أطَلَّ الجحيمُ..
وتَبعْثَرَ الحُلمُ فُتاتاً عند أقدامِ البَنفسج..
والبنفسجُ انحنى..
قلّمَ أظافرَ الفجيعةِ واندَثر...
لا أمل..(2)
أي حُلُمٍ تتحدثُ عنه يا صاحبي؟
ألَمْ تَستنْشقْ رائحةَ تَبْغهِ على ملاءاتِ أمي؟
ألم تَذُقْ طعم آخر كأسٍ رشفَها؟
وآخرَ ابتسامةٍ من وسائِدنا سَلبَها..؟
لا حُلُمْ..
(3)
الصخرُ انحنى من هولِ المُصاب..
وما انحنيّنا..
الليلُ عوى من هولِ المُصاب..
وما بكيّـنا..
غرِقِتْ مراكبنا دمعاً وهواءً..
فغَضْضنا الطرفَ عن آلامِنا..
لِنَحيــا واقفيــنَ..
كما البنفسج..!
لكنَ البنفسجَ انحنى..
ثم اندثر..
(4)
وأردفَ أبي يَزفُ خبرَ الرحيلِ إلينا..
بوضاعةِ المَوقفِ و فَظاظةِ اللّفظِ..
كصبيةٍ تُزفُ إلى كهلٍ، و الجَمْعُ يُهلّلُ..!
زَغْرَدتْ أمي أنيناً من أصابعِها النحيلة..
كدّسَتْ أختي ذكرياتنا في الحقيبة..
بارتباكِ مهاجرٍ.. يُكدّسُ أحلامهُ المتهرئة
في شوارعٍ الغربة..
وأخذتُ أنا المغلوبُ على حُزني آخِرَ مراسيل عينيكِ..
دَسَستُها في ظلامِ حذائي..
حينَ أصبحَ الحذاءُ "وحدهُ" في مأمنٍ عن الوطن..!
(5)
ورَحلنـا جميعا..ً
كقافلةٍ من الغَجرْ..
كسربٍ من النُسور الوضيعة..
إلى أوكارٍ حنينٍ لا يهدأ..
و أعشاشِ صخبٍ لا يصمت..
إلى غربةٍ أحَنُ من الوطنِ..
وأقسى من الحَياة..
وحين بَحثنا عن رَجُلِ الرَحيلِ..
ما وجَدْناه..!
رحلَ أبي... رحل صامتاً...
أطْلَقتْ أمي عويلاً من أظافِرها السّليلَة..
صاحت، صاحت، ونحن صامتونْ:
أين راحَ الرجُل..!؟
"ابْتَلعهُ تُرابُ الوطن"..
قالَ البنفسجُ ثم انحنى ..
واندثر..
(6)
مازلتُ اذكرُ ذاكَ الصباحَ الذي ابْتَلعَ بغرورٍ آخر رغيفٍ،
وآخر بسمة..
و أمي تَقضمُ طرف الرغيفِ بحُرقةٍ..
لتَقوى على الموت بيّننا..
غلَبَني صَوتُ جوعِها، و وقارُ صَبْرِها..
فوهَبْتُها على مضضٍ، أنا الجائعُ قسراً، حِصَتي..
فأبَتْ: كُلُ يا بنيّ، لتَفْنى!!
***
ومازلتُ أذكرُ ذاك الليلَ الذي حمَلَ إلينا شهيدنا الأصغر،
على كَفّ دبابةٍ..
في خِضمّ انشغالِنا بالنومِ العَقيم..
حينَ شهقتْ أمي شهقةَ الموتِ السقيم..
فكانت شهقةً لمأساةٍ أخرى..
حينها همسَ الموتُ ببرودهِ الماجنْ: يا أُمَهُم،لا مكان لكِ اليومَ بيَننا..
القبورُ عامرةٌ، عامرةْ..
وبَكتْ أمي كما لم تبكِ "آسيا و الخنساءُ" من قبْلِها..
(7)
ومازلتُ أذكرُ البنفسج..
حين على فجائِعنا، انحنى..
و انحنى..
ثم انّدَثر..!!