الموقف المحفز في التربية - المختار شعالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

يرفض الفرد منذ طفولته الوصاية والإكراه والتلجيم، ويتحفز للمشاركة فقط حينما يتم احترام حاجاته وأصالته وطموحاته ..ينخرط بفعالية فقط حينما تمنح له حرية اختيار أسلوبه في التعامل ، أي كيف يكون ويتصرف ويفعل ويتفاعل...يتفاوض الطفل إذن ويتواصل دائما انطلاقا من دوافع ذاتية سيكولوجية عميقة..ولا يمكن أن يتحفز للفعل دون تعبئة هذه البواعث. هذا الأمر يجعلنا نثير أسئلة جوهرية: كيف يمكن إذن جعل التلميذ(ة) بمدارسنا يتعب ء ويتحرك من أجل ذاته ومن خلالها في علاقة بالتعلم؟ و كيف يمكن إيقاظ إرادته في التوق إلى النجاح وينخرط في إجراءات ذاتية واستراتيجية لرسم ملامح مصير مفكر فيه؟ ما الذي سيجعله ينتقل إلى معني وفاعل ومسؤول؟ إن الأمر يتعلق في نهاية الأمر بفهم كيفية خلق موقف محفز لدى التلميذ(ة) .

إن الموقف المحفز اتجاه عام لدى الأشخاص الذين يشتغلون بناءا على مشروع ، ويتوقون إلى امتلاك أدوات معرفية ومهارية لتطويره وتحقيقه. يغذي هذا الاتجاه مجموعة من الدعائم، أهمها الإرادة الشخصية والحاجة إلى النجاح والتفكير الاستراتيجي. إن حضور هذه المكونات تضع الفرد في وضعية قصدية (لها قصد ) ومحفزة.
تتقوى الإرادة الشخصية عندما يتقوى الاعتقاد في إمكانية الفعل في المحيط والاعتقاد في إمكانية ممارسة تأثيرات على مجريات الأمور في الحاضر وفي المستقبل. أي عندما يدرك التلميذ(ة) أنه سيد اختياراته وقراراته. يخلق هذا الاعتقاد لدى الفرد التأهب للمشاركة وحافزية لقيادة مسيرة تعلمه وتكوينه الذاتي. وتضعف هذه الإرادة حينما يعتقد الفرد أن كل ما يقع له ناتج عن الصدفة أو الحظ أو القدر، ويرى أنه تابع لقدرة وإرادة خارجية عنه، أي يشعر أنه غير قادر على التحكم فيما يجري وغير قادر على توقع تصرفاته بشكل كلي. هذا الفرد سوف لا يكون له أي استعداد للإقبال على التحدي ولا الإرادة في النجاح، لأن اعتقاداته تقوده إلى عكس ذلك، أي إلى قصور ذاتي وبالتالي إلى التراجع والاستقالة.
إن التحفيز على النجاح في الحياة المدرسية وفي الحياة بشكل عام، يرتكز على مدى إحساسنا بمسؤوليتنا على النتائج والمردودية التي نحصل عليها من خلال الفعل والجهد الذي وظفناه من أجل ذلك... ينتج النشاط المحفز عندما يشعر التلميذ(ة) بتقدير الذات وتكون له ثقة في قدرته على الفعل وقدرة على توقع انعكاسات هذا الفعل، ويعترف لنفسه بإمكانية بلوغ الأهداف التي حددها من خلال مهاراته ومؤهلاته. إن التلميذ(ة) يجرب إرادته عندما يوضع في وضعية اختيار أو فعل أو حل مشكلات أو التعبير عن رأي أو ممارسة حكم نقدي وإبراز خبرته وتعلماته. عندما يقوم بذلك من مكانة المعني والمسؤول والفاعل يصبح مرشحا للنجاح أكثر، كونه ينسب إلى نفسه الاستحقاق والنتائج المحصل عليها ويرغب في تحسين مردوديته وتوسيع طموحه .
تقوي هذه المواقف دعامة أخرى للتحفيز التي تتمثل في حاجة الفرد إلى النجاح. وتعتبر الحاجة إلى النجاح طموحا لتحقيق أهداف واقعية، وتطلعا إلى تجاوز صعوبات تجعل الفرد يشعر بالقدرة على التحكم أكثر في الموارد التي تتطلب ذلك، والتقدم في بذل الجهد والمثابرة المطلوبة. ليس الحاجة إلى النجاح مجرد تمن بل هي استثمار سلوك وجهد حقيقي وانخراط في نشاط يهدف إلى أجرأة غايات والتخطيط إلى فعل إرادي. إن هذا النشاط الهادف يجعل التلميذ في مشروع سواء قصد النجاح في الدراسة أو مشروع شخصي.
ومجمل القول ، تحافظ الإرادة الشخصية والحاجة إلى النجاح على الشعور بالفعالية وتقدير الذات وإرادة في الإقدام على التكوين الذاتي، ويخلقان جاهزية لدى الفرد لوضع أهداف ورفع تحديات ورهانات للتقدم نحو بلوغ الغايات التي يتطلع لها. غير أن هذه الإرادة تقتضي اعتماد تفكير استراتيجي ، باعتباره دعامة أخرى محفزة للفعل من خلال إعطاء أهمية أكثر إلى الإمكانيات المستقبلية والتفكير بشكل استراتيجي واستباقي للاستفادة من الممكن في اتجاه رسم مستقبل مختار عوض الخضوع لمستقبل مفروض. عند التفكير في المصير وفي المستقبل ومحاولة ضبط ملامحه فإنك تصطدم بمعطياته وإكراهاته لأنها حاضرة بثقلها عند بلورة الاختيارات في الحاضر . يقتضي هذا التفكير وهذا الإجراء إعادة ترتيب الماضي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل. إن هذه الإجراءات ليست مهارة سهلة بل إنها كفاية تكتسب من خلال التمرين والتمرس على الاستباق وعلى رؤية الذات عبر الأزمنة الثلاثة، ورؤية المستقبل من خلال ما هو منظور وما هو قابل للمراقبة وما هو غير قابل لذالك.
ومجمل القول ، فإن الإرادة الشخصية والحاجة إلى النجاح واعتبار المنظور الاستراتيجي تشكل كلها موقفا محفزا يكاد يكون نفسه قوة الذات بل الاستقلالية المطلوبة في التربية التي تمنح الفرد مكانة المعني الذي يتعلم من تلقاء ذاته ويتكيف ويختار ويفعل ويتصرف.
وفي الختام لا بد من التأكيد على أن المدرسة التي تضع في مركز مهامها نجاح كل التلاميذ، لا تستطيع تأهيلهم جميعا دون منحهم فرصة بناء وتحقيق مشاريع لها علاقة بتطلعاتهم وهويتهم ودوافعهم ومحفزاتهم. وبناء عليه ألا يمكن اعتبار أن الموقف المحفز يشكل حجر الزاوية لأي إصلاح في التربية؟ لماذا إذن التركيز على جودة المحتويات الدراسية ، ولماذا كل هذه الآمال في البيداغوجية التشاركية إذا لم نجعل أغلب التلاميذ في وضعية محفزة للتكوين وفي دينامية مشروع تطوير إمكانياته الذاتية؟
يوجد في قلب الإجابة عن هذه التساؤلات مبدأ التعبئة لأنه يمنح الرغبة في التعلم ويعطي توقا إلى تقرير المصير ومعنى للتفكير فيه والتطلع إلى التحكم في رسم ملامحه. غير أن هذه الإرادة قد تتعرض للإقبار عندما تضع مدرستنا التلميذ (ة) في وضعية فشل من خلال العوائق الإبستيمولوجية (بمفهوم باشلار) الكامنة في طيات منظورها التقليدي للتربية وللطفل . ألا يمكن في الواقع اعتبار الفشل المستشري بين صفوف تلامذتنا فشلا بيداغوجيا وتربويا ؟ هذا سؤال...