يثير التركيب اللغوي الذي يشتمل على الحلم والرؤيا قضايا عديدة ، فهو من ناحية أحد أنماط الترميز البسيط الذي نطلق عليه التمثيل الكنائي« Allegory » ، الذي يعني أنَّ الدال له مدلول واحد ، وهو يختلف عن الرمز الذي يعني أنَّ الدال يشتمل على دلالات متعددة ، وبمعنى آخر أنَّ التمثيل الكنائي مغلق الدلالة أما الرمز فإنه مفتوح الدلالة ويدل التركيب اللغوي في الوقت نفسه على ظاهر ـ ليس هو المراد ـ وعلى باطن هو المقصود ، ويخرج المتلقي من المعنى الظاهري إلى الباطني ، ومن ثم فإنَّ هناك إخفاءً للدلالة التي تم التعبير عنها بكيفية معينة.
إنَّ سورة يوسف تبدأ بالحكاية في أنها تقص أحسن القصص ، وتشرع في إثارة المتلقي بهذه الرؤيا التي يعبر عنها بتركيب لغوي متلفع بالترميز أو بتعبير أدق« التمثيل الكنائي » وهو التعبير اللغوي عن الرؤيا التي عايشها يوسف ، فالرؤيا شيء والتعبير اللغوي الدال عليها شيء آخر ، لأنَّ الرؤيا عملية تخيلية حدثت في مخيلة النبي ، وأن وصف العملية التخيلية تجلى من خلال تركيب لغوي ، رافقه حوار بين يوسف وأبيه يتضمن تأويلاً للرؤيا ، وتحذيراً من نقلها.
إنَّ الرؤيا صورة تخيلية أودعها الله في روع النبي ، فهي تصوير مرئي ، وليست تعبيراً لغوياً، ولذلك بدأ النبي حديثه ،« يا أبت إني رأيت » فهو يحكي بتعبير لغوي عن عملية تخيلية ، بمعنى أنه يصف لغوياً ما أدركته مخيلته في أثناء النوم. كما أنَّ الصورة المرئية التي شاهدها النبي تعبر عن تجربة شخصية ، ويمثل معادلها اللغوي وصفاً لها ، لتخرج من الخصوصية إلى العموم ، أي تنتقل من كونها تجربة خاصة بالرائي إلى المتلقين الذين يحاولون تخيل التجربة الفريدة من خلال ما توحيه وتؤديه« اللغة / الكلام ». إنَّ الرؤيا منظومة لها أسسها وقواعدها وقوانينها ، وإنَّ« اللغة / الكلام » منظومة أخرى لها أسسها وقواعدها وقوانينها ، وإنَّ المنظومة اللغوية تنقل غموض الرؤيا وألغازها ، فإذا كانت الرؤيا لها دلالة ظاهرة تتمثل عبر الصور المرئية التي تشتمل على دوال رمزية يتم فكها وتفسيرها ، ومن ثم تقديم دلالاتها ، كذلك المنظومة اللغوية تشتمل على ظاهر لغوي لا بدَّ من فكه وتفسير دلالاته.
إنَّ تأمل بعض الآيات القرآنية في سورة يوسف عليه السلام تدفع إلى تذكر قضية المجاز ، وإنْ كان على نحو آخر ، لأنَّ التركيب المجازي ، وهو تركيب لغوي ، يعني وجود مستويين للدلالة ، مستوى ظاهر ، ليس هو المقصود ، ومستوى باطن ، وهو المقصود بالدلالة ، بمعنى أنَّ التركيب الظاهري يمثل الدال ، ويشتمل على قرينه ، أو قرائن ، تمنع من مقصدية التركيب الظاهري وتحيل إلى دلالات أخرى عديدة ، وهذه الدلالات هي التي يقصد منه التركيب. أما التركيب اللغوي الخاص ببعض آيات سورة يوسف ـ وبخاصة الرؤى ـ فإنه يتماثل مع التركيب المجازي ويختلف عنه ، أما تماثله فإنَّ التركيب الظاهري ، ليس هو المقصود ، ويشتمل على قرينة أو قرائن تمنع من مقصدية التركيب الظاهري ، ويحيل إلى مدلول واحد آخر ، وهو المقصود من التركيب أما اختلافه فإنه في الفرق بين دلالة التركيب المجازي التي يتم انتزاعها من السياق ـ سياق التركيب اللغوي ـ أما في بعض آيات سورة يوسف فإنَّ دلالة التركيب يتم الكشف عنها من خلال طبيعة تأويلية ، قد يكون السياق باعثاً للكشف عنها ، أو قد تكون نقلية تقع خارج التركيب اللغوي ، وكأنَّ التأويل هنا يبتعد نسبياً عن مستوى التأويل المجازي.
ولو توقفنا عند قوله تعالى« وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ »[1] يرى الشريف المرتضى أنَّ الآية الكريمة تشتمل على وجوه معروفة ، استدل بها أهل العدل«لأنهم بينوا أنَّ النظر ليس يفيد الرؤية ، ولا الرؤية في أحد محتملاته ، ودلوا على أنَّ النظر ينقسم إلى أقسام كثيرة ، منها تقليب الحدقة الصحيحة حيال المرئي طلبا لرؤيته ، ومنها النظر الذي هو الانتظار ، ومنها النظر الذي هو التعطف والرحمة ، ومنها النظر الذي هو الفكر والتأمل... أو أنَّ يحمل قوله تعالى « إلى ربها ناظرة » على أنه أراد نعمة ربها » [2]. وهذا يعني أنَّ الدال يشتمل على دلالات متعددة ، وأنَّ المستوى الباطني للمجاز متعدد ، أما في الرؤى فإنَّ المعنى الباطني واحد ، يحدده المتأوِل.
إنَّ بعض الآيات القرآنية الكريمة في سورة يوسف يمكن تأملها في ضوء العلاقة بين الظاهر والباطن أو الإخفاء والإظهار ، على نحو تلتقي فيه بالمجاز ، وتختلف عنه ، ولست في سياق تأمل كل من الآيات القرآنية الكريمة في السورة ، وإنما التوقف عند بعض المواقف والقضايا التي تقدم تفسيراً لهذه العلاقة بين الظاهر والباطن والإخفاء والإظهار.
وتشتمل سورة يوسف عليه السلام على أربع رؤى وهي :
الرؤيا الأولى : خاصة بأسرة النبي يعقوب عليه السلام ومكانها البادية.
الرؤيا الثانية : خاصة بفرد« عاصر الخمر » ومكانها السجن.
الرؤيا الثالثة : خاصة بفرد« حامل الخبز » ومكانها السجن.
الرؤيا الرابعة : خاصة بأمة« رؤيا الملك »ومكانها بيت الملك.
وفي رؤيا يوسف عليه السلام« يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ » [3] ليس بين أيدينا سوى هذا التركيب اللغوي الذي يدل ظاهره على رؤية كواكب وشمس وقمر تسجد ليوسف ، وهو يشتمل على قرينة تمنع أن تكون الشمس والقمر والكواكب هي المقصودة ، وإنما هي دوال تدل على غير ما يراد به ظاهرها ، غير أنَّ هذه الدوال« أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ » لا تحتمل دلالات متعددة كما هو الحال في التركيب المجازي ، وإنما تدل على دلالة واحدة ، بمعنى أنَّ المدلول له دلالة واحدة ، بخلاف التركيب المجازي الذي يدل المدلول فيه على دلالات متعددة. إذن فنحن إزاء تمثيل كنائي يعني أنَّ الدال يقابله مدلول واحد :
الشمس يقابلها يعقوب
القمر يقابله أم يوسف
أحد عشركوكباً يقابلها أخوة يوسف
وجلي أنَّ الدال كان من الطبيعة الكونية ، شمس وقمر وكواكب ، و يقابله على مستوى الترميز المدلول البشر ، ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا يذكّر بقصة إبراهيم عليه السلام وإنْ كان بصورة غير مباشرة في تأمله العياني للكوكب والشمس والقمر ، وأفولها جميعا في أثناء تأكيده ربوبية الله الذي لا يصدق عليه قول الأفول. قال تعالى :« وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يا قوم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون »[4].
الصيغ الأسلوبية للرؤى
الرؤيــا الأولـى :
« يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ »[5]
1- التوكيد بأداة توكيد : ان والرائي اسمها.
2- فعل الرؤيا ماض اتصل به الفاعل وهو ضمير يدل على الرائي.
3- أثر الرؤيا السجود والطاعة.
4- التأويل : يتحقق فعل التأويل أخر السورة.
5- الشمس والقمر : الوالدان.
6- أحد عشر كوكباً : أخوة يوسف.
7- السجود التحية والخضوع.
8- الثابت من التأويل : السجود ـ والعدد.
الرؤيا الثانيـة :
«وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا » [6].
1- التوكيد بأداة التوكيد : ان والرائي اسمها.
2- فعل الرؤيا مضارع :أراني + أعصر فعل مضارع آخر.
3- أثر الرؤيا : أعصر خمراً.
4- التأويل في السجن ـ يسقي ربه خمراً.
5- الثابت في التأويل الخمر = الخمر.
الرؤيا الثالثة :
« وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ» [7].
1- التوكيد بأداة التوكيد : ان والرائي اسمها.
2- فعل الرؤيا مضارع :أراني + أحمل فعل مضارع آخر.
3- أثر الرؤيا : أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه.
4- التأويل في السجن : يصلب فتأكل الطير منه.
5- الثابت في التأويل : الطير والأكل.
الرؤيا الرابعة :
« وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ» [8].
1- التوكيد بأداة التوكيد : ان والرائي اسمها.
2- فعل الرؤيا مضارع :أرى.
3- أثر الرؤيا : سبع بقرات سمان : سبع سنوات خصبة سبع سنبلات خضر.
4- التأويل :« قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ » [9].
5- الثابت : الرقم 7.
سبع بقرات سمان يأكلهن سبع سمان
سبع سنبلات خضر سبع سنبلات يابسات
تقدمت السمنة والخضرة في التركيب.
وتأخرت العجاف واليبوسة في التركيب.
الكيــــــد
يعني الكيد في اللغة« الخبث والمكر... والكيد الاحتيال والاجتهاد » [10] بمعنى أنَّ الكيد إخفاء ما يضمر الإنسان للأخر من فعل ، وينصرف الكيد أساساً إلى فعل الشر في الغالب ، وأكد هذا المعنى المفسر الطاهر بن عاشور في قوله : إنَّ الكيد« يرادف المكر والحيلة... إنَّ الكيد أخص من الاحتيال وما ذلك إلاّ لأنه غلب استعماله في الاحتيال على تحصيل ما لو اطلع عليه المكيد لاحترز منه فهو احتيال فيه مضرة ما على المفعول به»[11] ومن ثم فإنَّ الكيد« فعل شيء في صورة غير المقصودة للتوصل إلى مقصود »[12] وفي سورة يوسف ثلاثة أنماط من الكيد ، وهي على النحو التالي :
1 ـ الكيد الأول : كيد أخوة يوسف ، وهو كيد شر.
2 ـ الكيد الثاني : كيد امرأة العزيز ، وهو كيد شر.
3 ـ الكيد الثالث : كيد يوسف لاخوته ، وهو كيد خير.
الكيد الأول :
ولا ريب أنَّ لكل كيد دوافعه ، وتكمن دوافع الكيد لدى أخوة يوسف في الوهم في الإحساس بالتمايز بين الأبناء ، إذ توهم أخوة يوسف أنَّ يعقوب عليه السلام كان يمايز بينهم وبين يوسف وأخيه. قال تعالى : « إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ »[13].
ولقد مر كيد أخوة يوسف بمراحل متعددة يكتنفها الإخفاء والإظهار على النحو التالي :
1 ـ التخطيـــط :
وفيه يخطط أخوة يوسف للتخلص من يوسف ، ويظهر أنَّ قضية التخلص من يوسف يعد أمرا مفروغاً منه ، ولكنهم اختلفوا أول الأمر في الكيفية التي يتم فيها التخلص من يوسف ، ثم استقر رأيهم بعد ذلك على قرار واحد.
إنَّ البدائل المطروحة للتخلص من يوسف تنحصر في :
1ـ قتل يوسف.
2 ـ طرحه أرضا.
3 ـ إلقاؤه في غيابة الجب.
والهدف من ذلك تحقيق الغاية التي تزيل دوافع الكيد ، وهي الانفراد بمحبة الأب. وصلاح حالهم في قوله تعالى« اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ »[14]، ويبدوا أنَّ أثر الدوافع كان قوياً وعنيفاً في نفوس أخوة يوسف ، ومما يدل على ذلك البدائل المطروحة ، القتل ، والطرح في الأرض ، ومن ثم الإلقاء في غياية الجب ، ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أنَّ « القتل » كان البديل الأول المطروح.
وكان التركيب اللغوي يعبر عن حركية الحدث ، إذ تتكون الآية الكريمة من مجموعة من الجمل الفعلية القصيرة المتلاحقة ،« اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ»[15].
2 ـ التنفيـــذ :
ويلحق التخطيط التنفيذ ، وهو الاحتيال في استدراج يوسف إلى تنفيذ الكيد ، ويتم ذلك عبر حلقين:
( أ ) ما قبل الإلقاء في الجب :
ويشتمل على إظهار الحرص والمحبة والنصح ليوسف ، وإضمار وإخفاء الحقد عليه قال تعالى :« قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ، أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ، قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ »[16].
( ب ) ما بعد الإلقاء في الجب :
ويشتمل على إظهار الحزن والبكاء على يوسف ، وإخفاء السرور ، قال تعالى «وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ »[17].
3 ـ الاتهــــام :
ويشتمل كيد اخوة يوسف على اتهام الذئب بقتل يوسف ، قال تعالى :« قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ » [18].
4 ـ الدليــــل :
وهو القميص ، الذي لطخه اخوة يوسف بدم كذب.« ووَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ» [19].
إنَّ كيد أخوة يوسف يكتنفه الإخفاء والإظهار ، فالتخطيط والتنفيذ والاتهام والتدليل كلها تمثل ظاهراً لا يمثل الحقيقة ، وتحيل إلى باطن يمثل الحقيقة. التي تمثل الوجه الأخر ، كما أنَّ إلقاء يوسف في الجب يشتمل في الوقت نفسه على إخفاء يوسف ، غير أنَّ إخراج يوسف من الجب يمثل إظهارا ، وكأنَّ حياة يوسف تمر بمراحل متعددة فما ان يخرج من كيد ، حتى يدخل في كيد آخر، إخفاء وإظهار بكيفيات متعددة.
الإظهار = إخراج يوسف من الجب
وتتجلى مظاهر الإخفاء والإظهار على مستوى التركيب اللغوي على النحو التالي:
الخفي الظاهر
لا تأمنا تأمنا
غير ناصحين ناصحون
غير حافظين حافظون
غير غافلين غافلون
غير خاسرين خاسرون
غير صادقين صادقون
لا يكون يكون
غير صالحين صالحون
لا يخلو يخلو لكم وجه أبيكم
ومن الجدير بالذكر أنَّ الكيد وتنفيذه يقودان يوسف من مرحلة إلى أخرى ، وكأنه ينتقل من كيد إلى كيد آخر.
الكيد الثاني :
أما الكيد الثاني فإنه يلتقي مع الكيد الأول في كونه كيد شر ، وإذا كان اخوة يوسف قد خططوا للتخلص منه وإبعاده عنهم ، فإنَّ امرأة العزيز قد خططت هي الأخرى من أجل التواصل مع يوسف ، كما أنَّ هذا الكيد تبعث على تحقيقه دوافع امرأة العزيز وهي دوافع الإعجاب والانبهار بشخصية يوسف وكمال جماله.
ويتم تحقيق الكيد وفق المراحل التالية :
1 ـ التخطيـــط :
بمعنى أنَّ امرأة العزيز قد خططت لتحقيق التواصل مع يوسف ، ويدل على ذلك عملية التنفيذ التي عرض لها القرآن الكريم.
2 ـ التنفيــــذ :
إن تنفيذ الكيد الأول لا يشترط في تحقيقه رغبة الكائد والذي وقع عليه الكيد ، ولذلك تمكن اخوة يوسف من إلقاء يوسف في الجب. أما مع امرأة العزيز فإنَّ تنفيذ الكيد لا يتحقق تماماً إلا بتوافق رغبة امرأة العزيز ورغبة يوسف عليه السلام. ولذلك كان الطرف الفاعل في هذه القضية المرأة ، والذي يقع عليه الفعل هو يوسف ، الذي يعيق تحقيق هذه الرغبة بالامتناع. قال تعالى :« وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»[20].
ويظهر أنَّ المراودة قد شابها قدر من امتلاك الأخر بالقهر ، بدليل تخلص يوسف باستباقها إلى الباب« وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ» [21].
3 ـ الاتهـــام :
وكما أنَّ كيد اخوة يوسف قد اشتمل على إزاحة التهمة عن الجاني إلى غيره ، أي إزاحة تهمة الإخفاء من اخوة يوسف إلى الذئب ، فإنَّ امرأة العزيز تزيح تهمة المراودة عن نفسها وتسقطها على يوسف نفسه ، «قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »[22].
4 ـ الدليـــــل :
لقد كان قميص يوسف عليه السلام دليلاً في كيد أخوة يوسف ، حين لطخوا القميص بدم كذب ، واتهموا الذئب في قتله ، وفي هذا الكيد يتحول قميص يوسف المقدود إلى دليل براءة يوسف ، وعلى الرغم من أنَّ قميص يوسف في الكيد الأول يستخدم دليلاً بالدم دون إشارة إلى تمزيقه ، لأنَّ الآية القرآنية لم تعرض لتمزيق القميص ، فإنَّ القميص في كيد امرأة العزيز يكون مقدوداً ، ويتحدد تمزيقه من الخلف لتأكيد براءة يوسف. « قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ » [23].
إنَّ كيد امرأة العزيز تكتنفه هو الأخر أبعاد الإخفاء والإظهار،فإنَّ التخطيط والتنفيذ والاتهام كلها تظهر شيئاً ، وتخفي خلافه.
الإظهار : الشهادة ببراءة يوسف :ـ
ولقد تأكدت براءة يوسف من خلال ثلاثة طرق :
1- الشاهد الذي أرسى قواعد الاتهام والبراءة في الموقع الذي تحدد فيه تمزيق القميص ،« وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ » [24]
2- العزيز نفسه الذي برأ يوسف حين رأى قميص يوسف مقدوداً من دبر. وأكد أنَّ هذا من كيدهن « فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ » [25].
3- لوحة تأكيد البراءة من خلال نسوة المدينة. واعتراف امرأة العزيز بمراودتها إياه وإصرارها على ذلك ، وتكرارها« وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ » [26].
وإذا كانت براءة يوسف تحققت من خلال إظهار الحق.. فإنَّ يوسف يقع في إخفاء أخر وهو السجن ، ولكنه يختلف عن إخفاء غيابة الجب ، لأنَّ الإخفاء في غيابة الجب إجباري أُكره يوسف عليه ، أما السجن فإنه إخفاء اختياري ، كان أحب إليه من ارتكاب الكبيرة.
الكيد الثالث :
وتتجلى مظاهر الإخفاء والإظهار في كيد يوسف لاخوته ، فلقد عرف يوسف أخوته وهم له منكرون، وكان لدى يوسف دافع خطط له ونفذه ، وكان يهدف إلى رأب الصدع مع اخوته وان يحقق التواصل مع أسرته كاملة.ومر كيد يوسف بالمراحل التالية :
1 ـ التخطيط :
وتتجلى ملامح التخطيط من خلال مراحل التنفيذ.
2 ـ التنفيـــذ :
المرحلة الأولى : منع الكيل ، ومنع الكيل فيه إخفاء وإظهار ، إذ اشترط يوسف أنَّ الكيل لا يتم إلا بحضور شقيقه ، وقد تضمن ذلك إخفاء بضاعتهم في رحالهم.
المرحلة الثانية : الاتهام بالسرقة ، بعد أنْ دبر أمر وضع السقاية في رحل أخيه.
3 ـ الاتهـــام :
لقد اتهم يوسف اخوته بالسرقة« فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ، قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ » [27].
4 ـ الدليـــل :
إخراج السقاية من رحل أخيه« فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ » [28].
5 ـ الإخفاء :
استرقاق أخيه ، وهو ظاهر له باطن. لأنَّ العبودية لم تتحقق ، اصلاً ليقود الإخفاء هنا إلى إظهار.
تأملات في أنماط الكيد :
إنَّ يعقوب وأسرته يعيشان في البادية« وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ»[29] وتتحدث الآيات القرآنية الكريمة عن مكان عيش هذه الأسرة وتتجلى في ملامح عديدة منها قوله تعالى
« يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ »[30] ويرتع له دلالته الرعوية التي تحدد ملامح السكنى في البادية ، إضافة إلى البئر الذي القي فيه يوسف ، ويمكن أنْ نضيف إلى ذلك أنَّ الرؤيا كانت تتنفس في المناخ نفسه ، لأنَّ البادية مكان مفتوح وممتد ، ومن هنا كان للذئب دور في الاتهام ، كما أنَّ مظاهر الكون تتجلى بشكل أكثر وضوحا والتصاقا من المدينة ، ولذلك كانت رؤيا يوسف ذات طبيعة كونية ، كواكب وشمس وقمر. ومن الجدير بالذكر أنَّ مجتمع البادية يتجلى التفاضل على أتساس الكم« ونحن عصبة » كما تتجلى فيه بعض ملامح القوة والقسوة ، لدرجة تذكر بحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من بدا جفا ، ولذلك كانت بدائل التخلص من يوسف : القتل والطرح في الأرض ، أو الإلقاء في الجب ، وكان البديل الأول هو القتل ، فضلا عن دال تلطيخ قميص يوسف بدم كذب.
أما الكيد الثاني فإنه يقع في المدينة ، فامرأة العزيز تسكن المدينة ، وللمدينة ملامحها في السكنى ، وفي العلاقات الاجتماعية مع نساء أخريات« نسوة المدينة » وأول ما يبده الذهن أنَّ التفاضل في المدينة بخلاف البادية يتأسس على العقل والفعل ، وأن مجتمع المدينة يتحدد وجوده بمساحات محدودة ، وأبواب تغلق ، وينتقل فيه الكيد من الفعل الإنساني القائم على الحدة والقسوة في الإيثار ـ كما هو الحال مع أخوة يوسف ـ إلى الاحتيال والتخطيط المسبق في تحقيق التواصل العاطفي ـ حال امرأة العزيز ـ وإذا كان الكيد الأول يتنفس في مكان مفتوح على الطبيعة ، تتجلى فيه المفردات الدالة عليها ويتأسس على : القتل والطرح أرضا أو الإلقاء في الجب ، فإنَّ الكيدين الثاني والثالث يتنفسان في مناخ المدينة ، ومن ثم فإنَّ طبيعة الكيدين تقودان إلى السجن حقيقة والاسترقاق ظاهرا ، أي سجن يوسف ، واسترقاق يوسف لأخيه في ظاهر الأمر.
إنَّ أنماط الكيد المتعددة تمتد من حيث حدوثها زمنياً امتداداً أفقياً :
كيد أخوة يوسف كيد امرأة العزيز كيد يوسف لأخوته
ويمثل كل كيد مرحلة مهمة من حياة يوسف ، إذ يمثل الموقع المكاني والزماني لكيد أخوة يوسف المرحلة الأولى من حياته وسط أسرته وأهله ، وبالخروج من هذا الكيد يقوده إلى الوقوع في كيد آخر يكتنفه موقع مكاني وزماني آخر في بيت العزيز وكيد امرأته.ولما كان الكيد الأول قد أوقع يوسف في الجب فإنَّ الكيد الثاني قد أوقع يوسف في السجن.
أما الكيد الثالث فإنه يمثل مرحلة أخرى تمثل امتلاك يوسف سلطة واحتلاله مكانة ويختلف الكيد هنا ، فبعد أن كان الكيدان الأول والثاني يمثلان الشر ويدفعان إلى التفريق لا التجميع فإنَّ الكيد الثالث إنما هو خير ، ويبعث إلى التجميع.
إنَّ الكيد بأنواعه الثلاثة يشترك في خصائص متكررة ، وهي :
وتمثل شخصية يوسف محوراً مركزياً ترتكز عليه مقومات الكيد ، منفعلاً في الكيدين الأول والثاني ، وفاعلاً في الكيد الثالث ، ومن الجدير بالذكر أنَّ هناك جماعة تسهم في فعل الكيد أو تتحدث عنه أو تؤثر أو تتأثر به ، ففي الكيدين الأول والثالث يمثل أخوة يوسف طرفاً أساسياً في الكيد فاعلين أو منفعلين ، وهم عصبة ، جماعة ذكور وعلاقتهم بيوسف علاقة قرابة ، أما في الكيد الثاني فإنَّ الجماعة تتمثل في جماعة إناث
« نسوة المدينة » ولا تربطهن بيوسف علاقة قرابة.
ويمثل الدم عنصرا جوهرياً وأساسياً في الكيدين الأول والثاني ، إذ يستخدم الدم ـ في الكيد الأول ـ وسيلة إيهام في تلطيخ قميص يوسف ، ويؤدي هذا الدور أخوة يوسف ، غير أنَّ الدم يتأتى ـ في الكيد الثاني ـ بسبب انبهار نسوة المدينة من جمال يوسف ، فيقطعن أيديهن ، إنَّ الدم الذي لطخ به قميص يوسف كان دماً كذباً ، وكان وسيلة للإيهام ، أما دماء نسوة المدينة فهو دم حقيقي جاء نتيجة فعل انبهاري بسبب جمال يوسف.
بقي أن أشير إلى أنَّ هناك علاقة إزاحة وإحلال في الكيدين الأول والثاني ، على النحو التالي :
إزاحة يوسف وإحلال الاخوة أنفسهم محله وسبب الإزاحة الحسد والغيرة، ويعمد أخوة يوسف لتحقيق الإزاحة والإحلال بالمحرم «القتل / من الكبائر ».
إزاحة امرأة العزيز زوجها وإحلال يوسف محله ، سبب الإزاحة الفتنة بالجمال وتسعى امرأة العزيز لتحقيق الإزاحة والإحلال بالمحرم« الزنا / من الكبائر ».
المكــــــــــان
ويمثل المكان بعداً أساسياً يحس به الإنسان ويؤثر في وجوده وكينونته ، وإنَّ إحساس الإنسان بالمكان أسبق من إحساسه بالزمان ، غير أنَّ إدراكه للمكان يقترن بأبعاد حسية مادية ، في حين يقترن إحساسه بالزمان بأبعاد ذهنية شعورية.
ويمكن التحدث عن نمطين من المكان : المكان المفتوح كالصحراء ، والمكان المغلق كالبيت ، وفي كلا البعدين يتفاعل الإنسان بكيفيات متفاوتة ، وفي قصة يوسف هناك ثلاثة أمكنة لا بد من التوقف عندها وهي : الجب ، وبيت العزيز ، والسجن.
والجب مكان مغلق منخفض في الأرض ، وتحيط المخلوق الداخل فيه جدران مرتفعة ، وليس له من اتصال بالعالم الخارجي ، سوى تلك الكوة التي تقع في الأعلى ويمكن الإشارة ـ هنا ـ إلى الفوقية التي تمثل النور والحياة والتواصل ، والسفلية التي تمثل العتمة والظلمة والإحاطة ، ولا ريب أنَّ يوسف قد القي في الجب مكرها في مرحلة طفولته ، فهل يمكن التحدث عن علاقة رمزية بين المكان« الجب » والنبي في المرحلة الأولى من حياته ، وهي مرحلة تتميز بالبساطة وان النبي لم تكتمل بعد مراحل نضجه ، إذ يتلقى النبي يوسف الرؤيا ـ في هذه المرحلة ـ ولكنه لا يعرف تأويلها ، ومن هنا حذره أبوه ، وطلب منه أن يكتمها عن اخوته ، كما أنَّ الاجتباء والتمكن من تأويل الأحاديث جاء في مراحل لاحقة ، وهي مراحل البلوغ والنضج. ولذا كان الجب وهو مكان سفلي في الأرض يعبر عن ترميز يتناغم مع مرحلة طفولة النبي ، صحيح أنَّ هذه المرحلة لا تخلو من إحاطة جسد النبي بالماء ، وهو مصدر كل حي ، وقد يكون الحديث عن الماء ترميزا يمد النبي بالوعي والمعرفة.
إذن فالجب مكان مغلق يدل على مرحلة مهمة من مراحل حياة يوسف ، إذ ينتقل فيه من الحرية إلى العبودية في بيت العزيز ، وفي هذه المرحلة يكتمل نضجه ، وتتجلى ملامح رجولته ، وبخاصة الجسدية ، وإذا كان البيت يعبر عن الاستقرار والأمن والاطمئنان فإنَّ تغليق الأبواب محاطا بنوايا سيئة ودعوات لفعل مريب تجعل البيت هنا مكانا خانقا وأكثر قسوة وعنفا من الجب ، ولعل في تأكيد الآيات القرآنية على الصيغة اللغوية« وغلّقت » الأبواب تأكيد لهذا المعنى ، وإحكام وإحاطة وشمول.
إنَّ يوسف في مرحلة الجب في حالة استسلام لتأدية الفعل ، استسلام لاخوته الذين ألقوه في الجب ، واستسلام لمن أخرجوه منه ، ولكنه في بيت العزيز ـ وبخاصة في لحظة المراودة ـ يتجاوز الاستسلام ، إذ يهرب من ارتكاب المحرم ، بمعنى أنَّ إرادته الواعية تسهم في اختيار الفعل وتنفيذه ، ومن ثم تقرر اختيار السجن وهو مرحلة تالية من مراحل حياة يوسف.
وإذا كان الجب ينطوي على كوة علوية تصل الكائن بالعالم الخارجي ، فإنَّ بيت العزيز ـ في لحظة المراودة ـ والسجن يمثلان مكانا مغلقا منقطعا عن العالم الخارجي ، إذ تحيط النبي جدران بيت العزيز ، وتتحول من كونها سياجاً للأمن والاستقرار إلى جدران تبعث على الضياع والتلاشي ، ومما يزيد من وطأة الإحساس بهذه المعاني تغليق الأبواب ، في بيت العزيز والسجن.
إنَّ بيت العزيز يمثل مرحلة مهمة في حياة يوسف ، إذ تدل على الاكتمال والنضج صحيح أنَّ الآيات تشير إلى اكتمال رجولته ، ولكنها في الوقت نفسه تتضمن معاني الفعل المقترن بالإرادة في اختيار الحق واجتناب الباطل. أما السجن فهو المكان الذي يكتمل فيه وعي النبي ، وكأنه مكان ينعزل فيه عن الدنيا معتكفاً ومتأملاً ، ومما يؤكد أنَّ النبي يوسف قد اكتمل وعيه ونضجه في هذه المرحلة تأويله للرؤى المتعددة فضلاً عن دعوته لتعريف صاحبيه في السجن بالأرباب المتفرقة والرب الواحد الأحد ، ومن الجدير بالذكر أنَّ النبي يشرع في الدعوة إلى ديانته قبل الشروع في تأويل رؤيتي صاحبيه.
إنَّ المكان هنا ليس محايداً ، بل هو ممتزجٌ بحالة النبي ومعبرٌ عن مراحل تطوره الجسدية والذهنية والروحية.
القميـــــص
ويحتل قميص يوسف موقعاً خاصاً في سياق القصة ، ويعبر عن دلالات متعددة إذ يمثل دالاً تتعدد دلالاته ، ويقترن بصفة مرافقة ، تسهم في تحديد دلالته.
1 ـ القميص السليم + الدماء الكاذبة :
وهو الدال الأول ، حين جاء أخوة يوسف بقميصه ملطخاً بدماء كاذبة للبرهنة على أنَّ الذئب قد أكل يوسف ، وهو دال يعبر عن الكيد الذي دبره أخوة يوسف.
2 ـ القميص السليم + رائحة يوسف :
وهذا الدال يكون سبباً للشفاء ، ولذا كان القميص سليماً ورافقته رائحة يوسف التي تسهم في تحديد دلالة الشفاء.
3 ـ القميص + التمزيق :
ودلالة القميص الممزق لها بعدان : اتهام يوسف بالمراودة أو العكس ، غير أن تحديد موقع التمزيق يحدد إن كان يؤسف متهماً أو بريئاً.
الخصائص الأسلوبية للسياق الذي ورد فيه القميص :
وتتـوزع عـلى النحـو التـالي :
أولا : القميص + ضمير الغائب ( الهاء ) ويرد هذا الأسلوب خمس مرات :
1- « وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ » [31].
2- « وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » [32].
3- « قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ » [33].
4- « وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ » [34].
5- « فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ »[35].
ثانيا : القميص + ضمير المتكلم ( الياء )
« اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ » [36]
وجاء التركيب الأسلوبي متفاوتاً ، فحين يكون القميص سليماً فإنه يأتي مسبوقاً بحرف الجر :
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي
وحين كان القميص ممزقاً ففيه حالتان :
الأولى : حالة الشك والسعي نحو التثبت :
الجملة شرطية تعتمد الفعل الناقص كان :
« إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِين
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ » [37]
إن هاتين الآيتين تتماثلان من حيث البنية العميقة ، ولكنهما تختلفان من حيث الدلالة بسبب التغير في الكلمات :
قبل : دبر
صدقت : كذبت
الصادقين : الكاذبين
الثانية : التيقن : يكون التركيب على النحو التالي :
فعل تام ماض + الفاعل ( ضمير مستتر ) + المفعول به
وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ.
[1] ـ سورة القيامة ، الآيتان : 22 ـ 23.
[2] ـ الشريف المرتضى ، أمالي المرتضى ، 1/ 36 ـ 37.
[3] ـ سورة يوسف ، آية :4.
[4] ـ سورة الأنعام ، الآيات : 76 ـ 78.
[5] ـ سورة يوسف ، آية :4.
[6] ـ سورة يوسف ، آية : 36.
[7] ـ سورة يوسف ، آية : 36.
[8] ـ سورة يوسف ، آية : 43.
[9] ـ سورة يوسف ، آية : 47.
[10] ـ ابن منظور ، لسان العرب ، مادة : كيد.
[11] ـ الطاهر بن عاشور ، تفسير التحرير والتنوير ، 9 / 192.
[12] ـ نفسه ، 12/ 258.
[13] ـ سورة يوسف ، آية : 8.
[14] ـ سورة يوسف ، آية : 9.
[15] ـ سورة يوسف ، الآيتان : 9 ـ 10.
[16] ـ سورة يوسف ، الأيات : 12 ـ 15.
[17] ـ سورة يوسف ، الآيتان : 16 ـ 17.
[18] ـ سورة يوسف ، آية : 17.
[19] ـ سورة يوسف ، آية : 18.
[20] ـ سورة يوسف ، آية : 23.
[21] ـ سورة يوسف ، آية : 25.
[22] ـ سورة يوسف ، آية : 25.
[23]ـ سورة يوسف ، آية: 27.
[24] ـ سورة يوسف ،آية :26 ـ 27.
[25]ـ سورة يوسف ، أية : 28.
[26] ـ سورة يوسف ، الآيات : 30 ـ 32.
[27] ـ سورة يوسف ، آية : 70 ـ71.
[28] ـ سورة يوسف ، آية : 76.
[29] ـ سورة يوسف ، آية :100.
[30] ـ سورة يوسف ، آية 12.
[31] ـ سورة يوسف ، أية : 18.
[32] ـ سورة يوسف ، آية : 25.
[33] ـ سورة يوسف ، آية : 26.
[34] ـ سورة يوسف ، آية : 27.
[35] ـ سورة يوسف ، آية : 28.
[36] ـ سورة يوسف ، آية : 93.
[37] سورة يوسف ،آية :26 ـ 27.