لوك فيري: اقتراحات لتطوير الدرس الفلسفي بالثانوي - عبد الله كسابي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم:
لا يمكن الحديث عن تدريس الفلسفة في المغرب دون استحضار هذا التدريس في النظام التعليمي الفرنسي، إذ أنهما يشتركان في عدد لا يستهان به من المنطلقات والمبادئ؛ بل إن الكثير من الإشكالات والصعوبات، بالنظر لتماثل السياق، تكون فيهما على قدر كبير من التشابه. انطلاقا من هذا التصور، فإن ما يتوخاه هذا الموضوع هو الوقوف على مجموعة من الاقتراحات التي يقدمها المفكر والفيلسوف ووزير التربية الوطنية الفرنسي السابق لوك فيري في سياق أزمة التدريس الفلسفي بفرنسا، وفي سياق النقاش حول المداخل الكفيلة بتجاوز هذه الأزمة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن درس الفلسفة في فرنسا، كما هو الحال في المغرب، يقوم على برنامج مفاهيم Notions، يتم من خلالها مساءلة مجموعة من التيمات التي يعتبرها الحس المشترك بديهيات وحقائق جاهزة. ويمكن إرجاع أصول هذا الدرس إلى النموذج الذي بلوره البيداغوجي فيكتور كوزان V.Cousin في القرن التاسع عشر[1]، وهو النموذج الذي جرى تقعيده بتوجيهات 1925؛ التي تحدد روح تدريس الفلسفة بالثانوي، وذلك من خلال ما تعلنه من غايات لهذا التدريس من قبيل "تكوين مواطنين قادرين على ممارسة الحكم الواضح والمستقل الذي يتطلع إليه المجتمع الديموقراطي"، وتعليم التلاميذ ممارسة "حرية الرأي".

 ولعل هذه التوجيهات ما تزال تجد صداها في برامج الفلسفة الفرنسية في الثانوي إلى اليوم. في هذا الإطار يعتبر لوك فيري تدريس الفلسفة في الأقسام النهائية من الثانوي استثناء فرنسيا سعيدا، يمنح لشريحة واسعة من التلاميذ فرصة الولوج إلى تقنيات الحجاج واكتشاف الفلسفة كنشاط فكري تأملي متجذر في ثقافة ممتدة لأكثر من خمسة وعشرين قرنا[2]. غير أن هذا التدريس ما فتئ يصطدم بصعوبات تجعله على قدر من الالتباس والغموض، صعوبات تتجلى بصورة واضحة لحظة امتحان البكالوريا: ففي هذا الامتحان، الذي يحاكم سنة كاملة من الاكتشاف والتعلم، يلاحظ أن النقط المحصل عليها من قبل المترشحين في الفلسفة عموما، هي أقل من تلك المحصل عليها في المواد الدراسية الأخرى بأربع نقط،[3] إذ لا يتجاوز معدل هذه النقط 7/20، كما أن 71% منها دون 10/20 و32% تتراوح بين 0 و6. مع العلم أن هذه النسب والأرقام تتفاوت بحسب الشعب والتخصصات. إن هذه المعطيات الإحصائية مؤشر مادي على أزمة لا يمكن، من منظور لوك فيري، الاستمرار في التعاطي معها بنوع من اللامبالاة. فما هي الاقتراحات والحلول الممكنة للإشكالات التي يواجهها الدرس الفلسفي بالثانوي؟ وما هي مستويات التدخل التي يمكن من خلالها إعادة هذا الدرس إلى سكته الصحيحة؟ وكيف يمكن استلهام هذه الاقتراحات والحلول لتطوير الدرس الفلسفي بالتعليم الثانوي التأهيلي؟

في ضوء هذه الأسئلة، سنقف على الاقتراحات التي يقدمها لوك فيري لتجاوز أزمة التدريس الفلسفي، على أن المتوخى بالأساس هو مناقشة جدوى هذه الاقتراحات وأهميتها بالنسبة للدرس الفلسفي بالثانوية التأهيلية المغربية.

  • الاقتراح الأول: غاية التدريس الفلسفي

يؤكد لوك فيري أن "التفكير الذاتي" «penser par soi- même» يشكل قطعا، الغاية الأولى والأساسية لكل تعليم فلسفي جدير بهذا الاسم. وهذه الصورة المثالية لتفكير أو تأمل مستقل ترتبط ارتباطا وثيقا بميلاد ونشأة الفلسفة ذاتها، وكذا بلحظاتها الأكثر قوة، مثل لحظة التوليد السقراطي أو اللحظة الأنوارية. إن التفكير الذاتي المستقل ليس شيئا آخر غير"جرأة كل إنسان أن يعرف ويستخدم فهمه الخاص، إذا استعرنا تعبير كانط، وذلك بغاية أن يتمكن من الخروج من "حالة القصور" حيث تبقيه دائما حجج السلطة"[4]. وهكذا، فالتفكير الذاتي يعني، من جهة، إقدام المرء وجرأته على استخدام فهمه الخاص؛ ومن جهة أخرى، الخروج من حالة القصور والتحرر من مختلف أشكال الوصاية. ومما يؤكد أهمية هذه الجرأة وأهمية هذا التحرر أن جانبا مهما من تاريخ الفلسفة، بل من تاريخ العلم أيضا، إنما شيد ضدا على مختلف أشكال السلط الظلامية Les pouvoirs de l’obscurantisme. وإذا كان مطلب "التفكير الذاتي المستقل" متجذرا في تاريخ الفلسفة بهذا الشكل، فمن غير الممكن الحديث عن تدريس فلسفي، بكل ما لهذه الكلمة الأخيرة من معنى، إلا إذا كان هذا المطلب غايته الأولى والأخيرة.

غير أنه إذا كانت الجذور التاريخية لهذه الصورة المثالية المتعلقة بـ "التفكير الذاتي" على قدر من الجلاء والوضوح، فمن الضروري، من منظور لوك فيري، وتلافيا للتبسيط الساذج، إدراك مداها وحدودها في مجتمعات ما فتئت تشجع، بلا كلل ولا ملل، الميول النرجسية للأفراد L’individualisme narcissique. فهذه الصورة المثالية للتفكير الذاتي "تحدد، على الأرجح، أفقا، أكثر مما تحيل على معطى مباشر للوعي. فالأمر لا يتعلق بتمرين تلقائي للفكر، بل بمهمة Tâche يتعين إنجازها، وهي مهمة على درجة عليا من الصعوبة والتعقيد"[5]. إن التفكير الذاتي إذن، ليس معناه استخدام العقل بكيفية عفوية، بل هو جهد فكري يتجاوز اجترار الذات لآرائها وانفعالاتها، إلى الانفتاح على الغيرية، بما يتيحه هذا الانفتاح من قدرة على التعامل النقدي مع هذه الآراء والانفعالات، ومن إمكانات لإعادة بنائها وتطويرها. ويؤكد فيري بأن استحضار تاريخ الفلسفة كفيل بأن يجعلنا ندرك بأن مطلب "التفكير الذاتي المستقل" لا يتعارض في شيء مع الانفتاح على المذاهب والنظريات الفلسفية بوصفها المغاير والمختلف، لأن الإنسان "يبدأ (والأصح أنه يظل كذلك على الدوام) من خلال التفكير مع وانطلاقا من الغير"5 . وبالرغم من هذه الضرورة القصوى للانفتاح على الغير، إلا أن الإيديولوجيا العفوية والأصالوية L’idéologie spontanéiste et authenticitaire التي تسم التعبير عن الذات في الوقت الراهن، بحسب لوك فيري، لا تنظر إلى "التفكير الذاتي" على هذا النحو: فهذه الإيديولوجيا مقتنعة تمام الاقتناع بأن التفكير المستقل هو أولا امتلاك حق غير قابل للتقادم ومقدس للتعبير الخالص عن الذات وعن آرائها وأذواقها وإحساساتها: "كم مرة، في الفصول الدراسية وخارجها، وباسم ضرورة ملحة (التفكير الذاتي) لكنها غير مفهومة بشكل جيد، سمعنا أقوالا تجمع بين الذاتية المفرطة والتفاهة العامية: «أنا شخصيا، في نظري... أعتقد أنه لا ينبغي أن نوقف التقدم! إذا كان هذا هو "التفكير الذاتي"، فلا شأن لي به، ولا يمكن أن أدافع عنه»[6]. ولعل هذا الطابع العفوي العامي "للتفكير الذاتي" هو ما حدا بلوك فيري إلى التعبير عن رفضه وعدم اقتناعه بالخاصية الفلسفية للمقاهي الفلسفية، بل ويلح على أن هذه الأخيرة لا ينبغي أن تصبح شيئا فشيئا بمثابة النموذج بالنسبة للتدريس الفلسفي الفرنسي. كما أنه من غير الممكن تبرير "التفكير الذاتي التلقائي" بالقول بأنه ليس هناك ما يمكن معرفته في الفلسفة، لأننا لا نتعلم "الفلسفة" بل نتعلم "التفلسف فقط". وما هذا التبرير إلا فهم بسيط واختزالي لقول كانط: "لا يمكن تعلم الفلسفة على الإطلاق (اللهم إلا تاريخيا) وفيما يخص العقل، فإن أقصى ما يمكن أن نتعلمه هو أن نتفلسف"[7]. يلح لوك فيري على أن فيلسوف العقل الخاص "كانت لديه القناعة الراسخة، كما تشهد على ذلك تأملاته في أكثر من موضع من مؤلفاته، بأنه كان بصدد إكمال نسق للحقيقة، وبأنه كان ينبغي من تلك اللحظة، تدريس هذا النسق كما هو!"[8]. وهكذا، فإذا كان من الممكن الإعراض عن تدريس الفلسفة منظورا إليها كميتافيزيقا مدرسية تقليدية، فإنه من غير الممكن الإعراض عن تدريسها كنقد؛ فهذا ما كان سيرفضه كانط بشكل قطعي. ويقف لوك فيري على مطلبين متضادين يخصان صورة التدريس الفلسفي في الثانوي:

  • مطلب القوى المحافظة التي تريد أن "تنحت في الصخر" مفاهيم notions أزلية منظورا إليها كمثل أفلاطونية.
  • ومطلب الأجيال الشابة الذي ما فتئ يزداد إلحاحا والمتعلق بمشروعية التعبير الذاتي التلقائي.

إن هذين المطلبين معا يشكلان معا تهديدا للتدريس الفلسفي: فالمطلب الأول يتجه نحو التحديد الصارم لمرجعيات فكرية وتاريخية معينة، وبالتالي لا يمكن أن يفضي إلا إلى القضاء على الدرس الفلسفي بإفراغه من محتواه النقدي وتغييب أفقه وغايته القصوى المتمثلة في "التفكير الذاتي المستقل" للتلميذ. أما المطلب الثاني فينحو في اتجاه العفوية والتلقائية، وبالتالي إلى تحويل درس الفلسفة إلى مجال لتجلي الذاتية المفرطة الفاقدة لكل عمق ولكل أساس. يقول لوك فيري: "والحقيقة، وكل المدرسين يعرفون هذا، هي أنه لكي يكون هناك تفكير ذاتي مستقل يجب أن يجتمع شرطان:

  • الفكر النقدي الذي تتجاوز من خلاله الذاتية التفاهة العامية؛
  • المعرفة أو على الأقل الإحساس الداخلي بالغيرية، وبالغيرية الجذرية أحيانا؛ أي امتلاك قدر من المعرفة بهذه "الرؤى الكبرى للعالم" التي رسخت في التاريخ. لا يتعلق الأمر هنا بالانكباب على تاريخ الفلسفة (كما لو كان المستهدف في حد ذاته) بطبيعة الحال، لكن على الأقل، إدراك وجود هذه الرؤى، وبأنها على قدر من الغنى والقوة، بالشكل الذي يجعل من الضروري، يوما أو آخر، أن يفهم الإنسان ذاته من خلالها. بدون هذين الشرطين، سنكون بعيدين جدا عن التفكير الذاتي المستقل".[9]
  • الاقتراح الثاني: تاريخ الفلسفة

يشير لوك فيري إلى الإلحاح القوي للبعض على بناء برامج للفلسفة "على الطريقة الإيطالية"، وهذا يعني إخراس الفكر النقدي، والاكتفاء بـ"التهيئ للامتحان" من خلال الأسئلة ذات الاختيارات المتعددة QCM؛ وهكذا، فإن اعتماد برامج للفلسفة، في فرنسا، مماثلة للبرامج الإيطالية لن يكون إلا تراجيديا، لأن ذلك معناه تحويل دروس الفلسفة إلى دروس في التاريخ، وبالتالي القضاء على هذا التدريس كما أسسه ومارسه التقليد الفرنسي الجميل على الدوام. يرفض لوك فيري إذن، تصورا معينا للدرس الفلسفي، وبالتالي تصورا معينا لحضور تاريخ الفلسفة في هذا الدرس. وهذا التصور هو الذي تم اعتماده في إيطاليا (ومعمول به في بلدان أخرى) في فترة الثمانينات، عندما حسمت لجنة خبراء تحت إشراف Luciana Vigone الجدال الذي كان قائما بين اعتماد النهج التاريخي أو النهج الإشكالي في تدريس الفلسفة، وقررت الإبقاء على البعد التاريخي بما يتخلله من عرض للنظريات والمذاهب الفلسفية بصورة تاريخية كرونولوجية تتجاهل البعد الإشكالي والتفاعلي لهذه النظريات والمذاهب الفلسفية. من غير المجدي من وجهة نظر لوك فيري إذن، استحضار المعارف الفلسفية كمعارف تاريخية ميتة لا حياة فيها، بل إن هذا الأمر فيه تدمير للدرس الفلسفي، مادام أن ذلك معناه الإعراض عن جوهر هذا الدرس والمتمثل في التفكير الذاتي للتلاميذ.

وبالرغم من هذا الرفض القاطع لتوظيف النظريات الفلسفية، في التدريس الفلسفي، كقطع جامدة من التاريخ؛ إلا أن لوك فيري يلاحظ أن "تاريخ المذاهب الفلسفية أصبح، ومنذ هيجل على الأقل، إشكاليا ونسقيا، أو إذا شئنا «تاريخو- كوني» أو «تاريخاني» وليس فقط تاريخي بالمعنى الوضعي أو العلمي للفظ".[10] وهذا معناه أن التجارب الفلسفية لمفكرين كبار من عيار نيتشه وهيدغر تجعلنا نشعر بأنه لا يمكن أن نتفلسف دون الإحالة على التاريخ، ونقتنع أيضا بأنه توجد في قلب هذا المسار الزمني لتاريخ الفلسفة، قطائع وانفصالات يجب أن تكون بما هي كذلك، موضوعا للتفكير الفلسفي.

وهذه الأهمية القصوى لما هو تاريخي أصبحت أكثر فأكثر وضوحا وجلاء في النصف الثاني من القرن العشرين، إلى حد أننا نلاحظ مع فوكو ودولوز بأن "القناعة بإمكانية وجود فكر يتعالى على التاريخ أو فوق تاريخي، فقدت قيمتها (تم تجاوزها)"10. ورغم عداء لوك فيري للنزعة التاريخية historicisme بجميع تلويناتها وأشكالها، إلا أنه يؤكد بأنه خلف هذا التضخم لما هو تاريخي، هناك بلا شك منطق داخلي للمذاهب والنظريات الفلسفية التي يتشكل منها تاريخ الفلسفة، وهذا المنطق الداخلي لا يتعارض أبدا مع مطلب "التفكير الذاتي"؛ بل على العكس، هذا الجانب التاريخي "هو الذي يجعل التفكير الذاتي ممكننا، مادام أن هذا التفكير في حاجة إلى قاعدة صلبة حتى يتمكن من الانطلاق"[11].

وهكذا، فإن الاستناد على تاريخ الفلسفة شرط أولي وضروري لممارسة التفكير الذاتي المستقل، بل إن هذا الجانب التاريخي عموما يتجذر في أكثر مطالب الإنسان الديموقراطي عمقا ومشروعية، لأن تملك ماض أو تاريخ نحن على جهل به، هو الذي من شأنه أن يجعلنا ندرك ما نحن عليه؛ بحيث أن هذا الماضي يدخل بصورة ما في نسيج الحاضر، وفي نسيج هوية الإنسان في هذا الحاضر. وهذا ما يجعل "أخذ التاريخ بعين الاعتبار بمثابة الوسيلة التي من شأنها أن تعيدنا إلى ذواتنا"11. غير أن تاريخ الفلسفة ذاته ينبغي الكف عن النظر إليه، بحسب لوك فيري، كما لو كان مجرد "إعادة تجميع" بسيطة ومناسباتية لمذاهب وأفكار لا رابط بينها، بقدر ما ينبغي إدراكه كمادة متأملة وناقدة لذاتها؛ وهذه المادة التاريخية الناقدة لذاتها هي التي تتيح "التفكير الذاتي" وتسمح بأن نتشكل، في الحاضر، كأفراد مستقلين. وإذا لم تكن هذه الاستقلالية المتوخاة معطى تلقائيا، وكانت بالأحرى معركة مستمرة ضد قوى التبعية؛ فمن المهم والمستعجل التملك والتحكم، بقدر الإمكان، في جزء من هذا الماضي الذي يحدد الإنسان في الحاضر أو يموضعه على أقل تقدير.

ويمكن الذهاب مع لوك فيري إلى ما يتجاوز الوظيفة المفارقة والبالغة الأهمية، في الآن ذاته، لما هو تاريخي في تأسيس الذات؛ إلى التأكيد على أن "أخذ مؤلفات الماضي (المؤلفات الفلسفية) بعين الاعتبار، يجعلنا منفتحين على البعد المتعلق بالغير"[12]: ذلك أن الكثير من الأفكار التي كانت مألوفة ومبتذلة منذ بضعة قرون، تبدو اليوم صادمة أخلاقيا، أو على الأقل، تبدو بغرابة يتعذر تجاوزها. مثال هذا الشغل ذاته: فقد نظر إليه كنشاط خاص بالعبيد في عالم أرستقراطي، حيث التأمل (النظرية théoria) يبدو كغاية سامية؛ لكنه أصبح شرطا لتحقيق الذات منذ أن تم تحديد ما يميز الإنسان في الحرية، وبالتالي في قدرته على تحويل العالم، بالشكل الذي يجعل الإنسان الذي لا يشتغل ليس إنسانا فقيرا فيما يملكه فقط (homme pauvre)، بل أيضا إنسانا فقيرا في ذاته (pauvre homme).

وفي هذا الإطار، فالتقسيم الثلاثي قديم/ حديث/ معاصر الذي يتم التعاطي به مع تاريخ الفلسفة، نجده حاضرا في كل مجالات التفكير، ويبدو أنه على قدر من الأهمية والضرورة من أجل فهم عميق لبعض الأسئلة الأخلاقية والنظرية. يقول لوك فيري متسائلا: "وماذا يمكن أن نقول عن الرق الطبيعي عند الإغريق، وعن الانتقال من عالمهم المغلق إلى عالمنا اللامتناهي، أو من العقد الاجتماعي إلى ظهور فكرة المساواة الشكلية في غياب حد أدنى من النظرة التاريخية؟ ولماذا نمتنع عن أخذ هذه النظرة بعين الاعتبار، ليس كمعطى تاريخي محض، بل كواقعة إشكالية في حد ذاتها؟"[13] .

يبدو إذن، أن الانفتاح على تاريخ الفلسفة ليس فقط ما يتيح انبثاق الذات المتفلسفة في الحاضر، بل أيضا ما يسمح بالالتقاء بالمغاير والمختلف. لكن، "ألا نخاطر ببرمجة بعض عناصر التأمل التاريخية على محدوديتها بجانب المفاهيم notions، بإعادة إحياء "أسئلة الدروس" والتخلي عن متطلبات التفكير النقدي والشخصي؟"13. وبالرغم من هذا التخوف، إلا أنه لا شيء يمنع من برمجة "مرجعيات تاريخية" بطريقة مغايرة للتيمات أو المفاهيم notions، كما أنه لا شيء يمنع من أن تتمفصل مع هذه الأخيرة، وليس فقط أن تضاف إليها. ويعتبر لوك فيري أن ما يدعو إليه لا يخرج عما ورد في الكتيب الذي أصدرته SNES حول "مضامين وبرامج التعليم"، حيث جاء في هذا الكتيب بصدد مادة الفلسفة أن"الغاية الأساسية للتدريس الفلسفي في الثانوي تستبعد اختزاله إلى تاريخ بسيط للأفكار، أو إلى تعلم معجم لا يشجع إلا على تذكر الألفاظ والمذاهب عوض تنمية الفكر النقدي للتلاميذ. وهذا لا يعني أنه ليس هناك شيء ليتم تعلمه أو استرجاعه، فهناك مقاطع إلزامية (بعض التحديدات المفاهيمية، بعض الإشكالات والرؤى الفلسفية)، لكنها مضمرة، وينبغي على البرامج أن تحددها صراحة لأنها توظف، في الغالب الأعم، كمعايير خفية للبكالوريا"[14].

ويعتبر لوك فيري أنه لا يمكن أن يقال شيء أفضل مما قيل في هذا النص: فمن المفيد أن تتضمن برامج الفلسفة عددا قليلا جدا من الإشكاليات ذات المرجعيات القوية في تاريخ الفلسفة، فتيمات من قبيل "الرق" و"العقد الاجتماعي" و"فكرة التقدم" و"نقد العقل"، أو أخرى مماثلة يمكن أن تحل محلها، هي تيمات يبدو أنها تحيل من تلقاء ذاتها على اختيارات مفاهيمية ومذهبية معينة؛ وهذه الاختيارات ترتبط بدورها بلحظات معينة من تاريخ الفلسفة أكثر من ارتباطها بأخرى. على أن ما يضفي على هذه الاختيارات قيمتها وأهميتها هو اندراجها ضمن إشكاليات لدى التلاميذ اهتمام حقيقي بها.

  • الاقتراح الثالث: الكتابة الفلسفية

يرى لوك فيري أنه، بغض النظر عن المسألة المقلقة المتعلقة بالتدني الحقيقي أو المفترض لمستوى التلاميذ فيما يخص التحكم في اللغة والقدرة على بناء التعبير عن الأفكار كتابيا؛ فإن الكتابة الفلسفية تقتضي، في الوقت الراهن، ثلاثة مطالب أساسية:

  • الحاجة الماسة لتعلم "الخطابة" بكيفية معينة:

تتميز الغالبية العظمى من موضوعات البكالوريا بكونها لا تقبل المعالجة بكيفية مغايرة للشكل الخطابي، وهو ما لا يتحكم فيه عدد كبير من التلاميذ. فبمجرد ما تثير موضوعات البكالوريا هذه، مفاهيم مثل "الوعي" و"الزمن" و"الحرية"...إلخ، فمن الواضح أننا لا يمكن أن نتحدث بخصوصها عن "إجابة" مماثلة لتلك التي يمكن أن تكون لموضوع في الرياضيات. وهكذا فموضوعات الفلسفة لا تطرح لتحصل على إجابة من هذا النوع. والمصحح لا ينتظر من التلاميذ حل الإشكال بصفة نهائية، بل فقط أن يفكروا فيه ويتأملوه ويتمكنوا من طرح الأسئلة الجيدة عوض ادعاء القدرة على الإجابة عنها، ومن اختيار أفضل الحجج للدفاع عن مواقفهم الخاصة؛ وعند الاقتضاء، تتويج ذلك باستخراج شيء ما كمثال أو فكرة، من خلال الحوار بين هذه المواقف الخاصة ومواقف الفلاسفة.

غير أن هذا الجهد، أو هذا الحد الأدنى يفترض، من منظور لوك فيري، درجة عليا من المهارة الخطابية، وتحكما عاليا في التعبير الكتابي. يقول بهذا الصدد: "يكاد أن يكون ممكنا أن نضع كمسلمة أنه بقدر ما يكون سؤال ما غير قابل للحل بذاته وعبر ذاته، بقدر ما تقتضي معالجته إظهار معارف عملية/ مهارات savoir-faire صورية متطورة، وهو ما يتفاوت بحسب "الرأسمال الرمزي" لكل واحد"[15]. وهكذا، فمواضيع من قبيل ماذا يكون المكان والزمان، وما إذا كانا واقعيين أو مثاليين، متناهيين أم لا متناهيين، وما إذا كانا نسبيين أو مطلقين، وماذا يكون الوعي أو الذاكرة، وما إذا من الممكن واقعيا التفكير خارج كل أشكال اللغة....إلخ،  فمثل هذه المواضيع لا تفترض جوابا يقينيا، بقدر ما تفترض إلماما بقواعد خطابة الكتابة الفلسفية. ويؤكد فيري أن كل الذين اجتازوا التبريز وكان لهم حظ تعلم هذه القواعد يعرفون كيفية تحرير موضوع يحللون فيه هذه الأسئلة وأخرى مماثلة لها بشكل ملائم ومرض، وعند الاقتضاء يمكنهم القيام بذلك بمهارة حجاجية واضحة، وبمرجعيات مفاهيمية وتاريخية صلبة.

أما على مستوى التعليم الثانوي، فإن الأمر يتعلق بغموض وسوء فهم ضحاياه التلاميذ والتدريس الفلسفي ذاته؛ هذا الغموض الذي يكمن في البون الشاسع الموجود بين وهم "التفكير الذاتي" المهيمن على التلاميذ من جهة، وما هو مطلوب منهم فعليا من جهة أخرى. يقول لوك فيري: "لا يبدو أنه من الممكن راهنا، الاستمرار، من جانب أول، في ترك التلاميذ يعتقدون – وهذا ما تريده الإيديولوجيا السائدة- بأنه تتم مطالبتهم بمعالجة أسئلة معينة من خلال "تفكيرهم الذاتي"؛ في حين أن ما يطلب منهم، في الواقع، هو تمرين صوري، يظل معناه الكامل وقواعده الأساس خارج متناول الأغلبية الساحقة منهم".[16] إن الحل، بحسب هذا المنظور، لا يكمن في إلغاء الكتابة الفلسفية La dissertation بدعوى تدني المستوى اللغوي للتلاميذ، بل يكمن في تدريس معنى هذه الكتابة ومبادئها وقواعدها الخطابية الأساس بكيفية نسقية وواضحة. وبدون جعل هذه القواعد ذات معنى وواضحة بالنسبة للتلاميذ، فإن الأمر لا يعدو أن يكون نصب فخ حقيقي لهؤلاء، وهذا الفخ سرعان ما ينقلب ضد المدرسين أنفسهم، وضد اختبار الفلسفة، الذي يتم اعتباره، في أحسن الأحوال، مفتقرا للدقة؛ وبالتالي غير جدير بأن يراهن عليه في البكالوريا. فـ"التلاميذ أمام موضوعات تبدو بالنسبة إليهم تعجيزية وغير قابلة للحل، وكونهم غير متحكمين غالبا في التعبير الكتابي، ومقتنعين بأنه يتوجب عليهم استخدام "تفكيرهم الذاتي"، يجدون أنفسهم في مأزق صعب للغاية".[17] ولعل أكبر ما يعبر عن هذا المأزق الذي يكابده التلاميذ في علاقتهم بمادة الفلسفة، هو النقط المحصل عليها في البكالوريا، التي لم يعد من الممكن اعتبارها مفاجئة بالنظر إلى الحيثيات التي سبقت الإشارة إليها. "هنا أيضا لا يتعلق الأمر بالاستسلام وإنزال المستوى بإلغاء الكتابة الفلسفية La dissertation، بل ينبغي مواجهة المشكل، ويجب للقضاء على جذوره، تشغيل التلاميذ تشغيلا فعليا لتحيين القواعد اللامكتوبة للثقافة المكتوبة".17

  • التفكير الذاتي بلا شك، لكن بكيفية "موسعة":

يتعلق الأمر هنا أيضا بـ"الانحراف الإيديولوجي للمطلب المشروع في حد ذاته، الخاص بدعوة التلاميذ لممارسة التفكير الذاتي. نحن لا نتعلم الفلسفة بل التفلسف فقط؟ فليكن. لكن كانط لا يهدف أبدا، كما أسلفنا الذكر، لتبرير أو إضفاء القداسة على كل أشكال التفكير الشخصي"17. وهكذا، فهذا الانحراف الإيديولوجي لمقولة التفكير الذاتي يفضي بها إلى نزعة ذاتوية مخالفة لما كان يرمي إليه كانط نفسه، هذا الأخير الذي نجده يؤسس في "نقد ملكة الحكم" لتعارض جوهري بين "الفكر المنغلق" و"الفكر الموسع"، بين الأنانية الثقافية وضدها، وهذا الضد ليس شيئا آخر غير قدرة الإنسان على وضع ذاته موضع كل آخر، وهو ما يتطلب جهدا حقيقيا لإزالة التمركز عن الذات وأخذ مسافة عن آرائها وأذواقها. "وهذه المسافة، تحديدا، هي التي يكمن فيها، بحسب كانط، الأثر الأسمى للحرية، باعتبارها قدرة الإنسان على الإفلات من خصوصيات وضعيته، وهو ما يصعب القيام به من قبل التلاميذ في الوقت الراهن"[18]. من هنا فإن أول ما يتوخاه تمرين الكتابة الفلسفية هو خلق هذه المسافة، وذلك عبر إقامة حوار بواسطة الحجاج بين المواقف المختلفة والمتفاوضة.

وهذا ما يؤكده لوك فيري بالقول:" إن قدرة التلميذ على عرض مواقف شخص آخر والإظهار الأمين لحجج ليست حججه الخاصة وللأطروحات التي سيحاول، في نهاية المطاف، تفنيدها؛ كل ذلك على قدر كبير من الأهمية ولحظة أساسية ومفيدة في كل كتابة فلسفية. لكن الوصول إلى هذه الأشياء، يقتضي الولوج إلى هذا "الفكر الموسع"، لهذا اللاتمركز، الذي تتصدى له التأويلات الإيديولوجية "للتفكير الذاتي" ونزعة الأصالة والتعبير التلقائي، بدون توقف"18. تكتسي المحاجة، وفق هذا المنظور إذن، أهمية قصوى، إذ بفضلها يتحقق هذا اللاتمركز الذي يعتبره لوك فيري مطلبا أساسيا للقفز فوق الذاتية العامية المبتذلة. وهذه الأهمية القصوى هي التي حدت به إلى الدعوة إلى تدريس الحجاج منذ المدرسة الابتدائية من خلال ألعاب للأدوار على سبيل المثال. وعلى الرغم من الرفض القاطع الذي يجابه به دعاة التعبير التلقائي اقتراحا كهذا، إلا أنه يتيح الولوج إلى قلب النشاط الحجاجي، دون أن يعني ذلك التخلي عن التفكير الذاتي؛ بل إن هذا الأخير يجد تعبيره الحقيقي في هذا النشاط الحجاجي، لأن تقديم حجج ذات قيمة بالنسبة للآخرين لا يعني شيئا آخر غير الانخراط في التفكير والبحث عن هذه الحجج في الذات ومن خلال نشاطها الفكري نفسه. وهذا ما يجعل التأمل الذاتي مرتبطا أشد ما يكون الارتباط ببعد الغيرية، والواسطة المؤسسة لهذا الارتباط هو الحجاج. ف "على النقيض من التعابير الشهيرة "أنا، في رأيي، شخصيا..."، يتوجه الحجاج، بالتعريف والماهية، إلى الغير، مع الاحتفاظ بمطلب التفكير والقناعة الذاتية في أعلى مستوياتها. إن الفكرة القائلة بأنه لا ينبغي إضلال التلاميذ بجعلهم يأخذون وجهة نظر الآخرين بعين الاعتبار، سواء تعلق الأمر بفلاسفة الماضي أو بمواقف هذا المفكر المعاصر أو ذاك؛ فكرة أن "التأمل الذاتي" كاف بذاته في ممارسة الفلسفة، كما في الكتابة الفلسفية، هذه الفكرة هي بكل بساطة فكرة خاطئة: لأنه أيضا بقدر ما تكون هنالك مسافة عن الذات، بقدر ما يتعلق الأمر بتمرين للفكر، منظورا إليه بوصفه "موسعا"، وليس منغلقا. وهذا التوسيع، بطبيعة الحال، يتضمن أخذ الماضي بعين الاعتبار."[19]

  • عطاء الأموات:

يقف لوك فيري عند السمات المميزة للعالم على مشارف الألفية الثالثة. فهذا العالم الخاضع في مجموعة لقانون السوق الذي تهيمن عليه الليبرالية المعولمة، ما فتئ يشهد صعود فردانية تتحكم فيها "ثقافة مباشرية" مخيفة، أو على الأصح نزعة مضادة للثقافة تلغي، باسم مبدأ اللذة وباسم الذاتية، كل أنشطة التفكير المعقدة الواحد تلو الآخر. وما يرمز لسقوط الإنسانية هذا في نزعة تجارية على الطريقة الأمريكية هو هذه الهيمنة التي تزداد كل يوم للمرئي على المكتوب، للصورة على النص، للاستطلاع على التفكير، للمختصر والمباشر على الاستدلالات المفصلة والمعقدة. وفي إطار عالم يدمر كل الوسائط الثقافية وفي كل المجالات، قد لا تكون أفكار الفلاسفة بمنأى عن عملية إعادة تدوير خاضعة لمنطق "التفكير العفوي التلقائي"، وهنا تحديدا "نصادف احدى المخاطر الكبرى التي تحيق بتدريس، بسبب رفضه اعتبار تاريخ الفلسفة إشكاليا في حد ذاته، لا يحيل عليه إلا "كمناسبة لحث التلاميذ على التأمل الذاتي".  والتهديد القائم في ظل  هذه الشروط، يكمن في أن الفلاسفة الكبار ستتم "إعادة تشكيل" فلسفاتهم بدون توقف، في ضوء الإدعاء المهيمن المتعلق ب"التأمل الذاتي"، وفي أن الأعمال الفلسفية الكبرى سيتم استحضارها بمقاطع صغيرة في نوع من المحاكمة الدائمة، حيث تتم المخاطرة بمساءلتهم كما لو كانوا "قريبين" منتمين إلى الحاضر، بينما هم في الأغلب الاعم أكثر بعدا، بكل الدلالات التي يمكن أن تكون لهذا اللفظ"[20]

وهكذا فإخضاع التدريس الفلسفي لمنطق العصر القائم على السرعة والصورة، من شأنه أن يؤدي ليس إلى إفقاره فحسب، بل إلى فصله تدريجيا عن الأعمال الفلسفية الكبرى، التي لا وجود لهذا التدريس بدونها. وفي هذا الإطار، يؤكد لوك فيري أنه من المفيد الانطلاق من تجربة التلاميذ، ومن اهتماماتهم وانشغالاتهم الخاصة، إلا أن هناك روعة بل فضيلة لما هو بعيد ومختلف، لهذا السفر في عالم الأفكار حيث يكون المرء محظوظا بالالتقاء بفضاءات مخالفة لفضاءاتنا، واكتشاف عوالم أخرى، عوالم الأعمال الفلسفية الكبرى.

  • الاقتراح الرابع: الفلسفة والعلم

يتساءل لوك فيري حول ما إذا كان من الواجب إقامة حوار وثيق وحميمي بين الفلسفة والعلم، وجعل برامج الفلسفة تنفتح على العلوم التاريخية، كما العلوم التجريبية خاصة الفيزياء والبيولوجيا؛ ليؤكد أن حوار الفلسفة والعلم وانفتاحهما على بعضهما في حكم الضرورة، لأن الفلسفة المعاصرة عموما والتدريس الفلسفي بصفة خاصة لا يمكن ان يظل بمنأى عن نتائج العلوم وتطبيقاتها. فمن غير الممكن، بحسب لوك فيري"التفكير في إشكالات الفلسفة الأخلاقية دون استحضار لحظات معينة من التاريخ، فكانط وهيجل ما كانا ليستطيعا كتابة "مشروع للسلم الدائم" أو "مبادئ فلسفة الحق" بدون معرفة جيدة للثورة الفرنسية أو لكيفية اشتغال المدينة الاغريقية"[21]. وهذا الأمر يسري على مختلف القضايا الفلسفية وعلى مختلف التخصصات العلمية: فمن غير الممكن في الوقت الراهن التفكير في الحرية، على سبيل المثال، دون أن نأخذ بعين الاعتبار بيولوجيا الانفعالات ودون التوفر على حد أدنى من المعرفة بالجينوم البشري. كما أنه لا يمكن إعادة طرح بعض الإشكالات الكلاسيكية (الفطري والمكتسب، الوراثة والوسط، الطبيعة والثقافة...) دون استحضار ما حققه علم الوراثة. وطرح بعض أسئلة الأصل (الزمان، المكان، العالم...) لا يتأتي دون الإحالة على الفيزياء الفلكية في نظريتها المتعلقة بالانفجار العظيم Big Bang. بل إن المدرس في كل هذه الأمثلة وغيرها، يلزمه امتلاك القدرة على الإجابة، بكيفية كافية وشافية، على الأسئلة المشروعة التي يمكن للتلاميذ أن يطرحوها بصددها. وفي ذات السياق، يعتبر لوك فيري أن هناك أمران لابد من واحد منهما:

  • فإما أن الفلسفة لا يمكنها أن تفكر راهنا في نتائج العلوم المعاصرة، إلا بوصفها إبستيمولوجيا، بحيث ينبغي أن تفكر في هذه النتائج؛ أو بصورة أكثر تحديدا، يجب أن تنطلق من الوقائع لإعادة إحياء بعض الإشكالات التقليدية للميتافيزيقا. وفي هذه الحالة، الدعوة إلى الانفتاح على العلوم لا يطرح أي مشكلة.
  • وإما أن نعتبر، على الطريقة الكانطية مثلا، بأن الأسئلة العلمية والفلسفية مختلفة جذريا، مادام أن العلم "يعرف" connait، في حين أن الفلسفة "تتأمل" بوصفها نقدا أو "فكرا"، وليس بوصفها ميتافيزيقا. غير أنه وحتى في هذه الحالة، المدرس ليس معفيا من أن يوضح، خاصة وأن الأمر يتعلق بتلاميذ، بأي معنى تختلف هذه عن تلك... وهو ما ليس، في حالات كثيرة، لا بديهيا ولا سهلا.

ومما يدل على هذا الحوار القائم بين الفلسفة والعلم أن"كانط نفسه بالنسبة لعصره وباعتباره فيلسوفا، كان رجل علم متميز. وأقل ما يمكننا قوله عنه هنا هو أن كتابه « Premiers principes métaphysique d’une science de la nature » شاهد على معرفة جيدة بفزياء نيوتن"[22] . وإذا كان كانط فيلسوفا يجسد هذه العلاقة الاتصالية التي ينبغي أن تكون بين الفلسفة والعلم، فإن معرفة النظريات العلمية المعاصرة كالنسبية وميكانيكيا الكم، ليست لا بديهية ولا سهلة؛ بشكل يدفع إلى التساؤل عن عدد الفلاسفة الذين يمكنهم ادعاء معرفة هذه النظريات: "لنكن صرحاء، الانفتاح على العلوم، وبشكل خاص "العلوم الحقة" مخيف للفلاسفة، وليس نقطة قوة بالنسبة إليهم".[23]

ولتهيء الشروط لهذا الحوار المأمول بين الفلسفة والعلم، أو بين التدريس الفلسفي وبين المواد العلمية في الثانوي، يقترح لوك فيري تنظيم تكوين في هذا الاتجاه، أو انخراط مدرسي الفلسفة في تبادل للمعرفة مع زملائهم في المواد الأخرى؛ فهؤلاء في الغالب، على استعداد لمبادلة دروس في البيولوجيا أو الفيزياء بدروس في الفلسفة. ويمكن أن يضاف إلى هذا أن "التدخلات المشتركة في فصول أساتذة الفلسفة والعلوم من شأنه أن يتيح الإجابة، وبكيفية مثيرة للاهتمام، على كثير من الأسئلة التي يطرحها التلاميذ".[24]

  • الاقتراح الخامس: تباين واختلاف المدرسين والمذاهب، أو الحاجة إلى قاعدة مشتركة

يندرج الحديث عن هيئة التدريس ضمن الطابوهات المرتبطة بتدريس الفلسفة، فـ "الاستحضار البسيط للتنافر وعدم الانسجام الذي يسم، ليس التلاميذ فقط، ولكن المدرسين أيضا، بل ومادة الفلسفة ذاتها في حالتها الراهنة؛ يعني، ومنذ البدء إحداث هوة brèche في توافق بالغ الهشاشة أصلا".[25]ويعتقد لوك فيري أن عدم انسجام هيئة التدريس هذا ليس مما يمكن تجاهل خطورته على التدريس الفلسفي نفسه، وإنكار المشكل لن يؤدي إلا إلى تعميقه؛ وادعاء بعض المدرسين تأسيس توافق بصدد تقويم أعمال التلاميذ في البكالوريا، وبالتالي لن تكون هناك "فوارق في التنقيط في الفلسفة، كما هو الحال في الرياضيات أو في الفرنسية"، هو ادعاء لا يخرج عن نطاق هذا الإنكار الذي لايستند على أساس. ورغم الخطورة التي تكتسيها عملية تنقيط اختبارات البكالوريا، إلا أن لوك فيري يعتبرها ظاهرة فرعية ونتيجة لواقع إشكالي حقيقي "يتعلق بتشظي مادتنا (مادة الفلسفة) في تعددية من الجماعات، التي تعمق الطابع العام لكثير من مفاهيم البرنامج، هذه الأخيرة التي لا تلزم بأي شيء ولا توجه أحدا."[26]وهكذا، نقف على تمفصل مشكلين يعمق كل منهما الآخر: يتمثل الأول في تباين المدرسين أنفسهم واختلاف رؤاهم ووجهات نظرهم، ويكمن الثاني في العمومية المميزة للمفاهيم التي يقترحها البرنامج:  فمفاهيم مثل "المجتمع" و"العدالة" و"الانفعالات" وغيرها، كلها تيمات متميزة للتفكير والدراسة، إلا أنها، في واقع الأمر، كلمات فضفاضة تفتح المجال لكل التأملات والاستطرادات، دون أن تلزم صراحة بأي منها. من هنا، يعتبر لوك فيري أنه من المشروع أن نتساءل عما يمكن أن يكون مشتركا، في درس حول "المجتمع"، بين مدرس مطلع على أطروحات السوسيوبيولوجيا، وهيدغيري معاد للتقنية، وتوماوي ناقد لحقوق الإنسان، وتلميذ لراولز، وتروتسكوي ممتعض من العولمة... إن المشترك بين هؤلاء لا يمكن أن يكون إلا محدودا، مادام أنه "في هذه الكلمات الفضفاضة Mots valises (المفاهيم) وفيما يحيط بها، كل شيء ممكن، وهذا يمكن أن يكون في ذاته إيجابيا؛ لكن في ظل التشظي الحالي لوجهات النظر الفلسفية الممكنة، يمكن أن يؤدي ببساطة إلى الاختفاء التام والنهائي لأي«قاعدة مشتركة» « socle commun » في تعليمنا الفلسفي"33.

إن هذا التشظي هو ما يفسر الخاصية الإشكالية لتصحيح امتحانات البكالويا، لأن أقل ما يمكن أن ينتج عنه هو "فقدان المدرسين لمرجعية مشتركة بإمكانها أن تضمن وحدة معايير تقويم التمارين الفلسفية: ويكفي أن نشارك في هذه الندوات حيث يكون المدرسون مدعوين إلى خلق الوحدة والانسجام في أساليب تنقيطهم أو إلى اختيار موضوعات البكالوريا، أو نلاحظ القلق الذي يعانيه المترشحون للبكالوريا من منظور أن إنجازاتهم لن يتم تقييمها من قبل أساتذتهم؛ لندرك خطورة هذه الظاهرة"[27].

وهنا يتساءل لوك فيري عن الكيفية التي يمكن من خلالها معالجة هذه الوضعية، دون المساس لا بالتعديدية ولا بحرية المدرسين، مؤكدا أن "إحالات مرجعية معينة إلى تاريخ المذاهب الفلسفية، وإلى مفاهيم أو إشكاليات لا يعني بالضرورة هزيمة الفكر، لأن هذه الإحالات المرجعية ستكون عمليا النقطة المشتركة الوحيدة والمؤكدة"[28].

واضح من هذا القول أن الإحالة على مرجعيات معينة من تاريخ الفلسفة هو الكفيل بخلق أرضية أو قاعدة مشتركة تقلص التباين بين المدرسين وتخلق حدا أدنى من الوحدة والانسجام بينهم، وتخفف من عمومية المفاهيم notions وطابعها المجرد، وتؤسس لمعايير مشتركة للتقويم. ولا تعني الإحالة على مرجعيات تاريخية هنا، التخلي عن التأمل والتفكير، بل إن هذه المرجعيات هي ما يجعل هذا التأمل ممكنا، كما سلف الذكر؛ لأن طبيعة التفكير الفلسفي نفسه تقتضي ذلك. "فسواء تعلق الأمر براولز أو ريكور أو هابرماس أو تايلور أو غادمير أو دافيدسون أو رورتي، أو أي فيلسوف آخر؛ فإنهم كانوا ومايزالون أيضا مضطرين للإحالة، في نقاشاتهم، للمذاهب الكبرى في تاريخ الفلسفة (...) ومن البداهة أنهم لم يتوقفوا في حدود هذا التاريخ، لكنه شكل الأساس المشترك، الذي انطلاقا منه تحديدا، حاولوا التفكير بذواتهم في العالم والعلوم والفنون والعدالة أو المجتمع"35. وهكذا، لم يعد هناك ما يبرر استبعاد إحالات مرجعية مشتركة من "الفلسفة العامة"، مادام أن هذه الإحالات يمكن معالجتها في صورة إشكاليات، كما يمكن أن تتمفصل وتتقاطع مع المفاهيم نفسها؛ خاصة وأن "الأمر يتعلق بمستقبل تلاميذنا"[29].

  • استنتاجات:

انطلاقا من راهنية الاقتراحات التي يقدمها لوك فيري لإصلاح التدريس الفلسفي، وبالنظر إلى تماثل السياق الذي وردت فيه هذه الاقتراحات مع وضعية درس الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي؛ يمكن الخروج بالاستنتاجات الآتية:

  • على مستوى الغاية: بالرغم من أن منهاج الفلسفة (2007) يؤكد أن تعليم الفلسفة يعمل على تنمية الوعي النقدي والتفكير الحر والمستقل[30]، إلا أن المجال المتاح فعليا أمام التلاميذ لممارسة "التفكير الذاتي المستقل" ما يزال متواضعا، ولا يتعدى إبداء الرأي الشخصي في نهاية كتاباتهم الفلسفية. لذلك من المهم إتاحة الفرصة بصورة أكبر (الدرس، التقويم..) للتفكير الذاتي، دون أن يعني ذلك السقوط في الذاتية المفرطة.
  • على مستوى تاريخ الفلسفة: إذا كان برنامج الفلسفة بالتعليم الثانوي قائما على المفاهيم، فإن تاريخ الفلسفة حاضر كذلك من خلال المواقف الفلسفية التي يتم استحضارها لمقاربة الإشكالات المرتبطة بهذه المفاهيم. غير أن هذا الحضور لا ينبغي ان يقف في حدود نصوص منتزعة من سياقاتها، لأن هذه النصوص لا يمكن أن تفهم بحق دون أن يتم وضعها في إطار المذاهب والفلسفات التي تنتمي إليها.
  • على مستوى الكتابة الفلسفية: الكتابة الفلسفية في الثانوي التأهيلي تصطدم بضعف القدرات اللغوية للتلاميذ، واختلاف المدرسين في تصور الكتابة الفلسفية المنتظرة من التلميذ، وعدم إيلائها العناية الكافية، والطابع العام للأطر المرجعية المرتبطة بالمادة؛ وغياب ذاتية التلميذ القادرة على إقامة حوار حقيقي بين التصورات الفلسفية. لذلك يمكن الأخذ بمقترح لوك فيري الذي يقضي بتعليم التلاميذ قواعد الكتابة الفلسفية بصورة أكثر وضوحا، مع إفساح المجال أكثر أمام التلاميذ لممارسة التفلسف الذاتي، شريطة أن يمر ذلك من باب التحكم في المعرفة الفلسفية كمنطلق لهذا التفلسف.
  • على مستوى العلاقة بين الفلسفة والعلم: يمكن الاحتفاظ بمقترحات لوك فيري الثلاثة:
    • تمكين مدرسي الفلسفة من تكوين علمي ملائم لحاجاتهم ؛
    • تبادل الدروس مع أساتذة المواد العلمية؛
    • تنظيم تدخلات مشتركة فلسفية وعلمية في الفصول الدراسية.
  • على مستوى غياب الانسجام بين المدرسين: تجاوز هذا التنافر رهين بتقوية أرضية مشتركة، من خلال:
    • ضمان وحدة التكوين الجامعي لمدرسي الفلسفة.
    • تطوير الأطر المرجعية وتدقيقها بصورة أكبر، سواء على مستوى القدرات أو المضامين؛ ضمانا لتكافؤ الفرص بين التلاميذ.

المراجع:

  • Philosopher à dix-huit , Faut-il réformer l’enseignement de la philosophie ? , Luc Ferry et Alain Renault,éditions Grasset 1999.
  • مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، عز الدين الخطابي، منشورات عالم التربية، ط1 2002.
  • التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، وزارة التربية الوطنية، مديرية المناهج، نونبر 2007.

 

الهوامش:

 

[1]  مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، عز الدين الخطابي، منشورات عالم التربية، ط1 2002، ص94.

[2] Philosopher à dix-huit , Faut-il réformer l’enseignement de la philosophie ? , Luc Ferry et Alain Renault,éditions Grasset 1999, p9.

[3]  لوك فيري، مرجع سابق ص 8-9.

[4]  لوك فيري، مرجع سابق ص34.

[5]  لوك فيري، مرجع سابق ص 35.

[6]  لوك فيري، مرجع سابق ص 35.

[7]  نقد العقل المحض، إيمانويل كانط، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت لبنان (بدون تاريخ) ص: 399.

[8]  لوك فيري، مرجع سابق ص 35.

[9]  لوك فيري، مرجع سابق ص 36.

[10]  لوك فيري، مرجع سابق ص 37.

[11]  لوك فيري، مرجع سابق ص 38.

[12]  لوك فيري، مرجع سابق ص38.

[13]  لوك فيري، مرجع سابق ص 39.

[14]  لوك فيري، مرجع سابق ص 40.

[15]  لوك فيري، مرجع سابق ص 41.

[16]  لوك فيري، مرجع سابق ص 42.

[17]  لوك فيري، مرجع سابق ص 43.

[18]  لوك فيري، مرجع سابق ص 44.

[19]  لوك فيري، مرجع سابق، ص:45.

[20]  لوك فيري، مرجع سابق ص 47.

[21]  لوك فيري، مرجع سابق ص 48.

[22]  لوك فيري، مرجع سابق ص 49.

[23]  لوك فيري، مرجع سابق ص 49.

[24]  لوك فيري، مرجع سابق ص 49.

[25]  لوك فيري، مرجع سابق ص 50.

[26]  لوك فيري، مرجع سابق ص 50.

[27]  « Comment enseigner la philosophie » , Pascal Engelأورده لوك فيري ص51.

[28]  لوك فيري، مرجع سابق ص 52.

[29]  لوك فيري، مرجع سابق ص 53.

[30]  التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، وزارة التربية الوطنية، مديرية المناهج، نونبر 2007، ص:5.