ملاحظات في الجمال والفن والشعور الجمالي - ترجمة: يوسف تيبس

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

على سبيل التقديم
من البديهي أ ن إ. موران (Edger Morin) في كتابه الأخير – في الجماليات – لا يدعي التخصصية في علم الجمال بقدر ما يدون محاضرات ألقيت على اليوتيوب في كتاب صغير الحجم كثير الفائدة، يعرض فيه ملاحظات عامة عن الجمال والفن والشعور الجمالي، وذلك باعتباره عالم اجتماع وفيلسوفا مهتما بالجماليات وعاشقا مهووسا بالسحر الكوني للجمال.

أهمية الجماليات في حياتنا.
لطالما كانت النفس البشرية حبورة مغردة لجمال الوجود، فما هو جمالي يثير في نفوسنا عاطفة غريبة بنشوة لاشعورية قد لا يستطيع العقل الواعي تفسيرها بصرامة العقلانية والمنطق العقيم، فما يبعث فينا الإثارة ويعمل على استمالتنا يعتبر موضوعا للجماليات حتى لو كان قبحا يجذبنا إليه بغرائبيته وعجائبيته. هذا، وتعزى الشعلة الأولى للتفكير النقدي التنظيري في علم الجمال إلى المفكر الألماني بومغارتنBaumgarten ، بحيث عنون كتابه: الجمالية (Aesthetica) سنة 1750، وبذلك اقترنت نشأة علم الجمال بنهاية (القرن 18).

فكلنا لما نتعب من ترف الحضارة المادية الرهيبة نجد ملاذنا في عالم الطبيعة مثلما كان يفعل شعراء وأدباء الحركة الرومانتيكية، الذين هاجروا إلى عالم الغاب بحثا عن الجمال الصافي الصادق المتمركز حول الذات في علاقتها بالطبيعة، كنداء وجودي يعمل على تنقيتنا من صراخ وضجيج المدينة وتناقضاتها الصارخة.
      كما تتمثل أهمية الجماليات حسب "هيجل" في كون الجمال يسمو إلى مستوى الحضور الإلهي ويتجلى في الروح المطلق، بحيث: "يمثل الفن في نظر هيجل، إلى جانب الدين والفلسفة، واحدا من أسمى ثلاثة أشكال يتجلى لها الروح المطلق، فالفن يرقى بالإنسان حدسيا إلى مستوى الحضور الإلهي، ويعيد اكتشاف البعد المثالي للواقع، ويعطي امتدادا لامتناهيا لوجوده المتناهي" .

الجمالية والكونية في الرواية.
يهيمن علينا الجنس الروائي العابر للتخصصات في عصرنا الحاضر هيمنة ناعمة، مستبدا بالأجناس الأخرى من شعر ومسرح ... من جهة، وناعما بحيث يجمع بين كل التخصصات، من فلسفة، علم الاجتماع، علم النفس، الأنثروبولوجيا، التاريخ ، الفكر، الثقافة، واللغات الحية من جهة أخرى. خاصة وأن الرواية تقرأ في السيارات والقطارات كما كان إيميل زولا يفعل، كما تقرأ في الطائرات والمقاهي وفي كل فسحة واستجمام بين أحضان الطبيعة، وفي لوحاتنا وهواتفنا الذكية كطقس يومي يستهوي ملايين البشر في الكون قاطبة.
تعتبر الرواية إناء طازجا شهيا ووعاء للتاريخ والفلسفة والعلوم المتنوعة، وهو ما فعله جوستاين غاردر في رواية عالم صوفي حول تاريخ الفلسفة، وكذلك المفكر المؤرخ المغربي عبد الله العروي الذي هرب من صرامة الفكر والتاريخ والفلسفة ليقدم تصوراته في روايات حققت شهرة ومبيعات أكثر من كتبه الفكرية التاريخية، مثل رواية أوراق، إيمانا راسخا من غاردنر والعروي ... وغيرهم من الكتاب في كون الرواية هي الجنس الوحيد القادر على التعبير بحرية وطلاقة عن الفكر والفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع ... وغيرها من علوم الإنسان.
ويبين إ. موران أن الروائي قادر على توظيف كل هذه العلوم والحذف منها والتصرف فيها، بحيث "تفرز روح الروائي وتوحد شبه جبلة خارجية تتكون وتتطور وتتوحد، لتصبح عالما يضم مجتمعا وشخصيات وأحداث يتحكم الروائي ويصحح ويحذف بوعي، لكنه ينشئ كونه الرومانسي في الحالة الثانية من النشوة اللطيفة" . إن قدرة الروائي على خلق عالمه الرومانسي الذي يضم مجتمعا وشخصيات ووقائع وتحوير التاريخ والنبش في جزئياته التي عجز التاريخ كعلم عن التوقف عندها، هو ما يجعل الرواية عظيمة وجنسا عابرا للتخصصات.
لقد: "أعاد بلزاك (Balzac)، على سبيل المثال، خلق مجتمع كامل يعج بالشخصيات والأحداث، مزيج من الواقع والخيال، حيث يكون الخيال في خدمة إحياء المجتمع الحقيقي لعصره، تعيش فيه الشخصيات الرومانسية، وتصبح شبه مستقلة، تملي سلوكها على الكاتب. من الشائع أن يقرأ الروائي قائلا: "شخصياتي تنفلت مني، وتصبح شخصياتي ممتنعة السيطرة عليها" . فأعمال بلزاك تمتاح عظمتها ونفوذها إلى الكونية بفعل حركية شخصياته، بحيث تمنح القارئ أفقا تأويليا واسعا جدا وحابلا بالفرضيات والتخمينات الكثيرة، وهنا تكمن جمالية الرواية وسحرها وتملكها للقارئ، ومن ثمة: "فالرواية كائن حي، عند كتابتها، وأيضا عند قراءتها، تكون جامدة في المكتبة أو خزانة الكتب، لكن تبعث فيها الحياة تحت عين القارئ وبواسطتها" .
وما يجعل عصرنا عصرا للرواية أنها تنفلت من تأويلات كتابها، بحيث المؤلف يمكنه أن يخطئ في فهم معنى عمله كما حدث لبلزاك: "لقد اعتبر بلزاك أن روايته ملهاة إنسانية (Comédie humaine) تمكنه من تنوير القراء في شأن النظام الملكي والدين، بينما رأى ماركس بوضوح أن هذا العمل قبل كل شيء نقدا جذريا للمجتمع البورجوازي" . يبدو أن اختلاف التأويل بين الروائي العظيم بلزاك حيث اعتبر عمله تنويري في شأن النظام الملكي والدين، والفيلسوف المنظر كارل ماركس الذي خوله جهازه الفكري والفلسفي أن يرى في عمل بلزاك نقدا جذريا لاذعا للمجتمع البورجوازي المتوحش هو ما جعل بلزاك عبقريا ومدرسة كبيرة. إن كل عمل روائي كوني يعيش خارج زمانه ومكانه ويقرأ من طرف أجيال متعاقبة ومختلفة، مثل أعمال بلزاك وزولا وشكسبير وغابريل غارسيا ماركيز ... وغيرهم، ويحقق لنا متعة وإثارة ينخرط ضمن علم الجمال (الجماليات) لأننا نعيش من خلاله في فسحة من الخيال والواقع أثناء فعل القراءة والتأويل.
وإذا افترضنا أن الرواية تجمع تخصصات مختلفة وتستحوذ على اهتمام الجميع دون استثناء، فإلى ماذا يرجع هذا السحر؟ يجيبنا إميليان نوييل (Emilien Noël) بقوله: "تصبح الرواية مجموعة شاملة تقريبا لحالة العالم في لحظة معينة، أو بعبارة أصح لحالة عالم ما، في هذه الحالة العالم الغربي، وخاصة أوربا. في هذا السياق، تكون الرواية عملا خياليا، وبالطبع، تمرينا أسلوبيا لا جدال فيه، ولكن يمكن أن تكون سردا تاريخيا، ومقالا فلسفيا، وتحليلا جيوسياسيا، وبحثا في علم الاجتماع ... كل ما يجعل العالم قابلا لأن يظهر فيه، يتم الحديث فيها عن علم النفس والطب والدين والاقتصاد والعمران والعمارة".

اللحن الكوني في شعرية الموسيقى
الحياة موسيقى خالدة وترانيمها تتأرجح بين السعادة والبؤس البشريين، ولا حياة بدون موسيقى لأنها جزء من التاريخ والعبقرية التي اخترعها الإنسان بالفطرة وفي حضيض بدائيتنا، وأجمل ما تردد في صدى الكون هو موسيقى أزلية ينبغي أن ننصت لها، "تعبر الموسيقى "اللغز الأسمى لعلوم الإنسان"، حسب ليفي ستراوس، أفضل من سواها عن حياتنا العاطفية، إنها "لغة الروح" .
 واعترافا منها بسحر الموسيقى تقول إيرين ليوثود (Irène Léothaud)، عالمة الاجتماع: إن "الموسيقى أقرب من الكلمات والصور وكل ما يهم، أي الحياة والموت والحب" . في حين كتب توماس دي كونينك (Thomas de Konik) أنه: "يجد فيها الاحتفال والابتهاج والابتهال وممتنع القول تعبيرا لا يمكنه العثور عليه في مكان آخر" . إذا فالموسيقى هي خطاب كوني يناجي أرواحنا ويغذي النقص الحاصل في الذات البشرية، وإذا صح لنا القول "إن الإنسان كائن كله مركبات نقص يصيبه الفراغ العدمي بالرتابة القاتلة، فالموسيقى هي إحدى النداءات الروحية التي تمنحنا السيرورة في الوجود.
إذن هناك سحر يسكن الشعر إنه سحر الإيقاع (الموسيقى) فهو صوت قبل أن يكون كلاما، والأصح في الشعر أن لا يكتب وإنما أن يقال مع دندنات الموسيقى، الشعر صوت وليس لغة فقط، الشعر نداء كوني مثله مثل الموسيقى يخاطب أرواحنا الجافة وكل زمن يضعف فيه الشعر قد نعلن عن نهاية الحضارة وموت الإنسان فينا، بل الأكثر من ذلك: "تنقل الموسيقى المشاعر الجمالية إلى أعلى الدرجات، إنها تحتوي على إيقاع ولحن يمكنها أن تفصلها أو تصلهما، تنقلنا آلات النقر والإيقاعات إلى حالة ثانية تصبح نشوة ، فعندما يتملكنا الإيقاع نرقص، يمكنها أن تحرك عواطفنا إلى حد الوجد تقريبا .فمن منا لا يشعر بحالة الوجد والتملك والنشوة إزاء سماع نوتات الموسيقى، ومن منا لا يقوم جسده بحركات وتفاعلات لا شعورية تنبع من النشوة والوجد والتملك.
تضطلع الموسيقى بدور سحري في حياتنا، ويا له من سحر C’est magique، بحيث: "يجوز تكرار الإيقاع، الجوقة، المقطع الموسيقي، شيئا ساحرا ومهلوسا يحرض على نشوة الهيجان، تكرر موسيقى الروك، وحتى الموسيقى الالكترونية الإيقاع والموضوع نفسيهما بلا كلل لإثارة الجاذبية والنشوة" ، ولعل هذا السحر يصلنا من خلال الأناشيد الوطنية والأغاني الحماسية والخطابات التاريخية، فهي تمتلك موسيقى من نوع خاص، وتمارس سلطتها علينا، مثلا في أغنية مناهضة للفاشية خلال الحرب المدنية الإسبانية يصلنا موسيقى هذه القصيدة الأزلية والكونية التي تقول:
مع الكتائب الأربع
التي تدافع عن مدريد
وأفضل ما يناسب إسبانيا
الزهرة الأكثر احمرارا في المدينة
تعالت ضجة، ضجة
أصوات مدفع رشاش
وفرانكو يذهب في نزهة،
مع الخامس والخامس والخامس،
مع الفوج الخامس
يا أمي إني ذاهب إلى الجبهة
إلى خطوط النار .
هذه الأغنية المناهضة للفاشية خلال الحرب المدنية الإسبانية تتسم بجو مشحون من الحماس وروح الانتماء إلى العاصمة الإسبانية مدريد في حكم فرانكو، والمدافع والجيوش تحارب لأجل عيون مدريد، فهذا الدفاع عن الهوية بطولي شجاع لا يهاب فيه أي شاب من شباب إسبانيا في الحرب المدنية الإسبانية خطوط النار أو الموت، وهو يخوض المعركة بقوة وبسالة، وروح الانتماء هذا رغم مخاطره يمتلك جمالية خاصة لا مثيل لها، لأنه ينبع من وعي جمعي بتغيير الأوضاع  كما هو الحال في الثورة الفرنسية سنة 7198. ويا له من جمال كوني لما يقول الشاعر:
آه!
 إليكم ما يخالجني في كثير من الأحيان
هل تعرف البلد الذي يزهر فيه البرتقال؟
 بلد الفاكهة الذهبية والورود القرمزية،
 حيث يكون النسيم أكثر لطفا والطيور أخف،
 حيث في كل موسم يجمع النحل الرحيق،
 حيث يشع ويبتسم، مثل نعمة من الله،
ربيع أبدي تحت سماء زرقاء!
 وا أسفاه!
 لا أستطيع متابعتك؟
 نحو هذا الشاطئ السعيد الذي نفاني عنه القدر!
 هنا! المكان حيث أود أن أعيش،
 وأن أحب، أحب وأموت!
إذا ما تأملنا في ثنايا هذه القصيدة الحابلة بإيقاعات الموسيقى والمفعمة بالجماليات الكونية، تجعل كل القراء محبي الشعر والناقمين عليه يحبون هذه المقطوعة الشعرية، فالبلد الذي يزهر فيه البرتقال، بلد الفاكهة الذهبية والورود القرمزية ذو السماء الزرقاء بلون الحياة الذي يمكننا أن نعيش جميعا ونحب ونموت معا فيه، قد يكون بلد أي قارئ ونسبي حسب الانتماء الجغرافي لكل قارئ، كما قد يكون باعتبار الشعر حسب المنظر البنيوي جون كوهن في بنية اللغة الشعرية إنزياح عن معيار اللغة العادية المألوفة، فيتخيل القارئ بلدا جميلا رآه أو تخيله فيتحقق المعنى، وهذا موطن الجماليات وهو أن يكون الشعر نقرا على آلة موسيقية يتسم بسمات كونية تجعله خالدا على مر العصور.
هذا، وتكمن ذروة المفارقة الجمالية في الموسيقى والشعر في حالات مشاركة الحزن أو السعادة والإحساس بنفس أحاسيس من تعرضوا له، "الشيء نفسه يسري على مقطوعة المحكوم بالإعدام لماريو كارفافادوسي (MarigCaravadossi) الذي يصيح في توسكا :"لم أحب الحياة أبدا بهذا القدر".
هناك ذروة للبؤس الذي يجلب لنا السعادة الجمالية عندما يجعلنا نعاني من هذا البؤس، يقول يويزك (Woyzeck) عندما قتل ماري (Marie): "أنا، لا شيء، يا مريا! ولا أحد غيري!" . لعلنا نقف من خلال مقطوعة المحكوم بالإعدام لماريو كارافادوسي (MarigCaravadossi) على نقمته على الحياة ووصفها بالقدرة النتنة، ولعلنا شاركناه قدارتها كبشر في لحظات بؤسنا، كما شاركنا موقف يويزك (Woyzeck) عندما قتل ماري، فهو لا شيء، ويحكم بالمطلق أن لا أحد غيره في لحظة بئيسة مثل هذه اللحظة سيكون شيئا يذكر، وهو فعل جمالي يجعلنا نشارك هذه الحالات التي قد يتعرض لها أي كائن بشري وهنا موطن الجماليات.

التوافق مع الواقع أو تجميل الواقع
تلجأ البشرية عبر مر العصور إلى تجميل الواقع والتوافق معه، ذلك أن الواقع في حقيقته قاس مؤلم تتوزعه الفواجع والمواجع على جميع الأصعدة، وعندما لا نتحمل آلامه وطعناته الكثيرة، قد نلجأ إلى صيغة تفاوضية مع واقعنا الذي قد يكون لا واقعيا، والأكثر من ذلك نستعمل مساحيق تجميلية تزييفية للتوافق معه، ووفقا لتي إس إليوت (E. S. Eliot): "لا يمكن للإنسانية تحمل الكثير من الواقع (Huantindcommotbearverymuchrealyt)" علينا أن نتوصل إلى توافق مع الواقع لنتمكن من تحمله يمكن تحقيق هذا التوافق عن طريق التجميل المعمم" .
ولا غرو أن الإنسانية دون ذوق جمالي وسحر الفن والإلهام الإبداعي والابتكار للجديد في كل العصور، ستعيش حالة فراغ عدمي قاتل وحروب فتاكة مدمرة لهذه البسيطة، هذا الموقف هو ما تنبه له الفيلسوف باسكال بحيث: "يمكن أن يثير الشعر والجمال ما أسماه باسكال الترفيه الذي يصرف أذهاننا، عبر المشاعر التي ينتجها، "عن الشقاء الطبيعي لوضعنا الهش والقاتل، والبائسة جدا إلى درجة لا يوجد معها شيء يواسينا" . إن وظيفة الفن والشعر والجمال ليست تعليمية ومعرفية، بل ترفيهية تعتمد المتعة أو الفرجة في بعض الأشكال التعبيرية من مسرح وسينما، أو الإنصات والتأمل في الشعر، أو الملاحظة والتخمين وإعمال العقل في الفن التشكيلي أوالمشاركة في الرقصات ... وهكذا دواليك. أما التعليم والمعرفة ذلك دور تضطلع به العلوم الأكاديمية والمدارس والجامعات.
يؤكد باسكال ذلك بحيث: "يود الكثير من الترفيه بالمعنى الباسكالي في حياتنا وفي ثقافة "العامة" أو وسائل الإعلام، بل و"المثقفين" أيضا، التي تجعلنا ننسى وضعنا، لكن الفن الرائع والمأساة والرواية الرائعة والفيلم الرائع تذكرنا بوضعنا وتضعنا أمام مصيرنا وموتنا" . أكيد أن وضعنا أيضا مع وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تضطلع بدور ترفيهي تجعلنا ننسى واقعنا الهش والقاتل ونتخلص مؤقتا من قساوة الواقع والعالم من حولنا.
لا يمكننا البتة الحكم بأن الفن والجمال والشعر يناقض الواقع بقدر ما أن الجمال العظيم يتغذى من الواقع ويتصرف فيه، فالقارئ العالمي إذا أراد أن يعرف أحوال المجتمع المصري في عهد حكم جمال عبد الناص، فعليه بقراءة الروائي العالمي نجيب محفوظ الذي يعكس التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية لمصر آنذاك، هذا الواقع كما عاشه كل شخص في مصر قد لا يتقبله ويثور ضده، لكنه في فن الرواية التي كتبها نجيب محفوظ قد يتقبله، إنه السحر الخطير للفن الكبير.
وبيان ذلك حسب إرنست فيشر في "ضرورة الفن" أن الفن لا يعوض الواقع لكنه يكمله ويغديه، ذاك أن الوجود هيئة ناقصة دون فن وجمال، وهو ما عبر عنه المصور موندريان بحيث يرى أن: "الفن يمكن أن يختفي، وأن الواقع سوف يصل بالتدريج محل الفن، إذ لم يكن الفن في جوهره إلا تعويضا عن انعدام التوازن في الواقع الراهن. وقال: "إن الفن سيختفي عندما تصل الحياة إلى درجة أعلى من التوازن" .
على سبيل الختام إن تزايد الوعي الجمالي بالخلفية الفلسفية والإنسانية لكل فن عظيم، سيرسخ في الأجيال المقبلة قيما جمالية تنصهر في بوثقة ما اصطلح عليه فيشر "ضرورة الفن" في وطننا العربي الكبير، وهو عامل مهم لتقوية الروح الفكرية والذوق الفني الجمالي للإنسان العربي. فالجماليات هي سحر كوني يمكن أن نتلمسه في كل قطعة نفيسة من قطع الفن، أو مقطوعة خالدة أو سمفونية أزلية، وهو ما يحدث لنا مع قصيدة بدر شاكر السياب "أنشودة المطر" التي تتجاوز زمنها وتخلد في كل عصور الفن والجمال الأدبي والإنساني، وهو ينشد:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهر
***
أنشودة المطر
مطر
مطر ...