تمهيد:
منذ مقتل عثمان ابن عفان رضي الله عنه الخليفة الثالث للمسلمين، أصبح الصراع على السلطة مشروعاً ومحتدماً، ويتجلى ذلك أكثر كلما توغلت في دهاليز تاريخ الخلفاء الذين تعاقبوا على الحكم بعد الأربعة الأوائل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي واستثناء العهد العزيزي. قد لا تجد خليفة من الخلفاء يده نظيفة من الدم، فقد تشربوا حب الدم حتى أصبح ثقافة الخلفاء وولاتهم.
لا ينكر منكر أن السلطة وخاصة السياسية منها لها من المناعة ما لسواها، وبالأخص في زمن سلطة الخلافة، بل وكل الإمبراطوريات الشمولية التي حكمت الشعوب بقبضة من حديد. فالسلطان الجديد عندما يتولى الخلافة يحتاج الى خلط الأوراق وقلب الطاولة على إرث الفقيد الذي لا يترك هذه الدنيا الا على وصية يوصي بها لمن يخلفه، غير أن السلطان الجديد ذو الأذن الصاغية ما أن تنتهي مراسيم الدفن حتى يهرع لتمزيق الأوراق وترتيبها، ويتخذ إجراءات قاسية يكون على رأسها تصفية إرث الفقيد.
السلاطين والعنف:
لا تخلو سلطة من عنف. وهذه حقيقة يجب على الذين يدافعون عن نظام الخلافة الإسلامي الموصوف عندهم بالسؤدد ومن يبتغي غيره فلن يقبل منه، أن يعترفوا بها. وكأي نظام حكم فإن المتمعن في تاريخ الخلفاء يجد عجباً، إذ نستطيع القول: بان الدم كان شعار كل السلاطين الذين أعقبوا الخمسة المذكورين أعلاه، وتاجا على رؤوسهم. وقد اتخذ العنف في تاريخ الدولة الإسلامية أشكالا وألواناً، فمن الضرب الخفيف إلى الضرب حتى الموت الى تقطيع أطراف الجسد إلى السحل وسمل العيون وصم الآذان وجدع الأنوف وجب المذاكير، إلى الحرق والفتك والتمثيل بالجثة...الخ، وعادة ما تمارس عملية التعذيب علناً وتتنوع فضاءات "المشهد العقابي" حسب الظروف السياسية العامة أو حسب الأهمية التي يمثلها الضحية المستهدف، بالإضافة إلى الإقامة الجبرية والنفي..الخ[1].
ورغم القتل والفتك الذي صحب السلطان أين ما حل وارتحل، فإن الذي يتم الترويج له في التاريخ الرسمي أن الخليفة يكون من الأتقياء ومن أخلاقه تستمد الرعية حسن الخلق، ومن كرمه وسخائه ما يسيل اللعاب لأجله، قوّام باليل صوّام بالنهار...الخ، وقد وُصف أحد ملوك بني العباس ابو جعفر المنصور بالقول: "كان المنصور من عظماء الملوك وحزمائهم، وعقلائهم وعلمائهم، وذوي الآراء الصائبة منهم، والتدبيرات السديدة، وقوراً شديد الوقار، حسن الخلق في الخلوة، من أشد الناس احتمالا لما يكون من عبث أو مزاح. فإذا لبس ثوبه وخرج إلى المجلس العام تغير لونه، واحمرت عيناه وانقلبت جميع أوصافه"[2].
هذا الخليفة الورع هو الذي خلع عيسى بن موسى بن محمد العباسي من ولاية العهد، وأخذ البيعة لابنه المهدي. ومارس في ذلك كل الوسائل اللاأخلاقية حتى تم له ما أراد. ففي هذه الحالة غيبت القيم والأخلاق جانباً وتمت الشرعنة لها وإيجاد المبررات اللازمة. فالغاية تبرر الوسيلة حسب تعبير ماكيافيلي.
حكمت الدولة العباسية زهاء خمسة قرون، من عام 132هـ، وهو العام الذي تولى فيه أبو العباس السفاح الخلافة إلى أن زالت على يد التتار عام 656هـ (1258م).
كان أبو العباس اول من جلس عرش الدولة العباسية، وفي أول خطبة له بعد توليه الخلافة الذي أطنب في مدح المناصرين والمساعدين له على بسط سلطانه، وندد بالمناوئين والمخالفين وكل من في قلبه ذرة ولاء لبني أمية، ثم ختم خطبته بقولته الشهيرة: "أنا السفاح المبيح والثائر المبير"[3]، مما يعني أنه رفع شعار الدم منذ البداية كما يظهر، وإن اختلف المؤرخون في معنى مصطلح "السفاح" فقد قال بعضهم يعني المنّاح أي الذي لا ينقطع عن العطاء. غير أن الكثير من المعاجم تورد على رأس معاني مصطلح "السفاح" أنه من يكثر سَفْك الدِّماء، ويتّصف بالقتل غير المبرَّر. ومما يدل على هذا ايضا ما ذكره السيوطي في كتابه "تاريخ الخلفاء" قوله: "وكان السفاح سريعا إلى سفك الدماء فأتبعه في ذلك عماله بالمشرق والمغرب"[4]. ويترجح لنا هذا المعنى من خلال سيرة الدم الذي انتهجها أبو العباس، فقد قضى معظم وقته في محاربة قواد العرب الذين ناصروا بني أمية، وقضى على أعقاب الأمويين حتى إنه لم يفلت منهم إلا عبد الرحمان الداخل الذي استقر به المقام في بلاد الأندلس وأسس بها الدولة الأموية. لكن، لن يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، - لو كان الأمر كذلك لقلنا إنه أمام خصم سياسي عتيد والمسألة فيها رد الصاع بصاعين - بل وجه السفاح همته إلى الفتك بمن والوه وساعدوه على تأسيس دولته، فقتل أبا "سلمة الخلال"، وهم بقتل أبي "مسلم الخرساني" المساعد الرسمي في تثبيت ملكه لولا أن عاجلته منيته، كما قتل "ابن هبيرة" أحد قواد مروان بن محمد الأموي بعد أن أعطاه الأمان[5].
هذا، ومن مشاهد الدم ما يذكره المؤرخون أن سلاطين بني العباس ومن بينهم "عبد الله" عم السفاح قتل نحو ثلاثمائة (300) من بني أمية، كما أنه تم الفتك بكل من نواء سياسة بني العباس أو تجرأ على المعارضة، وتذكر كتب التاريخ أنه "لما أوتي لأبي العباس برأس مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ووضع بين يديه، سجد فأطال ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله الذي لم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك، الحمد لله الذي أظفرني بك وأظهرني عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني الموت، فقد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو (جسد) هشام بابن عمي يزيد بن علي، وقتلت مروان بأخي ابراهيم، وتمثل بقول الشاعر:
لو يشـربون دمـي لـم يـرو شـرابهم **** ولا دمـاؤهم للــغيظ تـــرويـــني[6]
ولم يقتصر الأمر على الأحياء فقط فقد بلغ بهم الحقد السياسي إلى درجة التمثيل بالجثث ونبش القبور فنبش قبر معاوية وكذلك فعل بابنه يزيد، وأمر الخطباء بلعن معاوية وأتباعه على المنابر عقب كل خطبة في كافة الأمصار الإسلامية. من ذلك نرى كما يؤكد المؤرخون أن خلفاء بني العباس استأثروا بالسلطة عن طريق السفح والفتك بالخصوم.
إن المتمعن في هذه السياسة يجدها بعيدة كل البعد عن أخلاق المسلم النابعة من وحي السماء وأخلاق نبي الله محمد (ص) الذي وصفه الله بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم). ولا من آثار سياسته المتسامحة التي سطرت في سيرته عليه السلام، فعندما دخل مكة فاتحاً وتم له ذلك، بعد تعُنّت شديد من أهلها، قال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا ما تفعل إلا خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. ثم خطب خطبة بيّن فيها كثيراً من أساسيات الإسلام وشعائره، وأقرّ التسامح والمساواة بين الخَلق جميعاً.
هذا مقتطف من أخلاق الرسول محمد عليه السلام رغم العداء الشديد الذي تعرض له على أيدي قريش مكة؛ ولأنه كان يكره الدم والعنف، ويحب العفو والسلم، ما يفعل بسفك دمهم وقد شكروا وآمنو ودخلوا في السلم كافة. غير أن العكس هو الذي حصل اثناء حكم بني العباس المنتسبين لبيت النبي محمد (ص) عِرقياً لا اخلاقياً، فقد سفكوا دماء كثيرة بغير حق، حتى إنهم كانوا يعطون الأمان ويخلفون الوعد وهذه قمة الانحطاط السياسي.
إن سياسة الدم هذه التي اتبعتها سلطة الخلافة عكس ما يروج له المنافحين عن نظام الخلافة، أو تلقيناه ونحن صغار على أيدي خدام السلاطين رغم انقراض نظام الخلافة منذ زمان، وهذه الثقافة التي تؤسس السلم على الدم هي التي تسود الآن عند بعض الجماعات كتنظيم "داعش" مثلا، التي ترفع شعار: "الخلافة هي الحل". مع العلم أن الهاجس المحرك والذي يحرك كل واحد يريد أن يحكم عبر التاريخ البشري هو السلطة ولا شيء غير السلطة.
هذا غيض من فيض، ومن أراد الاستزادة من مشاهد الدم والعنف في التاريخ السياسي لسلاطين بني العباس فليتنقل بين صفحات كتب التاريخ وسيجد العجب العجاب.
ألا يمكن القول: بأن نفس السيناريو يعاد في القرن الواحد والعشرين على يد ما يسمى ب"الدولة الإسلامية" في العراق والشام؟
[1] - عبد اللطيف الحناشي، السلطة والعنف في التاريخ الإسلامي، الدولية الأموية أنموذجا. مقال، مؤسسة مونون بلا حدود، قسم الدراسات والأبحاث. ص، 9.
[2] - د حسن ابراهيم حسن، تاريخ الإسلام، ج 2 ، دار الجيل، ط، 15، ص، 34.
[3] - د حسن ابراهيم حسن، تاريخ الإسلام، ج 2 ، دار الجيل، ط، 15، ص، 24.
[4] - عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تاريخ الخلفاء، ت: محمد محي الدين عبد الحميد، ط 1، 1371هـ - 1952م، م السعادة – مصر، ص، 226.
[5] - د حسن ابراهيم حسن، تاريخ الإسلام، ج 2 ، دار الجيل، ط، 15، ص، 25.
[6] - د حسن ابراهيم حسن، نفسه، ص، 73.