لماذا تنهار المجتمعات؟ - جاريد دايموند – ترجمة مصطفى ناجي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم :
جاريد دايموند Jared Diamond  عالم بيولوجي وجغرافي أمريكي. ولد سنة 1937 ببوسطن. تخرج من جامعة كامبريدج، ثم التحق بجامعة هارفرد  سنة 1965 حيث تفرغ للبحث العلمي مدة ثلاث سنوات، أصبح بعدها أستاذا للفيزيولوجيا. بعد ذلك غير توجهه وتخصص في علم الطيور والإيكولوجيا بغينيا الجديدة. ثم اختار توجها ثالثا تمثل في تاريخ البيئة وأصبح أستاذا للجغرافيا بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس حيث لا زال يشتغل.
ألــف ثلاثــة كتـــــب عــبر من خـــلالها عــن أطـــروحة أثــارت نــقـــاشا واســـعا. وهـــذه الــكــتــب هي le troisième chimpanzé (1992)، و De l’inégalité parmi les sociétés (1998) ثم Effondrement (2005). في هذه الأعمال وصف بتفصيل العلاقة العدائية التي أقامها الإنسان مع الطبيعة منذ 1500 سنة. وأكد على أن تدهور البيئة كثيرا ما ساهم في انهيار المجتمعات، ونتيجة لذلك فإن البشرية تسير نحو الكارثة بما تقوم به من تدمير لمجالها الحيوي. وقد ازدادت مصداقية أطروحته بعد فشل مؤتمر قمة الأرض المنعقد بريو دي جانيرو سنة 2012 ، حيث ركزت الدول المعنية اهتمامها على الأزمة الاقتصادية ، وأهملت الجانب البيئي، ولم تصل إلى أي اتفاق من شأنه أن يحمي الكوكب الأرضي من المخاطر المحدقة به.

في هذه المحاضرة ، يقدم دايموند نتائج أبحاثه حول عدة مجتمعات قديمة انقرضت، أو حديثة مهددة بالانقراض لعدة أسباب يلخصها في خمسة عوامل حين تجتمع فإنها تؤدي بالمجتمع المعني إلى الانهيار. ورغم أن البعض ينتقد هذا الباحث بدعوى نظرته المأساوية، فإنه يؤكد في نهاية المحاضرة على إمكانية تدخل الإنسان لتصحيح أخطاء ارتكبها بنفسه. (المترجم)

المحاضرة:
أعتقد أن كل واحد منا قد اهتم في وقت أو آخر بالألغاز الغامضة المتعلقة بالمجتمعات التي انهارت، مثل شعوب المايا الكلاسيكية، شعب ولاية اليوكاتان، سكان جزيرة باك Pâques، شعب الأنازيس، مجتمع الهلال الخصيب، معبد أنكور وات، شعب زيمبابوي الكبرى ... الخ. في العشر أو العشرين سنة الأخيرة ، كشف لنا الأركيولوجيون عن وجود مشاكل بيئية كانت هي الأصل في هذه الانهيارات. لكن هناك مناطق أخرى كثيرة عبر العالم تطورت فيها مجتمعات خلال آلاف السنين وانهارت ، ولا توجد علامة بارزة حول أسباب انهيارها، مثل اليابان، جافا، تونكا، تيكوبيا. وبطبيعة الحال، فإن المجتمعات في بعض المناطق تتسم بهشاشة أكثر من غيرها في مناطق أخرى. ما السبب الذي يجعل بعض المجتمعات أكثر هشاشة من غيرها؟ هذا المشكل ذو صلة بوضعنا الراهن، لأننا اليوم أيضا شهدنا انهيار بعض المجتمعات مثلما حدث في الصومال، رواندا ، يوغسلافيا  القديمة. وهناك مجتمعات قريبة من الانهيار مثل النيبال، أندونيسيا وكولومبيا.
ونحن؟ ما الذي يمكن أن نتعلمه من الماضي ويمكن أن يساعدنا على تفادي الأفول والانهيار كما حدث لمجتمعات أخرى قبلنا. بطبيعة الحال، إن عاملا واحدا لا يكفي لتفسير كل شيء. إذا قال أحدنا إن هناك عاملا واحدا لتفسير انهيار مجتمع معين، فلنفهم على الفور أنه إنسان محدود التفكير. إن الموضوع معقد جدا. كيف نستخلص العبرة من موضوع معقد؟ لقد توصلت من خلال تحليلي لانهيار المجتمعات إلى ترسيمة تتكون من خمس مراحل. وهي قائمة تتضمن نقطا تتيح لي محاولة فهم حالات الانهيار هاته. سأبين هذه النقط الخمسة بالحديث عن اختفاء المجتمع النورماندي بغرينلاندا. إنه مجتمع أوروبي ترك آثارا مكتوبة . وبالتالي فإننا نعرف أشياء كثيرة عن هؤلاء الناس وعن ما كان يحركهم. في سنة 984 ، قدم الفيكينغ واحتلوا الغرينلاند، وفي سنة 1450، اختفى سكان الغرينلاند وانهار مجتمعهم، وماتوا جميعا. لماذا انتهى بهم المطاف إلى الموت؟ حسب ترسيمتي المكونة من خمس مراحل، فإن السبب الأول يتجلى في الآثار التي يحدثها الإنسان في محيطة البيئي. إن الناس يدمرون خطأ الموارد التي يرتكز عليها وجودهم. وفي حالة الفايكينغ النورمانديين، فإن الفايكينغ قد تسببوا في غفلة منهم في تآكل التربة وانقراض الغابات، وهو ما يمثل مشكلا حقيقيا بالنسبة إليهم، لأنهم كانوا في حاجة إلى الغابات لصنع الفحم من أجل الحدادة. ومن ثمة وجدوا أنفسهم في وضعية مجتمع أوروبي يعيش افتراضا في العصر الحديدي، ولكنه غير قادر على أن يلبي بنفسه حاجته من الحديد. النقطة الثانية على قائمتي هي التحول المناخي. فقد يصبح المناخ أكثر حرارة أو أكثر برودة، أكثر جفافا أو أكثر رطوبة. وفي حالة فايكينغ الغرينلاند، فقد أصبح المناخ أكثر برودة عند نهاية القرن الرابع عشر، وخاصة خلال القرن الخامس عشر. لكن الطقس البارد ليس قاتلا بالضرورة، لأن الإينوي، والإسكيمو الذين عاشوا  خلال نفس الفترة بالغرينلاند قد تمكنوا من النجاة رغم برودة الطقس. فلماذا لم يتمكن النورمنيديون من ذلك.
العنصر الثالث ضمن قائمتي هو العلاقة مع المجتمعات المجاورة الصديقة التي يمكن أن تقدم الدعم للمجتمع المعني. وإذا زالت هذه الدعامة الصديقة، يصبح من السهل أن ينهار المجتمع. وفي حالة النورمنديين بالغرينلاند، فقد كانوا يمارسون التجارة مع بلدهم الأصلي، النورفيج. وقد انخفضت هذه المبادلات التجارية لأن النورفيج قد ضعفت. ولكن أيضا بسبب تراكم الثلوج بين الكرينلاند والنورفيج.
النقطة الرابعة ضمن قائمتي هي العلاقة مع المجتمعات العدوة. في حالة نورمانديي غرينلاند، فإن العدو كان يتمثل في الإينوي والإسمكيمو الذين كان النورمانديون يقتسمون معهم الغرينلاند، حيث لم تكن هذه العلاقة جيدة. ونحن نعرف أن الإينوي قد فتكوا بالنورمانديين، والأهم من ذلك أنهم أغلقوا عليهم المنفذ نحو الخلجان الخارجية التي توفر للنورمانديين حيوان الفقمة خلال أوقات حرجة من السنة.
وأخيرا ، هناك العنصر الخامس ضمن قائمتي، ويتعلق بالعوامل السياسية ، الاقتصادية ،الاجتماعية والثقافية التي تجعل المجتمع قادرا بهذا الشكل أو ذاك على إدراك وضبط مشاكله البيئية . وفي حالة نورمانديي الغرينلاند، فإن العوامل الثقافية التي حالت دون حل مشاكلهم كانت تعلقهم بالمسيحية، واستثمارهم بشكل مفرط في بناء كنيستهم. وهناك أيضا قيام مجتمعهم على المنافسة، واحتقارهم للإينوي، فلم يتعلموا منهم شيئا.
هكذا تنطبق هذه الخطاطة  ذات النقط الخمسة على انهيار وانقراض نورمانديي الغرينلاند. ما الأمر بالنسبة لمجتمع معاصر؟ خلال الخمس سنوات الأخيرة ، أخذت زوجتي وأبنائي إلى جنوب غرب مونتانا حيث كنت أشتغل خلال مرحلة شبابي في جني التبن. تبدو المونتانا للوهلة الأولى كأنقى بيئة بالولايات المتحدة. لكن مع النبش قليلا، نكتشف أن المونتانا تعاني من مشاكل حقيقية. لنعد إلى نفس القائمة. بالنسبة لتأثير الإنسان على البيئة، فإنه يعتبر مشكلا حقيقيا. يتعلق الأمر بمشاكل متصلة بالسموم التي تبثها نفايات المناجم، والتي تسببت في خسائر بمليارات الدولارات. إن مشكل تدبير الأعشاب الضارة يكلف مونتانا ما يقارب مئتي مليون دولار سنويا. وتفقد مونتانا مناطق زراعية بسبب الملوحة وبسبب سوء تدبير الغابات والحرائق.
النقطة الثانية ضمن القائمة تتعلق بالتغيرات المناخية. نعم إن الطقس بمونتانا يزداد حرارة وجفافا. لكن الزراعة بمونتانا مرتكزة بالدرجة الأولى على السقي بالمياه الناتجة عن ذوبان الثلوج. وبما أن الثلوج تذوب، فإن جليد الحديقة الوطنية سيختفي. وهذه أخبار سيئة بالنسبة للفلاحة بمونتانا، وهي قائمة على السقي.
النقطة الثالثة ضمن قائمتي هي العلاقة مع البلدان الصديقة التي يمكن أن تساند جيرانها. وفي أيامنا هاته، فإن أكثر من نصف مداخيل مونتانا لا تأتي من مونتانا نفسها، وإنما تأتي من خارج البلاد عن طريق التحويلات البنكية أو الضمان الاجتماعي أو الاستثمارات... الخ. وهذا ما يجعل المونتانا رهينة ببقية الولايات المتحدة.
النقطة الرابعة هي العلاقة مع البلدان المعادية. يواجه سكان مونتانا نفس المشاكل التي يعيشها بقية الأمريكيين بسبب حساسيتهم إزاء المشاكل التي يطرحها الأعداء الخارجيون كالقيام بعمليات إرهابية أو التحكم في تزودهم بالمحروقات.
النقطة الأخيرة ضمن قائمتي تتعلق بالكيفية التي يؤثر بها سلوكنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في كل ذلك. لقد تبنى سكان مونتانا دائما قيما يبدو أنها تتعارض اليوم مع حل مشاكلهم الخاصة. لقد تعلقوا طويلا بعملية قطع الأشجار، بالمناجم وبالزراعة، ولكن دون أي إشراف حكومي. إن القيم التي اشتغلت قديما بشكل جيد لم تعد اليوم مناسبة.
إنني ألاحظ تاريخ هذه الانهيارات التي تخص كثيرا من مجتمعات الماضي، وعددا من مجتمعات الحاضر. هل يمكن أن نستخلص منها استنتاجات عامة؟ نعم إن هناك تفاصيل تختلف بين مجتمعات انهارت أو هي في طور الانهيار. لكن هناك نقط تشابه تتجلى حين نقارن بين مجتمعات قديمة انهارت أو لم تنهر، ومجتمعات معاصرة مهددة بالانهيار. هناك نقطة تشابه مهمة تتعلق في حالات كثيرة بسرعة الانهيار، بعد أن يصل المجتمع أوج تطوره. إن هناك مجتمعات كثيرة لا تصل إلى نهايتها بشكل تدريجي وإنما تنمو وتصبح أكثر غنى وقوة، ولكنها خلال مدة وجيزة، خلال البضعة عقود التالية تنهار. من أمثلة ذلك شعوب المايا الكلاسيكية بالأراضي المنخفضة باليوكاتان التي بدأت تنهار مع بداية القرن التاسع، مباشرة بعد بضعة عقود من بناء المايا لمآثرهم الضخمة وبعدما وصلوا أوج تطورهم. وكذلك الشأن بالنسبة لانهيار الاتحاد السوفييتي الذي حدث بعد عقدين، أو ربما عقد واحد من وصوله إلى قمة تطوره.  إن نمو الباكتيريات سيكون مثالا جيدا للمقارنة. إن هذه الانهيارات السريعة تصبح شديدة الاحتمال حينما يوجد تفاوت كبير بين كمية الموارد المتوفرة وكمية استهلاكها، أو يوجد تفاوت كبير بين النفقات والقدرات الاقتصادية. في وعاء للتجارب، تتطور الباكتيريات وتتضاعف مع كل جيل. وخلال الجيل الخامس قبل النهاية يكون الوعاء قد فرغ بنسبة 15 إلى 16 بالمئة. وخلال الجيل التالي تبقى ثلاثة أرباع من محتواه. وخلال الجيل التالي يبقى منه النصف. وبعد جيل آخر ينتهي كل شيء وتنقرض الباكتيريات لأن الطعام نضب. هكذا الأمر بالنسبة للمجتمعات، فإن حالة انهيارها فور وصولها إلى القمة يعتبر أمرا شائعا. إذا تحدثنا رياضيا عن مجتمع معاصر، يجب ألا ننظر إلى الدالة الرياضية، إلى الثروة نفسها، بل ننظر إلى المشتقة الرياضية الأولى والثانية للدالة.
هذه قاعدة عامة أولى. القاعدة العامة الثانية هي أن هناك عوامل بيئية كثيرة ، دقيقة غالبا، تجعل بعض المجتمعات أكثر هشاشة من الأخرى. وكثير من هذه العوامل غير مفهوم بشكل جيد. من أمثلة ذلك حالة جزيرة باك Pâques. لماذا عرفت هذه الجزيرة من بين مئات الجزر، حالة انقراض تام ومدمر للغابات؟ يبدو أن هناك حوالي تسعة عوامل بيئية مختلفة ، بعضها أكثر دقة من الآخر، كانت تعمل ضد مصلحة سكان جزيرة باك، من بينها تساقط الحمم البركانية ، الأمطار، الموقع على خط العرض. وربما كان العامل الأقل ظهورا من بين هذه العوامل  إسهام المواد المغذية التي تحمي المجال البيئي المحدود بالمحيط الهادئ والمتمثل في الغبار القاري القادم من آسيا الوسطى. ويعد نصيب جزيرة باك من هذا الغبار الأقل مقارنة بنصيب الجزر الأخرى. وهذا الغبار كفيل بإخصاب التربة. وهو عامل لم ننتبه إليه قبل سنة 1999. وهكذا فإن بعض المجتمعات ، ولأسباب بيئية غير ظاهرة، تكون في وضع أكثر هشاشة من غيرها.
 وفي الأخير أذكر قاعدة عامة أخرى. أقدم دروسا لطلبة جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس حول انهيار هذه المجتمعات، وألاحظ أن ما يشغل طلبتي حقا هو السؤال: لماذا لم تنتبه هذه المجتمعات إلى ما كانت تفعله بمحيطها البيئي؟ لماذا قام سكان جزيرة باك بقطع الأشجار في محيطهم الحيوي؟ بماذا أحسوا حينما قاموا بقطع آخر شجرة؟ ألم يدركوا ما كانوا يصنعون؟  كيف لم تدرك هذه المجتمعات خطورة ما كانت تقوم به فتتوقف عن فعل ذلك في الوقت المناسب؟ وأتوقع في حال استمرار حضارتنا، أن الناس ربما سيتساءلون لاحقا: لماذا لم يدرك أهل سنة 2003 المخاطر الواضحة لما كانوا يفعلون فيقوموا بتصحيح أخطائهم؟ يبدو هذا أمرا لا يصدق في الماضي. وفي المستقبل، سيبدو ما نقوم به اليوم غير قابل للتصديق.
هكذا إذن حاولت أن أضع نسقا تراتبيا حول الأسباب التي جعلت بعض المجتمعات تفشل في حل مشاكلها. لماذا لم تدرك هذه المشاكل؟ والمجتمعات التي أدركت هذه المشاكل، لماذا فشلت في التصدي لها وحلها؟
سأبين شيئين فقط بخصوص هذا الموضوع.
هناك مقدمات جاهزة تعبد الطريق أمام المشاكل وتجعل الانهيار محتملا. هناك أولا موضوع الصراع بين مصالح النخب صاحبة القرار من جهة أولى، وهي مصالح تتحقق على المدى القريب، ومن جهة ثانية مصالح المجتمع كله التي تتحقق على المدى البعيد. يطرح المشكل هنا خاصة إذا كانت هذه النخب غير مدركة  لنتائج أعمالها، وإذا كانت النتائج في صالح النخبة على المدى القريب، لكنها تتعارض مع مصالح المجتمع كله، إذاك يكون من المحتمل جدا أن تقوم النخبة بأفعال تقود المجتمع إلى حتفه على المدى البعيد. بالنسبة لمجتمع نورمانديي الغرينلاند مثلا، وهو مجتمع قائم على المنافسة، فإن ما كان يهم قادته حقا هو كثرة الحلفاء، وكثرة القطعان والموارد، ليتفوقوا على الحكام المجاورين. وقد أدى ذلك بالحكام إلى استنزاف التربة، إلى الاستغلال المفرط للمراعي، وهو ما أدى إلى استعباد المزارعين. هذا الأمر جعل الحكام أقوياء على مدى قصير، ولكنه أدى إلى انهيار المجتمع على المدى البعيد.
هذه المشاكل المتعلقة بصراع المصالح تطرح بحدة في الولايات المتحدة حاليا، خاصة وأن صانعي القرار قادرون على تجاهل نتائج أفعالهم، لأنهم يعيشون في حصون مغلقة، يشربون المياه المعدنية... خلال السنتين الأخيرتين، أصبح واضحا أن نخبة عالم الأعمال تتصور أن بإمكانها أن تحقق مصالحها على المدى القريب عن طريق القيام بأشياء جيدة بالنسبة لها، لكنها سلبية بالنسبة للمجتمع في كليته، كأن تقوم باختلاس بعض المليارات من الدولارات من شركة إينرون Enron أو من غيرها من المقاولات. صحيح أن هذه الأفعال تحقق لهم مصالح خاصة على المدى القريب، لكنها تضر بالمجتمع على المدى البعيد.
هذه إحدى الخلاصات العامة المتعلقة بأسباب اتخاذ بعض القرارات الخاطئة. يتعلق الأمر بصراع المصالح. الخلاصة العامة الثانية التي أود الإشارة إليها هي أنه من الصعب جدا على المجتمع أن "يتخذ قرارات صائبة حينما يتعلق الأمر بصراع يهم قيما كانت قوية  في بعض الظروف، لكنها أصبحت سلبية في ظروف أخرى". وكمثال على ذلك أن نورمانديي الغرينلاند قد كانوا يحظون خلال أربعة قرون ونصف، في هذا المحيط الصعب، بدعامتين أساسيتين هما تعلقهم المشترك بالدين وتماسكهم الاجتماعي. لكن هذين العنصرين قد جعلاهما ينفرون من التغيير ومن الانفتاح على شعب الإنيوي. وكذلك الأمر بالنسبة لأستراليا في أيامنا هذه. فمن الأشياء التي مكنت أستراليا من البقاء في هذا المكان البعيد عن الحضارة الأوروبية خلال 250 سنة ، هي هويتهم الإنجليزية. لكن تعلقهم بهذه الهوية اليوم يضعف من قدرة الأستراليين على التأقلم مع الوضع بآسيا. إنه من الصعب بشكل خاص أن تغير اتجاهك حين تكون الأشياء التي تسبب قوتك هي نفسها التي تسبب لك المشاكل.
إذن ما هي الخلاصة في الحاضر؟ إننا جميعا على علم بعشرات القنابل الموقوتة التي تهدد العالم الحديث. وهي قنابل لم يبق أمامها إلا بضعة عقود، وكلها لن تتجاوز خمسين سنة. وكل قنبلة منها تكفي لتدمير العالم. قنبلة الماء، التربة، التغيرات المناخية، الأنواع (النباتية والحيوانية) الضارة، سقف تحولات الطاقة الضوئية، التزايد السكاني المفرط ، المواد السامة، الخ. لقد قمت بجرد عشر من هذه القنابل الموقوتة.   هذه القنابل لن تتجاوز لحظة انفجارها جميعها خمسين سنة، وأقل من ذلك في مناطق أخرى. وبالسرعة التي نسير بها اليوم، فإن جزر الفيليبين ستفقد، خلال الخمس سنوات المقبلة، كل غاباتها القابلة للاستغلال. وسوف تفقد جزر سالومون غاباتها القابلة للاستثمار خلال سنة واحدة فقط، وهي أساس ثروتهم الاقتصادية.
 يسألني كثير من الناس أحيانا كثيرة : ما هي الحلول المفيدة التي يمكن فعلها إزاء التحولات البيئية العالمية يا جاريد؟  وجوابي هو أن أهم شيء يمكن القيام به هو أن ننسى أن هناك حلا واحدا كافيا لحل هذه المشاكل. وبدلا من ذلك هناك حوالي اثني عشر مشكلا لا يكفي حل أي منها بمفرده، ويجب علينا أن نهتم بها جميعا، لأننا إذا ركزنا اهتمامنا على أحد عشر مشكلا، وفشلنا في حل المشكل الثاني عشر، فإننا سنواجه مشاكل حقيقية.  إذا حللنا مشكل الماء مثلا، أو مشكل التربة أو التزايد السكاني، ولم نعالج مشكل المواد السامة، فإن المشاكل ستظل قائمة. الحال أن توجهنا الحالي لا يمكن الدفاع عنه، وهو ما يعني بالتحديد أنه توجه غير صالح للاستمرار. والنتيجة المترتبة عن ذلك ستظهر خلال بضعة عقود. وهذا يعني أن من يبلغ من الحاضرين بهذه القاعة الخمسين أو الستين سنة سيشهد الكيفية التي ستعالج بها هذه المشاكل، بينما لن يتاح ذلك ربما لمن يبلغ السبعين. لكن أبناءنا وأحفادنا سيشهدون هذه الحلول بالتأكيد.
ستتخذ هذه النتيجة أحد شكلين: إما أن نقوم بحلول بأثر رجعي لمشاكل غير دائمة، بطريقة مرضية وبإرادتنا عن طريق القيام بأعمال تصحيحية، أو تنتهي هذه التناقضات إلى نتائج لا تحمد عقباها ، وسوف نتحمل عواقبها. وهذه النتائج هي الحروب والأوبئة والمجاعة. لكن ما هو مؤكد هو أن مسارنا الهش هذا سوف يتوقف بطريقة أو بأخرى خلال بضعة عقود. وبعبارة أخرى، وبما أن موضوع دورتنا (التعليمية هاته) هو "الاختيار"، أقول إن لدينا إمكانية الاختيار. هل يعني ذلك أن علينا أن نتخذ موقف المتشائم والمنكوب؟ من جهتي أستخلص النتيجة المعاكسة. إن المشاكل الأساسية التي يواجهها العالم اليوم ليست كلها خارجة عن نطاق سيطرتنا. إن الخطر الأكبر ليس نيزكا يوشك على الارتطام بالأرض دون حول لنا أو قوة. بدلا من ذلك فإن كل المشاكل الأساسية التي تواجهنا اليوم هي مشاكل نتحمل كامل مسؤوليتها. وبما أننا نحن من خلقها، فبإمكاننا أيضا حلها. وهذا يعني أن بمقدورنا تماما أن ندبر هذه المشاكل. ما الذي يمكننا فعله بشكل خاص؟ بالنسبة لمن منكم يهمه أمر هذا الاختيار، هناك أشياء كثيرة يمكن فعلها. هناك أشياء كثيرة لا نفهمها ونحتاج إلى فهمها، ولكن هناك أشياء أخرى كثيرة نفهمها، ولا نفعل شيئا، ونحن في حاجة لهذا الفعل. شكرا.

Jared Diamond – why societies collapse ? fevrier 2003
محاضرة شفوية / فيديو بالموقع التالي
https://www.ted.com/talks/jared_diamond_on_why_societies_collapse?language=fr#t-17086