مدخل تمهيدي وإشكالي :
تشكل التربية على قيم المواطنة مكونا أساسيا ضمن البنية المهيكلة للمناهج التعليمية، حيث تراهن عليه جل المنظومات التربوية العالمية في أفق العمل على بناء مواطن الغد المشبع بمنظومة القيم المواطناتية المحلية والكونية (المواطنة النشيطة/المواطنة الفاعلة). إنجاح هذا المكون التربوي يتطلب استحضار الفاعلية العملية لتقاطع وتكامل النشاط التربوي لعمل المؤسسات المجتمعية (المدرسة – الأسرة – الإعلام – مؤسسات المجتمع المدني...) بهدف المساهمة الإيجابية في ترسيخ ونشر المنظومة القيمية المواطناتية بين الناشئة المتعلمة من جهة ، كما يتطلب من جهة أخرى استشراف دور الهيئة التدريسية في إدراك وضبط المقومات الأساس المشكلة لمنهاج مادة التربية على قيم المواطنة/المرجعية الديداكتيكية للمادة، بهدف تمكين هذه الناشئة من اكتساب منظومة القيم المواطناتية، والتشبع بها، وممارستها، والمساهمة في التأثيث لترسيخ ثقافة قيم المواطنة بين أجيال المتعلمات والمتعلمين في أفق تكوين مواطنين واعون بأدوارهم المجتمعية، عبر إكسابهم منظومة الكفايات والقيم الإنسانية السامية التي ترقى بهم إلى مستوى المواطنين الفاعلين والأناس النبلاء...
ما المقومات العامة المؤطرة لمنهاج مادة التربية على قيم المواطنة؟ وإلى أي حد يمكن للتربية على قيم المواطنة من بناء مواطن الغد المشبع بقيم المواطنة والمنفتح على القيم الكونية في أفق المساهمة في بناء «المواطنة النشيطة/الفعالة» والمدرسة المواطنة وتنمية المجتمع الحداثي الديمقراطي؟
المحور الأول : في الحديث عن منظومة التربية على القيم من في بعديها البيداغوجي والديداكتيكي
في ظل الأزمة العميقة التي ترخي بظلالها على منظومة القيم المجتمعية، تطرح الحاجة الملحة لدى الجميع من أجل العمل على النهضة على التربية على منظومة القيم في صيغتها الشمولية. وبحكم تعدد الأبعاد المرتبطة بالمنظومة القيمية : بين القيم المرتبطة بالحق، والقيم المتعلقة بالخير، والقيم المؤثثة للجمال، وتداخلها المعقد مع مكونات الشخصية الإنسانية في بعدها المواقفي والسلوكي... هذا السياق التربوي الصعب والمركب جعل واضعي البرامج والمناهج يربطون بدقة بين منظومة القيم ومدخل المقاربة بالكفايات : "شكلت تنمية وتطوير الكفايات (النوعية/العرضانية)، بجانب التربية على منظومة القيم والتربية على الاختيار أهم الاختيارات الأساسية لمراجعة البرامج والمنهاج التربوية. ومعلوم أن الجانب القيمي في بناء البرامج والمناهج يطرح مجموعة من الصعوبات، سواء في مراحل تخطيط هذه البرامج والمناهج، أو في مراحل تنفيذها وتقويمها، أو تصميم وبناء أدوات لقياس التحصيل... وترجع أسباب هذه الصعوبات إلى طبيعة مفهوم القيمة، الذي تتقاسمه ثلاثة أبعاد وهي : الحق والخير والجمال. وبذلك يبدو أن هذه المفاهيم المجردة يصعب تحديدها بشكل إجرائي، فهو كل ما ينشده الفرد في حياته ويعتبره مثله الأعلى... ومعلوم أنه انطلاقا من القيم تتكون المواقف والسلوكات. وبالتالي فإن القيم والمواقف المنبثقة عن هذه السلوكات غير منفصلة عن باقي مكونات الشخصية كالمكون المعرفي والمكون المهاري... إن ما ينتج عن الفرد من سلوكات يتم نتيجة تفاعل آليات مختلف مجالات شخصيته، حيث يمتزج في هذه السلوكات ما هو معرفي بما هو مهاري وقيمي في الآن ذاته. وهذا ما جعل واضعي الاختيارات والتوجهات التربوية العامة لمراجعة البرامج في الاصلاح الجديد يربطون بين الكفايات والقيم...» . إن هذا السياق التربوي المركب جعل المنطلق الأساس لبناء الدرس ضمن التربية على قيم المواطنة، يتطلب منظورا شموليا يتأسس على الترابط النسقي والمتناغم بين المدخل البيداغوجي (مدخل الكفايات/التربية على الاختيار)، وأساسيات المدخل الديداكتيكي المؤثث لمنهاج مادة التربية على قيم المواطنة (المقومات الابستمولوجية/المرجعية الديداكتيكية المهيكلة لمادة التربية على قيم المواطنة)، والتي تتدرج مكوناتها من المجالات المعرفية والمفاهيمية، إلى دورة التعلم في التربية على قيم المواطنة، ثم الدعامات الوثائقية، والطرق والمقاربات المعتمدة، وأخيرا الانتاجات/التقويم...
المحور الثاني : الأصول النظرية المؤطرة لمنهاج مادة التربية على قيم المواطنة
في سياق استجلاء الأسس العامة المؤثثة لمنهاج مادة التربية على قيم المواطنة بالتعليم الثانوي الإعدادي، على مستوى منظومة القيم المواطناتية المستهدفة اكتسابها من طرف الناشئة المتعلمة والتشبع بها وممارستها، يواجه الباحث التربوي كثافة العدة الوثائقية المؤثثة/المهيكلة لبنية منهاج المادة، وبترابطاتها وغناها وتعقدها، وبتشعب وعمق مضامين ودلالات محتوى هذه المنظومة القيمية – المواطناتية. إن القراءة السياقية لمحتوى هذه العدة الوثائقية هدفه الأساس هو توضيح مكانة وأهمية وتراتبية مدخل التربية على منظومة القيم المواطناتية وموقعها ضمن منهاج مادة التربية على قيم المواطنة، ودورها/مدى مساهمتها في إكساب وترسيخ الناشئة المتعلمة جملة من المبادئ والأسس التي تنبني عليها المنظومة القيمية المواطناتية التي بإمكانها ان تساهم في إنضاج تصورات المتعلمين حول الغايات البعيدة "للمنظومة القيمية"، واكسابهم الاتجاهات الإيجابية والمواقف الرشيدة تجاه الذات والمجتمع بأبعادها ومقاييسها المختلفة محليا ووطنيا وعالميا...
عموما يمكننا التمييز بين مستويين ضمن هذه العدة الوثائقية، من خلال طبيعة صياغتها لمنظومة القيم المواطناتية المؤثثة لمنهاج مادة التربية على قيم المواطنة بالتعليم الثانوي الإعدادي :
*العدة الوثائقية المستحضرة لمنظومة القيم بصفة عامة : تتصدر مقدمة هذه الحزمة الوثائقية ذات المضمون القيمي العام، بدء” بمضامين الوثيقة الدستورية لسنة 2011، التي خصصت الباب الثاني للحديث عن الحريات والحقوق الأساسية (الفصول 19 – 40)، ثم مبادئ الميثاق الوطني للتربية والتكوين، مرورا بمحتوى الوثيقة الإطار، وصولا إلى مضمون الرؤية الاستراتيجية للإصلاح (2015-2030) وبقية المنشورات القيمية الصادرة عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين. فإذا كان الميثاق الوطني للتربية والتكوين كإطار عام قد حدد الخطوط العريضة لمدخل التربية على القيم وسياق المراهنة عليه، ضمن القسم الأول المتعلق بالمبادئ الأساسية (المواد 1 – 19)، من خلال المرتكزات الثابتة والغايات الكبرى للمنظومة التربوية ومختلف حقوق الأفراد والجماعات : «يهتدي نظام التربية والتكوين للمملكة المغربية بمبادئ العقيدة الإسلامية وقيمها الرامية لتكون المواطن المتصف بالاستقامة والصلاح، المتسم بالاعتدال والتسامح، الشغوف بطلب العلم والمعرفة، في أرحب آفاقهما، والمتوقد للاطلاع والإبداع، والمطبوع بروح المبادرة الإيجابية والإنتاج النافع» . فإن الوثيقة الإطار حاولت إيجاد صيغة للترابط بين منظومة القيم ومدخل المقاربة بالكفايات، من خلال التنصيص على منظومة القيم كما تم الإعلان عنها كمرتكزات ثابتة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والمتمثلة فـي : قيـم العقيدة الإسلامية السمحة، وقيـم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية، والقيـم المواطناتيـة، وقيـم حقوق الإنسان ومبادئها الكونيـة. أما في مجال مدخل المقاربة بالكفايات، فتم التمييز بين الأصناف الثلاثة من الكفايات، وهي الكفايات المرتبطة بتنمية الذات، والكفايات القابلة للاستثمار في التحول الاجتماعي، وأخيرا الكفايات القابلة للتصريف في الميدان الاقتصادي والاجتماعي... . في حين خصصت وثيقة الرؤية الاستراتيجية للإصلاح (2015-2030) ضمن الرافعة الثامنة عشرة تحت عنوان : "ترسيخ مجتمع المواطنة والديمقراطية والمساواة"، للتركيز على التربية على منظومة القيم وحقوق الانسان والمواطنة وفضائل السلوك المدني، باعتبارها خيارا استراتيجيا لوظيفة المدرسة المغربية «اعتبارا لكون التربية والتعليم، والتنشئة الاجتماعية والتربية على القيم، والإسهام في الترقي الاجتماعي، تعد من الوظائف الأساسية للمدرسة، ومقوما أساسيا من مقومات المناهج والبرامج التربوية والتكوينية، وأحد مؤشرات تقييم جودتها. على الرغم من الاهتمام الذي أولته المدرسة المغربية للتربية على القيم وحقوق الأنسان والمواطنة، استمرت السلوكات اللامدنية في الانتشار، كالغش والعنف والإضرار بالبيئة وبالملك العام داخل المؤسسات التعليمية والتكوينية وفي محيطها..."، من خلال عملية الأجرأة على المستويات الأربعة التالية : المنهاج التربوي، البنيات التربوية والآليات المؤسساتية، ثم الفاعلين التربويين، وأخيرا علاقة المؤسسة بالمحيط .
وفي الأخير لابد من الإشارة السريعة لمحتوى تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين، والمعنون "بالتربية على القيم بمنظومة التربية والتكوين"، والذي سجل العديد من الصعوبات التي ما تزال قائمة على مستوى ترسيخ منظومة القيم ومنها : "التفاوت بين أهداف البرنامج الدراسي وواقع الممارسة التربوية في المدرسة، حيث تم اختزالها في مجرد مادة دراسية (مادة التربية على قيم المواطنة)، وناذرا ما يتم توظيفها في العلاقات الصفية والحياة المدرسية وسلوكات المتعلمين عموما... محدودية نجاعة الطرق التربوية المتعمدة، بسبب هيمنة ممارسات تعليمية غير ملائمة لأهداف التربية على القيم ولتنمية القدرات العملية ولتنمية الذات، ولا سيما التركيز على شحن المتعلمين بالمعلومات، واتسام العلاقة البيداغوجية أحيانا بالسلطوية والعنف..." .
*العدة الوثائقية المستحضرة لمنظومة القيم في التربية على المواطنة بالتعليم الثانوي الإعدادي : احتراما للخصوصية القيمية/المواطناتية المميزة لمنهاج التربية على قيم المواطنة بالتعليم الثانوي الإعدادي، عملت مجموع العدة الوثائقية المؤثثة لمنهاج المادة على الإحاطة بمكونات هذه القيم المواطناتية، وفي مقدمتها منطوق الكتاب الأبيض في جزئه الثالث، وصولا إلى وثيقة التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس الاجتماعيات بسلك التعليم الثانوي الإعدادي، وانتهاء بالكتاب المدرسي لمادة الاجتماعيات في صيغته التعددية...
لقد حاول واضعو الكتاب الأبيض في جزئه الثالث ، مقاربة منحى التدقيق والتخصيص لمضمون هذه المنظومة القيمية المواطناتية، من خلال التركيز على تداخل السياقين التربوي والمجتمعي اللذين حتما الانخراط الرسمي في تفعيل "الأهداف العامة"/الغايات الكبرى لمنهاج المادة بالتعليم الثانوي «تتوخى التربية على المواطنة تنمية الوعي بالحقوق والمسؤوليات الفردية والجماعية، والتدرب على ممارستها، مما يدعم المحددات التي تجعل المدرسة، المرتقبة من خلال الإصلاح، مفتوحة على الحياة، وجذابة لذاتها أي بما توفره للتلاميذ والتلميذات كل يوم كفضاء لبناء الشخصية، واكتساب الاستقلالية، والعيش سوية مع الآخرين، وممارسة المواطنة».
هذا المنطوق القيمي المواطناتي بصيغته العامة كما تمت صياغته ضمن محتويات الكتاب الأبيض في جزئه الثالث، تم تصريفه ضمن الهيكلة الأساس لمحتوى وثيقة البرامج والتوجيهات التربوية الخاصة بسلك التعليم الثانوي الإعدادي "مادة الاجتماعيات" والكتاب المدرسي لمادة الاجتماعيات بالتعليم الثانوي الإعدادي في صيغته التعددية...
"التربية على المواطنة هي بالأساس تربية على المبادرة والمسؤولية والاستقلالية، تستهدف توعية المتعلم(ة) بالحقوق والمسؤوليات الفردية والجماعية والتدرب على ممارستها في المدرسة ومحيطها، أي في المجتمع... وتعتمد عملية اكتساب هذه القيم في المنهاج الحالي على دورة تعلم، قوامها الممارسة النشيطة من خلال مبادرات ومشاريع يقوم التلاميذ بتخطيطها وتنفيذها، وتقويمها، وليس على التلقين... منهاج التربية على قيم المواطنة في المرحلة الثانوية الاعدادية مهيكل حول أنشطة يتعين أن تراعي دورة التعلم، عمليا وليس نظريا" .
عموما إذا كان المغرب قد عمل على اقتباس التجربة الفرنسية في مجال تدريسية هذا المكون التربوي، حيث تم الانتقال من تدريس مادة التربية الوطنية إلى تدريس مادة التربية على قيم المواطنة (من السبعينيات إلى بداية الألفية الثالثة)، وهو الانتقال الذي يعكس النقلة النوعية على مستوى الحراك السياسي والاجتماعي، والتعبير عن الرغبة في الانخراط في ثقافة الحق والواجب، إضافة إلى الوعي بأهمية الحمولة القيمية للمادة، وخلفياتها في بناء المواطن، والغايات العامة البعيدة المرتبطة بتدبير محتوياتها كما توضحه الخطاطة التالية :
أو :