قراءة في كتاب "المخاض النقابي والسياسي العسير 1999-2013 " لحميد مجدي - أم كلثوم السرغيني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

عرف المشهد السياسي اليساري المغربي عدة تحولات وانشقاقات حالت دون التركيز على الاستجابة للمطالب الشّعبية، واكتفى بتركيز اهتمامه على الأفكار العريضة والإيديولوجيات وطرح المزيد من الأسباب لانشقاقات أدت إلى فقدانه لدوره الاجتماعي المتمثل في الاصطفاف إلى جانب الفئات الشعبية والدفاع عن مصالح العمال والطبقات المعدمة. وكشفت جل التنظيمات اليسارية والنقابية والحقوقية عن عجزها في أن يكون لها صدى لدى القواعد الشعبية وأصبحت تقاتل فقط من اجل البقاء.
تضيع معالم الإنسان المناضل الداعي إلى التحرر من العبودية والإستغلال، ففي دوامة هذه الصراعات الفوقية لا نكاد نعثر على التجاوب الصادق والبعد المحدد للرؤيا الواضحة إلا عند قلة ممن أتيحت لهم ثقافة واسعة واتصال حقيقي بأرض الواقع. و يخطئ مناضلونا حين يظنون أنهم حتى لو لم تنضج أفكارهم أو لم تكتمل لهم الأداة للممارسة الميدانية أو لم يتوفر لهم صدق المعاناة، فإن قرارهم بالوقوف إلى جانب الفئات المهمّشة و تناولهم لموضوعات حية تلامس ما في نفوسهم من مآسي و آلام، سيغفر لهم كل العيوب و سيحول عنهم نظر النقد، و هم في هذا ينسون أن عرض القضايا - لكي تكون لها قيمة و يكون لها التأثير المنشود - يتطلب من المناضل معرفة بالميدان المنتمي إليه و قدرة على التصور البنّاء، كما يتطلب منه تجاوبا صادقا مع الجوانب الحية و اتخاذ موقف منها، من شأن ملامح الصدق و القوة فيه أن تجعل القواعد الشعبية تنسجم معه و تتجاوب، فيتحول الصدق و التجاوب بذلك من إطارهما الشخصي إلى الإطار العام.

ومن هنا كان تقديري لهذا الكتاب الذي نحن بصدد كتابة قراءة متواضعة عنه: "المخاض النقابي والسياسي العسير 1999-2013 ورزازات تتحدث بلسان حالها" عن المغرب للكاتب والمناضل حميد مجدي. الطبعة الأولى 2021 لوردي استثمار للطبع والنشر والتوزيع
حميد مجدي مناضل سياسي، عضو الحزب الاشتراكي الموحد، وناشط حقوقي ضمن الجمعية المغربية لحقوق الانسان، وفاعل نقابي في صفوف المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ارتبط اسم حميد مجدي بمعية رفاق اخرين من مدينة ورزازات بالحراك العمالي والشعبي الذي تم تأطيره نقابيا ضمن مجموعة ملفات اشتغل عليها الرفيق حميد مجدي ضمن الاطارات التي ينتمي اليها، تجدر الإشارة إلى أن هذا العمل يتضمن سيرة ذاتية وعرضا عاما وموجزا لأهم الأفكار التي واكبت الكاتب خلال مسيرته النضالية وبالإضافة لكونه مناضل نقابي سياسي وحقوقي ومشارك في أهم الأحداث، فهو مفكر وقارئ نهم لأهم الفلاسفة والمفكرين نستعرض هنا مجموعة من المقالات التي كتبها في هذا الصدد:
• السلطة العقابية عند ميشيل فوكو (مجلة وجهة نظر العدد 17 نونبر 2002)
• الحقيقة المتوحشة والحقيقة والجسد (الموقع الإلكتروني معابر– الموقع الإلكتروني أنفاس)
• إشكالية حقوق الإنسان والوضع العربي الراهن (مجلة فكر ونقد العدد 23)
• المغاربة بين القرنين 20-21 (موقع أنفاس)
فكر حميد مجدي وإنتاجه الفلسفي كانا متفاعلين دائما مع حياته وحياة الناس وفي كل ممارساته الميدانية كان يؤكد على بحثه الدقيق عن أجوبة لها صلة عميقة بأسئلة جوهرية تحدد ماهيته وصورته وتحوله من إنسان مفكر إلى إنسان فاعل.

من هنا كان تميز وتفرد هذا الكتاب، فهو يعتمد بالدرجة الأولى عن أسئلة أزعجت الكاتب وجعلته يلتجئ لأكثر من 80 مرجع (مراجع عربية وأجنبية ص 523-529 من الكتاب)، ينتقل ما بين التاريخ والفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع والأدب والجغرافيا ...الخ ويحاول استخراج وربط المعطيات وإعطاء الحجج والبراهين عن الصعوبات التي تعترضه، وعن الأسئلة التي تؤرقه.
يتألف الكتاب من 11 قسم موزعة ما بين الشق التاريخي للمدينة (القسم الأول) والشق السياسي والإداري (القسم الثاني والثالث، السابع والثامن) والقطاع السياحي والسينمائي بالمدينة (القسم الرابع والخامس) وقطاع المناجم (القسم السادس) والاعتقالات والمؤامرات (القسم التاسع /العاشر والحادي عشر).
من الواضح أن الفكرة الأساسية من الكتاب ليست فقط إعطاءنا معطيات وبراهين عن مضمون الحركة النضالية الميدانية (التي -لو كان الأمر فقط كذلك – لأخد الكتاب صيغة مقالات عامة وتوثيق يخص كل قطاع عن حدة بمعزل عن الكاتب) ولكن الأمر يتجاوز في مضمونه المعطيات والوقائع، ليصف لنا تاريخ إنساني بذات واعية صادقة، تداخلت فيها أسئلة وجودية وواقعية، جعلت الكاتب ينقل صورة متميزة فنية وغنية بتفاصيل دقيقة تتخلل دراسته وتدوينه لأهم الوقائع.
.
قام المؤلف - بشكل غير عبثي- بتخصيص 3 فصول من القسم الأول (شذرات جغرافية وتاريخية وانتروبولوجية) وفصلين من القسم الثاني (نقابة وإدارة عمالة إقليم ورزازات) بمجموع 124 صفحة لدراسة المنطقة التي يوجد بها الكاتب بشكل مفصّل، وقد اعتمد في دراسته على بعض المراجع المهمة لكتّاب مثل عبد الله العروي وغيرهم من كتاب مغاربة وأجانب، في محاولة منه لنقل صورة أقرب عن تاريخ المنطقة (تاريخ المغرب).
معرفة الماضي ومن نحن، من الأسئلة الأولية والجوهرية التي تسبق أي خطوة في محاولة فهم الحاضر وما يجب فعله في المستقبل وكما قال الكاتب" ما يعرفه الناس عن ماضيهم وما يتمثلون عنه، مهما كان، حقيقة أو وهم، يسبقهم ويأخذ بأيديهم ويقودهم".
يسلط الكاتب الضوء عل حقائق قيمة عن تاريخ المغرب (البربر في العهد القديم – المسيحية – اليهودية... الخ) من زاوية السكان الأصليين بالرغْم من ندرة المراجع في هذا الصدد. تتخلّل فقرات هذه اللمحة التّاريخية صور ومواقف تدحض التاريخ المتعارف عليه من طرف الحكام والغزاة وتقربنا من الحقيقة إن صح القول.
وهذه الحقيقة -حقيقة معاناة غالبية الفئات الشعبية المحرك الأساسي لأي مجتمع في كل العصور ومحاولة لطمس تاريخها ومحو وجودها وإلغاء كيانها -جعلت الكاتب ينتقل في الفصل التالي إلى تدوين وبصوت عال كل الآهات الصادرة عن هذه الفئة وخصوصا تلك التي تجرّأت على التعبير عن معاناتها فكان مآلها الاعتقال والسجن والتعذيب في معتقلات سرية رهيبة يوجد أغلبها في المنطقة التي يوجد بها الكاتب. وقد خصص الفصل الثالث من القسم الأول (من الصفحة 89 إلى 110) للتعريف بهذه السجون ودورها التاريخي في التعذيب، واستطاع نقل صور عنها عبر شهادات من بعض الناجين بأعجوبة من براثن الموت !!

في القسم الثاني "نقابة وإدارة عمالة ورزازات"، تكون الانطلاقة الفعلية للممارسة الميدانية للكاتب بعد تأسيسه للنقابة تابعة للكونفدرالية الديمقراطية للشغل من داخل العمالة مقر عمله وهي بادرة فريدة من نوعها وربما الوحيدة على الصعيد الوطني. وبعد إعطائه نَبْذَة عن تاريخ الإدارة المغربية والدور المهم الذي يوليه نظام الحكم في المغرب لمؤسسة العمالة، وصف الكاتب وبدقة معاناة الموظفات والموظفين داخل هذا الجهاز وكيف تم انتزاع حقوقهم وإنسانيتيهم وسلب إرادتهم وجعلهم آلة في قالب إنسان! ووضّح كيف ينخر الفساد بكل وجوهه مختلف أقسام الإدارة التي من المفروض أنها تعنى بشؤون المواطنين فإذا بها تنشره وتنقله إلى البنى التحتية للمجتمع وفي هذه الحالة يتسع وينتشر في الجهاز الوظيفي ونمط العلاقات المجتمعية فيبطئ من حركة تطور المجتمع ويقيد حوافز التقدم الاقتصادي.

انتقل الكاتب في القسم الرابع" اقتصاد السياحة والخدمات بورزازات ومعاناة العمال" والقسم الخامس:" قطاع السينما بورزازات" إلى العمل والنضال في كل من القطاعين وأعطى البعد التاريخي والسياسي والاجتماعي لكل قطاع بالدلائل والبراهين المتوفرة لديه، ووضّح بكل موضوعية سبب المعاناة الشديدة والقاسية على العاملات والعاملين التي تتجلى في الشق الأكبر حرمانهم من أبسط حقوقهم التي نص عليها القانون.
كان للتأطير النقابي داخل المناجم وقع مدوي على السلطات ربما مماثلا للعمل النقابي داخل العمالة، فقد تعرّض الكاتب ورفاقه لمواجهات دامية وتضييق وحصار واعتقالات لا حصر لها. ففي القسم السادس المخصص "للمناجم" يوضّح الكاتب الأسباب الرئيسية والمتعلقة أساسا بالقرارات الفوقية التي تحارب وبشكل شرس كل المحاولات لتسوية وضعية العمال والأجراء، حتى في إطار القوانين المنصوص عليها. فكانت الإضرابات التي يخوضها العمال النقابيون توقف الإنتاج بشكل كليّ ممّا جعل الشركات المساهمة في المناجم تلجأ إلى كل أشكال القمع والطرد والاعتقال والتعسف وفبركة مؤامرات وتلفيق التهم لكل المناضلين النقابيين.
تجدر الإشارة إلى أن الكاتب ورفاقه كان سلاحهم المعرفة الدقيقة للمواجهة (معرفة القوانين: قانون الشّغل، القانون الجنائي ...) وضبط آليات الاشتغال الميداني وخوض أشكال نضالية سلمية، فكانت النتيجة تحقيق بعض المكتسبات وإنجاح بعض المحطات النضالية رغماً عن أجهزة السلطة!
استطاع الكاتب نقل صورة واضحة عما يروج من داخل المؤسسات بمعطيات بالغة الدّقة، فقد سجّل كل الخروقات وأوجه الفساد في الإدارات والفنادق والمناجم ووضّح أسباب ذلك بالبراهين والإحصائيات والشخصيات المسؤولة في كل قطاع. وعرض بشكل مفصّل المعاناة اليومية لكل الفئات المستهدفة من عمال ومستخدمين.
كانت كل هذه الصراعات مقبولة نوعا ما بحكم السياسة القائمة في كل المجالات، ولكن ما كان صادما بالنسبة للكاتب ولنا كقرّاء هو كبح وقمع وعرقلة هذه النضالات من طرف الحزب والنقابة اللذين ينتمي إليهما الكاتب ويناضل من خلالهما واللذان يعتبران معارضين لهذه السياسة ويحملان شعارات النضال إلى جانب الفئات الشعبية واحترام قانون الشغل. ففي القسم السابع من الكتاب "اليسار الاشتراكي الموحد" تناول الكاتب حيثيات تأسيس الفرع في ورزازت وتواطؤه مع المخزن وطرد مناضليه بشكل تعسفي، ممّا اضطر الكاتب ورفاقه إلى خوض غمار الانتخابات بتأسيس "لائحة الأمل المستقلة من أجل ورزازت" (القسم الثامن) تُوّجت بالحصول على ثلاثة مقاعد داخل المجلس البلدي ومواصلة الصمود والنضال والتصدي للفساد وفضحه بكل الوسائل المشروعة.

إن الإصرار على التقدم مهما تعدّدت المعيقات وتجسيد فكرة أن الإنسان يصبح نتاج أفكاره وما يعتقده، جعل الكاتب ورفاقه يرفضون كل مقابل للتخلي عن مسارهم ولم يخضعوا للإغراءات و شراء الذمم و أثبتوا عن حضورهم و انتمائهم و تجذّرهم و التحامهم بالجماهير و استعدادهم الدائم لتقديم التضحيات مهما كلّف الثمن، كل ذلك جعل السلطات تستنفذ بطائقها و تتجه نحو الهجوم المباشر و استئصال الرأس المدبر أي الكاتب، بتعريضه لمحاولات التصفية الجسدية وحياكة مؤامرات ووضعه تحت التهديد المستمر (القسم التاسع – القسم العاشر و القسم الحادي عشر من الكتاب).
وبعد أن فشلت مخططاتهم، استعانت السلطات بالنقابة التي يناضل فيها الكاتب ورفاقه ليصل الحد بالمكتب التنفيذي إلى إجهاض الحركة برمّتها والحدّ من التوغل الصارخ لليسار الديمقراطي في المنطقة، ونفيه بعيدا عن مدينته !! المدينة التي تنفست بفضله -طيلة سنوات -عبق الحرية وذاقت طعم التحرر من الاستغلال والعبودية.

أثبتت الأحداث والوقائع أن التيارات السياسية اليسارية والنقابات فاقدة لأي تأثير سياسي وأيديولوجي بل وأصبحت خارج الصراع، غير أن تسلل الوعي لبعض المناضلين أحدث تغييرا حقيقيا في المسار النضالي وتجاوزوا بذلك مستوى الحياد إلى الشجاعة والتضحية على حساب مصالحهم الخاصة!

في الختام، أود أن أشير الى أن هذا العمل يضيف للمشهد السياسي اليساري المغربي طرحا مختلفا وطاقة فكرية وتوجيها نضاليا يمكن الاعتماد عليه من طرف جميع المناضلات والمناضلين الأحرار ويمثل بارقة أمل تخترق هذا السواد الذي يكسو تاريخنا وثقافتنا ويحاصرنا من كل الجهات. ويؤكد على أن اليسار المغربي مطالب اليوم بمراجعة نقدية تساهم في تسليط الضوء على اختياراته وبعث روح جديدة لنهضته.

 

أم كلثوم السرغيني