رحلة - مجدي السماك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسهي سيارة تاكسي قديمة بقدم البؤس و الشقاء ، أليق مكان لها هو متحف أثري لحفظ كرامتها مثلما تحفظ القبور كرامة الموتى ، مترهلة حتى بدت عليها كل ملامح الشيخوخة بضعفها و تلفها ، لم يبق لها الدهرقطعة واحدة معافاة ، جلد الكراسي ممزق و بان منه الإسفنج و برز ، تقطعت أطرافه بأيدي عابثة من الركاب و الدهر ، حاولت أن افتح الشباك لكني فشلت لعدم وجود مقبض لإنزال الزجاج المغلق في هذا الجو الصيفي الساخن الحار ، الشمس تسقط على جسمي لتسلقه وتلسعه كما الزمن ، و فوق هذا كله فان ماكينة الشباك خربة كالأوطان المقهورة . ثرت في وجه السائق كالحصان الهائج : دوّر على حل يا أخي ، الشمس أهلكتني و أصبحت أذوب مثل الزبدة في المقلاة و أنضح بالعرق كالبئر المالح . أعطاني كماشة قديمة صدأة كأسلحة الهزيمة ومتسخة كي أحاول فتح النافذة الزجاجية و لكني لم أنجح ، فالكماشة لا تقبض على بروز حديدي بإحكام ، عدا عن ذلك فهي تنزلق و تملص كلما ضغطت عليها بقوة . قال السائق بفخر و شموخ بأن هذه السيارة تعمل منذ عهد والد جده الذي كان يشتغل عليها سائقا على خط غزة - القاهرة في منتصف القرن المنصرم ، كان يتحدث بعز و انتماء لسيارته العتيقة و كأنه ينتمي لقبيلة عبس العتيدة بما تحفل من سؤدد حتى بدا كأنه عنترة العبسي  نفسه ، و تابع القول بحزم و فخر : بعد موت والد جدي في حرب العدوان الثلاثي عمل عليها جدي بنفسه ، و عندما مات جدي في إحدى الغارات عام سبعة وستون عمل عليها أبي ، و لما مات أبي  بقذيفة إسرائيلية في هذه الانتفاضة باشرت العمل عليها بنفسي .. يتحدث باندفاع و انفعال شديدين و كأني أنازعه على ملكية سيارته الخردة الهرمة المكحكحة  .



قلت : سيارتك مثل الدنيا !
قال : كيف ذلك ؟
قلت : كل من عليها فان .
استمرت سيارته تتخبط بقوة مع كل مطب ، و ما أكثر المطبات التي تملا الشوارع و كأنها ضرورة من ضروريات حركة السير و لازمة من لوازمه ، أشعر و كأن شخصا يحمل السيارة ويخبطها بالأرض ، و مع كل مطب تتحفز المعدة لقذف ما بداخلها إن لم تكن فارغة ، و قد تخدج أي امرأة حامل .. أصوات قرقرة وقعقعة يصدرها الموتور مع كل تغيير للسرعة .
صعدت فتاة جميلة لطيفة  الوجه دقيقة التقاسيم و منمقة بالزواق ، بدأ الماكياج على وجهها بالذوبان فأصبح مثل قوس قزح ، و أحمر الشفاه جعل شفتيها مثل شريحتي البطيخ ، تلغمط أعلى وأسفل الشفتين ففاض الأحمر وخرج عن حدوده المرسومة له بعناية ودقة ، ماكياج الفقراء الرديء محليّ الصنع يختلف عن ماكياج الأغنياء الجيد غالي الثمن ، فهذا لا يذوب حتى لو قرفصت الفتاة في فرن غاز موقظ  قرب دجاجة قد احمر جلدها .. في حجرها رضيع انتابه البكاء إما لجوع أو لحّم التاكسي .
فكت الفتاة عقدة المنديل أسفل ذقنها علها تبّرد جسمها و قدّها البض مثل الآيس كريم ، و راحت تهف بدفتر على وجهها وجيدها ، انحسر المنديل قليلا فبان خصلة من شعرها الأسود الداكن الفاحم الناعم المحكم التصفيف ، أخذت تنظر بين الفينة و الفينة خلسة لوجهها بمرآة صغيرة في حقيبتها لترى أثر القيظ عليه ، الرطوبة في الجو شديدة و تكتم النفس .. و مع كل نظرة للمرآة تحدث الحقيبة خشخشة تمتزج مع حفيف الهواء فينتج صوت اقرب للخرخرة .
أشفقت عليها و حاولت مرات ومرات إنزال زجاج السيارة حتى هبط كله ، اندفع الهواء بقوة كأنه عاصفة مجنونة .. استروحت أجسامنا و شعرنا بالطراوة و كأننا انتقلنا من فرن إلى ظل شجرة وارفة ، لولا ذلك لهلك الجميع .. طار منديلها خارج السيارة عاليا في السماء مسرعا و كأنه عصفور أفلت من قفصه ، حتى المنديل يتوق للحرية و الانعتاق ، صارت مفرّعة الرأس مرغمة و اخذ الهواء ينثر شعرها بعشوائية يمنا ويسرا ، يرفعه و يخفضه حتى أصبح منكوشا . لاحت من وجهها إمارات الخجل والحياء حتى أخذت عيناها ترسل نظرات استغاثة مستحيلة في هذا الطريق الخالي من المحال التجارية ، هممت لخلع قميصي كي اعطيه لها لتتلفع وتتبشنق به لستر عورة رأسها ، لكني امتنعت  لان عورتي ستظهر و قد لا تطيق الفتاة رائحة العرق الصيفية السيئة الوقع على أنفها الدقيق الرقيق الصغير مثل حبة السمسم . أوقفت سيارة بها نساء و آنسات حسناوات مثل البقلاوة ، سألتهن عن منديل زائد عن حاجتهن .. دب بهن الضحك و كأنه مختزن ومضغوط في حناجرهن لينفث فجأة بقوة من ثقب أحدثه طلبي العجيب ، إحداهن قهقهت حتى خفت أن تلفظ  حنجرتها من فمها على الرغم انه منمنم ضيق مثل الخاتم ، و
بإشارة منهن فهمت عدم امتلاكهن منديل زيادة .. أنا اعلم أن طلبي غريب عجيب مثل الذي يطلب من شخص ما طقم أسنان صناعية زائد عن حاجته .
وصلنا إلى المخيم الذي استقبلنا بقارمة كبيرة جدا يصطف عليها صور شهداءه ، نزلنا و أخذت أمشي دون علمي بمحاذاة الفتاة لي ، كنت أحدق بروث البغال و الحمير و البعر المتناثر في  طول الشارع وعرضه ، و أتحاشى أن يلتصق بحذائي ، خاصة وأن حصوة صغيرة قد التصقت بعقبه وأخذت تنقر و تطقطق أينما أمشي ، في وضع كهذا يستحيل المشي في خط مستقيم إلا لمغامر ، و أكوام الزبالة كسلسلة جبال الهملايا .. كل هذا بسبب إضراب عمال النظافة لعدم استلامهم رواتبهم بسبب الحصار المفروض من أمريكيا . تابعت المسير بجانب جذوع رفيعة لأشجار الزينة التي غرزتها البلدية ، لقد فقدت غصونها اليانعة وأوراقها الخضراء الطرية التي أكلتها الحمير والبغال كلها و لم تبق بها على عرق واحد أخضر، لقد قرمتتها دون شفقة أو رأفة. فاضطرت البلدية أن تحيطها بسياج من حديد .. لاحظت أن الفتاة ما زالت تسير قربي ، و الناس تحدق بها و تبحلق كأنها ترى إنسانا غريبا عن الوجود .. آوت الفتاة إلى احد المحال التجارية و خرجت بمنديل يغطي شعرها الأسود الفاحم المنكوش .. استمرت العيون تحدق بها.. و أنا أحدق بالروث والبعر المتناثر و سيقان أشجار الزينة .. تملكتني رغبة لمعرفة الرضيع بحجرها إن كان حيا أم فطس .. لكنها اختفت بين الجموع و الازقة .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.