حضور الفلسفة الأفريقية عند الغرب: أوغسطينوس نموذجا - عمر حجام

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لعل الحديث عن حضور الفلسفة الأفريقية عند الغرب يقودنا إلى التسليم أولا بوجود تراث فكري فلسفي أفريقي  يمنحنا مشروعية الاعتراف بتاريخ الفلسفة الأفريقية، أو الحكمة الأفريقية، تماما كما جرت العادة أن نقول بتاريخ الفلسفة اليونانية، وإن كان هذا التاريخ هو أيضا نتاج تركيبة أفكار مستمدة من حضارات أخرى ساهمت في تأسيسه. ثم إنه ينبغي أن نشيد بالدور الذي لعبته الفلسفة الأفريقية في تطوير وإعادة صياغة تاريخ الفلسفة لاسيما فلسفة أفلاطون وأرسطو والذي يتجلى أساسا في التفاسير والشروحات وجمع الأعمال وتصنيفها التي عرفت بها مدرسة الإسكندرية في مصر. فمدرسة الإسكندرية كجزء من تاريخ الفكر الأفريقي القديم مهد المجال لظهور فلاسفة فكروا من داخل هذه المدرسة، سيحدثون بدورهم تأثير قويا على العقل الأوروبي في العصرين الحديث والمعاصر. ومن بين هؤلاء الفلاسفة الأفارقة نذكر القديس أوغسطين  Saint Augustin أو سانتوس أورليوس أوغسطينوس *Santus Aurelius Augustinus كما يكتب باسمه الروماني القديم.

         لقد حاول أوغسطينوس الأفريقي أن يؤسس تراثا فكريا متماسكا مزج فيه بين الفلسفة واللاهوت المسيحي في العصر الوسيط، وهو بذلك يعد مرجعا أساسيا بالنسبة للعديد من الفلاسفة في ذلك العصر كالقديس طوما الأكويني الذي استند إلى نظرية أوغسطينوس حول الثالوث في "خلاصته اللاهوتية"، ثم في العصر الحديث حيث سيأخذ ديكارت نظريته عن الكوجيطو، ونيقولا مالبرانش في الخيال، ثم في الفلسفة المعاصرة نجد الفيلسوف الألماني هوسرل في فكرته عن الفينومينولوجيا، وهيدجر في الزمان والوجود، وفيتجنشتاين في نظريته حول اللغة. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على قوة الفكر الأوغسطيني، أو بالأحرى قوة الفلسفة الأفريقية وامتداداتها داخل الفكر العلمي والفلسفي في العالم الغربي.

         سنحاول من خلال هذا المقال أن نبين بالتفصيل هذا التأثير العميق ردا على بعض الفلسفات التي حاولت أن تضع  أفريقيا والإنسان الأفريقي في الهامش، ونذكر على سبيل الذكر لا الحصر فلسفة فريدريش هيجل، حيث يقول: «علينا أن نترك أفريقيا... ولا نعود إلى ذكرها مرة أخرى، لأنها ليست جزءا من تاريخ العالم، ولا تكشف عن حركة أو تطور... والواقع أن ما نفهمه من إسم أفريقيا هو الروح غير المتطور الذي لا تاريخ له ولا تطور أو نمو، والذي لا يزال منغلقا تماما وفي حالة الطبيعة المحض، والذي كان ينبغي أن يعرض هنا بوصفه واقعا على عتبة تاريخ العالم فحسب.»[1]  بالإضافة إلى أن هيجل حاول أن يربط الروح التاريخية بالإنسان الغربي؛ فالتاريخ الحقيقي للإنسان لا يبدأ إلا مع ظهور الوعي، وأوروبا هي الأرض التي توفرت فيها شروط هذا الظهور، أما المجتمعات الأفريقية في نظره التي كانت تعتمد على الأساطير ليست جزءا من تاريخ الإنسان، فهي مجتمعات لا يسود فيها إلا السحر، والرق، والإستبداد، والكسل الفكري. يقول في هذا الصدد واصفا الشخصية الأفريقية: «الشخصية الزنجية تتميز بالافتقار إلى ضبط النفس، وتلك حالة تعجز عن أي تطور أو أي ثقافة. ولهذا كان الزنوج باستمرار على نحو ما نراهم اليوم، والرابطة الجوهرية الوحيدة التي وجدت ودامت بين الزنوج والأوروبيين هي رابطة الرق. »[2] من ثم ومن خلال هذا التصور نطرح الإشكالات التالية: هل يمكن الحديث عن فلسفة أفريقية؛ أي عن تاريخ الروح الأفريقي، كما نتحدث بذلك عن الحكمة الشرقية والحكمة الغربية؟ وإذا سلمنا بوجود هذه الفلسفة، فهل استطاعت أن تضيف شيئا إلى التاريخ الإنساني؟

         لقد كانت أفريقيا خصوصا الجزء الشمالي من هذه القارة في العصر الروماني أرض الصراعات المذهبية والطوائف الدينية المبتدعة في الديانة المسيحية والتي خلفت تاريخا يذكر في أفريقيا، منها كالمانوية، والأريوسية، والدوناتية، والبلاجية، بحيث كان لأوغسطينوس دورا كبيرا في أن نقل إلينا أخبار هؤولاء من خلال المؤلفات التي خصصها لكل مذهب من تلك المذاهب.

         كما إن أوغسطينوس استطاع أن يقعد لمبادئ التفكير في الديانة المسيحية دفاعا عنها ضد التيارات المهرطقة استنادا إلى فلسفة أفلوطين التي حاول من خلالها أن يربط ولأول مرة في التاريخ بين مبادئ الثالوث في المسيحية والأقانيم الثلاثة كما وردت في تاسوعات أفلوطين. وهو بذلك، لم يخرج عن تقليد شمال أفريقيا الذي أحيى روح المسيحية. وتعود قوة هذه الروح إلى قوة الأفكار الفلسفية الأوغسطينية التي تنبني عليها. ثم إن فلسفة هذا الفيلسوف لم تقتصر فقط على تناول القضايا اللاهوتية وإنما حاولت أن تؤسس للقضايا الكبرى في المجال الفلسفي؛ كفلسفة الوجود، وفلسفة العقل واللغة، والهيرمينوطيقا، ويكفي أن نعود هنا إلى المؤلفات الكبرى التي كتبها في هذا الصدد والتي تعد مرجعا رئيسيا للعديد من الفلاسفة الذين أسسوا على إثرها نظرياتهم في العلم والفلسفة، نذكر من هذه المؤلفات: الاعترافات les confessions ، ومدينة الله la cité de Dieu، ثم في الثالوث De la trinité.

         يعد كتاب الاعترافات مشروعا حول فلسفة الوجود، حيث سعى من خلاله أوغسطينوس  تأسيس مفهوم الذات كشرط  للوصول إلى الحقيقة. وتتجلى هذه الفلسفة لديه بشكل واضح في نظريته المشهورة حول الكوجيطو « آمن حتى تعرف»[3]. وهي نظرية جاءت كرد فعل إزاء المذهب الشكي الذي ينفي كل إمكانية للمعرفة ويتبنى فكرة خداع الحواس، بينما يقر أوغسطينوس أن وجود الخطأ والخداع رهين بوجود الذات، لهذا يقول: «إذا كنت مخطأ فأنا موجود »[4]. وبهذا يكون الفيلسوف الأفريقي¨ أول من دشن مشروع الذات في تاريخ الفكر، لتنتقل هذه الذات إلى العالم الغربي وتعاد مع ديكارت.

         يتناول إتيان جلسون العلاقة القائمة بين كوجيطو أوغسطينوس وديكارت، فلاحظ أنه لا يوجد هناك ما يميز بين "أنا" أوغسطينوس "وأنا أفكر إذن أنا موجود" لديكارت. «وينقل لنا جلسون محتوى الرسالة التي أرسلها ميرسن Mersenne إلى صديقه ديكارت حينما قرأ له كتاب " مقالة في المنهج" يحيل فيها صديقة إلى أن فكرته عن الكوجيطو مستوحاة من المذهب الأوغسطيني، وبالضبط من الكتاب العاشر من مدينة الله.»[5] «وفي المؤتمرين العالميين اللذان عقدا بباريس( 21-24 شتنبر) وروما (20-23 أكتوبر) حول موضوع" محاولة لتجديد الأوغسطينية" ثم فيهما تناول أوغسطينوس والمذاهب الفلسفية الكبرى المعاصرة، بحيث ركزوا على فلسفة الوجود والعقل»[6] التي تطرحها مؤلفات أوغسطينوس وحضورها عند المحدثين والمعاصرين والتي تتلخص أساسا في نظريته حول الإشراق l’illumination. وإذا كانت الميتافيزيقا المعاصرة تنطلق من كوجيطو ديكارت الذي يفترض وجود ذات مفكرة، والله أو العقل المطلق، فإننا نجد نفس الشيء عند أوغسطينوس، فهو لا يريد أن يعرف شيئا آخر غير الله والنفس. وهذه المشكلة قادت فيلسوفنا إلى البحث في مجال المعرفة الذي درس فيه بعمق معضلتي النفس والجسد والتي ستعد أساسا لنظرية الكوجيطو عند ديكارت.

         نظرية الكوجيطو إذن أفريقية الأصل، والأنا هو أنا أوغسطينوس قبل أن تصبح أنا الديكارتية. وبالرغم من أن أوغسطينوس كتب باللغة اللاتنية كباقي الفلاسفة الأفارقة في ذلك العصر، فذلك يعود بالأساس إلى كون اللغة اللاتنية  لغة العلم والسياسة في ذلك الزمان، تماما كما كانت اللغة العربية في القرون الوسطى، واللغة الإنجليزية في هذا العصر. إلا أن أوغسطينوس فكر بعقل أفريقي وفي أرض أفريقية، حتى أن أغلب المؤلفات التي ألفها كانت في السنوات التي يتنقل فيها بين المدن الجزائرية قبل ذهابه وبعد عودته من روما القيصرية. وحينما نقرأ الاعترافات لأوغسطينوس نجده كلما أراد أن يعطينا تفسيرا لمفهوم التمثل la représentation؛ تمثل الصور الحسية في الذهن، «يذكر حياة شخصه التي عاشها في قرطاج»[7]. وهذا دلالة على حضور الشخصية الأفريقية في الممارسة الفكرية لأوغسطينوس.

         لقد حاول أوغسطينوس أن يؤسس لمذهب جديد في الفلسفة يتجلى في "الإيمان الفلسفي"، وهو المذهب الذي ستتأسس عليه "الوجودية المؤمنة" مع كيركجارد. والحال أن هذا الأخير بدوره كان أكبر قارئا لأعمال أوغسطينوس؛ حتى إن مكتبته تتوفر فيها جميع أعمال هذا الرجل، وقد «قال عنه كيركارد إنه الفيلسوف اللاهوتي الوحيد الذي يعرف "جدل الوجود"».[8] كما إن كارل ياسبير اعتبره المؤسس الفعلي للفلسفة؛ ذلك أن مفهوم الإيمان الذي طوره أوغسطينوس هو ما «يشكل قاعدة للفكر»[9] في هذا الوجود، وليس العقل وحده كما تعتقد الديكارتية، حيث إن العقل وبراهينه لا يمكن أن تتجاوز مرتبة الظواهر التي تدرسها العلوم. ومنه يكون الإيمان هو ما يمنحنا التعقل بذواتنا وبالأشياء، وهو الطريق الذي يقودنا إلى معرفة الحقيقة.

         إن البحث عن مفهوم الحقيقة عند أوغسطينوس قاده إلى البحث في المسائل الابستيمولوجية المتعلقة بثنائية العقل والجسد، وذلك من خلال دراسة طبيعة العقل البشري وعلاقة الفكر بموضوعات العالم الخارجي. وأراد بذلك أن يثبت أن الإنسان هو صورة الله وليس صورة العالم كما يظن بذلك أصحاب المذهب التجريبي، من ثم فإن العقل البشري يختلف عن الأشياء المادية ويتجاوزها. ثم إن إبستيمولوجية أوغسطينوس تنبني على أساس عقيدة الثالوث، فهو يتصور العقل ثالوثا، سواء من ناحية المعرفة الحسية، حيث إن هذه المعرفة تتشكل من خلال ثلاثة عناصر رئسية: الشيء المدرك، والذات المدركة، والإرادة، وهذا دلالة على تجلي الثالوث في المادة. ولما كانت المعرفة ثالوثا، فذلك يحيل إلى أن الحقيقة توجد في الثالوث، وأن تاريخ المعرفة الحقيقي هو التاريخ الروحي الذي يتجه نحو الخلاص كغاية لتحقيق الحرية. هنا تتجلى فينومينولوجيا الروح الأوغسطينية التي تخلص إليها ظاهرية هيجل في فلسفتها عن التاريخ.

         فكرة الفينومينولوجيا هي بنت اللاهوت قبل أن تصبح منهجا في الفلسفة. وإذا عدنا إلى النصوص الأوغسطينة سنجد هذه الفكرة حاضرة بقوة إلى جانب مفهوم القصدية، وهي المسائل التي توضحها الدراسة العميقة لأوغسطينوس حول مفهومي الذاكرة  والزمان، والتمييز الإبستيمولوجي الذي أقامه بين الإنسان الخارجي the outer man والإنسان الباطني the inner man. «وهذا التمييز هو ما يشكل أساس الفينومينولوجيا عند كل من هوسرل وتلميذه هيدجر اللذان قرئا بتمعن فلسفة أوغسطين».[10] ونجد هسرل نفسه يذكر الفيلسوف الأفريقي في «المحاضرات التي ألقاها عام 1905 حول فينومينولوجيا الزمان»،[11] حيث استحضر فيها المقالة الحادي عشرة من الاعترافات التي أفردها أوغسطينوس لموضوع الزمان. نجد نفس التصور الذي ذهب به أوغسطينوس من أن الزمان «مقولة عقلية»[12] تتصل بالوعي الباطني الذي يتم من خلاله استحضار الأزمنة الثلاثة في صيغة الزمن الحاضر. «بالنسبة لهسرل أيضا فإن الزمان خاصية الوعي الباطني»،[13] وظاهرة فيه. إن ربط هسرل الزمان بالوعي يتماشى مع التصور الأوغسطيني الذي وضع الزمان كظاهرة في العقل، والذي على أساسه ارتكزت فينومينولوجيا هسرل.

         في كتاب لمارتن هيدجر بعنوان " فينومينولوجيا الحياة الدينية" وبالتحديد في القسم الثالث من هذا المؤلف المعنوان ب: «"أوغسطين والأفلاطونية المحدثة"»[14] يستحضر هيدجر تأويلات بعض الفلاسفة للفكر الأوغسطيني، من بينهم وليام ديلتاي، وأدولف فون هرناك، وإرنست ترولتش. كل هؤولاء اعتبروا الفلسفة الأوغسطينية ذلك التراث المتضمن لجميع القضايا التي تطرحها الفلسفة. لهذا حاول هيدجر بدوره أن ينسج فلسفته في كتابه العمدة " الوجود والزمان" بناء على ميتافيزيقا أوغسطينوس حول مفهوم الزمان. «كما إن فينومينولوجيا هيدجر هي ذات جذور أوغسطينية»[15] تتوسطها فينومينولوجيا هوسرل التي قلنا عنها إن هذا الأخير قد استمد مضمونها هو أيضا من اعترافات أوغسطينوس. وإذا كان الأمر على هذه الحالة، فإن الفكر الفينومينولوجي الذي بات منهجا قائما بذاته، والتي أصبحت جميع العلوم تستند إليه، بما في ذلك فلسفة العقل، واللغة، والتأويل، والمنطق، يكون فيها أوغسطينوس حاضرا بقوة، الأمر الذي يجعل منه فيلسوفا راهنيا في عصرنا، ويحمل لقب «أب العلم الحديث»[16] نظرا لتأثيره العميق على علماء حلقة فيينا Cercle de Vienne في القرن العشرين.

         حاول لودفيج فيتجنشتاين كأحد الأعضاء البارزين في حلقة فيينا أن يؤسس فلسفته التحليلية بناء على فلسفة أوغسطينوس، ويتجلى ذلك بوضوح في كتابه " بحوث فلسفية"، «حيث نجده يقتبس نصا من الاعتراف الأول لأوغسطينوس ليبني عليه مضمون مؤلفه».[17] وإذا عدنا إلى كتاب "الثالوث" لأوغسطينوس- الكتاب الثامن- نجده يتحدث عن اللغة، «ويفصل بين اللغة الطبيعة واللغة الصورية»[18]، حيث إن الأولى صورة للأشياء المادية، بينما الثانية صورة للمعقولات، ويضع هذه الأخيرة بوصفها مرآة للثالوث، نظرا لطبيعة العقل الخالدة التي تشبه الطبيعة الإلهية. وقد حاول فيتجنشتاين استثمار مفهوم الصورة L’image عند أوغسطينوس في مجال قضايا المنطق الصوري والفلسفة التحليلية التي تعد الميدان الخصب للتداوليات التحررية في الفلسفة الأنكلوساكسونية.

         ماذا عسانا أن نقول بعد كل ما ذكرناها من آثار أوغسطينوس على الشخصيات الكبرى التي شكلت عمود الفكر الغربي، وإن لم نذكر بالتفصيل تأثيره على شخصيات فلسفية أخرى إلى جانب هؤولاء، حاولت أن تستنير بالفكر الأوغسطيني وتبني نظرياتها في العلم والفلسفة؛ كفكرة التعالي عند كانط Kant، ونظرية الوجود عند باسكال Pascal ومفهوم الحياة الروحية عند بيير أدو Pierre Hadot... وآخرون. أما في اللاهوت فقد أثر على الفيلسوف المسيحي بوؤثيوس، والقديس أنسليم، والقديس بونافونتور، والقديس طوما الأكويني... وغيرهم. ويرجع هذا الاهتمام الكبير بفلسفة أوغسطينوس إلى كون هذا الأخير استطاع أن يقدم تركيبة سحرية عجيبة تجمع بين اللاهوت والفلسفة والعلم، حاول من خلالها أن يقارب جميع المباحث الكبرى التي طرحتها الفلسفة منذ القدم؛ منها كمبحث الوجود، ومبحث المعرفة، ثم مبحث القيم. ثم إن «أوغسطينوس هو الأسقف الأول في أفريقيا الذي قدم المسيحية أكثر من سواه في الغرب الأوروبي. من ثم، فمن كل البلدان الغربية المسيحية تكون أفريقيا هي أول من عرف وعرَف المسيحية».[19] وهكذا يكون الفكر الأفريقي كجزء من التاريخ الإنساني قد ساهم في بناء التراث الفكري العالمي للحضارات الإنسانية.

         وقد كان أوغسطينوس ولا يزال إلى اليوم ذلك الفيلسوف النموذج الذي يمثل تاريخ الفلسفة الأفريقية. وقد حاول أن ينقل هذا التراث إلى العالم الغربي أثناء مكوثه في روما، وميلانو ليترك بصمات فكره في القارة الأوربية، بل إنه سعى إلى إقامة جسر معرفي تاريخي إنساني بين الضفتين، حتى لقبه البعض بالأب الروحي في الغرب، ولا يعني ذلك سوى حلول الروح الأفريقية على التاريخ الأوروبي. يقول رينيه بواتييه René Pottier: «يمكننا رؤية أوغسطين كأبونا الروحي... وإذا كانت بيننا وبينه علاقة اتصال، فهذا يعني أيضا أن هناك علاقة بيننا وبين الأمازيغ».[20]

         كخلاصة لما سبق يمكن القول إن أفريقيا هي أرض حضارة وفكر امتد جذور تأثيرها إلى التاريخ الفكري الغربي. من ثم تكون الروح الأفريقية أو الحكمة الأفريقية كجزء من التاريخ الإنساني العالمي قد ساهمت في بناء التراث الكوني. ويمثل أوغسطينوس نموذج هذه الروح الأفريقية إلى جانب مدرسة الإسكندرية التي أسس على إثرها مذهبه الفلسفي، بالتالي فهو لم يخرج عن تقليد الشمال الأفريقي في فلسفته. ثم إن أوغسطينوس أستطاع أن يبني نظرية حول الكوجيطو " أمن حتى تعقل"، وهي نظرية شكلت أرضية صلبة لتدارس القضايا الكبرى التي تثيرها الفلسفة، كالوجودية، ونظرية اللغة، والهيرمينوطيقا...إلخ عند الفلاسفة الغربيين في العصرين الحديث والمعاصر. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على قوة الحضور الذي تتميز به الذات الأفريقية ، أو بالأحرى الكوجيطو الأفريقي كما يسميه الدكتور محمد وقيدي.[21]

         أفريقيا إذن حضارة تاريخية قائمة بذاتها، بغض النظر عن التاريخ السياسي والديني، فهي ذات تاريخ فكري يتمثل في الحكمة الأفريقية التي ساهمت في تنوير الروح الغربية. من هنا يمكن أن نقول إن الفيلسوف الأفريقي اليوم لا يفتقد وجود تراث فلسفي هو التراث الإنساني بصفة عامة، وتراثه الفلسفي الأفريقي بصفة خاصة.

البيبلوغرافيا

  • المصادر والمراجع بالعربية
  • أوغسطينوس، الاعترافات، لبنان: بيروت، المكتبة الشرقية، ترجمة الخوري يوحنا الحلو(1991)، الطبعة الرابعة، 2007.
    بن ميس عبد السلام ، مظاهر الفكر العقلاني في الثقافة الأمازيغية القديمة " دراسة في تاريخ العلوم الصورية وتطبيقاتها"، منتدى سور الأزبكية، الطبعة الثانية 2010.
  • هيجل فريدريش، محاضرات في فلسفة التاريخ ( العقل في التاريخ)، بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع،، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، الجزء الأول، الطبعة الثالثة 2007.
  • المواقع الالكترونية
  • حوار جريدة الصحراء المغربية مع الفيلسوف المغربي محمد وقيدي ، حول موضوع " الكوجيطو الأفريقي"، يوم الخميس 06 أبريل 2006.
  • Briel Patricia, «Saint Augustin L’Africain, une vieille histoire d’amitié avec la Suisse», le Temps, publié samedi 31 Mars 2001
  • المصادر والمراجع باللغتين الإنجليزية والفرنسية
  • Abbé Vincent Serralda André Huard ( sans Date), Le Berbère Lumière de L’occident, Paris : Nouvelles Edition Latines
  • Bermon Emannuel (2001), le Cogito dans la pensée de Saint Augustin, Paris : librairie philosophique J. Vrin
  • De Paulo J.N. Craing (2006), the influence of Augustinian on Heidegger : the Emergence of an Augustinian phenomenology, U.S.A: Edwin Mellen Press,
  • Gilson Etienne (1930), Etude sur le rôle de la pensée Médiévale dans la formation de système Cartésien, Paris : J. Vrin
  • Heidegger Martin, the phenomenology of Religious life, U.S.A : Indiana Universtiy press, Translated by Matthias Fritsch and Jennifer Anna Gosetti-Ferencei, 2004.
  • Husserl Edmund, sur la phénoménologie de la conscience intime du temps, Jérôme Million (2003), Traduit de L’allemand par Jean François Pesturean
  • International conference of the Schiller institute, November 1-3, 1985 in Rome, «Saint Augustine Father of European and African Civilization», New Benjamin Franklin Hause.N. Yourk.
  • Jeffery olsen Biebighauser, M. A (2012), Augustine and the phenomenological Tradition, U. S. A: thesis submitted to the University of Nottingham for the degree of Doctor of philosophy.
  • Nash H. Ronald (2003), the light of the mind : St.Augustine’s theory of knowledge, U.S.A: Academic Renewal press
  • Pottier René (2006), Saint Augustin le Berbère, Paris : Edition Lenore

 

* . ولد في 13 نوفمبر عام 358 م بطاغاست ( Thagaste) التي تسمى اليوم سوق أهراس بالجزائر، وتوفي في 28 غشت عام 430 م  بمدينة عنابة ( Hippone). هو فيلسوف وريطوريقي ولاهوتي أفريقي من أصول أمازيغية، كانت أمه مونيكا تعتنق الديانة المسيحية، بينما كان أبوه باترسيوس وثنيا طيلة حياته إلى أن دخل المسيحية وهو على فراش الموت. تلقى أوغسطينوس تعليمه الابتدائي بمسقط رأسه، والثانوي بمدورا، ثم تلقى دراسته الجامعية بعاصمة العلم والاقتصاد لشمال أفريقيا القديم، قرطاج. درَس أوغسطينوس بهذه الأخيرة قبل أن ينتقل إلى روما عام 383 م، وبعدها إلى ميلانو حيث حصل على لقب ومنصب أستاذ في الريطوريقا. وبعد أريع سنوات من التدريس، رجع فيلسوفنا إلى وطنه الأصل حيث اعتنق أولا الديانة المانوية قبل أن يصبح مسيحيا . ( راجع: بن ميس عبد السلام ، مظاهر الفكر العقلاني في الثقافة الأمازيغية القديمة " دراسة في تاريخ العلوم الصورية وتطبيقاتها"، منتدى سور الأزبكية، الطبعة الثانية 2010، ص ص 189-190)

 [1] . هيجل فريدريش، محاضرات في فلسفة التاريخ ( العقل في التاريخ)، بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ص ص 182-183. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، 2007.

[2] . المصدر نفسه، ص 181.

[3]. Nash H. Ronald (2003), the light of the mind : St.Augustine’s theory of knowledge, U.S.A: Academic Renewal press, p 24.

[4]. Bermon Emannuel (2001), le Cogito dans la pensée de Saint Augustin, Paris : librairie philosophique J. Vrin, p 5.

¨  حولنا إطلاق هذا النسب بناء على اعتراف أوغسطينوس نفسه:" أنا الأفريقي" وهي العبارة التي صرحها بها في كتابه " ضد رسائل البلاجية". أنظر:

-Briel Patricia, «Saint Augustin L’Africain, une vieille histoire d’amitié avec la Suisse», le Temps, publié samedi 31 Mars 2001.

[5]. Gilson Etienne (1930), Etude sur le rôle de la pensée Médiévale dans la formation de système Cartésien, Paris : J. Vrin, p 191.  

[6]. Thonnard F.J (1955), «Saint Augustin et les grands courants de la philosophie contemporaine», Revue d’etudes Augustiniennes et Patristiques, vol.1, issue.1 p 196.

[7] .  أوغسطينوس، الاعترافات، لبنان: بيروت، المكتبة الشرقية، ص 41. ترجمة الخوري يوحنا الحلو(1991)، الطبعة الرابعة.

[8]. Thonnard F.J. op. cit., p 200.

[9]. Ibid,p 200.

[10]. See Jeffery olsen Biebighauser, M. A (2012), Augustine and the phenomenological Tradition, U. S. A: thesis submitted to the University of Nottingham for the degree of Doctor of philosophy, p 17.

[11]. Husserl Edmund, sur la phénoménologie de la conscience intime du temps, Jérôme Million (2003), p 23. Traduit de L’allemand par Jean François Pesturean. 

[12]. Je cite le texte : «c’est en toi, mon Esprit que je mesure le temps». Saint Augustin, le confessions, Paris : GF Flammarion, p 277. Traduction par Joseph Trabucco, 1964.

[13]. Husserl Edmund, op. cit., p 23.

[14]. Heidegger Martin, the phenomenology of Religious life, U.S.A : Indiana Universtiy press, p 115. Translated by Matthias Fritsch and Jennifer Anna Gosetti-Ferencei, 2004.

[15]. De Paulo J.N. Craing (2006), the influence of Augustinian on Heidegger : the Emergence of an Augudtinian phenomenology, U.S.A: Edwin Mellen Press, p 7.

[16]. International conference of the Schiller institute, November 1-3, 1985 in Rome, «Saint Augustine Father of European and African Civilization», p 141. New Benjamin Franklin Hause.N. Yourk.

[17]. Wittgenstein Ludwig, Philosophical Investigations, British Library Cataloguing in publication Data, p 2. 3rd. ed, Translated by G.E.M. Amscombe, 1958.

[18]. Saint Augustine, on the Trinity, books 8-15,  U.S.A: Cambridge University Press, p 23. Translated by Gareth B. Matthews, 2002.

[19]. Abbé Vincent Serralda André Huard ( sans Date), Le Berbère Lumière de L’occident, Paris : Nouvelles Edition Latines, p 34.

[20]. Pottier René (2006), Saint Augustin le Berbère, Paris : Edition Lenore, p 27.

. حوار جريدة الصحراء المغربية مع الفيلسوف المغربي محمد وقيدي ، حول موضوع " الكوجيطو الأفريقي"، يوم الخميس 06 أبريل 2006.[21]

عمر حجام، أستاذ باحث في سلك الدكتوراه بشعبة الفلسفة
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس بالرباط