهر.

الأستاذ مراد غريبي:

كيف نفهم رابطة وعي الذات في التجربة الصوفية؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

بداية لابد من طرح التساؤل التالي:

  • هل يختلف الادراك الحسي الطبيعي للأشياء عن الادراك الصوفي النفسي لها؟ وللإجابة عليه نرى وجوب التفريق بين المدخلات التالية:

الطبيعة في صوفية الاديان التوحيدية تأتي في مرحلة متأخرة لاحقة ثانوية على مركزية التقرب من الخالق (الله) فيما يسمى الحلول أو التواصل الصوفي.

بخلافه نجد الطبيعة تحتل مركزا محوريا في المذاهب الصوفية الوثنية بخاصة صوفية الزن البوذية التي لا تتطلع نحو السماء بل دائما يكون نظرها على الطبيعة الروحانية في الاشياء وليست الطبيعة بمفهومها المادي.

فمرتكز الحلول الصوفي في الاديان التوحيدية هو تسامي الذاتية في اعتلائها العالم الخارجي بالانفصال عنه ومحاولة البحث عبر مدارج العرفان والاحوال عن خالق هذا العالم والاقتراب الذاتي منه. وفي طموح لاحق أكثر تسعى تحقيق ما يسمى الحلول الصوفي الاتحادي بالذات الالهية.

بينما مرتكز الحلول في الصوفية البوذية هو الطبيعة بما تمتلكه من كائنات وموجودات كل منها يمتلك خصائص تكاملية مع إدراك البوذي الصوفي الذاتي لها. من خلال التقمّص الصوفي بها ومن خلالها فلكي تعرف حقيقة تأثير الزهرة على النفس وعلاقتك بها عليك أن تكون أنت الزهرة كذات وتمارس من خلالها الدور الصوفي في الطبيعة معا في تبادل متداخل لاشعوري حسّيا مع موضوع الطبيعة المختار..

الادراك الطبيعي للأشياء هو في انتظام الانطباعات التي مصدرها الاحساسات الناقلة لاستشعارات الحواس الى الذهن ومن ثم الى الدماغ. هنا الادراك الاحادي الجانب الذي تمتلكه الذات الانسانية والذي لا تمتلكه الخواص الخارجية للأشياء يكون إدراكا (خارجيا) في العلاقة بينهما. بمعنى إدراك الذات الانسانية لمدركاتها خارجيا لا يموضع الذات في موضوع إدراكها حتى لو كان على صعيد تجريد اللغة التصوري الادراكي.

إدراك الشيء حسيّا وليس صوفيا لا تعني معرفته ولا تعني الموضعة التكوينية فيه، في الزن الصوفي أن تدرك الشيء يعني أن تكونه أنت هو.

والذات خارج التصوف البوذي تدرك حقيقتها في عدم المجانسة النوعية مع موضوعها في الجوهر والماهية. بما يبقي العلاقة الذاتية الصوفية وغير الصوفية بالأشياء علاقة انفصالية ويختلفان في عدم المجانسة النوعية بينهما. (نقصد في عدم المجانسة النوعية بين الذات والموضوع هو الاختلاف بالماهية أو الجوهر).

بخلاف صوفية الزن التي ترى معرفة الذات الحقيقية تتم في التموضع بالموجودات في العالم الخارجي وفي كائنات الطبيعة في تداخل تكاملي معها وليس في إدراك مادي خارجي يكون فيه كلا الجانبين الصوفي والشيء لا يلتقيان في مجانسة نوعية ماهوية كيفية واحدة.. هنا التقمّص الصوفي البوذي بالأشياء والطبيعة هو تموضع تكويني مع مدركاته.

وهذا النوع من التموضع يبقى مختلفا تجريديا في علاقة الادراك الانساني لموجودات الطبيعية التي يمارسها الشخص العادي لمعرفة عالمه الخارجي. أي يبقى تموضع الادراك الخارجي للأشياء محتفظا بذاتيته الانسانية المنفصلة عن موضوع ادراكها.

هل هذا يقودنا الى استنتاج خاطئ أن مذهب وحدة الوجود في الصوفية يتطابق تماما مع الحلول الزن الصوفي التقمصّي في الكائنات والاشياء؟

 مذهب وحدة الوجود يرى حقيقة المعبود في الاعجاز الطبيعي بالأشياء، أنها تتمركز حول (الجوهر) المستمد من جوهر الخالق وكلاهما جوهر الذات الالهية الازلية وجوهر الذات المتموضعة في الاشياء كلاهما مدلولان لا يدركان عقليا لا في اتحادهما المزعوم ولا في انفصالهما القائم افتراضا، ونقول انفصالا افتراضيا عندما نصطدم بحقيقة تساؤل أين برهان إثبات موجودية جواهر الاشياء فيها بدلالة الجوهر الازلي الخالق لها في توزيعها على موجودات ومخلوقات الطبيعة؟ لا يمكن الجزم القاطع أن وراء كل صفات خارجية لشيء هناك جوهر يحتجب وراءها لا نتمكن من إدراكه. كما أن علاقة صوفية مبدأ وحدة الوجود بالطبيعة هو علاقة الذات انفصاليا خارجيا عنها. وهو ما لا تأخذ به صوفية الزن في حلول الذات في ابسط الاشياء الموجودة بالطبيعة وتقمص التعبير في إدراك الذات لمدركها بحيث يغدو الموضوع هو الذات ولا تفريق بينهما.

بناء على ما تقدم اذن، جاز لنا تمرير الذات هو الموضوع في الصوفية ولا فرق بينهما، وعليه:

  • ما الفرق بين الذات والموضوع ادراكيا طبيعيا وليس حلولا صوفيا؟

الفرق يكون في لغة التعبير فقط في اختلاف الحالتين فلغة التعبير الصوفي الذاتي عن الموضوع ليس هو نفسه تعبير اللغة التجريدية المنفصلة عن موضوعها والمنفصلة عن التعبير عنه.

وتبقى مسافة الانفصال بين الموجودات بدلالة جوهرها بعيدا جدا عن الفهم الصوفي في الزن الذي يرى إدراك حقيقة الاشياء في الطبيعة هو إدراك حقيقة الذات المدركة لها من خلال التموضع في تقمصها الوجودي في صفات الاشياء الطبيعية الخارجية. بمعنى هنا ذات الانسان الصوفي البوذي تصبح هي ذات الشيء الموجود في الطبيعة الذي يتقمصه الصوفي. أن تريد معرفة شيء بالطبيعة صوفيا كما في الزن عليك أن تكون ذلك الشيء هو وتتكلم عنه كهوية تمثلك لا هوية تمثّل موضوع الحلول الصوفي..

سبينوزا في مذهب وحدة الوجود – وقد اشرت لذلك في أكثر من مقال لي - يناقض جميع الفلسفات السابقة عليه واللاحقة عليه أن الجوهر يسبق الوجود والكينونة وبدلالة أسبقية الجوهر نفهم ثانوية الوجود. هذا الفهم ينسف الوجودية من جذورها في إيمانها بأن الوجود أو الكينونة تسبق الجوهر فيها، والجوهر أو الماهية هو ليس معطى يكافئ الوجود بل الجوهر لاحق على اسبقية الوجود وبدلالة الوجود نفهم وجود الجوهر.

علما أنه منذ كانط في كتابه نقد العقل المحض وفلسفة الفينامينالوجيا (الظاهراتية عند هوسرل وتبعتهما الوجودية خاصة عند سارتر وحتى الماركسية كفلسفة وليس ايديولوجيا اقتصاد سياسي ماركسي لم يحسموا مسألة أن تكون الموجودات بذاتها تحمل جوهرا يختلف عن الصفات الخارجية لها. باستثناء سارتر الذي قال الانسان يمتلك صفاتا خارجية هي غير جوهره الذي لا يمكننا إدراكه. ولي تفصيلات شرحت توضيحي لذلك في مقالات لي منشورة عن الماهية والجوهر. ولعل عبارة سارتر (حقيقة جوهر الانسان أنه بلا جوهر) جعلت من مفهوم سارتر لجوهر الانسان مثل بندول الساعة الذي يؤشر الوقت في الدلالة عليه لا في معرفته ما هو.[1]

أما الإدراك في صوفية الزن البوذية هو إدراك تداخلي غير انفصالي متموضع تكوينيا داخليا بالأشياء ولا يترابط معها خارجيا بانفصال تجريدي عنها. بمعنى صوفية الزن لا تعتبر هناك حواجز انفصالية تجعل من ذات الانسان خارج موجودات الطبيعة وإنما تعتبر الذات الانسانية جزءا من الطبيعة يعرف بدلالتها الوعي الادراكي للأشياء في حقيقتها وليس في معرفة الصفات الخارجية لها..

الادراك التموضعي في الصوفية زن في موجودات الطبيعة تموضع احساس تبادلي في الشعور النفسي أن الشيء المدرك ذاتيا هو الذات الانسانية في تموضعها المادي فيه وليس موضوعها الذي تتحدث عنه. هنا الذات الصوفية لا تجد حضورها الحقيقي بمعزل عن تموضعها الطبيعي في شيء.

بمعنى إدراك الشيء هو أن تكون أنت ذلك الشيء المدرك. في حين نحن ندرك الاشياء والطبيعة بمنظومة الاحساسات التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ في نوع من التجريد التصوري الخارجي المنفصل ادراكيا عن موضوعات ادراكنا الاشياء في وجودها الانطولوجي المادي الخارجي المستقل. في الزن الصوفية الذات هي الموضوع وبالعكس ايضا في انعدام خاصيتي الانفصال الاتحادي بينهما أولا، وفي انعدام خاصية التفريق والاختلاف في لغة التعبير الصوفي بين الذات وموضوعها ثانيا..

الأستاذ مراد غريبي:

دكتور علي اليوسف، بعدما تناولتم موضوع الإدراك لدى صوفية الزن البوذية، هناك سؤال مهم ها فعلا البوذية تعادي العلم؟!

الدكتور علي محمد اليوسف:

صوفية الزن البوذية تذهب الى أن المعرفة الحقيقية للأشياء في وجودها الطبيعي ليس هو الحقيقة العلمية التي تحققها التجربة، بل الوجود الطبيعي يمنح الانسان طاقة صوفية فنية جمالية استيعابية في التلقي تجعل من المدركات المتحققة علميا طارئا على طبيعة تفكير الانسان الصافي النقي حيث تكون الآلة المصنوعة في العلم تفكيرا بديلا عن الانسان وعملا تطبيقيا يغني الانسان عن صرف طاقته الجسمانية ويعوّده الكسل والخمول والحركة الفاعلة بدل ما تقوم به الآلة وتعفيه من القيام بماهي تفعله له.. هنا تكون الآلة هي النموذج المصنوع للاستغناء عن الانسان كوجود فاعل يقود الآلة ولا تقوده هي.

البوذية تعلم جيدا معاداتها العلم خسارة ما بعدها خسارة أفدح منها لذا عّبرت عن رؤية فلسفية مغايرة تهادن جوهر العلم وتعاديه في تصنيعه الآلة التي سلبت الانسان مزاياه الحيوية في العمل والارادة والخلق الذاتي والطبيعية والنزوع الفطري في اهمية العواطف والوجدانات في الحياة وغيرها.

الأستاذ مراد غريبي:

هل يمكننا القول إن العلاقة بين الإنسان والطبيعة في صوفية الزن البوذية تتسم بالغموض المعرفي؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

" اللاوعي في زن هو الغامض والمجهول بلا شك. ولذا فهو غير علمي أو قبل علمي، ولكن هذا لا يعني أنه بعيد عن متناول وعينا أو شيء لا علاقة لنا به." ص 59. اللاوعي حسب صوفية زن هو تداعيات اللاشعور الذي لا تتمكن الوسائل العلمية " تجارب علم النفس" وليس تجارب العلوم الطبيعية المختبرية. التمكن من تحديده فاللاوعي هو مرحلة (قبلية) علمية لكنه في حقيقته في متناول ادراكاتنا الطبيعة والاشياء بصورة سليمة طبيعية وليست صورة تداعيات لاشعورية غير منضبطة. لذا اللاوعي في زن "هو التدريب تدريبا خاصا لمعرفة الوعي " مثال ذلك "الطبيعة تشق طريقها غير واعية بذاتها ثم يخرج الانسان الواعي منها". اللاوعي في زن هو الفطرة الطبيعية في دخول عالم المادة بوسائل الادراك الشعوري الذي يجعل من اللاوعي متراجعا أمام الوعي به. أما أن يكون اللاوعي هو قبل علمي كونه يصبح لدى الصوفي لا تحققه التجربة العلمية بل تحققه النفس الشعورية. وهذا الفهم لجميع حقائق علم النفس الفرويدي وتوابعه الاجتهادية لا يشير أبعد من تكرار تأكيد ما ذهبت الصوفية عليه، فاللاوعي تجريد لا يتحقق بوسائل علمية بالنسبة للصوفية لذا هو قبل علمي بمعنى استباق الفطرة الطبيعية فيه على علمية التجربة في معرفته. في جميع المذاهب الصوفية تقاس اهمية الانسان بمعرفته الطبيعية بالفطرية واللاشعورية وتبتعد جدا عن تحويل فهم الانسان للطبيعة يتحتم ألا يتم بغير تصنيعها من قبله وحسب أهوائه وأمزجته.

والتصور العلمي الساذج هذا لمجرد إثبات حقيقة الانسان هو يقود الطبيعة ولا تقوده هي ولا سيطرة لها عليه. هذا التصور العلمي ساذج في تحديده علاقة الانسان بالطبيعة أنها لا زالت معركة انتصار الاقوى بينهما والحقيقة التي يتجاهلها الانسان العلمي الذي يؤمن بتصنيع الطبيعة كل الطبيعة من اجل خدمة الانسان انجزت لنا الاختلال البيئي والاحتباس الحراري ودرجة ارتفاع حرارة الارض. ان الانسان في جميع مراحل تطوره التاريخي الانثروبولوجي كان منقادا للطبيعة غير قائد لها لأن كل اشكال الحياة في الطبيعة هي علاقة التكيّف معها من أجل إدامة بقائه هو وليس من أجل بقاء الطبيعة..

الأستاذ مراد غريبي:

إذن حسب ما تقدم نجد أنفسنا أمام قفزة صوفية، أليس كذلك؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

 يمكن... حيث من المرجح أن أول من استخدم تعبير القفزة النوعية في المجهول الايماني الديني هو سورين  كيركجارد حين اعتبر الانتقالة الايمانية الدينية بالخالق تبدأ بقفزة التخلص من صرامة العقل الى دخول معترك الايمان القلبي بما يحتويه من تكوينات مثل العاطفة، الضمير، حب الخير، والاخلاق وغيرها، ومن ثم تبلور مفهوم القفزة النوعية التطورية في تطبيقها على المسار التاريخي حيث أكد  كيركجارد أن المسار التاريخي بلا قفزات نوعية – اطلقت عليها الماركسية فيما بعد الطفرات النوعية – لا يمكنه التطور النوعي في الانتقال من حالة الى حالة اخرى متقدمة عليها ما لم تتخلل مساره التقليدي طفرات تنقله من حالة اعتيادية رتيبة الى حالة اخرى نوعية متقدمة تطوريا عليها.

ما يحسب لهذا السبق لسورين كيركجارد أنه جاء متقدما على الفهم الهيجلي المثالي القريب منه جدا على صعيد التاريخ بعد قرون، ومتقدما ايضا على الفهم الماركسي الذي جعل ماركس من القفزة النوعية في مسار التاريخ تتم ماديا على ارض الواقع وليس على صعيد الايمان الديني القلبي المثالي الذي سبق وقال به سورين كيركجارد. ولقى صدى كبيرا لدى فيورباخ.

صوفية الزن تحاول تطبيق مفردة القفزة التطورية النوعية التي اورثتها للوجودية ومن بعدها الماركسية في تفسيرهما التطور التاريخي. كان لسورين كيركجارد قصب السبق قبل هيجل والماركسية القول بالقفزة النوعية وبالتأكيد لم يستقها كيركجارد عن الصوفية البوذية وإن كانت المطابقة معها واردة تماما.

سورين كيركجارد يعتبر رائد مخترع الجدل الديالكتيكي المثالي الديني قبل هيجل. وحينما اراد هيجل تطبيق الديالكتيك لم يأخذ بأهمية الطفرة النوعية التي تحكم المادة والتاريخ كما فعل ماركس ومعه انجلز بل أخذ ما أطلق عليه الفكرة المطلقة العقلية. بعدها أنضج ماركس مفهوم الطفرة النوعية في الجدل المادي والتاريخي، حيث جرى تخليصها من النزعة المثالية. أكد كل من ماركس وانجلز أن القفزة النوعية في المادة وفي التاريخ إنما تتم داخل جدل نسقي يجمع بين متضادين توحدهما المجانسة الماهوية الواحدة.

من هذا العرض السريع نرى "القفزة الصوفية لا تعني انفصالا بالمعنى الفيزيقي للكلمة، ذلك أن الوعي هو في اتصال دائم مع اللاوعي دونما انقطاع "

عندما ننظر مفهوم القفزة في اللاوعي الصوفي البوذي (زن) نجدها قفزة ضمن تجانس نوعي يرتبط بفهم الوعي على صعيد تفسير علم النفس المتحرر من ميتافيزيقا الاديان التوحيدية من جهة، والمتحرر من أحكام المنهج المادي الجدلي من جهة اخرى. فهو نوع من النقلة النفسية التي لا تربطها علاقة مع مفهوم القفزة النوعية لا عند سورين كريكارد، ولا النقلة المادية كما هي عند ماركس.

لو نحن حاولنا المقاربة بين مفهوم القفزة الايمانية لدى كيركجارد ونقلة صوفية الزن نجدهما متطابقان تماما رغم الاختلاف الديني بينهما. وتجمعهما المجانسة النوعية الواحدة على صعيد الماهية التي هي ان صح التعبير القفزة من عالم اللادين الى عالم داخل جوهر الدين. حتى وإن وجدنا القفزة النوعية تخرجها عن الانتظام النسقي الخاص بالدين.

الأستاذ مراد غريبي:

ماذا عن ماهية الإنسان في صوفية زن البوذية؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

حسب مفهوم صوفية الزن فالإنسان موجود (فني) يدرك الطبيعة ويحتويها بطاقته الابداعية الفنية التي تتكامل مع اعجاز الطبيعة الفني الجمالي. الانسان ليس موجودا ملقى لا يعرف حقيقة نفسه ولا يعرف حقيقة مصيره، كما ولا يعرف كيف يعيش الحياة بدون ملازمة تأنيب هاجس التعاسة الذي يلازمه طيلة سني حياته. فالإنسان مزودا بكل الطاقات والامكانات التي تمكنه من جعل حياته وعلاقته بالطبيعة لوحة فنية تنبض بالحياة والجمال والتفاؤل.

الوجود الفني بالحياة في مذهب صوفية الزن ليس معناه ان يكون كل انسان متخصصا في انتاجية نوع من الفنون التي ينجزها اصحاب المؤهلات الفنية من موسيقى ورقص وغناء ورسم ونحت وادب.. الزن ترى في الجمال والفن اسلوبا يعيش الانسان الحياة بعيدا عن التعاسة ولازمة منغصات الحياة له. ولا يتم ذلك الا بالعودة الى الطبيعة واستلهام المعاني الروحية منها وحدها.

الأستاذ مراد غريبي:

 نعود مرة اخرى لتأثير فيورباخ في تناوله الفلسفي نشأة الدين وكتابه أصل الدين يعتبر مرجعا مهما بهذا المجال، فما هي قراءتكم له؟ هل كان فيورباخ موفقا في فلسفته الدينية ام كانت مجرد هجوم فلسفي على اللاهوت الديني المسيحي؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

فيورباخ كما معلوم أبرز فيلسوف انشّق مع آخرين من تلامذة هيجل وأطلقوا على أنفسهم الشبان اليساريين الهيجليين، منهم ماركس وانجلز وباور وشتيرنر وشتراوس وغيرهم. وربما يكون أهم انجاز فلسفي تركه فيورباخ هو كتبه الثلاث (أصل الدين) و (جوهر الدين او المسيحية) و(جوهر الايمان) في محاولته تثبيت نزعته الدينية الالحادية وشرح فلسفته في نشأة الدين عن الطبيعة واغتراب الانسان.

الا ان هناك من يذهب الى أن فيورباخ لم يكن ملحدا مثل برديائيف وجون لويس اذ يقول عنه هذا الأخير: إن فيورباخ كان رجلا متديّنا الى أبعد الحدود، ومن ثم فان ماديته مختلفة تماما عن أية مادية سابقة عليه، فهو لا يحقّر الدين وانما يرى الله اسقاطا لحالة الانسان البائسة.

عمد فيورباخ أن يجعل من الطبيعة منشأ الدين، وينصّب الانسان (الها) بها ومن خلالها وعليها فهو جعل الانسان يقدّس ويؤله الطبيعة بتأملاته الخيالية والميتافيزيقية المحدودة إدراكيا عقليا وأن يعتبر (الانسان ) دون وعي منه، الطبيعة بكل ما تمتلكه من ظواهر وهيئات وتنوعات جغرافية وبيئية وتضاريس وانهار وجبال وحيوانات ما هي الا (الاله) الذي يحتاجه روحيا وماديا ايضا في تعليل اسباب وجوده او المساعدة في ايجاد حلول لجميع المشكلات التي تعترضه والظواهر والموجودات الاخرى في الطبيعة التي تجاوره وتحيط به ويتعايش معها من حيوان ونبات.

جعل فيورباخ من الطبيعة والانسان والله، إلها واحدا هو الانسان، ليس على وفق مشابهات فلاسفة وحدة الوجود الصوفية، إلها متسيّدا الطبيعة من جهة، وشبحا إلهيا لإله متعالي لا في ما وراء الطبيعة لا يدركه لكنه يحتاجه، ليقوده الى الاذعان بما يخلع عليه من ذاته، صفات يتمناها في احتياجاته وحياته، إله يقوم بالرضوخ له وتقديسه وعبادته والخوف من غضبه، ذلكم هو الاله المتخيّل إنسانيا وجوديا في الطبيعة وليس خارجها، يرتبط الانسان بآلهته بعلاقة روحية غير واعية ومدركة يجسدها ارتباطه الروحي بالطبيعة وليس ارتباطه الروحي الى ما وراء الطبيعة، فهذه العلاقة الميتافيزيقية التعبدية لم يكن يبلغها الانسان آنذاك الا بعد مراحل تاريخية طويلة ،انبثقت لاحقا في الديانة السحرية والطوطمية والميثولوجية والاسطورية ومن ثم في مراحل لاحقة الأديان الوثنية التي قادت البشرية الى الأديان التوحيدية.

وفي معرض دفاعه انه لم يكن يدعو الى أن الانسان هو (إله) من غير أسبقية الطبيعة عليه يقول فيورباخ:(ولكن الرأي عندي ان الكائن الذي هو شرط مسبّق للإنسان انما هو الطبيعة، وان كينونة الطبيعة بالنسبة لي، الكينونة الازلية التي لا اول لها، انها الكائن الاول في الزمان وليس في المرتبة، فهي الكائن الفيزيقي وليس الاخلاقي)1

ويؤكد فيورباخ (ان الطبيعة هي الموضوع الاصلي للدين، كما يبرهن على ذلك تاريخ كل الديانات والأمم، فالتأكيد بان الدين فطري بالنسبة للإنسان زائف إذا تطابق مع الثيولوجي، ويكون صحيحا تماما إذا كان الدين هو الشعور – شعور الانسان – بالتبعية الذي يدرك فيه انه لا يستطيع الوجود بدون كائن اخر مختلف عنه في كيفياته وصفاته، وإذا فهمنا الدين هكذا، فان الطبيعة للإنسان ضرورة النور للعين والهواء للرئتين، والطعام للمعدة، باختصار الانسان كائن يعتمد على الطبيعة)[2].

ان تعلق فيورباخ بالطبيعة والانسان يكاد يكون عصابا مرضيا عنده، ان لم يكن هو اعلى إفصاحات التدّين التصوفي العميق وصفات النقاء الروحي التي لا يمكن ان يتصّف بها فيلسوف عرف عنه إلحاده، ففي رسالة ارسلها الى والده عام 1824 بعد هجره دراسة اللاهوت كتب فيها (لقد هجرت اللاهوت ليس عبثا، او استهتارا، او كرها، ولكن لأنه لا يشبعني ولا يعطيني ما أحتاج اليه ولا أستطيع الاستغناء عنه، أود أن أضم الطبيعة الى قلبي، تلك التي يرتد عن اعماقها رجال اللاهوت الجبناء)[3].

الطبيعة الارضية الحسّية الحيّة التي وجد الانسان نفسه مقذوفا بها كوجود من غير ارادته مع باقي المخلوقات والمكونات الطبيعية والحياتية النباتية والحيوانية والجمادية، وسط اشكال وظاهرات متنوعة، اشجار ونباتات وجبال عملاقة وصخور وانهار وبيئة متنوعة وغير ذلك. وكان محتّما ومحكوما على الانسان ان يتكيّف ويتعايش مع هذه الطبيعة شاء أم أبى، ويتماشى مع مراحل تطورها التاريخي محاولا فهم صفاتها وقوانينها وكيفية التعامل والتكيّف والتعايش معها.

كتب فيورباخ في كتابه جوهر الدين:( الاعتماد الحيواني على الطبيعة – يقصد اعتماد الانسان والحيوان على السواء – هو اعتماد غير واع – يقصد سطحي عفوي – لكن بارتفاعه الى الوعي التخييلي – يقصد عند الانسان فقط -وعند التفكير فيه والاعتراف به يصبح دينا)[4].

وبالعودة لمناقشة وتوضيح عبارة فيورباخ حول النزعة الاعتمادية الحيوانية على الطبيعة من قبل الانسان والحيوان، ان علاقة الرضوخ والاذعان الانساني للطبيعة وان التقت مع النزعة الإذعانية في صفتها (الحيوانية) كما هي عند الحيوان، الا انها تختلف عند الانسان في الكيف عن الحيوان اي في نوعيتها على مستوين نناقشهما اشار فيورباخ لاحدهما تلميحا فلسفيا ضمنيا ، ما معناه ان كلا الاذعانين عند الانسان والحيوان للطبيعة غير ادراكي غير معقلن، لكن حين يتحوّل الى وعي ذاتي مفارق عند الانسان المتحرر من هيمنة الطبيعة، فان ذلك الوعي الخيالي يصبح(دينا) إنسانيا لا يعيه ولا يفتقد أهميته الحيوان.

ومن جهة ثانية من جانبنا نؤكد ان (حيوانية) الاذعان في علاقة اعتماد الانسان والحيوان على الطبيعة في تأمين احتياجاتهما للغذاء والبقاء والحياة، وان اختلفت الوسائل بين الانسان والحيوان، فهي علاقة انسانية مفارقة عن مثيلتها في اذعان الانسان للطبيعة، مقارنة بالحيوان، ففي الوقت الذي يكون الحيوان في اعتماده الطبيعة لتأمين احتياجاته، نجده يرتبط في علاقة تكيّف سلبي بالطبيعة انه يعيش ليأكل فقط، ويهادن الظواهر الطبيعية ولا يرغب من الطبيعة بأكثر من تأمين الطعام له وادامة حياته. بينما نجد تكيّف الانسان مع الطبيعة، ومؤانسته بها انها توّفر له احتياجات العيش والحياة كما هي توفرها للحيوان، لكن بفارق واختلاف جوهري كبير جدا، فرغبة الانسان تفارق الحيوان بما نطلق عليه التكيّف الايجابي غير المنقاد للطبيعة، بمعنى ان الانسان لا يكتفي من الطبيعة بتأمين حاجاته الاساسية لإدامة حياته وتامين الغذاء له وحسب، وانما يرغب السيطرة على الطبيعة وقيادته لها لا كما تقود هي الحيوان من دون وعي مدرك لكليهما اذ ان الوعي المتبادل بين الطبيعة والحيوان لا وجود له. فالطبيعة والحيوان لا يدركان عقليا ميزة يمتلكها الانسان وحده انه يعي ذاته ويعي الحيوان ويعي الطبيعة وجميع المخلوقات بوعي ذكي ومعقلن......عند هذا التمفصل الجوهري المفارق الذي تجاوزه فيورباخ ضمنا أم عمدا، وعلاقته الارتباطية الوثيقة بنشأة الدين نأتي لتوضيحه أكثر أهمله فيورباخ.

في التمفصّل الذي ذكرناه ينتهي دور الطبيعة ان تكون كما اشار واعتمده فيورباخ، هي الملهمة للإنسان روحيا، ومصدر وحيد لنشأة الدين عند الانسان. وفي توضيح مقارن بسيط نجد الانسان يشترك مع الحيوان في امتلاك (العقل) في وعي ذاتيته الإنسانية كجنس باختلاف جوهري ونوعي كبير، هو ان عقل الحيوان يفتقد خاصيتين يحتازهما ويتمايز بهما عقل الانسان من دون الحيوان، هما خاصيتي (الذكاء والخيال) مضافا لهما في مراحل متقدمة من وجوده قدرته على اختراع الانسان لغة التخاطب مع غيره من البشر كنوع مفارق لحياة الحيوان.

وطبعا نحن لا نقصد بالعقل هنا امتلاك الانسان ملكة الادراك والتفكير العقلاني التي ايضا لا يمتلكها الحيوان، وانما قصدنا العقل المحسوس العجينة الرمادية المتكوّنة من المخ والمخيخ والنخاع المستطيل، هذه الكتلة العجينية موجودة في جمجمتي كل من الانسان والحيوان لكن باختلافات جعلت من الانسان نوعا متفردا بخصائص لا يمتلكها أي كائن على الارض. وبهذه الخاصية الانسانية كان الانسان (دينيا) دون سائر المخلوقات كما هو اجتماعيا في العيش المشترك في استخدامه اللغة بأشكالها البسيطة.

معلوم بما لا يحتاج منا التوكيد أن عقل وتفكير الحيوان في تكيّفه السلبي مع الطبيعة التي يدركها(حسّيا) فقط، في وقت نجد وجود الانسان في الطبيعة على وفق علاقة صراعية احتدامية في سعي الانسان والى وقتنا الحاضر هاجسه الكبير هو كيفية تطويع الطبيعة والسيطرة عليها، ومؤخرا في عصور العلم والحضارة، اخذ الانسان يسعى لاكتشاف القوانين الطبيعية من اجل رفاهيته وراحته وسعادته. وبقي تكيّف الحيوان الطوعي مع الطبيعة، في بقائه حيوانا غير مفكّر ولا عقلانيّ ولا خيالّيّ ولا متأمل ولا ديني ولا ناطق.

أما كون الانسان متأملا عقلانيا ذكيا خياليا فهذا جعله كائنا دينيا متفرّدا، يمتلك الصفات التي تؤهله التفكير الخيالي خارج ابعاد الطبيعة، وهذا الوعي الخيالي يرتفع به مرتبة أعلى من الطبيعة، فهو غير متكيّف معها بما تمليه عليه ، بل هو في علاقة احتدامية غير منقادة معها، في بحثه الدؤوب عن خالق يمتلك صفات الطبيعة جميعها، كائن يمتلك قدرات اعجازية غير منظورة تملي عليه وجوب الانقياد له، وليس للطبيعة ذات القدرات المحدودة العاجزة في منع الحوادث والاخطار والبراكين والزلازل والموت وغيرها، صفات يتمناها أن تكون غيره يمتلكها  لتجعل منه كائنا يتوّسله في حياته التي يرغبها اكثر أمانا واكثر طمأنينة بعيدة عن الخوف الذي يتهدد وجوده، حياة في أسمى معانيها وصفاتها.

الأستاذ مراد غريبي:

هل هناك تأثير لفيورباخ على ماركس؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

لقّب فيورباخ بانه صاحب منهج فلسفي مادي تصوفي او تأملي ذاتي، (البعض ينعت فيورباخ فيلسوف الذات فهو عالج موضوعة اغتراب الذات فلسفيا في سبق فلسفي يحسب له ) ومن الماركسيين المحدثين الذين ينكرون التأثير المادي لفيورباخ على ماركس، بنفس معيار انكارهم الجدل الهيجلي على اعتباره هو الآخر مثاليا تجريديا تأمليا واقفا على رأسه بدلا من قدميه، علما ان جميع دارسي وباحثي الماركسية يذهبون الى أن المادية الفيورباخية والجدل او الديالكتيك الهيجلي كانتا دعامتا الديالكتيكية المادية ، والجدل المادي التاريخي اللذين اعتمدهما ماركس في صياغته قوانين تطور المادة والتاريخ، بعد تخليصه مادية فيورباخ من تصوّفها التأملي الديني، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة.

المهم أن هذا ليس موضوعنا، لكن لا يمكن لأحد نكران أن المعارف والفلسفات وحتى العلوم الإنسانية، هي تراكم معرفي وحضاري تاريخي محكوم بالكم والكيف، في تقادم زمني لا يلغي تماما جهد السابقين على اللاحقين تاريخيا، مهما اعتور وشاب تلك المسيرة من النقد والمراجعة والحذف والتفسير والتفنيد.. الخ

كما يتعذر ولادة معارف علمية أو فلسفية من فراغ سابق عليهما.

وإذا سمحنا لأنفسنا اسقاط الفهم الحداثي وما بعد الحداثي على اي نص مكتوب، فهو بحسب رولان بارت في مقولته الشهيرة موت المؤلف، في ردّه كل نص الى تناصه المتعالق مع سابقاته من النصوص من جهة، ومن جهة اخرى فأن النص بعد كتابته ونشره يصبح ملكا صرفا للقارئ المتلقي، او بالأحرى المتلقين الآخرين في تعدد وتنوع قراءاتهم للنص. وهو ما ينطبق على كل نص تداولي مكتوب سواء في الثقافة او المعارف او الفلسفة او السرديات الكبرى كالإيديولوجيا والتاريخ الخ.

ويؤكد البرتو ايكو هذا المعنى لدى بارت قائلا (ان بارت يقوم بتفريق هام بين نص القراءة، الذي يستهلكه القارئ، والذي يمنح نفسه للقارئ بلا مشقة ومن ثم يقوم بترسيخ العادة والمألوف، وبين نص الكتابة الذي يقوم القارئ بكتابته مرة اخرى، ومرات عديدة في كل قراءة اخرى جديدة).

يقول ماركس في عبارته المتعالقة مع فيورباخ:(ان الدين باق معنا، في بقاء الاسباب التي أدّت الى نشوئه). لا نجانب الصواب حين نرد وننسب التقاء ماركس وفيورباخ في نشأة المسألة الدينية لديهما في اشتراكهما ليس في طبيعة (الحادهما) وحسب، وانما في طبيعة نسبة مصدر الدين ومنبع وسبب نشوئه الى الطبيعة ذاتها والانسان ذاته ايضا معتبرين الدين من صنع الانسان وصنع الطبيعة معا، اذ يقول فيورباخ بهذا المعنى (ان عبادة الله تعتمد على عبادة الانسان لنفسه).

الأستاذ مراد غريبي:

طيب، ماذا عن التدين لدى فيورباخ؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

يذكر أحد الفلاسفة في معرض حديثه عن تعالق الدين واللغة عند الفيلسوف بروديكوس، ان الانسان البدائي والذي بدا له ان كثيرا من الظواهر الطبيعية معادية له، ومع ذلك كان معجبا جدا بالهبات التي تزوده بها الطبيعة لتسهيل حياته ورفاهيته. هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الارضية، لم تكن طبيعة جامدة (روحيا) بمعنى الثبات والسكون الفيزيقي والبايولوجي الذي يعدم تساؤلات ما وراءها، تساؤلات الانسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرد به عن باقي المخلوقات والكائنات (عقليا - روحيا) خياليا تأمليا ميتافيزيقيا الى ما وراء ظواهر الطبيعة.

في هذا التأمل الروحاني البسيط، حسب فيورباخ أخذ الانسان يخلع على الطبيعة، بعضا من خصائصه الذاتية، ليصل بعدها خطوة او مرحلة متقدمة في(تأليه) اغترابه عن الطبيعة متصورا أن قدراتها وما تمتلكه الطبيعة من صفات لا يمتلكها هو تجعله بالضرورة يجعل منها كائنا يفوقه بالقدرة والمكانة، ويستوجب عليه تقديسه واعتباره(الها) له يعبده ويعمل بجميع الوسائل كسب مرضاته ووقايته من الحاق ضرره(العفوي) المقصود به في كل خوارق العواصف والزلازل والفيضانات وهكذا في كل ما يهدد حياته ووجوده. هنا بدأ الانسان يفهم ان الطبيعة الاله، تمتلك وتستطيع فعل كل ما يعجز عنه تفكيره ان يفعله ويعمله، في وجوده المادي الحسّي والروحي على السواء.

ان تفسير فيورباخ (ألوهية) الطبيعة المتخيّلة والمصنّعة انسانيا ذاتيا، هو ان (الانسان وضع أسمى خصائصه الانسانية، ماهيته، او جوهره في الطبيعة فقدسّها، ثم خلع عليها صفات وقدرات الالوهية في تجريدها من عينيتها اي واقعيتها المادية، ومن ثم رفعها الى السماء، وسماها(الله) بلغات مختلفة وكيفيات مختلفة ورموز مختلفة وخصائص مختلفة وهيئات مختلفة.)

واضح ان منشأ الدين لدى فيورباخ هو الطبيعة، ويعتبر الانسان الديني هنا، انما يتعامل مع (الطبيعة – الدين) من خلال ذاته، كذات عقلانية مدركة للطبيعة والمحيط وتعي اغترابها عنهما معا (اغتراب ذاتي واغتراب عن الطبيعة). وبالتالي فان (إله) الانسان لا يعكس سوى حالته فقط، ذاتيته، وجوهره المتفرد الخاص به وحده دون غيره من الكائنات.

تأسيسا على ما ذكرناه يعتبر فيورباخ الطبيعة المبتدأ الاول والمنتهى الاخير لفهم نشوء الدين، لذا تكون تبعية الانسان لحاجة التديّن، هي لا شعوره الدفين بتبعيته للطبيعة التي لا يستطيع تصوّر الحياة من دونها وما توفره له من اسباب العيش والبقاء.

من المعلوم جيدا ان جدل الانسان مع الطبيعة يقوم على جوهر ومرتكز(أنسنة) الانسان لها، ومحاولته السيطرة على بعض تجليّاتها وتسخيرها لمنفعته، أو محاولة اكتشاف بعض قوانينها الطبيعية التي تعمل بمعزل عن رغباته ووجوده ومحاولته الاستفادة منها في تمشية حياته والتكيّف مع الطبيعة.

 فالإنسان الذي يصطدم بالقدرة الكلية للطبيعة، والاحتدام معها، يسقط على الطبيعة رغبة الانتصار عليها وتحقيق رغباته واحتياجاته منها، والانسان لا يتكيّف مع الطبيعة تكّيفا سلبيا معها كما يفعل الحيوان، بل يكون تكيّفه مع الطبيعة بمقدار استجابتها تحقيق ما يرغبه منها وتمنحه له وتديم بقاؤه في الحياة.

بالمقابل الجدلي المناقض للإنسان نجده في سعي الطبيعة، تطبيع الانسان على التكيّف معها في مقابل محاولته هو أنسنتها، في افتراض واقعي علمي ان جدل التناقض في قطبيه الانسان والطبيعة لا يعيان ادراكيا تضادهما الجدلي ولا حتى النتائج المتولدة منه والمفصحة عنه. الجدل والتضاد بينهما في قانون الماركسية وحدة وصراع الاضداد الذي يحكم المادة والتاريخ والوجود عامة.

انه من المفهوم جيدا ان جدل الانسان في محاولته أنسنة الطبيعة يقوم على خاصيتين يمتلكهما الانسان وتفتقدهما الطبيعة وهما عاملي (الذكاء واللغة)، لذا بالإمكان ترجيح جدل التضاد بين الانسان والطبيعة في صالح الانسان وليس الطبيعة وهو ما ثبت انثروبولوجيا وعلميا في التطور التاريخي والحضاري للإنسان. ثم اضيفت للإنسان قدرات اضافية لا تجاريه فيها الطبيعة مثل انتصاب القامة واستعمال اليد بمساعدة إصبع الابهام الذي لا تمتلكه سائر الحيوانات، وفي مرحلة متقدمة جدا اخترع الانسان اللغة مع دخوله عصر الزراعة، عصر صنع الحضارة الانسانية. (عصر الزراعة سبعة الاف سنة قبل الميلاد، وعصر اختراع الكتابة بحدود (2200 – 2300) ق. م.*

نعود لنكمل مع فيورباخ (إذا كان الانسان يؤمن بكائن مختلف مستقل عنه، والذي ليست له طبيعة بشرية، وليست له صفات بشرية، فان ذلك الكائن ليس شيئا سوى الطبيعة في الحقيقة، وان كل الاسماء التي يمنحها هذا الانسان لكائن متخيّل ما هي في الاصل الا سمات الطبيعة ذاتها).

ويمضي قائلا في تأليهه الطبيعة (انه إذا كان الله بنظر اللاهوتيين عبارة عن كائن خالد لا يفنى، فانه لا يوجد في الحقيقة كائن خالد سوى الطبيعة، حيث يموت جيل ويعقبه جيل آخر، في حين نجد أن الارض، الشمس، الماء خالدين الى الابد) كما يرى فيورباخ أن جوهر الدين هو جوهر الانسان، وماهية الدين هي ماهية الانسان نفسه، وبهذا المعنى فان فيورباخ بحسب الاستاذ الباحث جاد الكريم الجباعي (لا يؤسس للإلحاد، بل يؤسس الدين برده الى أصله(الانسان) وعلة وسبب نشوء الدين هو اغتراب الانسان الذاتي واغترابه عن الطبيعة معا).

وبهذا الفهم الاغترابي الادماجي المركّب حسب فيورباخ يصبح كلا من الانسان والطبيعة والاله المصنّع خياليا ميتافيزيقيا (الها واحدا) متمثلا في محورية ومركزية الانسان وليس الطبيعة ولا إله ما وراء الطبيعة.

من الواضح ان فيورباخ جعل قدم واسبقية الوهية الطبيعة متقدمة على الوهية الانسان لئلا يقع في التفسير المثالي الذي تحاشاه وهو ان الطبيعة الالهية والاله الميتافيزيقي كلاهما من صنع الانسان، وبهذا المنطق المثالي الذي تحاشاه فيورباخ يكون أبقى الطبيعة وجودا ماديا بمعزل عن كل وجميع رغائب الانسان وذهب الى ان الطبيعة منشأ الدين وليس الدين من صنع وخلق الانسان المحض. متجاهلا ان حقيقة التفسير العقلي المنطقي بغض النظر عن ماديته او مثاليته يذهب الى ان الطبيعة وحدها لا تستطيع صنع دينها بنفسها لولا توّسل الانسان بها وقيادته هو للطبيعة وليس العكس. عندها يصبح التفسير المثالي او المادي في ان الدين لم تصنعه الطبيعة بقواها الذاتية لولا توّسل الانسان بها واعتماده لها مقبولا صحيحا، وبالتالي يبطل قول فيورباخ ان الطبيعة مصدر ومنشأ الدين. وفي تحاشي فيورباخ عدم الانزلاق بهذا الفخ لجأ الى القول ان الانسان خلق تدينه من الطبيعة ولم تفرض الطبيعة دينها ان صح التعبير هي عليه. اي ان فيورباخ وقع في مأزق المراوحة بين التفكير المادي الذي يتبناه ويحمله من جانب وبين الفهم المثالي الذي لا يقر فيورباخ الاخذ به من جانب اخر.

فقد عمد الانسان تأليه الطبيعة التي يجهل خلقها ومن أوجدها، لذا فقد اعتبرت الطبيعة منذ تلك الحقب التاريخية السحيقة والى يومنا هذا ميراثا للإنسان تخدم وجوده الارضي لا ينازعه بها أحد منذ انقراض الديناصورات والماموث وغيرها من الكائنات التي كانت تهدد وجوده بالانقراض.

وسواء ورث الانسان الارض هبة من الخالق ام كنزا وجده مصادفة هيأته له ارادة اخرى مجهولة خفيّة في التطور البيولوجي والكوسمولوجي، فهو وجد نفسه حاكما متحّكما في الكثير من امورها الغامضة او الواضحة ليكون سيّد الطبيعة.

وحسب فيورباخ فان الانسان خلع على الطبيعة من صفاته رغبة منه في حل الغاز وجوده، ونضيف تماشيا مع تصور فيورباخ انه لما كانت الطبيعة عاجزة عن حمل رسالة الالوهية بما يلبي رغبات الانسان ويبعث الطمأنينة بنفسه، فهي لا تجترح المعجزات ولا تجيب على اسئلة عقل الانسان المحيّرة ووجوده النوعي، فأن الانسان لم يمتلك سوى الارتداد الى ذاته في تصنيعه الطبيعة (الها)، الى مرحلة لم يكن يعيها جيدا انه بإمكانه ان يكون هو( الها ) للطبيعة والمخلوقات الأخرى معه.

وهو ما نجده متحققا في مراحل تاريخية متطورة حضاريا من وجود البشرية في اعلان الانسان نفسه (الها) وحتى ليس نبيا، في الاساطير والميثولوجيا، وحتى الى عصور متقدمة معاصرة جدا في اعلان امبراطور الحبشة (اثيوبيا) هيلاسلاسي نفسه(الها) مخلصّا يعبد بحسب المعتقد الديني في (الراستفارية) عند بعض القبائل الاثيوبية غير المسيحية.

بالحقيقة لم يكن يدرك الانسان ان من خصائص الاله اجتراح المعجزات عصر ذاك، لذا كانت الوهية الانسان لا ارادية ولا عقلانية، سواء اكانت الطبيعة الها أم لم تكن، او اكان الانسان مخلوقا عبدا ام الها مرسلا ام غير مرسل.

ولأن الانسان بحسب فيورباخ (كائن غير ميتافيزيقي فان تفكيره الميتافيزيقي (نقض) بمعنى السلب النفي، لفن التفكير كأنه سلب مطلق، والطبيعة له ليست الا المقابل العقلي له)[5]

(والكائن الذي يوجد في الفكر بالنسبة للمفكر، هو الجوهر الحقيقي، ومع هذا فانه يكون واضحا بذاته له، والكائن الذي لا يوجد في الفكر لا يمكن ان يكون جوهرا صحيحا)

كما ان الذي لا يعطيه لنا الفكر بفعل التفكير كناتج تفكيري وفهم الذي هو الموضوع المادي المدرك لذاته، او الكائن المدرك وجوده خياليا (روحيا) عندها يكون المخيال الغاء افتراضيا مطلوبا لإدراك وجود الطبيعة ماديا التي يرغب الانسان اعطاءها صفة المتعالي والمقدس والالوهية، على حساب الغاء فاعلية العقل الحسي في تحقق وجود الأشياء على وفق قصدية روحانية دائمة التصادم والتضاد، في عجز الانسان والطبيعة معا اي الخالق الطبيعة والمخلوق الانسان العبد كليهما وجدا عجز اثبات ان الطبيعة تمتلك سمات الالوهية والمقدس في اجتراح المعجزات وتحقيق اماني العبد الانسان في درء الاخطار المحدقة به وحمايته. هذه السمات لم تكن الطبيعة تمتلكها اولا، ولا هي(الطبيعة) ارغمت الانسان خلعها عليها، وتصنيع الانسان إلهه منها وعبادته لها على وفق ما يطلبه ويتمناه لا وفق ما ترغبه الطبيعة، فهي لم تكن ولن تكون مستقبلا بحاجة الى انسان روحي يستمد تدينه من الطبيعة.

وفي مقولة هيجل (الدين هو أعلى صورة من صور التعبير عن الوعي الذاتي) نستطيع فهم ان ذاتية الانسان هي التي جعلت من الطبيعة الها افتراضيا هو من صنع خيال الذات الانسانية في ايجاد وسيلة تخلع عليها صفات الالوهية، ويعبدها الانسان فلا يجد غير الصفات التي تتفرد بها الطبيعة، او الصفات المشتركة بينهما، ويصنع من الطبيعة الها ما هو الا ذاته هو، التي خلعها على الطبيعة. تم هذا بواقع تفسير خيالي افتراضي ان الطبيعة قادرة ان تعطي كل متطلبات معيشة الانسان، وبالتالي فهي تستحق التأليه الذي يحتاجه الانسان روحيا في فزعه من الموت والفناء.

هذا الموضوع شائك وغير محسوم ايهما أسبق على الآخر الكتابة ام الكلام؟ إذا اعتبرنا ان النقوشات والحفريات البدائية الصورية المرسومة على جدران الكهوف هي أسبق على الكلام، قد يبد وكلامنا صحيحا، لكن تلك النقوش الصورية لا تعتبر لغة تخاطب تواصلي شفاهي الكلام لا يشترط فيه التدوين والكتابة، اما شرط اللغة هو التواصل والتدوين معا اي الكتابة. ع. ي

الأستاذ مراد غريبي:

كيف ترى مستقبل التديّن الاسلامي السياسي ومأزق العصر؟ هل تستطيع الفلسفة لعب دور الوسيط المقبول بين التدين الاسلامي والمعاصرة. خاصة ان التضاد بينهما هو على صعيد الايديولوجيا.

الدكتور علي محمد اليوسف:

إن منهجية الدراسات الاصلاحية المعرفية والفلسفية، في نقد وتقويم الانحرافات الطارئة في الفكر الديني، من وجهة نظر معاصرة حداثية، وحاجة الانسان للتديّن، مداميك وأسس وضعت الظاهرة الدينية على محّك المراجعة النقدية المسؤولة، بعد أن أصبح خطر ايديولوجيا التديّن الاسلامي المتطرف تحديدا، المعتاشة على الدين وبه ومن خلاله، تهدد الوجود الحضاري في العالم العربي.

 كتابات النقد الديني الاصلاحية المنهجية في محاولتها بعث النهضة الحداثية عربيا –اسلاميا ،كما جاءت في كتابات مفكرين ومصلحين كبار امثال رافع الطهطاوي، سلامة موسى ،علي عبدالرازق، محمد عبدة، جمال الدين الافغاني، خير الدين التونسي، محمد عابد الجابري ، هشام جعيط ، محمد اركون ،حسين مروة ،صادق جلال العظم، حامد ابو زيد، عبد المجيد الشرفي، عبده الفيلالي، عزيز العظمة، محمد احمد خلف، برهان غليون، عياض عاشور وعشرات غيرهم ،وجدوا اشكالية الدين في حياتنا المعاصرة تتمثل في السعي لإيجاد حل توفيقي لثنائية (المعاصرة والتراث) وهي معضلة تضرب العمق الوجودي للامة العربية –الاسلامية ،قطباها التجاذب الاساس في أن يعيش الانسان العربي –الاسلامي عصره ،بالضد من القطب الآخر المناوئ له ، ممثلا في الشد والجذب الرجعي المتخلف ، ايديولوجيا الدين المجتمعي التعبوي، في جعل التراث عموما والاسلام تحديدا عبئا ينوء بحمله أحياء اليوم ،بحجّة توكيد (الهوية) و(الذات ) وخصوصيات الامة المغيبة أساسا في ثيولوجيا التدين الزائف.

أصبحت المجتمعات العربية الاسلامية تجرّها منظومات التراث المتحفي - الماضوي التي فقدت غالبية مؤثراتها وبريقها بالمعيار الثقافي المعاصر، وفي تعطيلها الجوانب المشرقة التراثية أن تلعب دورها في التعايش والتلاقي مع الآخر ثقافيا، وتيار الجذب الثاني ممثلا بالمعاصرة التي يوجب حضورها سريان الحياة التمدينية، وتطورّها وتقدمها باستمرار، وهذه المعاصرة بدلا من تعطيلها سابقا جرى تغييبها اليوم قسرا وبالإكراه الايديولوجي الديني السياسي.

في جنبة أخرى نجد اليوم من يسعى الى تجذير الخلافات الدينية مذهبيا داخل البيت الاسلامي، في الرجوع الى أحياء وبعث جوانب من التراث الاسلامي، بكتابة تاريخ منازعات دينية طائفية مذهبية، في مسعى تصويب مسار تاريخي مذهبي على حساب مسار مذهبي آخر، بعيدا عن معالجة اشكالية الدين كإسلام في تقاطع غالبية مفرداته الفقهية والتشريعية مع العصر. نحن بحاجة اليوم الى معالجة قضايا الاسلام الديني، ليس كمذاهب طائفية متناحرة متطرّفة، بل في حل اشكالية فكر الفقه الدين الاسلامي وتقاطعه مع ثقافة وحضارة العالم اليوم.

ولم يعد مهمّا اليوم ما نكتبه سواء بمكابرة زائفة أم بقصدية مؤمنة ، الا بمقدار ما تقربّنا تلك الكتابات الدينية من ردم هوّة السقوط والتراجع الثقافي والحضاري للمجتمعات العربية -  الاسلامية في عالم اليوم ، وليس بمستطاع الطائفية أن تنقذ الاسلام من جموده وتعطيل حركته ، بمحاصرته وتجييره للطائفة الغارقة بالتزّمت والتطرّف بعيدا عن الاسلام كدين شامل يضم طوائف واجتهادات وثقافات واقليات واثنيات منوّعة ، الأولى ايجاد مشتركات التعايش فيما بينها بدءا ، وتعايشها السلمي التنويري مع بقية الديانات التي تعايش الاسلام معها عبر التاريخ ، كي يكون بمقدورنا محاورة ثقافة الحاضر عالميا من منطلق اسلام جامع ، وليس اسلام طوائف متفرقة واحترابات دينية مع غير المسلمين . أن في إصلاح الطائفة والاثنية مقدّمة سليمة وصحيحة لإصلاح الفكر الديني الاسلامي.

هذه التوطئة وجدتها ضرورية قبل الدخول في بسط فقرات هذه الاجابة في معالجتها مجتزءات متعالقة مع الفكر الديني وليس مع الدين، كانت أغفلتها أو تناولتها بأكثر رصانة المناهج النقدية الشمولية في سعيها طرح معالجات إصلاح الفكر الوضعي الديني، وحاولت كتابة تاريخ ديني مغاير للمتوارث السائد المعطّل الوجود والفاعلية الحياتية، عندما يكون موروث الفكر الديني يعيش الماضي والحاضر والمستقبل على حساب هامشية الوجود العربي – الاسلامي في عالم اليوم.

حاولت في مقالات لي بسط اجتزاءات منها التديّن حاجة ملازمة للوجود الانساني، ومفردة اخرى العودة بالدين لتوكيد فردانيته التدينية العفوية الصادقة، وليس مجتمعيته التعبوية المنحرفة ايديولوجيا، كما وضعت مفردة عصرنة الدين بين الاستحالة والتحقق، كذلك مفردة خلق عوالم ويوتوبيات دينية ودنيوية، خيالية ومتحققة، كما وتطرّقت لآفة الفكر الديني في أدلجة الدين، جميعها مفردات بحاجة الى تناول مستفيض، لا يفيها حقها مثل هذا الحوار، لكن حسبي أنى اضعها تحت نظر ويد التناول من غيري.

الأستاذ مراد غريبي:

هل (التديّن) حاجة ازليّة مفطور عليها الانسان؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

المراحل الخرافية والسحرية والميثولوجية والاسطورية التي مرت على الانسان في ابتداعه واختراعه (التديّن)، أتت وجاءت متسّقة مع التفكير البدائي-البدئي العقلاني غير الساذج في حاجة الانسان للتديّن، متجاوزا متطلباته البيولوجية الضرورية الأخرى بعد تطمينها وتأمينها، والانتقال الى تساؤله في معنى وجوده بين هذه الكائنات المحيطة به في الطبيعة.

(ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الطاقة الروحية التي يمتلكها الانسان دون غيره من الكائنات، هي طاقة انسانية بالأساس، لكنها متأرجحة بين الشأن البشري الأرضي من جهة وبين التوق الى المطلق من جهة اخرى، وخاصة الإلمام بعوالم ماورائية مفترضة.) كما يعبر الباحث نبيل بن عبد اللطيف.

جوهر تلك النزعة العقلانية في استحضار حاجة الانسان التاريخية للتدّين، لا تنخلع عليها السذاجة توصيفا، لأن عقلانيتها الايمانية الغيبية، تتطابق مع نفس الارتباطات والمنطلقات الدينية الايمانية في وقتنا الحاضر. من حيث الالتقاء على أهمية حضور آلهة تعطي وتوهب، تجازي وتعاقب، تمنع وتثيب، تجترح المعجزات، غير محدودة القدرات، خارقة، تلغي حواجز الزمان والمكان. ذات القدرات الالهية الاسطورية   نفسها التي قرأنا عنها، والى وقت ليس بعيدا جدا في عمر الشعوب كما هي عند الاغريق في اساطيرهم وقبلها في الديانات الوثنية في مصر وبلاد الرافدين.

قد لا يكون التصور الإلهي وقتذاك في تلك الحقب السحيقة، مشابها لما حصل لا حقا من تطور انساني في ابتداعه تنويعات أكثر اتساقا وقبولا في مسار تطور التديّن الايماني الغيبي. لكنما الجامع هو جوهر التدّين الإلهي في الاعتقاد بوجود الخالق.

الأستاذ مراد غريبي:

لماذا لم يكن الدين ظاهرة مفارقة لوجود الانسان؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

بالعودة الى المنظومة الفرويدية كما يدعو الباحث نبيل بن عبد اللطيف (نجد الحاجة الى الاعتقاد، هي حاجة نفسية بالأساس تنبع من محاولة الانسان الاجابة عن سؤال مركزي، لطالما أرهق تفكيره، هو ما الهدف من الحياة؟).

وبحسب كانط (العقل الانساني فريد من نوعه، أنه يطرح في جانب من جوانب معارفه، اسئلة لا يمكنه الاجابة عنها البتّة، فهو يطرحها لأنها نابعة من طبيعته ذاتها لكنه يبقى عاجزا عن الالمام بها بسبب انها تتجاوز قدراته البشرية).

الانسان في عديد من ظواهر الحياة التي لا يجد لها تفسيرا منطقيا شافيا، يتنازعه مؤثران اثنان هما (الارادة والقدرة)، الارادة عند الانسان في تطلعه الميتافيزيقي، الذي هو رؤية استباقية استشرافية مصدرها الخيال غير المحدود بطموحات معرفية معينة دون غيرها. والعقل يقود الانسان الى سلسلة من التساؤلات معظمها محرج، وامتحان لقدرات الانسان المحدودة في فهم وتفسير الحقائق والظواهر الطبيعية وغير الطبيعية المحيطة به.

عليه يكون الدين في حياة الانسان حقيقة إيمانية ميتافيزيقية بما وراء الطبيعة، ملازمة غير مفارقة للوجود الانساني، طالما هناك توالد وتوليد مستمر لتساؤلات يتعّذر الاجابة عليها بالقدرات العقلية للإنسان ويفرضها الايمان الغيبي كمسلمّات تريحه نفسيا.

كما اشرنا سابقا أن العديد من الظواهر الحياتية والطبيعية المحيطة بالإنسان ، هي ظواهر وحقائق كانت وستبقى مستعصية الحل مع الانسان ، تلازمه عبر الاجيال ، ويصعب النفاذ الى جوهرها ، واستكناه ماهيتها وتحليلها بوسائل العلم او المنطق الفكري والفلسفي ، او حتى بأسلوب الاستدلال العرفاني التصوفي الذي يتخطاهما – اسلوبا العلم والمنطق – ورغم هذا التقدم العلمي الهائل الذي نعيشه ونشهده ،في ضروب الحياة المعاصرة ، كان تقدم العلم ولا يزال موازيا لبقاء الدين خارج حيّز اهتماماته واشتغالاته ، وقطع العلوم شأوا متقدما جدا في فك الكثير من مغاليق وشفرات الوجود وألغاز الحياة المحيّرة ، فلا زالت قدرات الانسان العقلانية والمنهجية محدودة وقاصرة في مواجهة مشكلات وتعقيدات الوجود الميتافيزيقي للإنسان ، والسير ضمن نسبية الامكانات في سبر أغوار الظاهرة الدينية الملازمة للإنسان ، التي ترسبّت في اعماق الوجدان الثقافي والاجتماعي والسلوكي على مر الاجيال .

أن محاولة فتح مغاليق المطلق الديني هو (إرادة وعجز) هو ارادة طموحة بلا حدود عندما يجد الانسان نوعا من الراحة والسكينة النفسية، وتقاعس وعجز وتراجع في أشغال الذهن بتساؤلات صعبة عصّية على التفسير والاقتناع لكنها تتلبسّه لا يمكنه الفكاك منها كما لا يمكنه مجاوزتها.

فإرادة الانسان وأمنياته في تحقيق غير الذي بالإمكان تحقيقه والوصول اليه، يجده مجسّدا في قدرات وصفات الخالق والإيفاء بتحقيقه وتطمينه، والانسان يرتاح أنه يدفع بجميع متطلباته المحمّلة بالأمنيات والتي يفتقد حضورها الارضي، ويجدها متحققة في أماني اعتقادية انها ممكنة التحقيق في طي الغيب التعويضي المتخّيل لحياة ما بعد الموت. وفي هذه الحالة يتراجع عجز الانسان المتشكك الاقتناعي في عدم امكانية تحقيق الامل الأرضي، الى رضى نفسي تسليمي في دفع واحالة جميع حرماناته الارضية الى مطلق إلهي يضطلع تأمين تلك الحاجات.

الأستاذ مراد غريبي:

ماذا عن النقد الديني أو لنقل الجدل حول نقد الدين؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

الدين في قدسيته وتعالي ثوابته، جعل من ارتباط النقد الدنيوي – الانسانوي له، استحالة تحريمية، وممارسة مقموعة لا معنى لها في حضور تابوات تحريم قاطعة مستمّدة من صفات المقدّس، التي تجعل المساس بأي مفردة دينية هي المساس بصفات المطلق الالهي المعصومة العظيمة بلا حدود، في امتلاكها قدرة وارادة الحياة والافناء، ومحاسبة الفرد بالعذاب والثواب.

امام هذه المعضلة وغيرها نجد أن التديّن في تحريمه النقد عمد الى اخراج العلاقة الايمانية بين الخالق والمخلوق من فردانيتها السوّية الصحيحة المحكومة بالثنائية التعّبدية الايمانية، ومن شخصانيتها في أن الدين هو علاقة روحانية تربط الانسان

بخالقه فقط، تخص الانسان (النوع) وليس الانسان المجتمعي الفاني التي جرى اخراجها وحرفها الى/نحو العلاقة الايديولوجية السياسية والتعبدية التي تسوق المجموع المنقاد باسم الدين بمختصر العبارة أن التديّن الاسلامي السياسي بات اليوم أقصر الطرق للهروب من تساؤلات العقل في تغييب الحداثة المجتمعية والحضارة التاريخية.

 ان العلاقة الدينية الفردانية في انتظامها بالخالق روحيا، هي العلاقة التعبدّية الصحيحة والسليمة قبل تحريفها ونقلها الى فضاء المجتمع المعبأ بإيديولوجيا ألدين السياسي التي أخذت دور الوسيط والوصي على أيمان الفرد وعلاقته بالخالق. وبذلك تمت مصادرة وتغييب شكل او المعنى التعبّدي الديني الذي يخرج على وصاية ورقابة وسلطة ايديولوجيا الدين. وكذلك مصادرة أدنى حد وحق في النقد الديني. حين يراد فهم او توضيح او فك شفرات بعض الممارسات المصاحبة للطقوس الدينية، واجتهادات تفسيرات الفكر الديني التي تجابه بالتحريم القاطع المقترن بإنزال العقاب الصارم وفي الإحالة الى مرجعيات كهنوتية باسم المطلق الذي تنعدم امامها المساءلة النقدية او الانتقادية في أبسط صورها ومعانيها.

الايديولوجيا الوضعية السياسية الدينية الاسلامية تستمد مقوّمات حضورها الديني وتأثيرها وانتشارها، من الاحتماء بالمجتمعي المضّلل والمعبأ بإيديولوجيا التسليم الدوغمائي والغنوصي المطلق، وفي تكريس المهيمن الغيبي المسّطّح في قصور فهم الدين فهما صحيحا يجاري متطلبات وروح العصر.

أن في العقلانية النقدية أن حق لنا التعبير، لبعض المظاهر والسلوكيات والممارسات الدينية المنحرفة نصطدم بالمباشر بجدار المطلقات الدينية وحرمة وعصمة نقدها، كما نصطدم أيضا بالاحتمائية النفاقية الكاذبة مجتمعيا المساقة والمعبأة بهستيريا ايديولوجيا الدين السياسي. فتكون هذه الحماية الكاذبة المنافقة للدين جمعت ما بين حماية الدين التعبوي المؤدلج مجتمعيا، والاحتماء بعصمة الروحي المطلق في تجريم وتحريم أن يمسّه أي نقد او انتقاد، في ادانة سلوكيات منحرفة في الفكر الديني السياسي. لذلك نجد بقاء وتطاول البقاء لثوابت ومطلقات الفكر الديني راسخة ومتجّذّرة في حمّى التحريم وتحت جبروته القمعي تسير بالتوازي مع سريان وتبدّل وتغيّر الحياة والعصور من حولنا، التي تضع الانسان في صلب التساؤل الدائمي بلا جدوى، وتملي عليه عقم المراجعة النقدية ولا معناها وانعدام جدواها.

الأستاذ مراد غريبي:

تطرقتم في العديد من المقالات لاتجاه ما يعرف بــــ "عصرنة الدين"، ما المقصود بهذا وما مدى تحققه؟؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

اشكالية الديني المقّدس مع الارضي المدّنس، أصبحت اليوم هي اشكالية التقاطع أيّهما يقود الآخر، ولمن تكون الأرجحية في الاعتماد أو الانقياد.؟!

أنها اشكالية التقاطع المفروض بقوة وسطوة الحياة المدنية والمتحضّرة، وأن المأزق الذي يتقاذف الانسان العربي المسلم يتمثل اليوم في مواجهته اشكالية الديني في الحياة ، في تساؤل اصبح اكثر مشروعية ، هو كيف يستطيع هذا الانسان أن يجد او يبتدع في الدين ( معاصرة ) لا تتقاطع مع ( ثوابت ) الديني السماوي والفكر الوضعي الديني معا ؟، وهذا الاخير الفكر الوضعي المؤدلج يمانع وبشّدة وبمختلف الطرق أن يخلي دوره في وصايته على الدين ، أمام رغبة الانسان العربي المسلم سعيه جعل المعاصرة الدنيوية ( دينا ) آخر في الحياة ، او مرادفا لدين المقدس المطلق يعيش معه ويوازيه .

إشكالية الروحاني الديني مع الارضي الدنيوي الذي تفرضه الحياة المعاصرة، في الانسان الذي يرغب فهم الدين عصريا هو بالضرورة الحتمية سيكون في مواجهة المتديّن المتطرف الذي يشهر سيفه على الدوام وفي كل الاحوال وبأبشع صور الهمجية والاجرام والتخلف، في محاسبة كل من يجرؤ على التساؤل او الاستدلال لمعاني معرفية تخص انحرافات الدين المسيّس. وأن كل ممارسة تحمل صبغة الاسلام الديني يجب أن تخرج من تحت عباءة وهيمنة النص الوضعي المتطرف لإيديولوجيا الدين السياسي، وفي الاجهاز على كل تطلع يروم جعل الدين خارج مجرى التقاطع مع مجرى الحياة المعاصرة.

وأقصر الطرق لجعل الدين ثوابت انتقامية جاهزة تستمد منها وتتخلّق عنها ايديولوجيات سياسية متطرفة وغير متطرفة هو في ممارسة عصمة ما يراد أن يساق ويساس به المجتمع على وفق مسّلمات خرافية متخلفة متقاطعة دينيا مع روحية العصر وتحديث المجتمعات العربية الاسلامية.

من هنا نجد استحالة الجمع بين الرغبة في عصرنة الفكر الديني الى جانب عصرنة الحياة، وأن هذا التقاطع سيستمر لاستحالة خروج روحية العصر وتوقفها عن مسارها الطبيعي في التقدم الى الامام، امام استحالة اخرى تتوازى معها وتقاطعها ممثلة في ثبات وتخلف الفكر الديني الوضعي المؤدلج سياسيا.

الأستاذ مراد غريبي:

لكن هناك أيضا عنوان التبشير الديني بعوالم فوق المعقول الارضي، كيف يمكن فهمه؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

أن التبشير الديني بجنّة وعالم سعادة وحياة ما بعد الموت، يلبّي جميع الاماني المكبوتة عند الانسان في حياته الأرضية، والتي حرم منها والاستمتاع بها، وفي إشهاره التعذيب الجسدي والنفسي على الذات في نبذه طموحات ورغبات النفس الامّارة بالسوء، التي جعلت من الانسان العربي المسلم كينونة وجودية طارئة خالية من أية قيمة انسانية فاعلة بالحياة، سيجدها متحققة في نيله ثواب الآخرة وان يكن تحقيق هذه الاماني المغيبّة تشي بتعويض نفسي مخاتل ومنفصم.

أن مصدر اختلاق يوتوبيات سماوية وأخرى أرضية هو الانسان وحده لا غيره، وتأتي توصيفات الدين لأجواء وسعادة تلك العوالم اليوتوبية تعويضا، عن بؤس وشقاء الانسان بالحياة، وتعميقا استلابيا لأي قيمة ارضية تعطي الحياة معنى ان تعاش أمام طموح الحصول على جنان الخلد في السماء الذي لا يمكن تحقيقها الا في إعدام حياة الارض. ولا يقتصر التبشير بعوالم السعادة في السماء لما بعد الحياة على الارض دينيا فقط، بل هناك تبشير خلق يوتوبيات سعادة ارضية مصدرها الانسان ايضا، كما سعت له المفاهيم والعقائد (الاشتراكية)، في محاولتها إنزال جنة السماء الى/فوق الارض. أو خلق عالم يوتوبي آخر على الارض بمنطلقات دينية ايضا، لا علاقة له بيوم القيامة ولا بحياة اخرى بعد الممات، كما تبشّر به الديانة البوذية والوثنيات وتسعى تحقيقه على الارض.

كما أشرنا سابقا أن العالمين الافتراضيين، جنة السماء ويوتوبيات الارض بدايتهما ونهايتهما هو طموح الانسان على الارض والتخلص من شقاء الحياة، وحيرته في الوجود والبحث عن معنى الحياة. لكن يبقى الفرق جوهريا بين جنّة الدين في السماء، ويوتوبيا الحياة على الارض، في تطمين حاجة الانسان للسعادة والراحة الابدية، فأمام استحالة تحقيق الانسان حلم السماء على الارض، بوسائل ايمانية معجزة، يصار الأمر في بحث امكانية تحقق جنّة الانسان على الارض بقدرات انسانية وجهود واضحة ليست غيبية، ولا خارج تصورات الارضي، وتفكير وفعالية الانسان العقلية، وقدراته العملية. والعديد من يوتوبيات الارض التي اخترعها الانسان وسعى اليها، لا تخرج عن مديات الامكان في التحقق ولو جزئيا.

فرق آخر يمكننا ذكره بين جنّة السماء ويوتوبيا الارض، ان الايمان الغيبي في جنّة السماء بعد الممات، تشلّ القدرات الممكنة للإنسان جسديا وروحيا وتقعده عن العمل المنتج الجاد في نيل الحياة السعيدة على الارض واعتبارها نعمة زائلة وخادعة تصرف الانسان عن طموحه في السعادة الابدية التي تنتظره في السماء.

الأستاذ مراد غريبي:

في ذات النسق سؤالي من جديد ماذا عن أدلجة الدين؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

الدين في قدسيته المتعالية وثوابته المستمدة من وحدانية الخالق وقدراته غير المحدودة، التي وردتنا عبر الرسل والانبياء وقصصهم واحاديثهم وتصرفاتهم وكتبهم السماوية المنزلة عليهم بالوحي او الإلهام، وما تحمله من تشويهات طارئة عليها، ومبالغ فيها، كل ذلك جعل من الافكار الدينية المتعالقة معها بشروحات واضافات وتفسيرات غائية، تكريسا لظاهرة دينية متناسلة الحضور عبر الاجيال.

هذا الموروث الديني الكبير له دعاته ومريدوه ومفسّروه وشارحوه، ويتنازع هذا الموروث تيّاران ، احدهما اراد نقل جميع التفسيرات والاجتهادات الدينية بما يعمّق الايمان الغيبي ،بأن الدين علاقة (فردانية) روحية تربط بين الخالق وعبده ولا تحتاج الى وسائط بينهما من مجتهدين ودعاة ورجال دين ،وحكام اوصياء على الدين مستبدين طغاة ،الا فيما يُشكِل ويلتبس على المتديّن في مسائل تحتاج الى فتوى وتشريع يسّهل أمر الناس في دنياهم كالزواج والميراث وقضايا الاحوال المدنية .هذا التيار ومنذ اعلان الخلافة الراشدية كان يروم تغليب الاجتهاد الديني في الحياة على (الدولتي)الحاكم - السلطة للحياة . يقابله بالضد منه من يجدون في الدين نظام حكم ينقاد الديني وراءه في الحياة، ويسخّره لمقتضيات وضرورات الحكم الانتفاعية، بمعنى ان الأولوية للحكم الذي يسحب وراءه الدين كتزكية وتعبئة له، الذي يستمد مشروعيته ومقبوليته من فكر الدين والاجتهاد في تفسيراته المتعددة حسب مقتضيات الحال وضرورات الحكم، بل حسب مقتضيات الحاكم المستبد الواحد فقط لا غيره، الذي يقطع رؤوس معارضيه بسيف الافتاء الديني في اباحة وتمرير كل عمل يريد تنفيذه الحاكم في رعيّته، وتحت شعار مانع قاطع انه لادين في معصية الحاكم.

هذا الشكل المنحرف من الحكم باسم االدين جرى تداوله عبر عصور طويلة من ظهور الاسلام، الى ان استقر به المقام اليوم في انشاء احزاب سياسية دينية تحمل ايديولوجيا الدين الذي تستمد حضورها الحاكم من مصدر السياسة تقود الدين، ولا يقود الدين السياسة لا في الحكم ولا في الحياة.

أصبحت تلك القراءات المنحرفة للدين تكريسا لنوازع الانتفاع الدنيوي في تسويق نفسها كإيديولوجيات دينية تحتمي بإرهاب الدين، الذي تفهمه وتفسّره حسب مصالحها، لا حسب مصالح الناس في الدين والحياة، وبحسب رفاهيتها في تسويق وافشاء التخلف والفقر والحرمان للناس باسم الدين. لا بحسب حاجة الناس لدين الحق والعدل والمساواة.

كيف يكون الدين حاجة مجتمعية مؤدلجة في حين هو في جوهره حاجة فردانية ايمانية فطرية؟!

ذلك تم ويتم بنقل الدين من طقوس عبادية تربط المتعبّد بالخالق الى جعل الدين ايديولوجيا سياسية مجتمعية بضوئها وبها يصار الى تحديد مصير الانسان على الارض قبل السماء. ولكي يكون الدين عامل اسعاد ايماني للمجتمع في الحياة، يجب ان يصار اعادته الى فاعليته الفطرية الاولى، كونه تفسيرا للحياة وموقفا ايجابيا سلوكيا واخلاقيا منها، من قبل الفرد المتديّن وليس من قبل اجماع الجماعة المخدوعة والمضّللة بمقتضى ايديولوجيا الدين.

أن مجتمعية التعبئة الدينية في ايديولوجيا التديّن المسيّس التي انشأتها مرجعيات تمدّها بأسباب البقاء، عملت على تخريب العلاقة الصحيحة في معادلة ثنائية الخالق والمخلوق، واخرجت الدين من فضاء الفطرة الايمانية الاصيلة الى مفاصل الحياة التي تجعل من الدين وسيلة حكم لحكام يمتهنون السياسة والافساد في الارض.

 

[1]  عبارة سارتر (جوهر الانسان الحقيقي انه بلا جوهر) هي تعارض وجهة نظره ان الانسان يصنع ماهيته وجوهره بقواه الذاتي المستمدة من خبراته التراكمية المكتسبة من الحياة طيلة سني عمره من الولادة وحتى الممات. لكن كيف لنا تمرير هذا التناقض ان الانسان لا يمتلك جوهرا حقيقيا، سبق لي في مقالة منشورة لا يحضرني عنوانها عللت العبارة صحيحة اذا ما اخذت ضمن اشتراطين اثنين، الاول ان الجوهر حسب فلسفة سارتر تصنيع ذاتي يلازم الانسان سني عمره إذن الجوهر هو ليس معطى يمكن الاستدلال عليه بل هو سيرورة من الانتقالات والتحولات في حياة الانسان الاستبطانية الداخلية لذا لا يمكننا الحكم على جوهر لا يتسم بالثبات معرفيا. السبب الثاني وايضا بدلالة فلسفة سارتر الانسان نزوة طارئة لم يكن هناك حاجة لوجودها لذا فالإنسان في كلتا الحالتين بجوهر وبلا جوهر هو وجود لا معنى له.

[2]

[3]

[4]

[5]  تنويه: اعتمدت في هذه الاجابة المداخلة، اقتباسا او اكثركما موجود بين هلالين من مقالة الاستاذ الباحث جاد الكريم الجباعي /الالحاد لا يقي من المثالية والغيبيات/موقع مؤمنون بلا حدود، نيسان 2018 في عرض اراء فيورباخ كتابه أصل الدين تعريب وترجمة الاستاذ احمد عبد الحليم.