شكلت الأماكن المقدسة المسيحية في المشرق العربي واحدة من الذرائع التي وظفها ملوك أوروبا لتهييج العالم المسيحي لشن الحروب الصليبية على العالم الإسلامي، ولتحقيق أهدافها الاستعمارية في هذه المنطقة الهامة ولتثبيت أقدامها خلقت تنظيمات لتثبيت وجودها في المنطقة ، ومن أهم تلك التنظيمات إسبتارية مملكة بيت المقدس ، وهي جماعة دينية نذرت نفسها لضيافة الحجاج والزوار إلى الأماكن المقدسة، وهي من نتاج القرون الوسطى و تنشأ في نزْل رئيسي تلحق به مجموعة من المنازل ، وتقتبس الجماعة إسمها من ذلك النزل . فما هي خصائص إسبتارية مملكة بيت المقدس ؟، وما دورها في الحروب الصليبية ؟.
1 ـ عوامل نشأة إسبتارية مملكة بيت المقدس.
• العوامل الدينية :
يرجع ستيفن رنسيمان في كتابه " الحروب الصليبية " نشأة طائفة الإسبتارية في القدس إلى جماعة من المواطنين التجار الأمالفيين الأتقياء الذين قاموا بتشييد نزل إسبتار في هذه المدينة وذلك حوالي سنة 1070 م لأجل إيواء الحجاج الفقراء الذين يزورون الأماكن المقدسة بها بعد أن استأذن والي المدينة التابع لنفوذ مصر ، حيث سمح لقنصل أمالفي ـ منطقة في إيطاليا ـ باختيار موقع ذلك النزل ، مما يوضح البعد الاقتصادي للحروب الصليبية ورغبة المدن الإيطالية في السيطرة على التجارة في البحر الأبيض المتوسط ثم تكلف الرهبان بإدارة شؤونه بعد بنائه وأصبح هذا النزل نواة تشكل طائفة الإسبتارية ، فما هي الظروف التاريخية التي ظهرت فيها ؟.
• الصراع المسيحي ـ الإسلامي في المشرق العربي .
إذا كانت الجيوش الصليبية قد تمكنت من احتلال مدينة القدس في 13 يوليوز 1099 م فإن الكنيسة المسيحية خسرت رهانها في إقامة حكومة موالية لها في تدير هذه الأماكن المقدسة في المشرق العربي خصوصاً بعد وفاة الأسقف أدهيمر سنة 1098م والذي عينه البابا قائداً على الجيش الصليبي ، وتمكن فقط في الأخير بلدوين كونت مدينة الرها من تنصيب نفسه ملكاً على القدس في سنة 1100م ، وفي خضم هذه الحروب الصليبية ظهرت إسبتارية مملكة بيت المقدس حيث استلزمت الحروب إقامة مجموعة من الملاجئ لإغاثة جرحى المعارك و تجنيد المقاتلين فأعاد جرارد لوباي تنظيم أتباع نزل الإسبتارية وتحولوا إلى فرسان متخذين شارة الصليب الأحمر شعاراً لهم وجعلوها على ملابسهم ورسموها على أسلحتهم وعتادهم، و نهجوا في حياتهم التقشف والزهد ، ونذروا أنفسهم لقتال "الوثنيين" ، وحصلت هذه الطائفة على كل التأييد من الملك بلدوين الثاني (1118 م ـ 1130 م) ابن عم بلدوين الأول ، غير أنها احتفظت باستقلالها عن سلطته ولم تدن بالولاء إلا للبابا (1).
و إذا كانت هذه الطائفة ذات أغراض دينية في نشأتها ، فما هي الإمكانيات التي سمحت لها من أن تتحول إلى قوة عسكرية ؟ .
2 ـ مقومات إسبتارية مملكة بيت المقدس .
ما كان لطائفة الإسبتارية أن تتحول إلى طائفة عسكرية و كقوة فاعلة في الصراع المسيحي ـ الإسلامي دون اعتمادها على موارد مالية كفلت لها تغطية مصاريفها الحربية و خدماتها الدينية ويمكن حصر مقوماتها في :
أ ـ المقومات الاقتصادية .
ويمكن تصنيف المقومات الاقتصادية التي استفادت منها إسبتارية مملكة بيت المقدس إلى نوعين :
ـ المساعدات و الإعانات الخارجية . حيث تلقت الاسبتارية مساعدات مالية مهمة من قبل ملوك الغرب المسيحي ، فمثلاً أوصى لفائدتها فيليب أوكيست بمبلغ أربعمائة ألف مرك (قطعة فضية) سنة 1223 م (2) ، كما أغدق عليها هنري الثاني مساعدات مالية استغلت كمصاريف أثناء حصار المسلمين للمدن الإسلامية المحتلة في الشرق الإسلامي.
وأهم المساعدات هي تلك التي أغدقتها عليها البابوية، فقد خصصت لها موارد أوقاف وأحباس تم حبسها لصالحها في كل أنحاء أوربا، في وقت أعفتها من دفع ضريبة العشر على الأراضي التي تمتلكها.
ـ الموارد الذاتية: تطورت عبر الزمن وتمثلت خصوصاً في موارد بممتلكات إقطاعية اقتطعها لصالحها ملوك بيت المقدس وغيرهم ، واستفادت أيضاً من عائدات الإتاوات التي فرضتها الإسبتارية زمن قوتها على بعض المدن والأمراء المسلمين كما هو الشأن بالنسبة لإمارة إسماعيلية الشام، كما استفادت أيضاً من جباية الرسوم على الطرق التجارية العابرة لمناطق نفوذها وأساساً الطرق المتجهة نحو البحر الأبيض المتوسط.
وأخيراً كان هناك مصدر آخر للثروة لهذه الطائفة تمثل في نشاطها المصرفي في إقراض الأموال مقابل فوائد هامة غير أن المصادر لا تسعف في تحديد حجم هذه الموارد لقلة المعلومات بشأنها.
ب ـ المقومات البشرية :
أصبح نزْل الإسبتار في القدس يعج بالحجاج بعدما أصبحت حركة الحج نشيطة بقيام الإمارات الصليبية في الشرق الإسلامي، وقد ذاع صيت هذا الإسبتار، وتدفقت عليه جموع من الصليبيين من مختلف شرائح المجتمع الأوربي ونظراً لظروف المعارك التي فسحت لتلك الجموع لتحقيق مصالحها ومآربها، وبذلك اجتمعت بالإسبتارية قوة بشرية سرعان ما حولتها إلى جيش نظامي داخل مملكة بيت المقدس بعدما ازداد عدد فرسانها وأصبحت طائفة عسكرية محترفة حافظت على مبادئها الدينية، وبلغ عدد هؤلاء الفرسان في بعض الأحيان عشرات الألوف، مما استدعى تشييدها لمجموعة من القلاع والحصون كانت عبارة عن مدن عسكرية.
3 ـ وظائف إسبتارية بيت المقدس .
مارست الإسبتارية بالإضافة إلى وظيفتها الدينية المتمثلة في تقديم المساعدة للحجاج وجرحى الحروب وظائف أخرى منها :
أ ـ الوظيفة العسكرية :
وتظهر الوظيفة العسكرية لأسبتارية مملكة بيت المقدس من خلال مظهرين :
ـ الإسبتارية كقوة محاربة : سبقت الإشارة إلى أن الإسبتارية بفضل أتباعها تحولت إلى طائفة عسكرية مشكلة قوة مسيحية بالشرق جسم العالم الإسلامي مما أتاح لها أن تشارك في جل الحملات الصليبية بقيادة ملوك الغرب المسيحي، فمثلاً وجدناها تساهم بحوالي خمسمائة فارس و بعض المشاة في حملة صليبية على مصر سنة 1158م ، وحاربت إلى جانب ملك فرنسا لويس التاسع في عدة معارك و المناوشات: كمعركة يوم الجمعة 7 ذي الحجة 647ه الموافق لـ 11 فبراير 1250م في ضواحي المنصورة بمصر ، وشاركت في معركة جرت أمام مدينة غزة سنة 1244م حيث قتل عدد كبير من فرسانها و أُسر زعيمها دي شاتنوف (1243م ـ 1258م ) ، أما على مستوى بيت المقدس فقد أنيطت مهمة قيادة بعض الفرق العسكرية للإسبتارية فشكلت رأس حربة في جيوش الملك بلدوين الثالث (1143م ـ 1163م )أثناء حصاره لعسقلان في 25 يناير 1153م .
واستمدت الإسبتارية قوتها العسكرية من إمكاناتها الحربية و شجاعة فرسانها الذين نذروا أنفسهم للقتال ومن معرفتها الجيدة بجغرافية المنطقة و احتكاكها بالمسلمين ن عكس الصليبيين الزائرين أو المقاتلين في الحملات الصليبية الذين كانوا يجهلون خصائص المنطقة البشرية و الطبيعية ، مما جعل امليريك الأول (1163م ـ 1174م) يعتمد عليهم في وضع خططه الحربية ، كما اعتمد عليهم ريتشارد الملقب بقلب الأسد في حملته كمستشارين في تسيير عملياته الحربية .
ونظراً للدور العسكري للإسبتارية منح لفرسانها ملوك بيت المقدس مجموعة من القلاع و الحصون مشكلين منهم دروعا واقية لمملكتهم ضد هجومات المسلمين ، و أهم الحصون التي امتلكتها هي : حصن الأكراد و المرقب و البقيعة و عرقة في شمال بيت المقدس ثم حصن عكا في الوسط و في الجنوب حصني الكرك و حصن بيت جبرين و عقدت الاسبتارية معاهدات مع بعض الأمراء حافظت لها نفوذها مثل المعاهدة التي أبرمتها مع السلطان الملك الظاهر بيبرس سنة 665هـ /1267م و التي أوردها القلقشندي في كتابه " صبح الاعشى .." (3) .
ويمكن استخلاص القوة التي باتت تتمتع بها طائفة الإسبتارية من موقف صلاح الدين الأيوبي تجاهها في المعارك التي خاضها ضد الصليبيين بصفة عامة ، و في معركة حطين في 4 يوليوز 1187م بصفة خاصة فمقابل إصداره أمراً بالإبقاء على حياة البارونات العلمانيين أمر بالإجهاز على الأسرى من الداوية الإسبتارية و نفذ حكمه جماعة من المتصوفة و الزهاد في جيشه ، كما ينعت ابن الأثير هاتين الجماعتين بأنها جمرة الفرنج و يبرر قتلهم بقوله « و إنما خص (صلاح الدين ) هؤلاء بالقتل لأنهم أشد شوكة من جميع الفرنج فاراح الناس من شرهم » (4).
ـ الإسبتارية كداعية للحروب الصليبية :
لعبت الإسبتارية دوراً دعائياً تحريضياً حلى خوض الحروب الصليبية للتوسع في الشرق العربي ، فشاركت في السفارات التي ذهبت من القدس إلى أوروبا لأجل تحقيق هذا الغرض ، فمثلها زعيمها جيلبيرت (1163م ـ 1170م ) السفارة التي توجهت إلى أوروبا حوالي سنة 1161م بزعامة فريدريك رئيس أساقفة صور ، كما شاركت في سفارة أخرى حملت رسائل إلى امبراطور ألمانيا فريدريك الأول و ملك فرنسا لويس السابع و ملك انجلترا هنري الثاني و مرغريت الوصية على عرش صقلية و كونتات منطقة فلاندرة ، و اشتركت الإسبتارية أيضاً ضمن وفد توجه إلى فرنسا سنة 1184م ـ 1185م و زار انجلترا لعرض تاج بيت المقدس على فيليب أوكيست و على هنري الثاني لتوطيد النفوذ الصليبي في المشرق العربي.
ب ـ الوظيفة المالية :
إذا كان لم يسمح للطوائف الدينية بسك النقود فإنها مارست نشاطاً مصرفياً هاما شكل لها مورداً ماليا استفادت منه ، ولم ينته القرن الثاني عشر حتى أصبحت تمارس عملية إقراض الأموال، فأصبحت مثلاً طائفة الداوية التي أسست من طرف فارسين هما هوجيس بايينHugues de Payens و جوفراي دو سان أومارGeoffray de Saint Omar حوالي سنة 1118-1119م مؤسسة مصرفية تمول البابوية و حتى ملوك أوروبا بالمال ، و غناها هو الذي دفع فيليب لوبيل الفقير إلى المال أن يطلب الانتماء إلى هذه الطائفة إلا أن طلبه رُفض فشن حرباً استئصالية ضد أتباعها و أرغم البابا كليمونت الخامس أن يصدر قراراً في مجمع فيينا في 3 أبريل 1312م بإلغاء تلك الطائفة و تفويت ممتلكاتها لإسبتارية بيت المقدس فأصبحت بذلك قوية .
ج ـ الوظيقة الاجتماعية :
برغم من تحول الإسبتارية إلى فرقة عسكرية محاربة فإنها ظلت تولي اهتمامها للشؤون الدينية ، فرعت الأعمال الخيرية و وسعت نزلها في بيت المقدس لإيواء آلاف الحجاج و الزوار المسيحيين و تولت الإنفاق على مستشفى تملكه لعلاج المرضى الفقراء ، كما اعتادت الإسبتارية توزيع الصدقات عليهم كل يوم اثار دهشة الزائرين المسيحيين القادمين من أوروبا ، و استمر نشاطها الخيري حتى بعد استرجاع المسلمين لبيت المقدس .
و من المهام الاجتماعية الأخرى التي اهتمت بها الإسبتارية تربية أبناء السادة الإقطاعيين و الأمراء في إطار الخدمات التي تقدمها للمسيحيين ، كما تحملت مهمة جمع الأموال لافتداء أسرى النصارى و خصوصاً الأغنياء منهم فقد دفعت مثلاً فدية ريموند كونت طرابلس البالغة ثمانين ألف دينار (5)،و بفعل هذه المكانة الاجتماعية و المالية للإسبتارية مُنح لقيّمها منصباً بالمحكمة العليا في بيت المقدس .
خاتمة .
بعد سقوط آخر المعاقل الصيبية ـ عكا ـ في يد المسلمين سنة 1291م انتهى تاريخ وجود الطوائف الدينية بالمشرق العربي حيث غادرته طائفتا الداوية و الإسبتارية إلى جزيرة قبرص لتتخذا منها مقراً لهما ، ثم انتقلت طائفة الإسبتارية على جزيرة رودس و ظلت بها إلى أن قضت عليها الدولة العثمانية عند توسعها في جزر البحر الأبيض المتوسط ، وإذا كان ظهور طائفة الإسبتارية يجد أسبابه في ظروف الحروب الصليبية على الشرق الإسلامي و طرد المسلمين من الأندلس في الغرب الإسلامي فإنها تجسد رغبة أوروبا في زرع أجسام في الأمة الإسلامية لتقويضها و القضاء على عقيدتها الإسلامية و عزل الجناح الشرقي عن الغربي في الوطن العربي ، و سيتبلور هذا المشروع من جديد خلال مطلع العشرين بزرع الكيان الصهيوني في نفس المنطقة حيث ظهرت الإسبتارية .
الهوامش :
1 ـ ستيفن رنسيمان : تاريخ الحروب الصليبية . الجزء الثاني ترجمة الباز العريني ، مطبعة دار الثقافة بيروت ، 1968 ،ص250.
2 ـ ستيفن رنسيمان : تاريخ الحروب الصليبية . الجزء الثالث ترجمة الباز العريني ، مطبعة دار الثقافة بيروت ، بدون تاريخ ،ص.310.
3 ـ أبو العباس أحمد القلقشندي : صبح الأعشى في صناعة الإنشا .المطبعة الأميرية القاهرة 1919. الجزء 14 ,ص31 إلى 39.
4 ـ ابن الأثير : الكامل في التاريخ . المجلد 10، دار الكتب العلمية بيروت .الطبعة 1 .1987 ، ص.144.
5 ـ ستيفن رنسيمان : تاريخ الحروب الصليبية . الجزء الثاني ، مرجع سابق . ص502.