قراءة انطباعية في الهايكو - محمد فلاحي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

الهايكو الذي لا يضرب بعمق ليس بهايكو، والهايكو السطحي لا يعدو أن يكون ثلاثة أسطر لا قيمة لها، والهايكو الذي لا يقرأ أكثر من مرة لا يرقى إلى مستوى الإبداع...لا يهم - كما يشغل بعضهم باله – أكان هذا النمط كلاسيكيا أم حديثا؟ محترما للخصائص أم متمردا عليها؟ كاشفا أم موحيا؟ بسيطا أم مركبا؟ يمتح من الاستعارة أم خاليا من أساليب المجاز؟...المهم أن يترك في ذهن المتلقي إيقاعا مختلفا أو نبرة مائزة أو أثرا فنيا أو معنى جامعا مكثفا يلخص الكون الشعري في أسطر ثلاثة...
لذا كان لزاما أن يغوص القارئ في لب الهايكو وجوهره حتى لا يتعثر بقشور تأسر من لا يفقه شيئا في هذا الفن القديم الجديد، فينهل من معينه الأخاذ برؤيا – بالألف – تتجاوز كلماته، لتسكن مخيلته فيرى العالم محمولا إليه من زفرة مشفرة لعميد الهايكو المغربي سامح درويش في إحدى شطحاته الشعرية، وأعني ما أقول هنا حتى لا أخرج الهايكو من عموم الشعر على اختلاف مستويات التلقي والتقبل والتعصب لشعرية عربية درجت على خصائص لا يسع المجال للخوض فيها،

يقول الهايكيست:
الريح،
تكنس أوراقا يابسة
وتأتي بأخرى.
من منا يستطيع أن يقرأ هذا الهايكو ولا يستحضر ثيمات متعددة، من منا يتأمل هذه الكلمات البسيطة ولا يتذكر معان مختلفة، من منا لا يقف منبهرا بمشهد حرك فيه عواطف وانفعالات تجمع بين الحزن والفرح، والشقاء والسعادة، والموت والحياة، والسكون والحركة...وغيرها مما يعجز الحبر عن تسطير زخرف القول فيه...
وكأني بالشاعر تارة يقول البقاء للأصلح، وهو نظام قيمي يتعارض مع منطق الغاب الذي نجد فيه البقاء للأقوى، فالأوراق اليابسة مكانها الطبيعي الانصهار في متلاشيات الطبيعة لأنها لم تعد صالحة لشيء بينما الخضراء لا زالت حية قائمة على عروشها تستمد قوتها من خضرتها وحياتها من ارتباطها بالجذع في صموده وثباته...وهذا الفعل تساهم فيه الريح كمنظف للطبيعة من أوراق وميسر لعملية التغيير والتناوب.
كذلك الشأن بالنسبة للشعر والأدب والإبداع عموما، فموجات التغيير مستمرة، تعوض الطالح بالصالح، والرديء بالجيد، والفاعل هو الزمان، ذلك العامل الكفيل بانتقاء معايير البقاء والخلود، أو الدحر والنفي من مملكات وعروش زائفة شيدت صروحها على أوهام منفوشة لن تصمد في وجه الريح...
   وطورا يخيل لقارئ هذا الهايكو أن بنيته العميقة تومئ إلى أن العالم المدنس إلى زوال، فالريح كما صورها الهايجين مستمرة في الكنس فهي تأتي بأوراق أخرى للفعل نفسه والسخرية عينها فنتساءل معه عن الجمود والحركة، فلا أحد يستطيع أن ينكر ثبات الالتقاطة رغم ما تقف عليه العين من حركية الفعلين تكنس وتأتي...
بعد هذا التحليل البسيط لمحاولة سبر أغوار الهايكو الآنف الذكر، لابد من الوقوف على بعض التقنيات الموظفة فيه، والمسهلة لعملية تصنيفه كشكل تعبيري جميل، بخصائص أضحت مألوفة في المشهد الشعري العربي الحديث.
فالهايجين وظف كيغو غير مباشر متمثلا في الريح التي تحيل على فصل الخريف وقد كان متنحيا ولم يشارك في الفعل الموصوف، لكن تأثر الذات بالمشهد شيء يصعب تحديده وإلا لكانت آلة التصوير أولى بأخذ الالتقاطة من شاعر متمرس، والمسافة بعيدة نسبيا لأنها صورة أفقية تستدعي الانبهار بالعرض البطيء لفعلي الإزالة والتعويض.
وقد وظف تقنية السابي حين صور أثر الزمن على الأوراق الصفراء اليابسة، والوابي حين رثى لحال كنسها بعد شحوبها وإبعادها عن مشهد الطبيعة الآنية، والكيرجي بفاصلة في نهاية السطر الأول، والهوسومي حيث اتخذ من أوراق الأشجار البسيطة موضوعة لقصيدته المختزلة، وخاصية الشيبومي المتمثلة في التكثيف حيث كانت ست كلمات وحرفي عطف وجر كافية لعرض مشهد باذخ منفتح على دورة الحياة بحكمة ودرس من الطبيعة لا ينتبه إليه الكثير.
أما فيما يتعلق بالشيوري فإن الهايكو ينفتح على أفق تأويلي يتلون بمستوى المتلقي وقدرته على ارتقاء مدارج القراءة، وانسجام رؤيته مع المشهد المومئ إلى ثيمات شتى قد تتعدى السطحي البسيط إلى الكوني المركب في تغيره من حال على حال.
في الأخير لا يسعني إلا أن أشكر الأستاذ سامح درويش على تقاسم هذا الجمال وهو المولع بفن الهايغا، ولا أدري إن كان في هذا المشهد المزدوج سيرسم الأوراق الزائلة أم القادمة، أم يجعل في لوحته بياضا يغني بطهره عن ريشة القدر المتقلبة...