فخ الإحصائيات وأوهام تراجع الفقر- حميد التوزاني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

يعد الفقر ظاهرة معقدة ومتعددة الجوانب، تختلف باختلاف المجتمعات والمجالات والأزمنة، وبذلك فالتصور التقليدي للظاهرة يختلف تماما عن التصور الحديث. لقد تميزت فترة ما قبل القرن التاسع باعتبار الفقر قيمة إنسانية عليا، وذلك لأسباب دينية وأخلاقية، حيث كانت تسود نظرة دينية قدرية، تدعو للزهد في المعيشة وتحث على تقبل الحرمان والتعايش معه، إذ كان الاعتقاد السائد يعتبر الفقر تحريرا للإنسان من الهموم الدنيوية ويضمن له تأشيرة الخلاص، وهكذا اعتبر الفقر مسألة عادية جدا، مرتبطة بالوجود الإنساني.
لقد طبع هذا التصور المختزل للفقر، نظرة رواد المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية خلال النصف الثاني من القرن 18 والنصف الأول من القرن 19، الذين اعتبروا الفقر حالة محفزة على العمل الذي يخلق الثروة، وفي هذا السياق "أكد "David Ricardo" على ضرورة إبقاء الأجور في مستوى الكفاف، من أجل بقاء الطبقة العاملة عند الحد الأدنى لمستويات المعيشة، رافضا بذلك فكرة وضع قوانين لصالح الفقراء التي تبنتها السياسات العمومية في إنجلترا خلال مطلع القرن التاسع عشر. وكإجابة عن هذا الاتجاه الرأسمالي وما خلفه من بؤس وفقر، برز التيار الاشتراكي كمدافع عن الطبقة العمالية، حيث اعتبر "Karl Marx" أن تراكم الثروة في جانب هو إذن وفي نفس الوقت تراكم البؤس والمعاناة في الجانب المقابل.
انطلاقا من تسعينيات القرن الماضي طرح مفهوم جديد للفقر، رافق صعود نماذج التنمية التي أطلقها البنك الدولي، هكذا أصبحت للفقر دلالة مزدوجة، الأولى ترتبط بالواقع الاجتماعي والتمثل الشعبي للظاهرة باعتبارها مشكلة حرمان ولامساواة مختلفة في الزمان والمكان. أما الثانية، فتركز على المقاربات الأكثر جدوى لدراسة الفقر والطرق الأكثر دقة لقياسه وتحديد الفقراء. تعبر هذه الدلالة المزدوجة عن تعقد ظاهرة الفقر وتداخل أبعاده، رغم حصول تطرف اقتصادي أحيانا واجتماعي أحيانا أخرى، في دراسته وقياسه وتحديد الفقراء.

لا يكفي الاتفاق على معنى مفهوم الفقر للتعرف على الفقراء، لكون ما نريد قياسه ليس بالضرورة قابلا للقياس المباشر، خصوصا إذا تعلق الأمر بالرفاه الاقتصادي أو الرضا على الاحتياجات الملباة أو قدرات الفرد، وبالتالي من الضروري استخدام متغيرات يمكن ملاحظتها وتسمح باستنتاج الواقع الذي نعبر عنه بمفهوم الفقر، هذه المتغيرات هي بمثابة مؤشرات تتمثل في الوسائل غير المباشرة لقياس الدخل، ومن أبرزها مجموع الإنفاق السنوي للأسر، والاستهلاك اليومي للأطعمة الأساسية.
لقد عرف الاهتمام بمحاربة الفقر ودراسته، تطورا هاما انطلاقا من تسعينيات القرن الماضي خصوصا، حيث شهد الفكر التنموي نضجا واضحا، رافق ذلك بروز نظريات جديدة تفسر الفقر، ومقاربات متعددة لدراسته، كل مقاربة قدمت مؤشرات ومقاييس خاصة بها لدراسة ظاهرة الفقر وتحديد نسبة الفقراء من مجموع السكان.
أدت الاهتمامات بتحديد الأفراد المتأثرين بالفقر والرغبة في قياسه في بعض الأحيان، إلى حجب حقيقة أن مفهوم الفقر، مفهوما معقدا يصعب حصره في بعد واحد من أبعاد الحياة الاجتماعية، ولقد أصبح من الأمور الشائعة بالنسبة لبلدان كثيرة أن تحدد خط الفقر استنادا إلى مستوى الدخول أو مستوى الاستهلاك، رغم أن الدخل يركز على أحد الأبعاد الهامة للفقر فإنه لا يعطي إلا صورة جزئية للعديد من السبل التي يمكن أن تتميز بها حياة الإنسان.
يمكن لشخص ما أن يتمتع بصحة جيدة وأن يعيش عمرا طويلا، لكنه في نفس الآن يصنف ضمن الفئات غير المتعلمة، مما يقلل من فرص التفاعل مع الآخرين، مقابل ذلك يمكن أن نجد شخصا ما، يصنف ضمن المتعلمين وربما على درجة كبيرة من التعليم، لكنه معرض للموت المبكر لأسباب صحية، تتأثر برداءة نظام الرعاية الصحية، وربما تكون هناك حالة ثالثة تمثلها فتاة مستبعدة من المشاركة في عملية اتخاذ القرارات الهامة التي تؤثر على حياتها، فالحرمان الذي تمثله أية حالة من هذه الحالات لا يمكن قياسه تماما على أساس مستوى الدخل، لذلك يُنظر إلى الحرمان بطرق مختلفة، ويقوم كل شخص وكل مجتمع محلي بتحديد ما يؤثر على حياتهم من أوجه الحرمان وانعدام الفرص والقدرات.
يعتبر البنك الدولي أبرز المؤسسات الدولية التي تعنى بدراسة الفقر وتطوير طرق قياسه، حيث تمارس هذه المؤسسة نوع من الوصاية على الدول النامية خصوصا، وقد كان تحديد عتبة الفقر النقدي المقاربة المفضلة بالنسبة للبنك الدولي، لكونها تتماشى مع توجهاته الاقتصادية وكذلك لأنها تتيح إمكانية المقارنة بين الدول. إلا أن هذه المقاربة لقيت مجموعة من الانتقادات التي أكدت على أن الفقر ظاهرة مركبة "اقتصادية، جتماعية، مجالية، نفسية، ثقافية" ولا يجب اختزالها في الفقر النقدي فقط. رغم هذه الانتقادات استمر البنك الدولي في العمل بمقاربة الفقر النقدي.
شكلت أعمال الاقتصادي الهندي "Amartya Sen" مرجعا أساسيا للتفكير والبحث في الفقر متعدد الأبعاد، بدل التركيز الذي كان سائدا على فقر الدخل / فقر الانفاق. وقد جاءت "نقطة التحول في دراسة الفقر مع تحديد الأمم المتحدة الأهداف الإنمائية للألفية وغاياتها، المستندة إلى إعلان الألفية الذي وقعته 189 دولة، بما في ذلك 147 رئيس دولة وحكومة سنة 2000، ومع اتفاقيات أخرى من الدول الأعضاء في مؤتمر القمة العالمي لعام 2005.
تعد هذه المقاربة مرجعا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (PNUD)، الذي طور مفهوم القدرة في تقريره السنوي (2000)، على أساس المزج بين ثلاثة مؤشرات فرعية؛ الأول يتعلق بالتعليم ومدى انتشار الأمية، الثاني يتمثل بالصحة أو العمر المتوقع عند الولادة، إضافة إلى الدخل، وتم تجميع هذه المؤشرات الفرعية في مؤشر عام هو مؤشر التنمية البشرية (IDH)، ومؤشر آخر يخص الفقر البشري المرتبط بالحرمان من القدرات الأساسية.
لقد شكل نجاح " Alkire Foster et" سنة 2007، مرحلة جديدة في دراسة الفقر وفهمه، بفضل تقديمهما لدليل الفقر المتعدد الأبعاد من خلال مبادرة أوكسفورد للتنمية البشرية والفقر، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقرير التنمية البشرية العالمي سنة 2010، حيث اعتمد بدل دليل الفقر البشري، في هذا السياق قدمت مبادرة أوكسفورد بدعم من البرنامج الإنمائي مقاييس جديدة لدراسة الفقر المتعدد الأبعاد، وقد تبنتها العديد من الدول، بداية من المكسيك والبرازيل، لتشمل دول كثيرة من بينها تونس والمغرب.
على المستوى المغرب فمنذ بداية الثمانينات، وبدعم من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تم إطلاق برنامج التقويم الهيكلي، الذي كان من مبرراته الضعف الهيكلي للاقتصاد المغربي. كان الهدف الأساسي لهذا البرنامج يتمثل في تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني. إلا أن نتائجه كانت مخالفة للانتظارات، فمع بداية التسعينات بدأت الآثار السلبية للبرنامج في الظهور كارتفاع معدلات البطالة، والنزوح القروي، وظهور المناطق المهمشة في المدن حيث تشكلت أحزمة للفقر والإقصاء. هكذا تأكد بالملموس سواء بالنسبة للسلطات العمومية أو بالنسبة للمراقبين الدوليين وخبراء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن التركيز على المنافع الاقتصادية فقط، يشكل تهديدا للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، مما دفعهم إلى التفكير في تبني سياسية جديدة توازن قدر الإمكان بين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي.
تخضع دراسة الفقر بالمغرب كغيره من البلدان الشريكة للدوائر المالية المانحة، لتوصيات الهيئات الدولية وعلى رأسها البنك الدولي، الذي يعد الموجه لمعالم التنمية ومحاربة الفقر على المستوى الدولي، وبالتالي فهذا التبعية التي لا تخص المغرب فقط، تجعل من دراسة الفقر وما يرتبط به من أرقام، سلعة سياسة تتم صناعتها وفق الطموحات والأهداف المسطرة، ولذلك نجد الكثير من المؤشرات المختارة التي لا تعبر عن حقيقة تنوع الفقر والفقراء بالمغرب، إذ غالبا ما يتم اعتماد نفس المؤشرات رغم تباينات الواقع ومستويات التنمية بين مجالات الواجهة ومجالات الهامش. تطرح مشكلة أخرى كذلك على مستوى طرق القياس التي يصعب حصرها، لكن الغريب في الأمر جميع هذه الطرق وما يرتبط بها من مؤشرات تؤكد تراجع الفقر، هكذا نصبح أمام نتائج مشكوك فيها حينما نقارن المعدلات الإحصائية بالواقع المعيشي.
تعرف معدلات الفقر بالمغرب، اتجاها عاما نحو التراجع بشكل مستمر وشبه مستقر، إذ من الصعب أن نصادف إحصائيات لجماعة معينة أو حتى إقليم، تعرف تزايدا للفقر. يرجع هذا المعطى لثلاثة أسباب أساسية: الأول يتمثل في طبيعة المنطلقات والغايات من دراسة الفقر (لا أوضاع الفقراء)، أما السبب الثاني فيتمثل في اعتماد المقاربة وطرق القياس، التي تحقق التطور المرسوم سلفا، ولتحقيق ذلك يتم العمل على تحريك المؤشرات وتغيير أوزانها. أما السبب الثالث فيتجلى في كون تراجع الفقر بمنطقة ما يرتبط أحيانا بهجرة الأكثر فقرا، وبالتالي فحركات السكان الفقراء تقلل من مصداقية هذه المعطيات.
يمكن أن نستحضر في هذا الصدد، المؤشرات التي اعتمدتها المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب خلال إحصاء 2014، والتي تدخل ضمن مقاربة الفقر المتعدد الأبعاد. من بين هذه المؤشرات نجد "وفيات الأطفال الأقل من 12 سنة، الربط بالكهرباء، أرضية المسكن". إن هذه المؤشرات تكون لها دلالة إحصائية بمجال معين، بينما تصبح بدون دلالة بمجال آخر، إذ يمكن اعتمادها في المجالات الجبلية الأكثر هامشية كمنطقة بويبلان مثلا، لكن مقابل ذلك إلى أي حد يمكن اعتبارها ذات مصداقية بالنسبة للمناطق المنفتحة ذات الأراضي المنخفضة الخصبة، بل تصبح ضرب من الخيال إذا ما اعتمدت بأحياء الفيلات الحضرية.
على سبيل المثال نستحضر الربط بالكهرباء الذي لم يعد له دلالة إحصائية، لكون أغلب القرى حتى تلك المعلقة بمنحدرات الجبال، تم تزويدها بالطاقة الشمسية. أما على مستوى مناطق السهول وحتى المدن، كيف يمكن تقبل فكرة مؤشر الكهرباء أو مؤشر أرضية المسكن (هل هي ترابية)، كأحد المعايير للتعرف على الفقراء. وللإشارة فهذا الجمود المنهجي، يخالف توصيات صانعي هذه المقاربة (Sabina Alkire, James Foster)، إذ يؤكدان أن مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد يتميز بالمرونة وبإمكانية تعديل منهجية المؤشر من طرف الدول التي تعتمده، حسب الظروف، عن طريق تعديل الأوزان والحدود الفاصلة، للوصول إلى مؤشرات مناسبة، مما يساهم في تحديد السياسات العمومية، ويمكن من استهداف المجالات التي يعيش سكانها درجة عالية من الحرمان، فضلا عن إمكانية إجراء مقارنات توضح اتجاهات دينامية الفقر.
وبالتالي يجب دراسة الفقر وفق منطق "تجانس الوحدات المجالية" لتحديد المؤشرات المعتمدة، التي تكفل التوصل إلى نتائج ذات مصداقية، أما تعميم المؤشرات واعتماد التقطيع الإداري فهو بمثابة تزييف للواقع والحقيقة، فنكون أمام معطيات إدارية تقنية ذات أبعاد سياسية أكثر من كونها معطيات تستغل لرسم السياسات العمومية المتعلقة بمحاربة الفقر، هنا بالضبط نقع في فخ الإحصائيات ونصدق أوهام تراجع الفقر، في عالم يسير نحو مزيد من الفقر ومزيد من الجوع.