براثين الوجود (الجزء الثاني) - د. محمد روي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

إن للمقولات التي صاغتها العقول العالمة نهاية حتمية حسبما يتموقع مُدركها، مهما كانت جدة تكوينها ومغزى محتواها، وهذا التموقع يجعل من الحكمة التي صاغتها العقول التي نُطلق عليها أمية؛ تصبح نافذة في الوجدان أكثر، ومن شأنها أن تفيد في طلب الانتقال من وضع إلى وضع آخر أحسن منه، لأننا بشكل أو بأخر لسنا عقولا عاملة بالمعنى الدقيق، فإن هذا الوصف يليق بنفر معدود من الذين تجسدت فيهم حكمة العوام كما يقال، قبل أن يشيدوا صياغتهم العالمة لها، وإن كانت هذه الصياغة أحيانا تُفقد الحكمة أشد ما فيها من تأثير ونفاذ.
كما ندرك جيدا الشدة التي تمسك بنا حينما نتصور أمرا ذا بال، وفي الوقت نفس لا ندرك الغوائل التي تلوح من هنا وهناك، ولو كنا قعدنا أمام صورنا الذاتية وقتا من الزمن، للاح لنا لَـمعان قادم من بعيد، يضئ ما أخفته براثين الوجود، ولكنه في طريقه لا يأتي على نحو متفرد خالي من الأخلاط الضاربة في الرؤى الممسكة لأعناق الموجودات.
ولم يكن من الهين أبداً أن يطلب المرء من الوجود غايات أحرى بأن تُمسك في غرف الكنوز وألا تُبدى إطلاقا مهما كانت الحال، فهو وإن كان على وعي مؤكد بأن الأمر لا يقتضي ذلك الانبعاث الثاني الذي يُلتمس عادة بعد الانتقال من نحو إلى نحو، بالرغم من صعوبة ذلك الانتقال، ووعروة الألفة، وبقاء شيء في النفس من المعتاد الذي انتقل من المخفي إلى الواضح، ولا يخفى أن الوضوح أقرب خصال الفكر الذي يتغلغل دون قيد الإدراك ودون رقيب الروح.

ولو كانت أحوال الرجاء ونواحي الأفئدة فارغة من كل ما ينطوي ضمن البواعث الساكنة؛ لصار الوجود أخفى، غير أن الوضوح يأتي بشكل ما من الرغبة في الكشف على المخفيات الجادة، ومن الضروري أن تضيء الحقيقة مهما طال البحث عنها هذا المضمار الخفي، فالخفاء والوضوح، بالرغم من ذلك؛ نجد وجودنا فيه، هو من يحرضنا على طرح الإشكالات، وهو أيضا من يجعل في ذواتنا حركة غريبة تجعلنا نمتطي أي حصان لكي نكتشف ونتوصل بما نظن أنه غير ممكن، إن الخفاء يزرع فينا عجائب قدرة العلة الأولى بتعبيرهم.
وإنه ليحلو عادة أن تقف الذات في ركن قصي، كأنها تُنتزع من أدران الوجود، بحيث تطرد منها الخيالات المتركبة من مساكنة الموجودات، قاصدة الاستشفاء بالقيم التي تستطيع الحياة القيام بها، والحق أنها تطوف بين أبواب منازل الثقافات وحجور صُناعها، لا شيء تنتهي إليه من العلم بجدّة الوجود في العطاء والإخبار، وأنه لا يمكن بحال أن يجود بشيء دون سحق أو قل عصر القوى الموجودة بين النفوس باختلاف أنواعها، وهذا المعطى، لا يغدو غريبا إذا قررنا أن نضيف إليه بعض الممكنات الذاتية التي نستطيع اكتسابها من ذاك السحق الذي يعتري تلك القوى؛ إذ إننا عندما نتذوق بعض ما تجود به، نجد في وعيا طائفا لطيفا صادقا، يخبرنا بأن هذا الإنتاج، لم يأتي هكذا بغتة، إنما الأمر، بلا شك، قد تطّلب، إشراك كل الإحساسات المعروفة بالكلية، ساعة النفاذ إلى المراشد، إذ ذاك، نتحسس عظم الموجودات العاقلة، ونتصاغر أمامها رغما منا.

وبينما نحن في مطالع أنوار الوجود نرجو قطف بعض ما يجود به لكل طالب، ننتهي إلى كون هذا الوجود، له من المميزات ما ليس في أذهاننا على الاطلاق، فكم من الخطرات التي اكتشفناها عنوة لا نلتفت إليها، ولكننا في التي توصلنا إليها بغير إرادتنا، لا يطيب لنا منها إلا التي أُرغمنا عليها الوجود، منها أساسا نجد الحق، وندرك عظمة الشخصية الإنسانية، لا كل الشخصيات، بل التي لها من الحكايات الواقعية والأحداث ما يغطي مداد الكتب، وليس يخفى أن القولة التي تنفذ في الأعصاب المستجيبة هي التي تأتي من مثل تلك الشخصيات، لأن لها معنى متحرك، إنها استُخلصت من بين معاول الوجود، ولهذا فالوصول إليها صعب المنال، وليس كلنا نجيد السير في هذا النحو.
ألا ترى أننا نمضي في أركان هذا الوجود، وتجدنا أحيانا غير مستنبطين لأي قانون أو فكرة تضفي لوجودنا معنى من المعاني، أو فضيلة من الفضائل، إننا أحيانا كالأنعام، بل كما يقول كتاب الله تعالى، قد يكون الإنسان أضل منها، وهذا هو الواقع، فمن بيننا ما لا نستسيغ باطنه ووعيه ونشاطه الحركي في دنيا العلاقات، ولولا الارتباط الرسمي لما وقعنا على إثبات الأقوال في كينونتنا الواعية لكل شيء يمر أمامها.
وليس هذا فحسب، ويا ليتنا اكتفينا بذلك، وعدنا أدراجنا ولم نقع كما لم نرتمي بين براكين الوجود، فكلما رامت الموجودات استكناه الخفايا لزمتها أن تنقطع عن الوجود انقطاعا تاما، إنه ما يسمى بالرباط، الرباط في المكان الذي يُظن أنه الملاذ الساذج كما يصفونه، ولكنه ملاذ يسترجع به المرء حقيقة كينونته ومستقبلها، ولا جدال في كون هذا المسار من أصعب ما يمكن أن يُمتطى، إنه أتعب شيء، إنه طريق شاق، وليس بالهين بالنسبة لكل النفوس، وليس كل من سلكه بمقدوره الوصول، إنه كما قلت شاق جدا جدا.
ولكن توجد من الأمور ما يمكن أن تعين على الاستمرار، لكن ماهي؟ إنها البواعث، ألم تعلم أن الانتصار على الذات مما يولد البواعث الخالدة، أجل كل شيء يستحق الوجود يأتي بالبواعث، وإني لأنظر لها بعين كبيرة ومقدسة؛ إذ أدرك جيدا ما لها من الأهمية في إبراز كينونة الإنسان في دخيلة نفسه وفي محيطه الوجودي، إنها الصفة التي من يعرف كيفية تصريفها وتصريف الإطارات الفكرية العاملة؛ يكون قد أمسك بالسر الوجودي لهذا العالم الأرضي.
حقا، إذا تأملنا مليا في البواعث، ووددنا تميز أثرها في التوصل بحقيقة الذات؛ لكان شأنها أعظم من الروح، بل يجوز القول بأنها هي ماهية الروح، أي إن الروح بدون بواعث هي لا شيء، هي روح تائهة، ليس لها مقام، ليس لها أرض تضعها موطئا تتولى فيه البحث عن حقيقتها، وعما وُضع في ذاتها الباطنة، من هاهنا كانت البواعث أهم ما يميز الانسان.
ومن الظن الساذج أن يقال في حقيقة البواعث بأنه ليس لها تحديدا يجلي مكامنها الغائية، فبالطبع لها أسس وضوابط أخلاقية، ومعلوم أن أي عمل يخلو من القيم ليس له قيمة في ذاته فضلا عن تجسداته التي تنتقل من النظر إلى العمل، فكذلك نفس الشيء بخصوص للبواعث، فالبواعث ينبغي أن تحكمها القيم، فلو لم تدخلها لكان غايتها غاية مدمرة، والتاريخ يوضح المرارة التي عانت منها البشرية من جراء البواعث الشيطانية أو الأصح اللاإنسانية.
وبذلك فقيام الوجود الإنساني أو بعبارة أخرى الوجود المؤمن يكون باستبطان البواعث الأخلاقية، وتربية الذات على إرجاع كل باعث منفصل عنها بإخضاعه للقيم الفاضلة، وإننا إذا دخلنا إلى عمق الموجودات ورأينا بأعيننا المعاملات ولمسنا دنيا الوقائع الموجودة استطعنا أن نصل إلى مكامن الوقائع الاجتماعية عيانا؛ لو قمنا بذلك لكنا على يقين بجدارة الدعوة إلى القيم وأخلاقية البواعث وضرورة المناداة بها في كل مكان، وفي كل حين، وفي كل تاريخ، فالوجود والموجودات تائهة وبعيدة عن عمق النفس والحياة إذا كانت البواعث غير أخلاقية.