والقارئ لهذا الكتاب، يستطيع تلمس نبض فكر الرجل، وانغماره الكلي في "مشكلة إسبانيا"؛ منذ انقداحها سؤالا مؤرقا لجيل كامل من المفكرين غداة هزيمة عام 1898، وسعيه الحثيث إلى الحفر في طبقاتها، وتقليبها على جميع جهاتها، عبر اصطناع رؤية تاريخية نفاذة، تضع موضع نقد ومراجعة كل اليقينيات التي حفل بها تاريخ بلاده؛ فكان أن نظر إليها عبر جدلية "النموذج والانقياد" العصية، ونقر عن تفاصيلها في حركية "الانضمام والانفصال" المعقدة.
وقد أثمرت هذه الرؤية، من سائر ما أثمرت، الوقوف على آفات كثيرة تنطوي عليها الحياة الإسبانية منها "عدم التعويل على الغير" لدى الطبقات الاجتماعية، و"غياب النخبة الممتازة" القادرة على قيادتها، وحضور "النزعة الخصوصية" التي تستبد بالشعوب التي تكون جسم إسبانيا، و"العمل المباشر" الذي تتعجل لإمضائه على وجه التو بعض مكوناتها العسكرية والمدنية، و"السلوكات الجامدة" التي تسم سيرتهما، و"الاستبداد بالأمر" الذي يختص به بعض أعضائها، وطغيان "امبراطورية الحشود" في الفكر والسلوك لدى جماهيرها.
ومع صدق طوية الرجل في اشتداده على بني وطنه حين نعى عليهم غياب النخبة الممتازة القادرة على إبداع مشروع محرض للأشواق، ومحفز للهمم، إلا أن أفكاره لم تسلم من الطعن قديما وحديثا؛ فقد شنّع عليه "لويس أراكيستان" (1886-1959) نزعته الفردانية، واصفا إياه بـ"نبي الحشود الفاشلة"،ونكر منه "أمريكو كاسترو" (1885-1972) نظريته في النخبة الممتازة، جاعلا الأساطير والمعتقدات، بدلا عن المعارف والقوانين والعقل، ما يجعل الإسبان منقادين إلى الوحدة.
ولكن أفكار الرجل ستجد من يبعثها من مرقدها بعد أن حوصر صاحبها حصارا شديدا من لدن بعض منظري الوطنية الجديدة المنتصرة في الحرب الأهلية (1936-1939)؛ فهذا "فيراتير مورا" (1912-1991) سيسعى إلى تفسير عدم تناغم شعوب إسبانيا بعدم اقتدارها على الخطو بنفس النبض، فلذلك صارت هذه الوحدة المسماة "إسبانيا" تشكو من القلق الشديد المرة تلو الأخرى، وهذا "لاين انترالكو" (1908-2001) سيذهب إلى أن مشكلة إسبانيا الأساسية ما بين 1812 إلى يومنا هذا تكمن في العجز الفظيع عن الانغمار جماعة في إدراك إسبانيا كعمل وطني.
إن "غياب التناغم" بين شعوب إسبانيا كسبب جوهري من أسباب انحطاطها، وغياب "النخبة الممتازة" القادرة على خلق مثل ذلك التناغم، كان متداولا منذ عام 1916 حين قرر "أونامونو" (1864-1936) أن المشكلة السياسية الوطنية تكمن في عدم التناغم بين الأبعاد المختلفة للشعوب المكونة لاسبانيا.
لكن مؤلف "إسبانيا بغير عمد" أعطى لهذه المشكلة كامل أبعادها التاريخية، وصار يحللها على ضوء وقائع معينة من التاريخ الاسباني، مستندا في ذلك على فلسفته في "التاريخ كنظام"، وعلى نظرته إلى الحقيقة من حيث هي "وجهة نظر"، وعلى الزمان من حيث هو "حيوية" و"تدفق".
والواقف على كتاب "إسبانيا بغير عمد"، سيجد كأن مؤلفه يتحدث من منطلق المشاهد لوقائع إسبانيا الحالية، والشاهد عليها؛ فـ"مشكلة إسبانيا" كما يشخص أعراضها وأسبابها ونتائجها المؤلف ما تزال تظهر بأعيانها، وتختفي بأشخاصها، فهي مشكلة حية، رسخت في الزمن، فصارت آفة يعاين آلامها كل متتبع للحياة السياسية والثقافية في "أرض أراضي إسبانيا".
وسيعمل المؤلف في مؤلفات لاحقة، على تطوير خطاطته التاريخية في أعمال لاحقة، ولاسيما في "تمرد الجماهير" الصادر عام 1930؛ حيث سيضع فيه خلاصة مذهبه في غياب النخبة الممتازة من الحياة الإسبانية، واستبداد "إمبراطورية الحشود" بالأمر فيها.
د. محمد بلال أشمل
تطاون العامرة