افتضاح – قصة : محمد المهدي السقال

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسيثور غاضباً في وجه سحنته المُتجعِّدة أمام المرآة ، تكاد سباته المعقوفة إلى الجهة اليمنى أن تلامس  أنفه :
أنا من أنا ، أقف عاجزاً لحد الهزء بين حُثالة هؤلاء القرويين  . 
يَرتدُّ إليه صوته المنحبس في جوف محاصر بحموضة مقززة ، كم  نصحته زوجته بقلع أسنانه  :
هذه الرائحة الكريهة ، لن تزول إلا بتغيير الفم المُسوَّس حتى ضرس العقل  .
في المدرسة الابتدائية التي ودعها غير آسفٍ على طرده لغير رجعة , لقّنوه مفردات الكرامة والعزة والإباء وما جاورها , فظل يربطها بهذا الأنف اللعين ، تحسَّسه ، لم يشعر بأدنى أسف على تضييعه لتلك القيم منذ تولَّى رئاسة المجلس البلدي بالاسم ، حتى الحزب الذي زكَّى ترشيحه باسم شعارات أدبياته ، لم يعُدْ يقبل العمل بها في الواقع ، لمس حرج الإخوان من التعرُّض لما كان يُسَمَّى إلى حين ، بالمبادئ الحزبية في أوَّل لقاءٍ بالزعيم القائد   .
غطَّتْ بدانته أمام اللوحة الزجاجية على ما خلفه ، فلم يلمح وقوفها مشدوهةً تعاين الرجل مُكلِّما نفسه ، للمرة الثانية ، تضبطه في حالة تلبُّس ، لن تحاول إيقاظه من غفْوته ، سوف يتهمها بالتوهم  : 
ـ إنما يتهيأ لكِ أنني أُكَلِّم نفسي ، انسحبتْ وهي تلعن هذه الانتخابات التي تُوَسِّخ بني آدم لهذه الدرجة .
استعاد تثبيت هيأته أمام تماوج جسد تحركه الأضواء الباهتة ، مصطنعاً وقار الناس الكبار ، تذكّر نداءِ زوجته للالتحاق بالعشاء ، فانتابه شعور بالطمأنينة من عدم متابعتها لحواره الأطرش ،
مازال يتساءل عن رأيها الحقيقي فيه ، ماذا كان سيكون تعليقها لو حضرت تلك الجلسة المغلقة ؟ وهو يخطب بصوته الجهوري في زبانيته، علَّهُ يُحَمِّسهم لمساندته المطلقة ، في قرار طرد السكان من ضاحية المدينة ، استوقفتْهُ العبارةُ السحرية التي أوعز له بها شريك كان رفيقه قبل قلب المعطف : إنما يتعلَّق الأمرُ من قبل و من بعد بالصَّالح العام ، ابتسمَ ، نفس العبارة قالها السيد الوزير في معرض تبريره لانتزاع أكبر مساحة خضراء من الجماعة ، سوى أن الوزير تحدث عن المصلحة العليا لهذا الوطن ، تحسَّس قطرة دافئة من الخجل تتسلَّل عبر عموده الفقريّ إلى مؤخرته، حدة التصفيقات التي أعقبتْ خطبته العصماء، زادت من تعميق شعوره بمرارة الانتكاس ، هل نسي أنه كان في يوم جمعة ؟ قادته قدماه إلى الحانة المعهودة ، شرب حتى سكر ، ثم أخذ في لعن كل الذين سلبوه آخر ذرة حياء من نفسه ، فقد أُلْحِقَت الأرض بالمدار الحضريّ , قبل أن تمرر للاكتراء أربعين عاما بثمن رمزي ، و كاتما غيظه على أهل العاصمة ، يصفق كغيره للوزير.
تناديه زوجته للعشاء ثانية ، كم تمنى لو أنها تصطنع رِقَّةً و لِيناً في ندائها عليه ، قال لصديقه وهو حالة انفلات : لا يحسب سامعها إلا أنها عريقة في تدخين الكيف ، صوتُها الأجشُّ أبعد ما يكون عن نغمات كاتبتي الخاصة , تُخيِّرني بين القهوة والشاي , قبل الانسحاب تاركةً وراءها خيالاتِ امرأةٍ تثير الحسرة على ضياع الشباب .
حين استيقظ هذا الصباح ، تحاشى التقاء عينيهما , ما زال يؤرقه الافتضاح بين  يديْها , هل صدقت أسطوانة العجْز المؤقت ، حين برر لها الطبيب حالتي بانشغال الذهن في متاهة مسؤولية هؤلاء الرعاع ؟ لعلها تشكو حظها من الحرمان ، ثم يراوده إحساس بالخوف من إقدامها على اختيار طريق جارتها ، يباغتها ممسكة بضفيرتيْها المُسدَلَتيْن على كتفيْن بارديْن ، يمتعض ، بعد عشر سنوات ، لم يعرف البيت صراخ وليد ، تبّاً لخالها المتفنن في الإقناع بالإغراءات ، رغم رفض الزواج منه بِعلَّة كِبَر سنِّه ، مملوحاً بدموع  الحسرة على يتمها المبكر، سقطت في بركة الخجل البارد في عزِّ الحرّ .
ـ ليْتكِِ تدْعين لي بالنجاح غداً في إقناع السكان بالرحيل، تصوَّري، لم ينفعْ معهم التهديدُ باستعمال القوة العمومية والخصوصية.
استقام في جلسته حول المائدة ، كأنه يملأ فراغاتِ الصمت المعلَّق بينهما ببهرجة جسده الخشبي .
تمنَّتْ لو أنه كان يُفكِّر فيها بقدر ما يفكر في تلك الأرض , يصدُّها بعنفٍ عن الاستمرار في الدفاع عن هؤلاء البسطاء ، كلما فاتحته في الظلم الذي سيلحق بهم ، ودونما نطقها بكلمة ، قال كأنه يرد عليها :
ـ ستقولين مثلهم ، لا يُعقل ترحيلُنا ثانية بدعوى اختراق الطريق السيَّار للتجمع السكاني بالضاحية ، ألم يفرضوا عليهم الارتحال عن الأرض الفلاحية بدعوى إقامة منطقة خضراء ؟
قرَّبتْ إليه الصحن ، نظر إلى تربُّع فخِذَي الحمامة التي أحضرها الخادم ، استرق نظرة خاطِفة إليها ، لعلها هي الأخرى سمعتْ من جارتها كما سمع ، بأن في الحمام ما يقوى و يعيد الفتوة .
بسْمل ومدّ يده، وهو يحمد الله أنه الآن لا يرى وجهه في المرآة.