تنبيهات.(3): الجابري من عقلانيّة البداهة الديكارتيّة إلى البلاغة - البشير النحلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

«إنّ الانسجام هو المطلب الأوّل عند الفيلسوف وهو، مع ذلك، جدّ قليل. والمدارس اليونانيّة القديمة تقدّم عنه أمثلةً أكثر ممّا نجد في عصرنا التّوفيقي، الّذي تُبْتَدع فيه توليفاتٌ سطحيّة وغير نزيهة بين تناقضات أساسيّة، لأنّها تتمتّع بالقبول لدى جمهور يقنع بمعرفة القليل عن كلّ شيء، دون أن يعرف في العمق أيّ شيء..»[1]   

«إن وجهتنا الوحيدة هي التحليل «العلمي» لـ«عقل» تشكّل من خلال إنتاجه لثقافة معينة، وبواسطة هذه الثقافة نفسها: الثقافة العربية الإسلامية. وإذا كنا قد وضعنا كلمة «العلمي» بين مزدوجتين، فذلك إقرارا منّا منذ البداية بأن هذا البحث لا يمكن أن يكون علميا بنفس الدرجة من العلمية التي نجدها في البحوث الرياضية أو الفيزيائية. إن الموضوع هنا هو شيء منا، أو نحن شيء منه، فنحن أبينا أم رضينا مندمجون فيه. وكل أملنا هو أن نتمكن، في هذا البحث، من الصدور عن الالتزام الواعي لا عن الاندماج المشيء للفكر المعطل للعقل»[2]

فاتحة:

   أشرتُ في الهامش 30 من المقال الأوّل[3]، الّذي ناقشتُ فيه اعتراض العمري في كتابه "البلاغة العربية" على محمد عابد الجابري، إلى أنّ هذا المعترض حاول في مقاله اللّاحق «الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية» المنشور ضمن المؤلَّف الجماعي «محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة» إعادة الجابري إلى "النّظام البياني"، ووعدت بالوقوف عنده. وفي هذا المقال، وفي ما سيليه، سأركّز على مناقشة ما سطّره عن الجابري ابتداءً من الصفحة 104 تحت عنوان: " ثانيا: الجابري من الفلسفة إلى البلاغة"! وقد فضلتُ ألا أتعرّض لما قبل ذلك مما قاله تحت عنوان "أولا: الفلسفة والبلاغة"، ترفّعا عن مناقشة إسفافه في حضرة مفكّر فيلسوف. والنزّاهة تقتضي أن أحمل ما قصد إليه، مما تركتُ مناقشته هنا من كلامه المُمَهّد، على أحسن الوجوه الممكنة. وأبتدئ في هذا المقال بالوقوف عند ما سمّاه بـ "البلاغة في نسق «العقل البياني»، وذلك لارتباط مضمونه بما سبق أن أثاره في كتابه "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها"، وأقف عند ادّعاء عجيب جديد يتمثّل في كون الجابري تحوّل عن عقلانية ديكارت وبداهته إلى البلاغة، وعند ما اعتبره نقطة التحوّل؛ على أن أخصّص لما سمّاه بـ "البلاغة التطبيقية" مقالا ثانيّا؛ وأجعل المقال الثّالث تركيبا للاستنتاجات، ومناقشة لها في ضوء الـ "رّؤيةٍ" الّتي يقول إنّه ينطلق منها، والـ "منهج" الذي يدّعي أنّه يصطنعه.

   المقال الأوّل الآتي يدور حول محورين، الأوّل هو اعتراض العمري على الجابري وما رصده لهذا الاعتراض من براهين، والثّاني ادعاؤه " تحول الجابري من الفلسفة إلى البلاغة". وأوضّح، في هذه الفاتحة، أنّ "الاعتراض" و "الادّعاء" وما يستندان عليه، كل ذلك ورد في المقال، موضوعَ المُدارَسَة، منتشرا مختلطا؛ لذا، فإنّ مناقشتَه تقتضي، بالإضافة إلى تلخيصه، ترتيبه وتخليصه من هذيان عظيم. وسأبتدئ من الاعتراض، وأُثَنّي بالوقوف عند دعاوى التّنبّه التّدريجي للجابري وتحوّله، في النّهاية، من الفلسفة إلى البلاغة عند نضجه واكتمال أدواته!

1.  الاعتراض: خطأ "إدراج البلاغة في العقل البياني مع النّحو والفقه والأصول وعلم الكلام":

   هذا اعتراضٌ ورد عند العمري في كتابه "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها"، وكرّره بصيغ فيها الكثير من الغمز على الجابري في كتابه "المحاضرة والمناظرة"؛ وهو الكتاب  الّذي أشار فيه إلى أنّه كتب مقالا "أدق وألصق" بموضوع استخراج الجابري لما أسماه «البيان» يتناول فيه «الأبعاد البلاغية في مشروع محمد عابد الجابري ككل».[4] ومضمون هذا الاعتراض هو عدم وجاهة "جعل" الجابري «البلاغة شريكا للنّحو، وعلم الكلام والأصول في بناء «العقل البياني»» والتماس «أصل هذا «البيان» ومنطلقه في أصول الفقه، ثمّ في البلاغة كما «هفا» إليها الجاحظ في مشروع البيان والتبيين»[5]. وقبل مناقشة هذا الاعتراض الإجمالي، ننظر في مستنداته أوّلا:

 1. 1. يقول العمري: "العمل النّسقي الّذي رامه الجابري كان يفترض وجود أنساق مكتملة لهذه العلوم الأربعة تضمن أن يكون اللّقاء بين جواهرها لا هوامشها"[6]. قلتُ: أن يكون الجابري قد رام جَعْلَ عمله عملا نسقيّا فهذا يشهد له به طه عبد الرحمان نفسه، الذي اجتهد في استثمار مشروعه وقلبه ضده. ولكن ما معنى أنّ عمله " كان يفترض وجود أنساق مكتملة لهذه العلوم الأربعة تضمن أن يكون اللقاء بين جواهرها لا هوامشها"؟ هل كان على الجابري ألا يتناول تلك "التشكيلات الخطابية" في طور التكوّن ولا ينظر فيها إلا بعد أن " تكتمل" وتتمايز في ما بينها، ويظهر في كل منها ما هو "جوهر" وما هو "هامش"؟ إذا كان هذا هو المقصود، فالأليق ترك مناقشة من يقول به، وإلا فلا مبرّر، البتّة، للقول بعدم وجاهة التعرض لأيّ مرحلة من مراحل تكوّن ونموّ أي "علم"! أمّا إذا لم يكن هذا هو المقصود، فلا يبقى إلّا أنّ العمري يظنّ أنّ الواجب كان يقتضي من الجابري أنْ يتريّث حتّى "يضع بين يديه الخريطة التي أعاد رسمها للبلاغة العربية".[7] وهذا كلامٌ لا يصحُّ إلّا باعتبارات ثلاثة: الأوّل هو أن يكون موضوع الجابري هو نفس موضوع العمري، وليسَ؛ والثّاني أنّ فهم العمري للبلاغة العربيّة أدقّ وألصق بـ"نسقها" "وجوهرها" وأنّ الجابري لم يقدر على فكّ شفرة كلّ ذلك، وهذا باطلٌ لارتباطه بالوجه الأوّل، فالفيلسوف إنّما تتبّع بالوصف والتحليل رؤى ومناهج ومفاهيم وآليّات النّظم المعرفيّة الثّلاثة المشكِّلة للعقل العربي؛ والثّالث أنّ العمري حاول – وهو أمر مقبول بشروط[8]- أن يعيد تشكيل البلاغة العربيّة على نحو يمكّنها –في ظنِّه- من مسايرة بعض ما استجدّ في حقل البلاغة في الغرب، وهذا ممّا لا يدخل في اهتمامات ومقاصد صاحب "نقد العقل العربي" بشكل أساسي ومباشر، ذلك أنّه إنّما قصد إلى وصف سيرورة تكون العقل العربي وتحليل بنيته الّتي لا يشكِّل "نظام البيان" –وليس البلاغة- إلا مكوّنا واحدا إلى جانب مكوّنين آخريْن، و"نظام البيان" هذا هو الذي تشكِّله "العلوم العربيّة الخالصة"؛ ولم يهتم، قطعاً، برسم مسارٍ لما كان عليه ولما ينبغي أن يصير إليه أيّ "علم" على حدة. وهذا لا يعني أنّ ما قام به الجابري كان منفكّ الجهة عن الاهتمام بنشأة العلوم وإمكانات تطويرها، بل يعني أنه يقصد إلى الأهمّ، إلى إبراز الأسس الّتي قامت عليها والّتي تفتقر إلى إعادة تأسيس بمراعاة متغيّرات ترتبط بكل مجال وتخصّص. لنقرأ ولنلاحظ، بالإضافة إلى التّأكيد على التّأريخ ووصف الوقائع، ترفّع الفيلسوف عن مناقشة من لا يستطيعون رؤية ما يخرج عن حدود اختصاصهم: «إنّنا نعلم أن مثل هذا الحكم سيستفز كثيرا من المختصين في تاريخ البلاغة العربية من الباحثين المعاصرين الذين يكادون يُجمعون على أن السكاكي قتل، بتقعيداته وتعقيداته، الحياة في البلاغة العربية.. ودون الدخول في نقاش ليس من مهمتنا ولا من اهتمامنا الخوض فيه، نكتفي بالقول هنا إنّ نظرة المؤرّخ للفكر العربي ككل لا بد أن تختلف عن نظرة المؤرخ لجانب من جوانبه. ونحن ننظر إلى العلوم البيانية ككل في ترابطها وتداخلها وتأثير بعضها في بعض وبالتالي فإنّ ما يهمنا ليس «نبضة» الحياة كواقعة منفردة، في هذا العلم أو ذاك، بل ما يهمنا بالدرجة الأولى هو «شرايين» الحياة كمنظومة تقوم على الترابط والتكامل بين أجزائها وأطرافها، وتؤدي وظيفة عامة واحدة، منها تستقي الأجزاء معناها ووظيفتها. ونحن نعتقد أن هذه النظرة الكلية لها ما يبررها سواء تعلق الأمر بعلم البلاغة أو بعلم النحو أو بعلم الفقه وأصوله أو بعلم الكلام، فهذه العلوم مترابطة متداخلة بصورة تجعل منها مظاهر أو فروعا لعلم واحد، هو «البيان»، أو على الأقل هي ذات موضوع واحد هو «البيان» وبالتالي فتاريخها تاريخ مشترك ونبضة الحياة فيها نبضة واحدة مشتركة. وهذا ما أدركه السكاكي بوعي وعمق فحاول التعبير عنه بكتابه: مفتاح العلوم الذي هو بالنسبة للدراسات البيانية بمثابة «أورجانون».»[9] 

 2.1. قُلنا في مناقشتنا للحجّة الأولى إنّ ادّعاء العمري بكونِ فهمه الدقيق للبلاغة وتقديمه لـ "خريطتها النسقيّة" و"تعريفها الجامع" "مستجدات" تجعل الأسئلة الّتي طرحتها قراءة الجابري "غير مستساغة" ادّعاء لا يقوم على أساس لتباين الموضوع والمقاصد؛ ونقول الآن، إن ادّعاء العمري هذا ينقضُه هو نفسه في الحجّة الثانيّة: فهو يرى أنّ "البلاغة كانت في تخلف أفقدها جوهرها وديناميتها، وما عاد ظاهرا على سطح بركتها الراكدة غير جانب من هيكلها الغارق تحت طمي عصور الانحطاط الذي استطاع أن يحجب قامة بطول وعرض قامة حازم القرطاجني "[10]. فهذا القول ينقض حجّة وجود موضوعي لبلاغة لم يدرك نسقها الجابري. غير أنّ العمري يوارب: فالبلاغة كان لها "جوهر" وكانت لها "ديناميّة" لم يُفْلِح الجابري في الكشف عنهما، ممّا فوّت عليه تقدير حازم القرطاجني الّذي بقي محجوبا تحت سطح البركة الرّاكدة لعصور الانحطاط! والمتثبّت يعرف يقينا أنّ الجابري إنّما حرّكته بالأساس إرادة فهم الآليات العقليّة الّتي أدّت إلى هذا الانحطاط الّذي مازلنا نرزح تحته، ويعبّر عن نفسه بمثل هذا الفيض اللّفظي والنّزوع الإسقاطي "السّلفي" لهذا "البلاغي" الناقد، ويعرف، أيضا، أنّ هذا "البلاغي" الناقد يُبْعِد من حيّز رؤية "طالبه المجتهد" أنّ الجابري تناول "أسرار" و"دلائل" عبد القاهر الجرجاني الّذي ربط به العمري "كلّ البلاغة" وألحق به حازم القرطاجني نفسه" في كتابه "المحاضرة والمناظرة"، وتناول، بالطّبع، غيره ممّن يُحْسَبون على هذا "الاختصاص"، والّذين يصفهم العمري بأصحاب "بلاغة الانتشار". وإذا أجاز القارئ لنفسه أن يستعمل صيغة "لو" التي أسرف العمري في استعمالها، فإنّه لا يجانب الصواب إذا قال: لو تناول الجابري حازم القرطاجنّي لجاءت قراته بالغة الخصوبة، ولأدرجه في سياق محاولة تأسيس البيان على البرهان، ولو فعل لما تقلّص وتهافت ما كتبه العمري بخصوصه في "البلاغة العربية"!، ولو قرأ العمري كتابات الجابري قراءة المتثبِّت الباحث عن الفهم لا الانتفاع والتّنكر لما اغتاله بنيرانه "الصّديقة"! ولعدوٌّ عاقلٌ خيرٌ من "حليفٍ" باحثٍ "ضيّق"!

3.1. و "لو" الّتي انتهينا إليها أعلاه، هي بالضّبط "حجّته الثّالثة. يقول" لو وجد الجابري بين يديه الخريطة التي أعدّها العمري، والتعريف الجامع الّذي اقترحه لأثار أسئلة أخرى غير الّتي طرحها على البلاغة المأسورة، فالبلاغة التي تتغذّى من الفلسفة والنّحو ليست هي البلاغة الّتي فقدت أهليتها وصارت أسيرة لديهما"[11]. لقد امتنع على الجابري أن يطرح الأسئلة الملائمة لانتفاء الشّرط: لم يجد خريطة العمري وتعريفه الجامع للبلاغة. وعليه فإنّ ما قاله عن هذا "العلم" يستوجب المراجعة. والحجّة متهافتةٌ من وجوه؛ أوّلها أنّ الجابري مسؤول عما يفعل، لا عما يفعل أو يجب أن يفعل غيره؛ وثانيها أنّ ذلك لغوٌ لدخوله في الغيب، وهو عجيب من "عالم بلاغة" يطلب من فيلسوف أن يكون كلامه خاضعا لـ"شرط الاختبار وقابلية التفنيد"[12]، والأقرب احتمالا أن يُدخل الجابري أعمال العمري في خانة العقل البياني الضيّق ويصف منهجه بـ "السّلفي" الّذي يعيد كلّ جديد إلى ماض متوهّم ومحلوم به؛ وثالثها أنّ الجابري قدّم أدقّ دراسة عمّن لم يكتف العمري بأنْ ينسب إليه تأسيس البلاغة، بل نسب إليه صياغة علم كلّي سماه "بلاغة الانتشار"، وجعله المنبع والمصب لسلفه وخلفه، ونقصد عبد القاهر الجرجاني؛ ورابعها أن تخيّل الجابري وهو يضع نظّارة العمري اللّفظية السّميكة لقراءة البلاغة العربية أمرٌ غير وارد عند المنصف، لاعتماد الجابري "الحفر" والوصف والتأريخ والتنسيق لسيرورة تكوّن أسس العقل العربي وتحليل بنيته، وصدور العمري عن رؤية إسقاطيّة تنسب بعض الآراء و "الرّغبات" في البلاغة المعاصرة إلى التراث البلاغي العربي، فتجعل ذلك التّراث متعاليا منفكّا عن شرطه التّاريخي؛ وخامسها وآخرها أنّ العمري اقتات على عمل الجابري، وإن غَمَز عليه، باتبّاعٍ غير معلنٍ لبعض مآخذ فقيه الفلسفة طه عبد الرحمان على صاحب "نقد العقل العربي".

4.1. مأزق الوصل بالنّحو والفصل عن العرفان:

   يقول العمري "إن جعل البلاغة في العقل البياني مع النحو والفقه وعلم الكلام إقحام لها في مأزقين: جمعها مع نظم من طبيعة/طبائع مغايرة، وفرض مستوى من المعاقلة يرسم حدودا صارمة بينها وبين العرفان"[13].

  • المأزق الأوّل: الوصل بالنحو:

   الكلام على مأزق جمع البلاغة بالنّحو ذي "الطبيعة/الطبائع المغايرة" جعجعةٌ لا تليق. لأن العمري نفسه يوضّح، في الفقرة عينها، أنّ البلاغة تعتبر النّحو "مجرد أرضية تنشط فوقها"، ولا يخفى أنّ استعمال كلمة "مجرّد" هنا، مثل "المقارنة بالموسيقى والتشكيل"، هو إجراء خطابي يوجّه إلى التّهوين من تَطالب البلاغة والنّحو، خاصّة في المجال العربي القديم. ورغم هذا "الإجراء" فإنّ كون النّحو هو أرضيّة –حتّى وإن كان أرضيّة من بين أخريات-  ليس بالأمر الهيّن؛ وعدم اعتبار تلك الأرضيّة هو، باختصار، محو للبلاغة كما يتصوّرها العمري نفسه. لذلك ارتبطت البلاغة بالنّحو عند قدماء العرب وعند غيرهم، وعليه فإنّ جمعهما من قبل الفيلسوف عمل مستقيم لا عيب فيه. هذا وقصده المتمثّل في تتبّع سيرورة "تكوّن العقل العربي" وبيان نظامه يفرض رصد الآليّات المشتركة والمترابطة والمتماثلة في المجالين؛ ممّا يعني أنّه حتّى على فرض الانفصال التّام بين النّحو والبلاغة، فإنّ النّظر إلى ما يؤسّس التّخصّصين من مفاهيم وآليات عقليّة لأمرٌ في الغاية من الأهميّة. وأمّا الإصرار على جعل الفيلسوف، رغما عنه، معنيّا، بشكل حصريّ، بشأن "علم البلاغة" ففي غاية التّهافت.

   ونؤكد، في خاتمة هذه الفقرة، أنّ تسرّع العمري وتَرْكَه التّحرّي والتّحقيق يزيّف عمل الفيلسوف ويهوي به إلى درك الإسفاف. فهو يقول إنّ الجابري جعل «البلاغة شريكا للنّحو، وعلم الكلام والأصول في بناء «العقل البياني»» والتمس «أصل هذا «البيان» ومنطلقَه في أصول الفقه، ثمّ في البلاغة كما «هفا» إليها الجاحظ في مشروع البيان والتبيين». ومفهوم الأصل عند الجابري ليس مفهوما بسيطا يمكن اختزاله في المنطلق والبداية والمنبع على نحو ما يفهم من كلمة "الأصل" في سياق فلسفة التّطابق الّتي يقف على أرضيّتها العمري دون أن يعيَ ذلك، ودون أن تُساورَه، فوقها، أدنى الشّكوك، بل "الأصل" عند الجابري هو مجرّد نقطة "تتجمّع" فيها وتتضافر مكوّنات متباينة ومتفاوتة ومتراتبة قادمة من الماضي ومنفتحة على الآتي: إنّه أصل "متموّج" وغير مستقر. لذلك فإنّ الجابري لا "يلتمس" ولا يجعل أصل "البيان" في "أصول الفقه" ثمّ في "البلاغة" هكذا ببساطة وعلى نحو مطلق. وإذا اكتفينا هنا بما يعنينا في هذه الفقرة الخاصّة بالنّحو والبلاغة، فإنّ إيراد مقتطف وجيز من كلام الجابري كافٍ لِإظهار المسافة الّتي تفصله عن ادّعاء العمري الأجوف. يقول: إنّ «أول عمل علمي منظم مارسه العقل العربي هو جمع اللغة العربية ووضع قواعدَ لها. وفي حالة كهذه يكون من «الطبيعي» تماما أن يُتَّخَذ العمل العلمي الأول، الذي أنتج علم اللغة وعلم النحو، نموذجا للأعمال العلمية الأخرى التي قامت من بعده. وإذن فمن المنتظر، وهذا ما سنوضحه في ما بعد، أن تكون المنهجية التي اتبعها اللغويون والنحاة الأوائل، وكذلك المفاهيم التي استعملوها، والآليات الذهنية التي اعتمدوها.. من المنتظر أن يكون ذلك كله «أصلا» يعتمده مؤسّسو العلوم الإسلامية، أو على الأقل يشتقون منه طريقة عملهم إن لم ينسجوها على منواله. وهذا لا ينفي بطبيعة الحال تبادل التأثير في مرحلة لاحقة فتصبح علوم الدين مثالا ونموذجا لعلوم اللغة، كما سنبين في حينه»[14] (والتشديد منّا)

ب.  المأزق الثّاني: الفصل عن العرفان:

   ينتقد العمري جمع الجابري للبلاغة بالنّحو، وينتقد فصله بين البلاغة و"العرفان"، وهذا تخليط وسُخف؛ والجابري لا يقع في مثل هذا، فلا يصل ولا يفصل: النّحو والبلاغة علمان، وهما، فوق ذلك، مترابطان أشدّ التّرابط، إذ الأوّل "أرضية" للثّاني، وإنْ تكن "أرضيّة واحدة من بين أخريات"! أمّا "العرفان" فهو جملةٌ من المبادئ والمفاهيم والإجراءات الّتي تُشكِّل آليّات فعل معرفي ينتج عنه حقل معرفي مخصوص. لذا لا معنى للقول إنّ الجابري "فرض مستوى من المعاقلة يرسم حدودا صارمة بين البلاغة وبين العرفان"، ذلك أنّه لا يُعْطي لهذين العلمين نفس الصّفة الّتي يعطيها لـ"نظمه المعرفيّة"، ولا يضعهما في نفس المرتبة الّتي يضع فيها تلك "النّظم"[15]. والعرفاني، عنده، يتكلم في البلاغة وفي النّحو وفي غيرهما مثلما يتكلّم فيها البياني والبرهاني. فما الذي جرّ العمري إلى هذا التّخليط والسخف؟ جرّه إليه عدم تمثّله للتّمييز بين البلاغة باعتبارها علما والبلاغة في النصوص الإبداعية رغم مقدمته "الطويلة" عن "معنى البلاغة" والفرق بين "الإنشاء والعلم"، فخطاب الشّعراء وخطاب المتصوّفة قريب من قريب.

   بناء على ما سبق، نقول: إنّ العمري يبني اعتراضه على غير أساس، ويخلط في الكلام ويتهافت. والمطّلع على مشروع الفيلسوف يعرف أنّه لم يقرّر أن يجعل البلاغة ترتبط بالنّحو والفقه وأصول الفقه وأصول الدّين، بل إنّ أحد مقاصده المحوريّة هو بالضّبط انتقاد ذلك التّرابط الذي يعود أساسا لطبيعة النشأة المشتركة المحكومة بوظائف أساسيّة هي فهم النّصّ المؤسّس في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة وتأويله واستعماله والدّفاع عنه، لذا فهو يقدّم عمله على أنّه   وصف لوقائع وتصنيف لمعطيات، ويشدّد على أنّ تلك "الاختصاصات" نشأت مترابطة في الحقل المعرفي البياني وأنّ الأبحاث البيانيّة «إنما تم تدشينها في اللغة والنحو والفقه والكلام» وأن «الدراسات البيانية البلاغية قد بدأت وقطعت أشواطا من التطور، أساسية وحاسمة، خارج دائرة «البلاغيين» الضيّقة. هذا إذا كانت هناك فعلا، في الثقافة العربية، مثل هذه الدائرة «الضيقة»».[16] ونحن نسجّل هنا الفرق بين الجابري الّذي يقول إنّه يصف واقعا[17]، وبين وصف فعله من قبل العمري الّذي يدّعي أنّه هو الذي ينشئ من عنده الرّبط بين هذه الاختصاصات بصيغة موغلة في الجراءة، إلى حدّ أنْ يقدّمه في صورة مجرم "أقنع بلاغة معاقة بالزواج من علم الكلام"![18] والصّفة الّتي نَعَتَ بها العمري البلاغة الّتي تناولها الجابري ألصق بعقل من لا يفصل بين السّعي إلى تأسيس معرفة ترتكز على وقائع خطابيّة وتجارب حياتيّة مع وضع القدرات الإدراكيّة والمتغيّرات الّتي تتحكّم في تلك المعرفة وترسم حدودها بعين الاعتبار[19] ، وتفكير مُنْفَلِتٍ يجترّ أوهامه الّتي تتوالد عشوائيّا، ولا يحكمها إلا هوى الإعلاء من "اكتشاف علم البلاغة الكلّيّ عند القدامى من العرب"! نكتفي هنا بإيراد هذا المقتطف الّذي يشدّد على التّداخل و"الاختلاط" بين هذه "العلوم العربية الخالصة" من كلام لطه عبد الرحمان نفسه[20]. يقول: «وأما عن درجة تفاعل العلوم، فلم يكتف علماء الإسلام بالقول بتدرج العلوم في ما بينها، بل أقرو بمشروعية تفاعل العلوم بعضها مع بعض، وتشابك العلاقات بينها؛ فالمباحث الكلامية تتفاعل مع المباحث اللغوية والبلاغية والفلسفية، كما تتفاعل المباحث المنطقية مع المباحث اللغوية والأصولية، وهكذا. وقد ساهم هذا التفاعل في إثراء العلوم والفنون بعضها لبعض وفي توجيه بعضها مسار البعض الآخر، بل أدى ذلك التفاعل إلى امتزاج مصطلحات العلم الواحد بمصطلحات غيره من العلوم إلى حد أن تبدو بعض الإشكالات المعرفية التي يولدها هذا العلم كما لو كانت تنسب إلى الإشكالات المعرفية التي تدخل في علم غيره؛ وخير شاهد على ذلك ما نجده من اختلاط التصورات الفلسفية بالمفاهيم الكلامية، واختلاطها بالمعاني الصوفية، ومن امتزاج مصطلحات الجدل بمصطلحات جل العلوم الإسلامية مثل الفقه وعلم الكلام والنحو والبلاغة. ولم يقف هذا التفاعل عند حدود انتقال علوم الآلة إلى علوم المقاصد، بل تعدى ذلك إلى انتقال علوم المقاصد ذاتها إلى علوم الآلة كتخريج الآلة النحوية على مقتضى أحكام التصوف.

   وقد أدى الاقتناع بتداخل العلوم في الممارسة التراثية، تراتبا وتفاعلا، إلى أن يتجه التعليم والتكوين والتأليف جميعا إلى الأخذ بالموسوعية.»[21] 

2. الادّعاء: "تحوّل الجابري من الفلسفة إلى البلاغة ":

   يقول العمري إنّ الجابري خرج من التّعاطي الفلسفي إلى التّعاطي البلاغي الحجاجي مع الموضوع نفسه الذي شغله طول حياته. بل، إنّه يفسّر هذا الانتقال زاعما أنّه: "يعود إلى إدراك الجابري أن موضوعه لا تنفع فيه الصرامة العقلانية والبداهة الديكارتية اللتين هفا إليهما في الرباعية الأولى". لا نقف، هنا، عند إخفاء أو جهل استفادة الجابري من فلسفات متعدّدة والعودة به إلى ما قبل كانط[22]، وإلى عقلانية ديكارت وبداهته اللّتين انتقدهما الجابري انتقاد الفيلسوف المطّلع المتثبّت[23]، ولا عند هذا الاستدراك عليه بتقسيم نظام البرهان إلى برهاني شبيه وبرهاني صميم بما يحمل على الظّن أنّ ذلك مما يقوّم عمله ويقوّيه، في الوقت الّذي يقذف به إلى الدّرك الأسفل من التّهافت؛ ولكنْ نسأل العمري عن المنعطف الّذي خرج فيه الجابري من الفلسفة إلى البلاغة؟ أين قال الفيلسوف ذلك؟ أو ما هي المؤشّرات والقرائن الدّالة عليه إنْ فعل ذلك بـ "تكتّم"؟ 

   لنقرأ هذه الأقوال الّتي يتحدث فيها عن تحوّل الجابري:

 القول الأول:

 «ويعود ذلك إلى أن الجابري خرج بالتدريج من التعاطي الفلسفي إلى التعاطي البلاغي الحجاجي مع الموضوع نفسه الذي شغله طول حياته، وهو تصور لا يملك الصرامة العقلانية والبداهة الديكارتية اللتين هفا إليهما الجابري في الرباعية الأولى»[24]

القول الثاني:

«أعتقد أن هذا التحول نحو المجال البلاغي بدأ بمجرد الخروج من الجزأين الأول والثاني من نقد العقل العربي (التكوين والبنية): فبقطع النظر عن صلابة الرؤية وتماسك المنظومة في العقول الثلاثة (العرفاني والبياني والبرهاني) التي يدور حولها الكتابان، فلا نقاش في أن التصنيف هنا مبني على مستوى المعقولية التي تتصاعد صلابتها من العرفان إلى البيان، ومن ثم إلى البرهان بحق. وربما تكون الرتبة التي سيحتلها «الفكر العلمي» الذي فكر الجابري في تناوله بعد الانتهاء من رباعية نقد العقل، كما جاء في مقدمة مدخل إلى القرآن الكريم. وبذلك نكون بصدد سلم للصلابة العقلية من أربع درجات: عرفاني وبياني وبرهاني شبيه وبرهاني صميم.

إذا كانت هذه هي الدرجات الممكنة لترتيب العقول العربية معياريا فيبقى السؤال: إلى أي من هذه العقول ينتمي العقل السياسي والعقل الأخلاقي؟ وكيف يعتبران عقلين ويعطفان في الوقت نفسه على مكونات العقل البياني؟ مع الإشارة إلى أن مقايضة العقل بالفكر لا تحل المشكل.

الواقع أن الجابري يقدم كثيرا من المبادئ والتوضيحات التي تجعل ما تناوله في السياسة والأخلاق وجهين لعملة واحدة. فالموضوعان ينتميان إلى البحث في القيم، سواء قدمت في إطار التاريخ أم في إطار التصنيف والترتيب. وما دام ترتيب القيم هو مجال الاختلاف الذي لا مناص من حله بالحوار، وضمن بلاغة الحوار، فهذا المبحث أجدر أن يكون ضمن محور البيان، أي مجال التقاطع بين البلاغة والمنطق. ففي هذا المجال بنى بيرلمان إمبراطورية البلاغة الجديدة أو الخطابية الجديدة مستلهما خطابية أرسطو»[25]

القول الثالث:

«يبدو أن الجابري انتبه إلى أن العقلانية النسبية الاحتمالية الحوارية أقدر على كسر التحيز الذي يؤدي إلى الاستقطاب نتيجة عقلانية قائمة على البداهة التي تبرر الاحتماء ببداهة مناقضة مهما تكن أسسها، مثل البداهة التي يبني عليها السلفيون في إلغاء دور العقل. وبدأ الجابري يتحول نحو الاحتمالية الخطابية المحكومة بترتيب القيم عندما رأى أن مسعى النقد العقلاني لم يحل دون تحول عالم المنطق إلى درويش، والعالم الليبرالي إلى عبثي أو بهلوان يلبس الخرق ويقفز على الحواجز»[26]

 

   في القول الأوّل يبدأ العمري عبارته الّتي يصف بها التّحوّل بنبرة الواثق: "يعود ذلك إلى أنّ الجابري خرج بالتّدريج.."، لكن التّقدم في القراءة يُظهِر أنّ الجملة لم تُبْنَ لِيُفهَم منها هذا المعنى الواضح، لأنّه انتقل من الحديث عن الخروج المتدرّج "من التّعاطي الفلسفي إلى التّعاطي البلاغي الحجاجي مع الموضوع نفسه، إلى وصف ذلك التّعاطي البلاغي بالتّصور الّذي لا يملك الصّرامة والعقلانيّة الديكارتيّة اللّتين هفا اليهما الجابري في الرباعيّة الأولى. فتكتسب الجملة باستعمال الفعل "هفا " انفتاحا يتيح تأكيد القول بتأسيس الجابري نقدَه للعقل العربي على عقلانيّة وبداهة ديكارت، والتّنصل من ذلك التّأكيد. وفي القول الثّاني يُدخِل في بداية كلامه ما يدلّ على التّنسيب من خلال الفعل "أعتقد"، لكنّه يغيّر تحديده لـ "منعطف" التّحول الّذي يحدّد موقعه، هذه المرّة، لا في ما بعد الرباعيّة الأولى المحكومة بعقلانيّة وبداهة ديكارت، بل يحدّده عند الخروج من الجزأين الأول والثاني من "نقد العقل العربي" (التكوين والبنية)؛ وفي القول الثّالث يبتدئ بما يدلّ على التّحوط والتّنسيب ـ"يبدو.."، يقول: "يبدو أنّ الجابري انتبه بالتّدريج إلى أنّ .."، ولكن "منعطف" الخروج التّدريجي يحدّده في بداية الجزء الأول من الرباعيّة الأولى كما يدل عليه المقتطف من كلام الجابري!؛ وفي الصفحة 124 تختفي الصّيغ المحتاطة، ويصير الجابري ديكارتيّا قائلا بالبداهة بشكل يقيني، فيصير حقّا على العمري أنْ يُسائل البلاغة عن "مدى ارتياحها للرفقة التي اختارها لها الجابري في بداية مشواره القرائي النقدي للتراث العربي".

   كلّ هذا في مقال واحد "أدق وألصق بموضوع البلاغة في مشروع الجابري"! ليكن، لا مُشاحّة في ذلك: يبدو أنّ الجابري خرج من الفلسفة إلى البلاغة، أو انتبه وخرج فعلا. كلام العمري يبقى ملتبسا. نأخذ بالأخفّ، فنقول إنّ ذلك مما بدا له وقد يكون صوابا؛ فأين بدا له ذلك؟ بدأ الجابري في التحول، يقول العمري في الصفحة 108 نفسها المشار إليها آنفا، "عندما رأى أن مسعى النقد العقلاني لم يحل دون تحول عالم المنطق إلى درويش، والعالم الليبرالي إلى عبثي أو بهلوان يلبس الخرق ويقفز فوق الحواجز". قلتُ: هذا جيّد، هذا كلامٌ للجابري، فأين قاله؟ يحيلنا العمري نفسه  إلى مكانه -وبأمانة هذه المرّة- في الهامش الّذي يعلّقه بكلام الجابري. يقول فيه: «سجل موقفه من هذه الظواهر في: محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي (بيروت: دار الطليعة، 1984)، المقدمة، ص.45.»[27] هكذا ببساطة يكون الجابري فيلسوفا عقلانيّا يستثمر ما يلائم مقاصده من آليّات حجاجيّة بدءً من مقدّمة الجزء الأوّل من رباعيته الأولى، ويدل عليه هذا الاستشهاد نفسه، فتكون الرّباعيّة الأولى فلسفةً وفقا لما أراده لها صاحبُها، أو فلسفة وحجاجا في آن إنْ "أصرّ" العمري على حذف الحجاج من الفلسفة وإلحاقه  حصريّا ونهائيا بـ "امبراطوريّتة القاحلة". والرباعيّة، بعد ذلك، لم تُبن على أيّ بداهة ديكارتيّة، بلهَ أن تبنى بناء برهانيّا بالمعنى المنطقي الدقيق لهذه الكلمة. فما الذي أوقع "عالم" البلاغة في هذا الخلط والخبط؟ نترك ذلك إلى أن يحين وقتُه في المقال الثّالث.

خاتمة:

   فَيظهر أن كلام العمري في "اعتراضه" و "ادّعائه" مُختلطٌ وبعيدٌ عن الحدّ الأدنى من التّحقيق والتّدقيق؛ فهو يقتطع قولا للجابري من الجزء الأوّل من "نقد العقل العربي"، بل من صفحاته الأولى، ويتّخذه حجّة على تحوّله التّدريجي من الفلسفة إلى البلاغة، وهو ما يعني أنّ الجابري ابتدأ بلاغيّا ولم يتحوّل إلى البلاغة مع انتهاء الجزأين الأوّل والثاني من الرباعيّة الأولى، ولا مع انتهاء الرباعيّة الأولى كلها؛ ويؤاخذ الجابري على تصدّيه لرصد آليّات "البيان" معتمدا على "بلاغة متخلّفة"، والواقع أنّ الجابري تناول من يعتبرهم العمري أصحاب "إبدال بلاغة الانتشار"!، لكّنّ العمري يوارب ويجتهد من أجل تغييب ذلك، ويصف تلك البلاغة بكونها "البلاغة المكتملة المتميّزة بجوهر وبهامش"، وبكونها "البلاغة التي كانت تتغدى من الفلسفة والنحو"، فيجتهد في الإيهام باشتغال الجابري بغيرها، أي ببلاغةِ الملخّصين والشّراح الّتي يصفها العمري بـ "المُتخلِّفة"، وهو وصفٌ لم يطلقه الجابري نفسه على البلاغة، ببساطة لأنّه يعرف أنّ هذا "العلم" كان، في المرحلة الّتي يتناولها، في طور التّكوّن؛ ويؤاخذ الجابري على وَصْلِه بين البلاغة والنحو، وفَصْلِه بين "البلاغة والعرفان"، وهو من عجائبه الغزيرة المدهشة، بل إنّه يؤاخذه حتّى على كونه لم يجد بين يديه خريطته الشاملة وتعريفه الجامع!

الهوامش:

 

[1]-  »Consistency is the highest obligation of a philosopher and yet the most rarely found. The ancient Greek schools afford more examples of it than we find in our syncretistic age, when a certain shallow and dishonest system of coalition between contradictory principles is devised because it is more acceptable to a public, which is satisfied to know a little about everything and at bottom nothing, thus playing the jack-of-all-trades. «mentioned in: IMMANUE KANT: Critique of Practical Reason, Translated, with an Introduction, by LEWIS WHITE BECK, Ed. Gallimard, 1971, P. 15.

[2]- الجابري: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط. 10، 2009، ص.14.

[3]- البشير النحلي: تنبيهات، اعتراض محمد العمري على قراءة محمد عابد الجابري للبيان العربي، أنفاس نت، من أجل الثقافة والإنسان، 21حزيران/يونيو 2024. وقد نشر الجزء الثاني بنفس الموقع بتاريخ 3 آب/غشت 2024.

[4]- محمد العمري: المحاضرة والمناظرة، إفريقيا الشرق-الدار البيضاء، ط. 1، 2017، ص.106.

[5]- محمد العمري: الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، ضمن: محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة، مجموعة من المؤلفين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط.1، 2016، ص.124.

[6]- الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، م.م. ص.124.

[7]- وهذا تكرار لما قاله قبلا: «لقد كان المسعى النسقي مستساغا في التاريخ الذي أنجز فيه، أي قبل الجهود التي بذلت في العقود الأخيرة في سبيل تنسيق البلاغة العربية وتدليلها (أي إعطائها نسقا دالا). أما اليوم فإنه ليس بوسع أي دارس أن يدعي ممارسة البحث في تجاهل لهذا الواقع العلمي الجديد. لقد عرفت البلاغة بشكل يستوعب التراث العربي انطلاقا من الدرس الحديث». أنظر: المحاضرة والمناظرة، م.م. ص.106.

[8]- أهم الشروط المنهجية هنا أن يحاول الباحث تجنب إسقاط رؤى ومناهج ومقاصد ومفاهيم معاصرة على نصوص القدماء وادعاء أنهم سبقوا إلى كل ذلك، وقد ألح الجابري على هذا الشرط إلحاحا كبيرا.

[9]- الجابري: بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 7، 2004، ص. 89-90.

[10]- الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، م.م. ص.124-125.

[11]- نفسه، ص.125.

[12]- نفسه، ص.127. وهو كلام التقطه بـ "تكتم" دون أن يحيط بفهمه، وإلا فمن هو الفيلسوف أو المؤول الذي يمكن أن يخضع كلامه لذلك، ولا نستثني سبينوزا نفسه.

[13]- نفسه، ص.124.

[14]- تكوين العقل العربي، م.م، ص.76.

[15]- بل إنه لا يضع حتى "العقل الأخلاقي" و"العقل السياسي" في نفس المرتبة التي يضع فيها "نظمه المعرفية" المكونة للعقل العربي، لاعتبارات تتعلق بتفاوت المراتب، وتداخل التكوين والبنيات والوظائف. وهذا بالضبط ما يضع في مأزق القراءات المتسرعة التي تحشر أعماله، دون تحوط، في فلسفة تقوم على أساس مزعوم من الهوية والتطابق.

[16]- بنية العقل العربي، م.م، ص14.

[17]- يقول، وهذا مجرد مثال: «شيء واحد نريد أن نضيفه إلى هذا التذكير وهو أن هذا الكتاب كان من الممكن أن يكون أروح مرتين لو أننا اقتصرنا فيه على التحليل النظري ولم نكلف القارئ عناء الخوض معنا في تحليل ملموس لموضوعات ملموسة: كان هذا الكتاب سيكون أروح للقارئ لو أننا قدمنا آراءنا جاهزة غير مقيدة ولا مثقلة بما تستند عليه من مواد فضّلنا تركها، في كثير من الأحيان، تعرض نفسها بنفسها. وكان سيكون أروح لو أننا تجنبنا الخوض، بتفصيل أحيانا، في موضوعات سيعتبرها المختص فيها «عادية» وسيعتبرها المختص في غيرها من اختصاص غيره.» أنظر: بنية العقل العربي، م.م، ص.9.

[18]- الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، م.م. ص.128.

[19]- ألح الجابري، في مناسبات متعددة، على أن وصفه للوقائع والمعطيات وتصنيفه وتأويله لها إن كان يتوخى أن يكون موضوعيا فإنه يدرك أن تلك الموضوعية لا بد أن تكون نسبية مرتبطة بمصفاة إدراكه؛ وهي المصفاة التي تدخل في تشكيلها متغيرات لم يدّخر جهدا في توضيح أكثرها.

[20]- وطه عبد الرحمان نفسه استفرغ الوسع من أجل "وراثة" مشروع الجابري المعرفي وتصييره سكنا خاصا به؛ بالطبع، مع تغييرات وقلب في الأولويات والمفاهيم والإجراءات.

[21]- طه عبد الرحمان: تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي-البيضاء، ط. 2، 2005، ص. 90.

[22]- حتى عنونة الجابري لمشروعه بــ "نقد العقل العربي" لم تنفعه، كما لم تنفعه إشارته إلى مقاصده ومنهجه ومصادر بعض أدواته ومفاهيمه، منذ كتابه: الخطاب العربي المعاصر، "الذي أراده أن يكون بمثابة تمهيد لمشروعه الأساسي، مشروع «نقد العقل العربي». أنظر مقدمة: الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط.5، بيروت، 1994، من: ص. 7 إلى: ص. 17.

[23]-  يقول، مثلا:» تلك كانت، باختصار، شديد، الخطوط العامة للمنهاج الفرضي-الاستنتاجي عند ديكارت وهو كما رأينا منهاج تختلط فيه الفلسفة بالعلم. والجانب العلمي فيه يخدم الجانب الفلسفي، مثلما جعل ديكارت فيزياءه خادمة لميثافيزيقاه، ذلك أن البداهة التي جعلها أساس اليقين هي بداهة عقلية لا بداهة حسية، وبالتالي فإن الأساس «العلمي» الذي بنى عليه منهجه ميثافيزيقي لا تجريبي. وهو في هذا صريح كل الصراحة، يقول في رسالة وجهها إلى الأب مرسين في 15/ 04 /1630:» ولن يفوتني أن أذكر في دراساتي الفيزيقية عدة مسائل ميثافيزيقية، وخاصة هذه المسألة: إن الحقائق الرياضية، تلك التي تعتبرونها أبدية قد أنشأها الله، وهي متوقفة عليه توقفا كليا، مثلها مثل سائر المخلوقات، وأنا أناشدك أن لا تتردد في القول في كل مكان إن الله هو الذي أنشأ هذه القوانين في الطبيعة، كما ينشئ ملك القوانين في مملكته «. أضف إلى ذلك أن فيزياءه لم تكن رياضية بالمفهوم الذي شرحناه قبل، عند حديثنا عن غاليلو، فكل ما أعجبه في الرياضيات هو وضوحها العقلي، لا الصياغة الكمية لحوادث الطبيعة، إن الرياضيات عنده ليست أداة لليقين بل نموذج لليقين. ومن هذه الناحية يمكن القول إن ديكارت كان متخلفا كثيرا عن غاليلو وروحه العلمية ومنهاجه التجريبي. لقد كان أقرب إلى أفلاطون –في هذه النقطة- منه إلى عالم آخر كغاليلو أو هويغنز، ومع ذلك فيجب أن لا يقلل من أهمية تأثير ديكارت في عصره والعصور التالية. إن ديكارت هو أبو الفلسفة الحديثة دون منازع. « أنظر: الجابري: مدخل إلى فلسفة العلوم، العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط.5، 2002، ص.14. ومما يقوله في استعراضه المركز والوجيز للعقلانية الغربية هذه الفقرة التي يبين فيها تجاوز الكانطية للعقلانية الديكارتية: »عاد كانط، إذن إلى ما يشبه الموقف الديكارتي، فجعل العقل البشري المنظم للتجربة و"المُشَرِّع" للطبيعة، ولكن لا بما فيه من "مبادئ فطرية"، كما قال ديكارت، بل بوصفه هو نفسه جملة من القوالب القبلية (صورة الزمان والمكان، والمقولات) التي هي عبارة عن قوالب فارغة تملؤها الحدوس الحسية فتتحول إلى معرفة، هذه الحدوس التي تظل عمياء بدون تلك القوالب، حسب تعبيره. وإذن فالمعرفة اليقينية، وبالتالي التطابق بين العقل ونظام الطبيعة، تتوقف على ما تعطيه التجربة للعقل وما يمد به العقل معطيات التجربة «. أنظر: تكوين العقل العربي، م.م. ص.22.

  [24]- نفسه، ص.104.

[25]- نفسه، ص.106-107.

[26]- نفسه، ص.108.

[27]- نفسه، نفس الصفحة.

المراجع:

  • البشير النحلي: تنبيهات، اعتراض محمد العمري على قراءة محمد عابد الجابري للبيان العربي، أنفاس نت، من أجل الثقافة والإنسان، 21حزيران/يونيو 2024. وقد نشر الجزء الثاني بنفس الموقع بتاريخ 3 آب/غشت 2024.
  • طه عبد الرحمان: تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي-البيضاء، ط. 2، 2005.
  • محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط.5، بيروت، 1994.
  •   تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 10، 2009.
  •   بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 7، 2004.
  •    مدخل إلى فلسفة العلوم، العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط.5، 2002.
    • محمد العمري: البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999.
    • المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017.
    • الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، ضمن: محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة، مجموعة من المؤلفين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط.1، 2016.
  • IMMANUE KANT: Critique of Practical Reason, Translated, with an Introduction, by LEWIS WHITE BECK, Ed. Gallimard, 1971, P. 15.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ