قراءة في كتاب "النقد الاشتراكي للحداثة، 2023" لفريد لمريني الوهابي - محمد الناصري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 يبدو أن الكتاب من عنوانه يهتم بالنقد الاشتراكي للحداثة. وهو بالمناسبة تيار فلسفي نقدي يستند إلى المبادئ الاشتراكية ويستهدف تحليل الحداثة كظاهرة فلسفية واجتماعية. ويروج للتفكير النقدي الذي يركز على العوامل الاقتصادية والاجتماعية في تطور الفكر الحديث، والتغييرات التي أحدثتها الثورة الصناعية والرأسمالية، كما تبين لي من خلال نظرة أولية في متن الكتاب. وبالتالي، يمكن القول إن هذا النقد الاشتراكي -في نظرنا- يبين أن الأفكار والقيم التي تنشأ في إطار الحداثة، تعكس هذا النظام الذي يحافظ على التفاوت الاجتماعي ويعزز الاستغلال الاقتصادي. سيصدقني القول الكاتب فريد لمريني الأمر. لأن في نظره أيضا، ومن خلال النقد الاشتراكي غالبا ما يتم التركيز على النقاط الضعيفة في المشروع الحداثي، مثل التركيز الزائد على الفرد والانفصال عن المجتمع، والتركيز على الربح المادي والاستهلاك، والتجزئة والتشتت الاجتماعي. لكن في الكثير من الاحيان يعتبر هذا النقد الاشتراكي للحداثة أن هذه العوامل تؤدي إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية وإلى فقدان التوازن في العلاقة بين الإنسان والطبيعة.
يسعى الكاتب إذن إلى استكشاف وتقييم البدائل الاشتراكية للحداثة، ويركز على أهمية تطوير نظم اجتماعية تتمحور حول المساواة الاقتصادية والسياسية. نجده توفق في أن يبين ان النقد الاشتراكي للحداثة في الفلسفة يمتلك عددًا من الشخصيات المهمة، الذي نجده توفق في اختياره لها، من بينها جورج لوكاتش (Georg Lukács)، وارنست بلوخ (Ernst Bloch). اذ يُعتبر جورج لوكاتش من الفلاسفة الماركسيين الذين قدموا تحليلاً نقديًا للحداثة وتأثيرها على الفرد والمجتمع. كما ينظر إلى الحداثة على أنها عملية تحويلية للمجتمعات، حيث يتم تحويل هياكلها وثقافاتها وتحولاتها الاقتصادية. وناقش كثيرا تحرر الفرد وتحوله من النظام التقليدي إلى المجتمع الحديث والرأسمالي، واستعرض العواقب المترتبة على هذا التحول وما يتعلق به من تجزئة وتفكك اجتماعي. أما ارنست بلوخ، فهو كذلك أحد الفلاسفة الماركسيين الذين ركزوا على النقد الاجتماعي للحداثة وتأثيرها على الهوية والثقافة. يبدو أن بلوخ كما فهمت من خلال كتاب "النقد الاشتراكي أن الحداثة"، قد أدت الحداثة إلى تفكك الهوية الإنسانية والتشتت الثقافي، وقد تسببت في فقدان الروابط الاجتماعية والانفصال بين الفرد والمجتمع. الامر الذي دفع بلوخ الى نقد التركيز الزائد على النجاح المادي والاستهلاك في المجتمع الحديث، ودعا إلى استعادة الروح الإنسانية والتواصل الاجتماعي العميق.

يمكن ان نضع مع الكاتب لمريني، مقارنة بسيطة بين الفيلسوفين الذي قدمهما على أنهما نماذج أساسية في متن كتابه وندافع عن اختياره لهما لعدة اعتبارات. وذلك لأن أرنست بلوخ من أهم الممثلين للماركسية الفلسفية، الذي تركزت أفكاره حول فكرة اليوتوبيا والأمل في المستقبل. والذي يروج لتصويره كما يجب أن يكون، مع التركيز على العدالة الاجتماعية والتحرر الشخصي. لأن اليوتوبيا في اعتقاده تعد قوة دافعة للتغيير الاجتماعي والثقافي. ويؤمن بأن الأحلام والأمل في مستقبل أفضل تساهم في تحقيق التحولات الاجتماعية وتحسين الظروف الحالية؛ لأن اليوتوبيا تلهم الناس وتدفعهم للعمل نحو إحداث تغيير إيجابي في المجتمع. أما جورج لوكاتش فهو فيلسوف ونقاد ماركسي أيضا، وهو أحد أبرز الفلاسفة في القرن العشرين. ويُعتبر من أهم الأصوات في مجال النقد الثقافي والاجتماعي. تركزت أفكاره حول الاستلاب والوعي النقدي. فهو يعتبر الاستلاب أداة قوية للتفكير النقدي ولفهم الواقع الاجتماعي. ويؤمن بأن الاستلاب يمكن أن يكشف عن القوى الاجتماعية والتاريخية التي تؤثر في تشكيل الواقع. سيبين لنا الكاتب أن لوكاش من خلال الاستلاب هدف إلى تحرير الفرد وتحقيق التغيير الاجتماعي. وهذا ما يصبو اليه الكتاب في نظرنا.
على الرغم من اختلاف الآراء بين لوكاتش وبلوخ، فإن كلاهما يتوصل إلى استنتاجات نقدية للحداثة، ويسعى كل منهما إلى توجيه الانتباه إلى التحديات والمشكلات التي يمكن أن تنشأ من تأثير الحداثة على الفرد والمجتمع. كما سيوضح ذلك لمريني الذي سيعزز كتابه "النقد الاشتراكي للحداثة" أصالة النقاش الفلسفي الراهن والجاد. أما عن فكرة توظيف مفهوما اليوتوبيا والاستلاب في فلسفة كل منهما، كما يقدم ذلك الكاتب، يبدوا أنها تلعب دورًا مهمًا في الفلسفة، فاليوتوبيا هي مفهوم فلسفي يشير إلى وجود مجتمع مثالي يكون متناغمًا ومثاليًا في كل جانب. ودائما ما نجد أن اليوتوبيون يشددون على ضرورة تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق السعادة والتنمية الشخصية لجميع أفراد المجتمع. تاريخيًا، كانت اليوتوبيا تتمتع بمظهرٍ مثالي وكانت تصور كمكان مثالي يفتقده المجتمع الحقيقي، ولكنها تعتبر أيضًا فكرة قائمة على الأمل بتحقيق التقدم والتحسين في الحياة البشرية.
أما المفهوم الثاني الذي أولاها صاحب الكتاب لمريني اهتماما كبيرا هو الاستلاب؛ حيث يشير مصطلح "الاستلاب" في الفلسفة إلى الفكرة المتعلقة بانسحاب الفرد أو المجتمع عن الواقع أو النظام القائم، وذلك عن طريق إنشاء واقع بديل أو تجربة بديلة. يهدف من خلالها إلى إلقاء الضوء على قسوة الواقع أو النظام الاجتماعي وتحقيق التغيير من خلال التخلص من الأنماط المتعارف عليها والتحرر من القيود الثقافية والاجتماعية. وتتراوح تجارب الاستلاب من الأعمال الفنية والأدبية إلى الحركات الاجتماعية والسياسية التي تسعى لتحويل النظام السائد وتجديد الواقع. يمكن ربط اليوتوبيا والاستلاب معًا في الفلسفة، حيث يمكن أن يعتبر اليوتوبيا نوعًا من الاستلاب....