معالم موقف نيتشه المناهض لسقراط وأفلاطون - أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

إذا كان صحيحا، كما أكد نيتشه، أن كل الحكماء العظام الذين لم يعبروا من خلال حكمهم على الحياة سوى عن شكهم وتعبهم من الحياة، ماذا يعني هذا الإجماع؟ يستحضر نيتشه إجابتين محتملتين:
يجب أن يثبت هذا الإجماع أن الحياة لا تساوي شيئا: "الحياة ليست سوى مرض طويل الأمد؛ أنا مدين بديك لأسكليبيوس المنقذ". هذا ما قاله سقراط وهو يحتضر.
هذا الإجماع لا يثبت سوى اتفاق الحكماء في ما يتعلق بالحياة.
تم رفض الإجابة الأولى من قبل نيتشه: الأحكام على الحياة ليست لها قيمة، لأن أولئك الذين يحكمون هم أطراف في النزاع. ولا يمكن بالتالي تقييم قيمة الحياة؛ ولا تعتبر قيمة الحياة مشكلة فلسفية.
لذلك يبقى أن نبحث عما يمكن أن يعبر عنه هذا الإجماع. بالنسبة لنيتشه، فإن هذا الحكم يعبر عن التعب، الضجر، المرض، وبكلمة واحدة، يعبر عن الانحطاط.
ما يثبت اتفاق الحكماء أنهم جميعا يعانون من نفس الاضطرابات الفسيولوجية التي تجبرهم على تبني نفس الموقف السلبي تجاه الحياة. ليسوا أحرارا في الحكم بطريقة مغايرة.
ثم انتقل نيتشه إلى دراسة حالة سقراط التي لها قيمة نمطية للتفكير في تخفيض قيمة الحياة من قبل الحكماء. يميز عدة خصائص جسدية واجتماعية وأخلاقية:
كان سقراط امة، وكان ذميما؛ الشيء الذي يبدو أنه يعبر عن تطور في الميول المتناقضة بسبب تمازج الأجناس. فضلا عن ذلك، سقراط مجرم نموذجي، وهو ما أكدته شهادة شيشرون: قال عالم فراسة لسقراط إنه كان وحشا يخفي أسوأ الرذائل وأسوأ الشهوات؛ أجاب سقراط: "كم أنت تعرفني حقا! »
لذلك ثبت أن سقراط قد تأثر باضطراب فوضوي في الغرائز. إنه أول مؤشر على الانحطاط. إلى ذلك أضاف نيتشه نقائص أخرى عانى منها سقراط كتضخم الملكة المنطقية وشراسة المتهالك (نعلم أن سقراط كان متشنجا إلى أقصى حد). كما كان مصابا بالهلوسة السمعية (شيطان سقراط).
كانت شخصيته مثيرة للضحك، كاريكاتورية، خبيئة ومراوغة.
من خلال هذا البحث عن سمات الشخصية، يسعى نيتشه إلى فهم كيف يمكن أن تنشأ المعادلة المذهلة: العقل = الفضيلة = السعادة؛ وهو أمر غير طبيعي ولا يتوافق مع الحضارة اليونانية.
بالفعل، وفقا لنيتشه، مع سقراط تم تغيير ذوق الإغريق لصالح الجدل. لكن هذا الأخير لا يساوي الكثير، لأن: "حيثما كانت السلطة شيئا مألوفا، وحيثما لا يتم إعطاء'الأسباب'، ولكن الأوامر، يكون الجدلي صنفا من المهرج. »

إذن، كيف تمكن سقراط من فرض الجدل؟ بالنسبة لنيتشه، لا يستخدم المرء الجدل إلا عندما لا يكون لديه وسيلة أخرى، إنه سلاح فعال لاكتساب حق الخروج بانتصار من الصراع. لذلك يجب أن يكون هذا الاستخدام تعبيرا عن تمرد، عن إحساس دهمائي. صاغ نيتشه الفرضية القائلة بأن سقراط انتقم من الأرستقراطيين الذين استطاع أن يبهرهم: الجدل في الواقع يختزل الآخر إلى مجرد عاجز (مثال الطوربيد في محاورة مينون)، ويترك للخصم أن يثبت أنه ليس غبيا .
لكن يبقى أن نوضح كيف كان سقراط قادرا على الإبهار. أولاً، كان الجدل يغوي غريزة التسابق عند الإغريق الذين أحبوا المسابقات الجسدية والفكرية ذات الدلالات المثيرة.
لكن كان حدس سقراط الأساسي هو فهم أن قضيته لم تكن معزولة؛ بل هي كوحش كان مختبئا في كل مكان: كان العلاج مطلوبا ضد جبروت الغرائز. بيد أننا نعلم أن سقراط أجاب عالم الفراسة عن أسوأ الشهوات التي رآها الأخير فيه: "هذا صحيح، لكني تحكمت فيها جميعا".
هكذا مارس سقراط غوايته لأنه بدا وكأنه حل، علاج للشر الذي عانى منه اليونانيون.
ما يمكننا استنتاجه من هذا الفحص لحالة سقراط هو أنه عندما يصبح العقل طاغية، يصبح خشبة نجاة: اليأس مترسب في قاع الفلسفة التأملية اليونانية. كان على المرء أن يكون عقلانيا لدرجة السخافة حتى لا يغرق؛ فكل فلسفة أخلاقية تتبلور لها أسباب مرضية وتؤدي إلى المعادلة المذكورة أعلاه: لكي نكون سعداء، يجب أن نكون واضحين وعقلانيين، وإلا غرقنا في ظلام اللاوعي، في هيجان الغرائز.
لكن هذا الطب السقراطي هو في الواقع وهم؛ لإننا لا نفلت من الانحطاط، بل نعبر عنه فقط في شكل آخر. يتكون هذا الشكل من محاربة الغرائز؛ ومع ذلك - الحاجة إلى محاربة الغرائز هي أهم عناصر تعريف الانحطاط (الفوضى التي رأيناها أعلاه). طالما أن الحياة في تصاعد، فإن السعادة ترتبط بالغريزة.
ربما تشير الجملة الأخيرة لسقراط إلى أنه فهم حقيقة طريقته في الشفاء: خداع الذات. وفقا لنيتشه، سقراط، الذي سئم العيش، أجبر أثينا على إعطائه سم الشوكران. إذن ماذا تعني كلماته الأخيرة؟ يفسرها نيتشه على النحو التالي:
"سقراط ليس طبيبا، قال في قرارة نفسه: الموت وحده طبيب.. لم يعمل سقراط سوى على أن يكون مريضا لفترة طويلة.."
هذا عن سقراط، وماذا عن أفلاطون؟ لمعرفة الجواب، تعالوا بنا نتابع القصة من أولها إلى آخرها.
لا غبار على مناهضة نيتشه للأفلاطونية، مع أن هنا
جاذبية وقرابة بين الفلسفتين في نفس الوقت. انتقد نيتشه المثالية الأفلاطونية عندما قال إن الواقعي الحقيقي ليس المحسوس، بل الجمود الأبدي للأفكار المتعالية. لكن عندما لم يعد الناس يؤمنون بهذه الأفكار والخير الأخلاقي، انهار كل شيء: العالم المعقول، لأنه كان هذيانا للإنسان، العالم المحسوس، لأن المثالية الميتافيزيقية رفضته، باعتباره وهما وخطأ. لذلك فإن انتقاد أفلاطون يعني انتقاد المثالية الميتافيزيقية، ومنطقها، وأخلاقها، واستبدالها بفكرة إرادة القوة التي تعبر عن السمو الذاتي للقوى التي تشكل فوضى الوجود الديونيسوسي. لكن هل هذه النظرية، التي تحدد الأرستقراطية، محمية بشكل جيد من الانحراف، لأن الأرستقراطي أفلاطون كان بالفعل منحرفا بفعل الأخلاق السقراطية؟
مناهضة نيتشه للأفلاطونية معروفة وراسخة. يمكننا أن نقرأ تحت قلم نيتشه أقوالا مثل هذا الذي قاله سنة 1870: "فلسفتي هي أفلاطونية مقلوبة: كلما ابتعدنا عن الوجود الحقيقي، كلما كان أجمل وأفضل. الهدف هو: الحياة من حيث المظهر. لا يمكن لنا أن نكون في نفس الوقت أكثر وضوحا ولا اكثر استفزازا. بعد ذلك، يجوز التساؤل عما إذا كان مثل هذا التأكيد يمنحنا الأمل في أن نتوقع من صاحبه تحليلات للأفلاطونية تكون أي شيء بخلاف نهاية اللاتلقي.
ومع ذلك، فإن الطريقة التي يقدم بها نيتشه أفلاطون هي واحدة من أكثر تحليلاته إثارة للدهشة وفي بعض الأحيان أكثر تحليلاته إفادة.
نيتشه، الذي أجرى دراسات كلاسيكية وفقه لغوية متينة، كان يعرف أفلاطون مباشرة. في نص يعود إلى عام 1864، وكان حينئذ يبلغ من العمر 20 عاما، بعنوان "حياتي"، كتب يقول: "أفكر في ذاكرة ممتعة للغاية لانطباعاتي الأولى عن سوفوكليس، وإسخيلوس، وأفلاطون (...) عن المأدبة". وفي الواقع، لدينا أطروحة من تأليف نيتشه الشاب عن "مأدبة" أفلاطون. لا شيء هنا يعلن عن فلسفة نيتشه المستقبلية، ولكننا نلاحظ، مع ذلك، أن معارضة سقراط وألكيبيادس قدمت هنا كعلامة على الطبيعة المزدوجة لإيروس، على ارتباطه بالإلهي والإنساني، بالمجسوس والمعقول. بتكتم نسمع ضربات الطبول الأولى للمعركة العظيمة. لكن إذا قرأنا نصوص نيتشه، الذي أصبح سيد فكره، فإننا نرى أن النفور من أفلاطون قد حل محل هذا التحليل الخجول.
إليكم نصا يرجع إلى عام 1884: "(...) كراهيتي لأفلاطون، المضاد للقديم، للروح الحديثة كانت موجودة بالفعل"، لأن إضعاف الحياة في الروح الحديثة ينبع من الانحسار السقراطي أمام الفكر الفني لأسلافه. نيتشه، في الواقع، هو أحد الكتاب الأوائل الذين لعبوا على هذه المعارضة بين ما قبل السقراطيين وما بعد السقراطيين. إنه يميز في أفلاطون أعراض الانحطاط التي رآها في المشاعر الروسوية أو الإرادة الشوبنهاورية التي تنتهي بالشفقة، بالتخلي، بالنفي، بالعدمية، وهي تقتفي أثر الحركة التي دشنها باسكال.
ولكن، مثلما دفع العدمية المقيدة لشوبنهاور إلى أقصى الحدود، في لعبة مزدوجة من التعاطف والتفنيد، تبنى موقفا مزدوجا غامضا تجاه أفلاطون. وقبل كل شيء، لأنه يتصور أن أفلاطون هو نفسه مزدوج: إرادة قوية ومهيمنة ليس لديها للأسف أي شيء آخر تخضع له غير نفسها. لذلك كتب عام 1880:
"في اوقات الانحلال تكون الشخصيات الأخلاقية العظيمة هي تلك التي تعرف كيف تلجم نفسها. تلك علامة على الفخر، لأنهم يسيطرون على المزاجات (هيراقليطس، أفلاطون) في عالم متغير، حيث لم يعد بإمكانهم أن يسيطروا إلا على أنفسهم".
لذا لا تبسطوا: أفلاطون ليس عالم أخلاق مبتذلا، رغم أن التفسير الأخلاقي للوجود هو الخيط الناظم لفلسفته. وهذا يفسر مزيجا من الرفض والإغواء: "العقول الدوغمائية مثل دانتي وأفلاطون، يكتب نيتشه، هي تلك التي أشعر بأني أبعد ما أكون عنها، وبالتالي ربما هي الأكثر سحرا بالنسبة لي. تلك التي تسكن في منازل جيدة البناء، متينة في ما يبدو، من المعرفة.
لكن نيتشه يؤكد أن الأمر يتطلب المزيد من الصرامة للعيش في نظام غير مكتمل. يتضمن الطريق إلى الحكمة تربية شاقة: تبجيل كل القيم، وجعلها تواجه بعضها البعض في دواخلنا، ثم تنكسر، وتتجه إلى الصحراء، وأخيراً تجعل لها هناك إقرارا خالصا في عالم ليس له في حد ذاته معنى ولا هدف.
وتساءل نيتشه عام 1884: "هل كان أفلاطون سينجح؟ ». ربما لأنه من هؤلاء الرجال الذين هم أقوى من الفنان الكامن فيهم، لذلك كان أفلاطون أكثر قيمة من فلسفته: إذا كان أفلاطون يشبه التمثال النصفي في نابولي فذلك أحسن تفنيذ لكل المسيحية" (نص 1884). بعبارة أخرى، أفلاطون أرستقراطي مغرم بسقراط الدهمائي: لو أخذ أفلاطون حرفياً بسذاجة التعريف السقراطي للوغوس والخير، ولو كانت هذه "الحماقة" شائعة من قبل المسيحية، سيكون لدينا هنا حجة على استعباد الروح الأوروبية.
إن التفسير الذي قدمه نيتشه مثير للفضول: أفلاطون مخطئ في طرح وتعريف الخير الأسمى، لأنه هو نفسه يمثل الخير الأسمى، أي الرجل المتفوق.
وهكذا فإن الأفلاطونية ترتكز على عار الاعتراف بقوتها، كما أن الكونية العقلانية لسقراط قدمت لها مخرجا، من خلال الإسقاط والتواطؤ مع الإرادة الضعيفة. يذهب نيتشه إلى حد افتراض أن أفلاطون كان أذكى من أن يصدق عقيدته: "من المؤكد أن أفلاطون لم يكن عنيدا ليعتقد، كما يقول، بأن المفاهيم ثابتة وأبدية، لكنه أراد منا أن نصدقه".
افلاطون كبح الفنان الكامن فيه ليس من منطلق الكلبية(*)، بل من منطلق الضعف.
الأخلاق ضد الفن. هذا هو جوهر تمثل نيتشه لفلسفة أفلاطون: كتب سنة 1883 يقول: "منذ أفلاطون، كانت الفلسفة تحت سيطرة الأخلاق"، التي، وهي تتخيل تمييزا وتضاربا بين مبدأين، تسمح للإرادة الضعيفة بأن تتيه عن معنى الانقياد، وفي الوقت نفسه، تتطالب بأن تخضع الإرادة الإبداعية لروتين عقلاني زائف. تتحول عبارة "يجب عليك" الكونية إلى عبارة "أريد" مكسورة ومخفية، وتردد صداها من السماء حيث تم إسقاطها.
وهكذا فإن نيتشه يُخضع النظرية الأفلاطونية عن المعرفة بأكملها وانطولوجيا لأفكار الأبدية لهذه القصدية الأخلاقية. يقوم الجدل على أساس حكم أخلاقي مسبق، حول مصداقية الله الصالح، الضامن لأبدية القيم، وبالتالي الضامن لثقة سيئة القصد في وجود غير مستقر. وهكذا يفسر نيتشه الصلة بين الجدل، المايوتيك، التذكر وسقوط الروح في العالم. لكن إرادة الفن، التي استسلمت لأن يحط سقراط من قدرها، سترتكب خطأ فادحا: بما أنها لا تستطيع التخلي عن قوتها، التي مع ذلك لم تعد تبدو لها على أنها أي شيء سوى كونية خارجية، فإنها ستغذي وهم إنزال المدينة المثالية إلى الأرض حيث ستتم حماية الأرستقراطية عن طريق الملكية الفلسفية.
كتب نيتشه عام 1884: "لقد أراد أفلاطون إنشاء طبقة يرتبط وجودها بالثبات النهائي للأحكام الأخلاقية، من حيث مصلحتها الحيوية - طبقة الاخيار والعادلين". ومن هنا جاءت جمهورية أفلاطون. لكنها تخفي تناقضا جوهريا: إنها تريد حماية الممتازين بالكذبة المقدسة (شعر الدولة) ولكنها في نفس الوقت تريد أن تكون تربية لتحسين كل إنسان.
قريبا من هذا المعنى كتب نيتشه:
"سذاجة أفلاطون والمسيحية: ظنا أنهما يعرفان ما هو "الخير". كانا يعرفان تصور رجل القطيع وليس الفنان المبدع. اخترع أفلاطون بالفعل "المنقذ" الذي ينزل إلى المتألمين والأشرار. لا يدرك لا سبب الشر ولا ضرورته".
اعترفت الوثنية بالشر، وكانت الأفلاطونية ستسمم هذه البراءة الساذجة، وأدى تواضعها الأعمى فيما يتعلق بقوة الغرائز إلى تدمير الوثنية. وهكذا دشن عهد التعصب الأخلاقي، ولهذا يقول نيتشه عن أفلاطون إنه "كاريكاتور": لأن "النضال ضد الشر" يرجع، إلى جسده المدافع، ذلك الذي ينخرط فيه "على نحو سيء" بدون أي تعويض، لأن هذا الشر المنفعل لا يمكن أن يكون في حد ذاته سببا للإبداع، لذلك، كما يقول نيتشه، "يمكن لنا أن نستنتج منه بشكل معصوم الحكم بأن المتعصب في الأخلاق يقول لكل ما يشكل قمم التطور البشري: لا مطلقة للفساد. فكروا في حكم سافونارولا على فلورنسا، وأفلاطون على أثينا بريكليس، ولوثر على روما، وروسو على المجتمع الفولتيري، والألمان على جوته”.
ينتج عن أولوية التأويل الأخلاقي للوجود قلب التقييم الأنطولوجي، وهو أمر مناسب للفن. الأخلاق لا تتعارض مع الفن، إنها تعكس نظامه في القياس. يفضل الفنان المظهر على "الواقعي"، ويعتقد الفنان أنه كلما كان الشيء أقل واقعية، زادت قيمته. والحال، كما يقول نيتشه، اننا أمام نزعة "أفلاطونية"، لكن أفلاطون كان لديه الجرأة المعاكسة لقياس درجة الواقع، الموضوعية، والحقيقة وفقا لدرجة القيمة، ثم قال: "كلما كانت هناك فكرة (شيء)، كلما وجد ذلك (الشيء)".
عاد إلى مفهوم الواقع وقال: "ما تعتقد أنه صحيح هو خطأ ... ". لنوضح المفردات الواردة هنا: أفلاطون، كفنان، يفضل المظهر على الوجود، ولكن بصفته عالما أخلاقيا، فإنه يقدم لهذا المظهر الصفات التي، من الناحية الأخلاقية، تنتج الواقع، الموضوعية، الحقيقة، والخير. بينما يرى نيتشه في ذلك افتراء ضد الحياة، وتشويها للواقع.
يمكننا الآن متابعة تطور نقد نيتشه لأفلاطون بمزيد من التفصيل. إن التمييز بين الفكرة والمثال يستمد أساسه من إحدى سمات المزاج اليوناني، والمعارضة٦ بين قوة ديونيسوس والفرد الذي هو ليس سوى قناع واسم مستعار، كما أعلن نيتشه في الفقرة 10 من "مولد التراجيديا". وهذا أمر مهم، لأن الأفلاطونية ستكون بذلك نقيض العقيدة المتشائمة حول للألغاز، والرغبة في أن تكون سعيدا بموازاة طلب هذه السعادة لصالح فردانية أبدية. إن هيمنة النحن على سلطة الحياة هي إذن جوهر السقراطية، عند أفلاطون كما عند يوريبيدس.
تقول لنا الفقرة 12 من "مولد التراجيديا": "تعهد يوربيديس مثل أفلاطون بأن يُظهر للعالم ما هو عكس الشاعر غير المعقول". أي أن نضع الوعي في جذور الجمال والخير. غير أن، المأساة الديونيسوسية غير عقلانية، وسقراط - نيتشه يلمح هنا إلى بداية محاورة فيدون - فضل الطبيعة المبتذلة لأساطير إيسوب. امتياز المنفعة يجعله يشك في متعة التمثيل التراجيدي. أفلاطون، كان من شأنه أن يدمر تراجيديات الشباب ويتخلى عن الفن. لكن أفلاطون لا يمكنه إلا أن يبق ، في أعماقه، فنانا، والعنف الذي يتعرض له هذا الفن الذي لا يمكن كبته يولد نوعا من الحوار، حيث يصبح الشعر خادما للفلسفة، ويعطي فن الجدل أسبابا للوجود. أبولو هنا يسحق ديونيسوس. التفاؤل الأخلاقي يقضي على المأساة، ولكن بالندم والحنين والخسارة.
تفضح الشذرة 14 من كتاب "مولد التراجيديا" بشكل مثير للإعجاب نشأة الأفلاطونية من المأساة الديونيزوسية.
من الواضح أن عمل أفلاطون الذي يظل في قلب هذا التحليل هو الجمهورية. ستكون الحالة المثالية لأفلاطون هي الرد المناسب على العلاقة بين الوجود الجماعي والعبقرية، على الأقل كما أمكن لأفلاطون تجربتها في الدراما الداخلية. أغوت شخصية الطاغية، وهو الفنان الذي مر بالأخلاق ورغب في التحرر منها، أفلاطون، ولم ينس نيتشه علاقاته مع دنيس سيراكيوز. ستظل صورة الطاغية هذه تطارد نيتشه طوال حياته، وجذرها هو التأمل في التناقض بين الفن والميتافيزيقيا في أعمال أفلاطون. ذلك أن الأخير ظل مرتبطا، حتى في سجال نيتشه ضمن إحدى محاضراته عن هوميروس، بفن السفسطائيين والكتاب المسرحيين، لدرجة أنه أبدع مثلهم الأساطير والدراما.
بخلاف برغسون، الذي سيرى سقراط وقد تم تشويهه من قبل أفلاطون، يعتقد نيتشه أن سقراط قاد أفلاطون إلى الضلال عن طريق حقنه بالفيروس الجدلي والأخلاقي. هكذا نجده يقول في "إنساني، مفرط في إنسانيته": "لا نطرح سؤالا فارغا إذا تساءلنا ما إذا كان أفلاطون، بعد أن ظل متحررا من السحر السقراطي، لم يجد حتى نوعا أعلى من الرجل الفلسفي، المفقود بالنسبة إلينا إلى الأبد".
وهكذا يرتسم في مجمله منظور نيتشه عن أفلاطون: إنه يعتبر مثالا نموذجيا للفنان الذي يتخلى عن الفن لصالح الحقيقة، مثال للقوة الإبداعية التي تسمح لنفسها بأن يهيمن عليها دوار الخير. يلقي موقف نيتشه تجاه فاغنر بعض الضوء على الفكرة التي كانت لديه عن أفلاطون.
حظيت المسألة الأساسية في "الجمهورية"، أي مسألة تربية العقل لدى الجنس البشري، باهتمام نيتشه بشكل خاص، لأن نيتشه، قبل كل شيء، صدمه عقم ومخاطر الثقافة الزائفة التي يندد بمساوئها في ألمانيا. ومثلما استندت الدولة الأفلاطونية إلى "أكذوبة الأمن" (Notlüge)، الموجودة في الجمهورية، استند خيال السكان الأصليين وثبات النظام الاجتماعي، وكذلك الثقافة الألمانية إلى كذبة التكوين المحض تاريخي.
ويواصل نيتشه المقارنة، في الاعتبار الثاني من "الاعتبارات المتأخرة''، قائلا إن هذا النظام سينهار مثلما حدث ل "جمهورية" أفلاطون، لأنه في كلتا الحالتين تم إنكار الحياة لصالح مقولة أنطولوجية فارغة. المحزن هو أن "أفلاطون عانى من سوء حظ لا مثيل له في التاريخ: في كل مرة رأينا فيها ولادة بناء يتوافق مع مبادئه، على الأقل في الخطوط العريضة، لم يكن، عند النظر إليه عن كثب، بديلاً عن ابن قزم، عن قزم رهيب. لكن من سوء الحظ ما نتحمل مسؤوليته في بعض الأحيان. لأنه إذا كانت الدولة لا تريد بصدق أن تكون الفلسفة حرة، فكيف كان أمكن لأفلاطون الاعتقاد أن دولته ستفلت من هذا القانون؟ من جهة أخرى، كما يقول في الجزء الثاني من "الجمهورية": "في الوقت الحالي، لا أنا ولا أنت شاعران، بل مؤسسا دولة".
ويقول نيتشه مرة أخرى: "في قبضة هذا المزيج من الجرأة القوية والخوف، يجب على المرء أن يكون أفلاطون، على الأقل، ليجرؤ، كما فعل هو، ليقول للشاعر المأساوي: 'سنكرم في جمهوريتنا، ككائن مقدس ومعجزة، الرجل الذي ستسمح له حكمته بأن يصبح كل شيء في العالم، وأن يقلد كل شيء، سنمسح رأسه بالعطور ونتوجه بأشرطة، لكننا سنحاول إقناعه بالذهاب والاستقرار في دولة أخرى'".
صحيح أن موقف نيتشه متقلب. في بعض الأحيان يوافق على فكرة أو قول مأثور أفلاطوني،
لكنه يعطيهما معنى خاصا جدا، بعيدا عن الأفلاطونية. وهكذا نجده، في الشذرة 102 من كتاب "إنساني، مفرط في إنسانيته"، يقول: "سقراط وأفلاطون على حق: مهما كان ما يفعله الإنسان، فإنه يفعل الخير دائما، أي ما يبدو حسنا (مفيدا) بالنسبة له، تبعا لدرجة ذكائه، مستوى تفكيره الحالي". لكن أفلاطون قال ذلك بافتراض أن المنفعة الحقيقية الوحيدة هي الخير، رغم أن نيتشه يستخدم هذه الفكرة لتوضيح كونية غريزة الحفاظ على الذات. أو مرة أخرى، عندما أيد، في الشذرة 212 من نفس الكتاب، أفلاطون الذي كان على حق عندما اعتقد أنه من خلال المأساة يصبح المرء بشكل عام أكثر قلقا وأكثر تأثرا".
بالنسبة إلى نيتشه، ليس هناك شك في أن البحث عن الحقيقة والخير من قبل الفنان المكبوت وتحويله إلى ميتافيزيقي يولد الاستبداد، بحيث تكون هناك استمرارية في النوايا بين أفلاطونية العقل والاشتراكية، التي كرهها مادام أنه رأى فيها حكم العبودية المعقلنة. لنقرأ ما قاله في "إنساني، مفرط في إنسانيته": "الاشتراكية تظهر نفسها دائما في محيط كل الاستعمالات المفرطة للقوة، مثل النموذج الاشتراكي القديم أفلاطون في بلاط طاغية صقلية".
يشك نيتشه في أن هذا الاستبداد العائد خجولا، ليصبح استبدادا تحت غطاء الفضيلة، كما عند روبسبير الذي لذغته هذه الرتيلاء الأخلاقية الأخرى التي كانها روسو الذي يقدم عنها مثالا صارخا، سيقود الفيلسوف إلى الذل.
لا أعرف شيئًا أكثر سوءً من النكتة التي سمح بها أبيقور لنفسه فيما يتعلق بأفلاطون والأفلاطونيين، حيث أطلق عليهم لقب "ديونيزوكولاكس". تعني الكلمة اشتقاقيا وللوهلة الأولى: المنافحون عن ديونيزيوس، وبالتالي أتباع الطاغية ولاعقي الحذاء.
هذا يعني، علاوة على ذلك، أنهم كانوا ممثلين فقط، دون أي شيء أصيل فيهم، لأن هذا هو اللقب الذي يطلق على الممثلين..."
كوميديا العقل الكوني هاته خطيرة. لأنه إذا جعلنا العقل طاغية، "نخاطر كثيرا، كما يقول نيتشه في "أفول الأصنام"، برؤية شيء آخر يمارس الاستبداد في الواقع. بالفعل، هذه الحاجة إلى الضوء بدون هذه الإضاءة تخذل الخوف من الليل، العجز عن تحمله، وبالتالي الشكل الأكثر خفاء لهيمنة الظلام. إن الخوف من الانحدار بوضع الثقة في الغريزة يخون الخوف الذاعر من الحياة في محنة. لتحديد العقل والفضيلة والسعادة، يقترح صنع سعادة الإنسان من خلال تحسينها وباستخدام جميع الوسائل، بحيث أنه لكي "نتحلى بالأخلاق"، كما يقول نيتشه في "أفول الأصنام"،"نكون أيضا في حاجة ماسة إلى الإرادة المعاكسة [...] لم يشك لا مانو ولا أفلاطون ولا كونفوشيوس ولا المعلمون اليهود والمسيحيون في حقهم في الكذب [...]. إذا أرادنا التعبير وفق صيغة، يمكن لنا أن نقول: كل الوسائل التي يجب أن تجعل البشرية حتى الآن أكثر أخلاقية هي في الأساس غير أخلاقية.
وهكذا يكون أفلاطون هو ذلك النمط من العقل الذي يخدع ويفسد نفسه لكي يصبح أفضل، بشكل خادع، من خلال حب الحقيقة التي تخفي لاأصالة الحياة الضعيفة.
في أصل إرادة الحق والخير المطلق هاته، هناك الإيمان بالمثل الأعلى. لكن موقف أفلاطون غامض في هذه النقطة، حيث أغراه سقراط مع الاحتفاظ بوريد جمالي. يرى نيتشه علامة على هذا الغموض في الرابط الذي يوحد فلسفة أفلاطون بالمرحلة العمرية التي اكتشف فيها طريقته الخاصة. يكتب في "المسافر وظله": يمكن التعرف على المرحلة العمرية من حياة فيلسوف اكتشف فيها مذهبه من خلال عمله [...] هذه هي الطريقة التي تتذكر بها فلسفة أفلاطون منتصف الثلاثينيات من عمره، عندما التقي التيار البارد والتيار الساخن عموما بالاندفاع، ما أثار الغبار والسحب الصغيرة الرقيقة لكنها ولدت، في ظروف مواتية، عند شروق الشمس، قوس قزح ساحرا.
لكن يمكن أن يحدث أن الشمس لم تعد تشرق، ومن المؤكد تماما أن موت سقراط كان بالنسبة إلى أفلاطون ظلما تطلب تأويلا لمعنى العالم. لم يستطع أفلاطون استيعاب موت سقراط من خلال شعوذة عمله، التي أدت ايضا في النهاية إلى اختفاء سقراط، بحيث تشهد نهاية عمل أفلاطون، حيث لم يعد سقراط هو المعلم الذي يعلم، على استئناف المذهب بخيبة أمل وعلى مضض:
"بدلاً من إعادة فحص النتائج، كما يقول نيتشه في "الفجر"، والبدء في زرعها مرة أخرى، نحتاج إلى إعدادها لمذاق جديد، لجعلها محتملة، وتخليصها من جفافها، من برودتها ومن انعدام نكهتها. هذا ما جعل المفكر العجوز يبدو وكأنه يتفوق على أعمال حياته، لكنه في الواقع يفسدها بالتمجيد، بالحلويات، بالتوابل، بالضباب الشعري والأضواء الغامضة التي يخلطها بكل ذلك. هذا ما حدث لأفلاطون.."
الحماس الجدي وفرحة الحوار يفسحان المجال للجفاف المنطقي. أفلاطون، الذي يقول نيتشه إنه لم يكن ليوجد بدون الفن المأساوي الذي سبقه، حول وبدل المأساة إلى علم منطقي: "ورم خبيث للغريزة الفنية التراجيدية في العلم. سقراط وأفلاطون: الثقافة". نحن نفهم كيف يأخذ "قلب القيم"، عند نيتشه وجهة نظر معاكسة للثورة السقراطية والأفلاطونية.
يدرك نيتشه هذه الثورة الأفلاطونية ليس كمجرد إبداع بسيط للأفكار، بل كتغيير جذري للإنسان، وتقييم للحياة في مجملها. وهكذا فإن الشذرة 408 في الجزء الأول من "المسافر وظله" تضع أفلاطون ضمن الأرواح الأساسية، قريبا من روسو، في تعارض مع جوته وسبينوزا. من الواضح أن العلاقة مع روسو مرتبطة بالأخلاق السقراطية والتربية. لأن أفلاطون ظل أرستقراطيا بعمق ولم يكن ليتبع روسو على طريق الشفقة والعاطفة:
"لنتذكر كيف تحدث أفلاطون - الذي لم يكن واحدا من الفلاسفة الأكثر لاإنسانية - عن فيلوكتيتيس المشهد التراجيدي” ("الفجر"، الشذرة 157) .تلك إشارة واضحة إلى النقد الأفلاطوني للفن الملحمي والتراجيدي.
بالنسبة إلى نيتشه، كان أفلاطون حول هذه النقطة غامضا وتناقض غموضه مع الصلابة الهائلة للفلاسفة ما قبل السقراطيين. سيكون هذا الغموض أساسا للضمير السيء ولاستضمار الضمير السيئ من قبل الرجل الذي يخفي صراعاته مع القدر. هكذا ننتقل من النزعة البطولية إلى الهزيمة الداخلية.
الأفلاطونية فلسقة هجينة. كتب نيتشه عام 1875: "أفلاطون نفسه هو أول هجين كبير، سواء في فلسفته أو في شخصيته. تحتوي عقيدته الفكرية على عناصر سقراطية وفيثاغورية وهيرقليطية، وهذا هو السبب في أنها ليست ظاهرة من النوع الخالص. كرجل أيضا، يجمع أفلاطون في نفسه بين التحفظ الملكي وصفاء هرقليطس المهيب، والفهم الكئيب للمشرع فيثاغورس، وجدل العارف بالأرواح سقراط. كل الفلاسفة اللاحقين هم هجينون مثله".
من الواضح أن العنصر الأجنبي في هذا التهجين بالنسبة إلى نيتشه، كما سيقول بوضوح في الفقرة 190 من "ما وراء الخير والشر"، هو السقراطية، التي كانت في الأساس تنفر من الطابع الأرستقراطي لأفلاطون.
ما هي السقراطية؟ إنها ترتبط، بالنسبة إلى نيتشه، بهذا التأكيد الدهمائي على أن الشر ينبع من خطإ في الحكم وأنه يكفي تقويم العقل لمعرفة كيف يمكن أن يكون الخير وحده مفيدا وضامنا للسعادة.
إذن ماذا فعل أفلاطون لتكوين هذا المبدإ السقراطي والمكونات الأخرى لفلسفته؟ إليكم إجابة نيتشه، في الفقرة 190 من كتاب "ما وراء الخير والشر": "لقد فعل أفلاطون كل شيء ليؤول مبدأ معلمه كما يشاء"، ليقحم فيه القليل من الرقة والنبل، ليقحم فيه نفسه أولاً، هو الأكثر جرأة من بين جميع المؤولين. .. ، وهذا التاويل بدوره أوله نيتشه على أنه سلسلة من المتغيرات، التي منحت سقراط جميع أقنعة شخصية أفلاطون المتلألئة والمتعددة الاستخدامات.
ويضيف نيتشه: "حتى نقولها بعبارات ساخرة، وبعبارة المزحة الهوميروسية فوق ذلك، ما هو سقراط أفلاطون؟ إن لم يكن:"بديل أفلاطون، ذيل أفلاطون.."، "أفلاطون من الأمام، أفلاطون من الخلف والوهم في الوسط".
والحال أنه ليس من قبيل اللاجدوى أن نلاحظ أن نيتشه هنا يحاكي صورة، مادام هو يستخدم بيتا شعريا لهوميروس سبق واستخدم في وصف ارسيسيلوس، الذي يقول عنه أريستون إنه كان أفلاطون من الأمام وبيرو من الخلف وديودوروس في الوسط. ذلك أننا ننضم هنا إلى تقليد عريق، وهو تقليد التأويل المتشكك لأفلاطون. سيكون أفلاطون متشككا والأفلاطونية مزيجا من النزعة الشكية والنزعة السقراطية.
إن نتاج اللايقين الإرادي واليقين الأخلاقي هو الإثارة الجنسية الأفلاطونية التي يقول نيتشه، في كتاب "أفول الأصنام"، في الفقرة 23 من فصل "Flâneries inactuelles": "كان يتعين أن تعرّف الفلسفة، كما مارسها أفلاطون، كنوع من الإثارة الجنسية، وهي تواصل وتعمق الرياضة القديمة المحتضرة وكل الظروف السابقة [...] ما الذي نتج في النهاية عن هذه الإثارة الجنسية الفلسفية لأفلاطون؟ شكل جديد من أشكال الفن في السياق اليوناني، الجدل.
لقول الحقيقة، هذا التسامي الجنسي (محاورات خارميدس، فايدروس، المأدبة) هو تكريم لأفلاطون. لكن العنصر السقراطي يحول هذه الإثارة الجنسية إلى حب للحق يفترض مسبقا اضطهاد الذات وإنكار المحسوس وازدراء الشعر.
في الفقرة 91 من كتاب "العلم المرح"، يقول نيتشه أن السير الذاتية هي أكاذيب تستعمل الاستبداد على الذات لتتوافق مع نموذج، ويضيف بفضول: "لن أعطي مزيدا من المصداقية لسيرة أفلاطون الذاتية، ولا لسيرة روسو أو ل"الحياة الجديدة" لدانتي .
هذا يعني أن كل أعمال أفلاطون هي اعتراف بالصراع الداخلي بين الفن والأخلاق. ومن ثم فإنه من خلال إغواء الأخلاق،"أسطورة الفلاسفة" هاته، كما يقول نيتشه في الفقرة 3 من كتاب "الفجر"، نقل سقراط العدوى إلى أفلاطون. هذا الإغواء له معنى واضح للغاية: الإرادة الضعيفة التي لم تعد تريد أن تخاطر بنفسها وتفقد ذاتها في المواجهة المأساوية التي تتجاوز فيها نفسها، ولكونها غير قادرة على التغلب على القوة التي تحرجها وتهينها، ستحاول أن تجعلها تتبنى، كمقياس كوني للخير، ما هي نفسها قادرة على تحمله، وبالتالي، تصنف تحت اسم الشر، الطاقات القوية والخلاقة. هذا الشك الملقى على القوة له تأثير المبالغة في تقدير الداخلية الدقيقة، وأولوية القصد على الفعالية، وبعبارة أخرى نظرية الخلاص بالإيمان: "إن عقيدة الخلاص بالإيمان هذه؛ كما كتب نيتشه في الشذرة 22 من "الفجر"، هي ببساطة ليست صحيحة، لكنها تبدو مغرية لدرجة أنها أذهلت بالفعل عقول أبعد بكثير من عقول لوثر (نعني سقراط وأفلاطون)" .
صحيح أن سقراط جعل من نفسه مبشرا بالعقل، وليس بالإيمان، لكن دعونا نوضح فكرة نيتشه. الإيمان الذي ينتقده سقراط هو ثقة غريزة الإبداع في ذاتها، والعقل الذي يستدعيه هوثقة الفكر في متعال آخر، ووفقا لنيتشه ("ما وراء الخير والشر"؛ الشذرة 191)، كان سقراط يعرف جيدا أن الغريزة هي القوة المحركة الحقيقية، لكنه يضيف: "أفلاطون، أكثر براءة في هذه الأمور، الخالية من كل دهاء العامة، أراد بكل قوته - وقد تجاوزت بكثير تلك التي كانت لأسلافه، أن يثبت لنفسه أن العقل والغريزة يتجهان إلى نفس الهدف، إلى الخير، إلى الله". بالنسبة إلى نيتشه، انتصار الإيمان، في الأفلاطونية، هو انتصار القطيع على النخبة، لأنه إذا كان القوي يتطلع إلى الانفصال ويهدف إلى الاستبداد الخلاق، فإن الضعيف يريد التكتل - صراع أفلاطون هو دليل على ذلك، يقول لنا في الفقرة 18 من الأطروحة الثالثة من "أصل الأخلاق".
خلال شتاء عام 1872، بخصوص الصراع بين الفن والمعرفة، قال نيتشه في كتاب "الاعتبارات" إن ما ضمن تفرد أفلاطون هو "حماسه للجدل، أي لبرودة الدم الواعية". برودة الدم الواعية هاته (هل يمكن لنا أن نتخيلها لدى فنان؟) هي الانفصال المنهجي عن المحسوس، الصعود الجدلي والزهدي نحو العالم العلوي للأفكار". "من هنا، كما يقول نيتشه في الفقرة 23 من 'الفجر'، إعجاب أفلاطون بالجدل"، ومن هنا إيمانه الحماسي بالعلاقات الضرورية للأخير مع "الإنسان الصالح، المتحرر من الحس" ( المرجع نفسه). أو مرة أخرى، في نفس الكتاب، في الشذرة 474 بالضبط: "الجدل هو السبيل الوحيد للوصول إلى الكائن الإلهي، للوصول إلى ما وراء حجاب المظهر - هذا ما ادعى أفلاطون" .
و لكن لماذا؟ لأنه في هذا التنازل وهذا الجهد "لترويض العالم وتأويله كانت هناك متعة" ("ما وراء الخير والشر"، الفقرة 14) . ذلك لأن المعرفة تجلب المتعة أيضا.
نقرأ في الشذرة 550 من "الفجر": "اتفق أفلاطون وأرسطو على ما يشكل سعادة قصوى، ليس فقط لأنفسهم وللناس الآخرين، ولكن السعادة في حد ذاتها، للآلهة والمباهج الأخيرة: لقد وجدها في المعرفة، في عقل يمارس للاكتشاف ولإبداع ذاته... "لكنها تظل مجازية للغاية وغير مستقرة، هذه المتعة في رؤية الجوهر الخفي، وسوف يدعي الميول الزهدي أنه يجب أن أؤمن بالمعقول دون أي متعة. وهكذا تصبح الأفلاطونية تحضيرا للمسيحية ولن تكون المسيحية إلا أفلاطونية خاصة بالشعب .
كانت هناك، كما يقول نيتشه، "محاولة من قبل أفلاطون ليصبح منقذا". لأنه إذا كان لا بد لي من الوصول إلى الحقيقة دون متعة، فعلى الأقل دع معاناتي تعمل على تحسين أحوال أولئك الذين لا يزالون يرزحون تحت وطأة الجهل. ومن هنا جاءت هذه الفكرة، التي تم التعبير عنها في عام 1873، والتي مفادها أن "سقراط أراد موته" وتم تناولها بشكل مثير للإعجاب في الشذرة 340 من "العلم المرح"، حيث يشفي الموت المرغوب فيه مرض الحياة.
إصلاح الإنسان من خلال فرض أخلاق عليه وإماتة نفسه من أجل هذه الأخلاق، هذا هو التصميم الذي اتخذته المسيحية بنجاح. كتب نيتشه في الفقرة 496 من "الفجر": "فرصة ما إضافية، وبضع فرص أخرى ضائعة، وها العالم قد شهد أفلطنة الجنوب الأوروبي، وبافتراض أن حالة الأشياء هذه لا تزال قائمة، فمن المحتمل أننا سوف نعشق اليوم في أفلاطون، المبدأ الجيد”.
فشل أفلاطون لأن العالم اليوناني، كما يخبرنا "العلم المرح" في الشذرة 149، كان متحضرا جدا بحيث لم يعترف بالتوحيد وكان كارها لغرائز القطيع .. كانت "اللاأخلاقية" اليونانية، التي ندد بها اللاهوتيون المسيحيون، علامة على الصحة الميتافيزيقية لليونانيين.
في مقابل قوة الأنواع المختلفة والمتعددة الألوان من حكمة ما قبل السقراطيين، يقف تواضع أفلاطون الزائف، والذي هو، في الواقع، كما يشير نيتشه في "العلم المرح" (الشذرة 351) افتخار وحشي، استوعبته الأخلاق في صراع زهدي ضد النفس.
هذه الأفلاطونية الأخلاقية سوف تشوه الإنسان والعالم اللذين جعلاها تعاني، وهو موقف يتعارض مع ثوسيديدس ("الفجر"، الشذرة 168) ومرة أخرى مع هوميروس ("أصل الأخلاق، الشذرة II، 25). إن هذا الافتراء وهذا اليأس الخفي هو الذي سيدفعه إلى "اللجوء إلى أرض الأفكار الأبدية، في ورشة مبدع الكون، ليغمر عينيه هناك بنماذج الأشياء الأولية، الطاهرة وغير القابلة للكسر، ولكن في السلام الجاثم والمتجمد لأبرد مفهوم، وأقل تعبير عن الوجود".
__________________________________________
(*) كَلْبِيَّة : مَذْهَب يَقُوم عَلَى مُجَارَاة الطَّبِيعَة وَعَدَم الْمُبَالَاة بِالْعُرْف