من خلال كتاب "وصف إفريقيا"
تقديــم إشكالي
تعتبر كتب الرحلات والجغرافيا من المصادر التاريخية التي تشكل إطارا مرجعيا مهما، ومادة أساسية يستقي منها الباحث، في الدراسات الإفريقية خاصة، الكثير من المعطيات المفيدة التي يمكن أن يؤسس عليها فرضياته النظرية وبناءه التاريخي، لرسم صورة عن تاريخ العلاقات التجارية بين بلاد المغرب عامة وبلاد السودان الغربي ولاسيما في بداية العصر الحديث. ويعتبر كتاب "وصف إفريقيا" للحسن الوزان() من بين أهم هذه الأصناف من الكتب التي تفي بالغرض في هذا المجال. إنما ما هي الأهمية التي تكتسيها هذه المصادر عموما؟ وما هي الإشكاليات التي تطرحها على المستويين المعرفي والمنهجي؟ وما هي القيمة العلمية والمعرفية لكتاب "وصف إفريقيا" خصوصا، وما مدى استفادتنا منه؟
1 - أهمية المصادر التاريخية المغربية -لاسيما منها كتب الرحلات والجغرافيا- والإشكاليات التي تطرحها معرفيا ومنهجيا
جوابا عن التساؤلات التي طرحناها من قبل، يمكن القول إنه رغم أن المصادر المغربية عموما وكتب الرحلات خصوصا كتبت بذهنية مغربية، فهي مع ذلك مصادر لا غنى عنها لأنها تكمل في الغالب المعلومات الواردة في التواريخ السودانية()، وتكمن أهميتها كذلك في دحضها لبعض الأطروحات أو الأفكار التي دافع عنها بشدة بعض الباحثين الأجانب، كظاهرة جلب الرقيق السود من بلاد السودان التي دافع عنها أبطبول() وغيره، وهي تكتسي أهمية بالغة بحكم ما تزخر به من معطيات قيمة، وما تقدمه من عناصر على شكل إشارات وأوصاف وروايات يمكن للمؤرخ أن يعتمد عليها في بنائه لتاريخ المجتمعات()، كما أنها تكشف عن كثير من المعطيات المتعلقة بموضوع هذه الدراسة بالذات، حيث تمكننا من التعرف على معلومات مهمة حول عبور الصحراء، والطرق التجارية التي كانت تسلكها القوافل وما طرأ عليها من تحول ترتبت عنه عواقب وخيمة بالنسبة للمغرب()...
لكن رغم الأهمية التي تحظى بها هذه المصادر بالنسبة لتاريخ العلاقات التجارية بين المغرب وبلاد السودان خلال الفترة موضوع دراستنا، فإن استغلالها يطرح إشكاليات معرفية ومنهجية، فما هي إذن هذه الإشكاليات؟
- مدى تحري مؤلفيها -أي الرحالة- الصدق والحقيقة في كتاباتهم التاريخية؟ فالحسن الوزان الذي نعلم أن له إلماما بالمعطيات الجغرافية بحكم ما خلفه من أوصاف غنية ومحددة، وقع مع ذلك في هفوات جغرافية وتاريخية صارخة، إذ يقدم معطيات غير دقيقة حول النيجر وجني ومالي وحول بعض التواريخ، بالإضافة إلى مؤشرات أخرى جعلت بعض الباحثين المتخصصين في غرب إفريقيا -رايمون موني مثلا- يبدي شكوكه بخصوص الرحلتين اللتين قام بهما الوزان إلى السودان الغربي في مطلع القرن 16م، مبررا ذلك بأن المعلومات التي أوردها حول المنطقة غامضة ولا تقدم الانطباع بأنه زارها فعلا.
- مشكل الحصول على معطيات إحصائية بحكم أن المصادر المغربية على غرار المصادر التقليدية بشكل عام لم تهتم بالرقم إلا بكيفية عرضية، ويرتبط هذا الإشكال أساسا بطبيعة الكتابات التاريخية التقليدية والطرح المنهجي الذي تتبناه، حيث تهتم بالأحداث السياسية والعسكرية أكثر ما تهتم بالأرقام المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية أو ما يعرف "بالتاريخ الكمي".
وإذا كانت هذه هي الأهمية التي تكتسيها المصادر المغربية -لاسيما منها كتب الرحلات- والإشكاليات التي تطرحها بالنسبة لموضوع هذه الدراسة على المستويين المعرفي والمنهجي، فما هي القيمة العلمية والمعرفية لكتاب "وصف إفريقيا"؟ وما مدى استفادتنا منه هنا؟
2 - القيمة العلمية والمعرفية لكتاب "وصف إفريقيا" ومدى الاستفادة منه في هذه الدراسة
إذا نحن تجاهلنا مثل هذه الشكوك التي أثيرت حول كتاب "وصف إفريقيا"، فإنه يمكن القول إنه "يحتل مكانة خاصة بين كتب الرحلات والجغرافيين"، ليس فقط لأن صاحبه – كما هو شائع- شاهد عيان للأحداث التي أوردها، بل وأيضا "لشمولية معلوماته التي جمعت بين التأريخ للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكذلك "الذهنية المتفتحة التي كتب بها"، مما جعل بعض النقاد الأوربيين يعتبرونه "كتأليف عربي كتب بتفكير أوربي".
لكل هذا ولغيره فإن كتاب "وصف إفريقيا" يشكل، بالنسبة لموضوعنا، مصدرا أساسيا: فهو يجيب عن مجموعة من تساؤلاتنا حول عبور الصحراء توضيحا وتفسيرا. ويتحدث عن الطرق التي كانت تسلكها القوافل التجارية. ويرسم لنا صورة كاملة عن تحول المسالك القفلية نحو المغرب الأوسط وإفريقية وما ترتب عن ذلك من عواقب وخيمة على الواقع التجاري والاقتصادي للمغرب. كما أنه يقدم لنا فكرة عن ارتباط بعض الأنشطة الاقتصادية المغربية بالتجارة الصحراوية، وكيف أن هذه الأخيرة شكلت خلال القرن 16م المورد الرئيس لمداخيل شيوخ القصور بالجنوب المغربي، ليس فقط بسبب ما كانوا يحققونه من أرباح تجارية، وإنما أيضا بفضل "ضرائب المرور" التي كانوا يفرضونها على التجار مقابل حمايتهم عند المرور بمواطنهم أو عند التوقف بها، أو تلك التي كانوا يفرضونها على ضرب السكة وعلى اليهود، هذا بالإضافة إلى كون هذا النشاط -أي التجارة الصحراوية– شكل الميكانيزم المتحكم في العلاقات بين مختلف فئات ساكنة الجنوب الشرقي المغربي.
وأفادنا كتاب "وصف إفريقيا" كذلك في تحديد بعض المفاهيم التي تهم موضوع هذه الدراسة لأن الحسن الوزان يوضح بعضها، كمفهوم "بلاد السودان" الذي يعطينا فكرة عن تحديده الجغرافي والبشري الذي يكتنفه نوع من الغموض والاضطراب وانعدام الدقة، حيث يرى أن هذه البلاد تقع على ضفتي النيجر وروافده، إذ يقول: "تمتد على ضفتي النيجر وروافده، وتقع بين قفرين عظيمين يبتدئ أحدهما عند نوميديا وينتهي في هذه البلاد، والآخر يمتد إلى البحر المحيط".
وعلى العموم فإنه من خلال كتاب "وصف إفريقيا" نستطيع أن نقف على جملة من الأمور المرتبطة بالرحلات التجارية بين المغرب وبلاد السودان الغربي، سواء على المستويات اللوجستية أم على المستويات التنظيمية والأمنية وبعض الجوانب الأخرى، ومن ذلك مثلا:
أ - مشكل الماء
كانت ندرة نقط الماء وبعد المسافات بينها من أخطر المشاكل التي كانت تواجهها القوافل التجارية أثناء عبورها الطويل والشاق للصحراء، لذلك كان مصير القوافل واستمرارها على قيد الحياة ومدى نجاحها أو فشلها في رحلاتها يتوقف على هذه المادة الحيوية. وقد ذكر الوزان، في هذا الإطار، أن الماء بصحراء صنهاجة لا يوجد إلا على مسافة سفر ستة أيام أو سبعة ، وفوق ذلك فهو مالح أحيانا، مما يفسر هلاك الناس عطشا في هذه الصحراء. ولهذا وللتغلب على هذه العقبات فإنه، علاوة على الجهود والخدمات التي كانت تبذل من أجل تجاوز الأخطار التي كانت تواجهها القوافل التجارية وتدليل الصعاب تسهيلا لعملية العبور وتشجيعا للنشاط التجاري، كانت تتخذ كذلك بعض الإجراءات الأخرى من لدن التجار المتوجهين نحو بلاد السودان، ومنها إعداد الماء الذي يكفي تلك الرحلات المحفوفة بالعديد من الصعاب والمخاطر. وأشار الوزان إلى أن بعض الإبل كان خاصا بحمل الماء، وأن مرافقي الرحلات والقوافل كانوا يقومون أيضا، أثناء رحلاتهم، بتسوير الآبار المعرضة لخطر الزوابع الرملية وترميمها من الداخل بواسطة عظام الإبل الهالكة، ثم يغطونها بجلودها للمحافظة عليها. لكن مع ذلك فإن تلك الآبار كانت تتعرض أحيانا لعملية الردم مما كان يجعل حداة الإبل يضطرون إلى قتل إحداها ببقر بطنها للاغتراف مما تختزنه من ماء.
ب – إعداد القافلة وتنظيمها
كانت الإبل أهم وسيلة نقل متاحة لعبور الصحراء، ولهذا كان لابد من اقتناء الأعداد المطلوبة منها أثناء الإعداد للقيام بتلك الرحلات التجارية أو غيرها. ويسجل الوزان أن توفير هذه الوسيلة من النقل كانت منوطة بالتجار، وقدم لنا بهذه المناسبة فكرة عن بعض أثمنة الإبل التي كانت تعرض للبيع، وكانت تختلف تبعا لمجموعة من المقاييس، مثل اللياقة البدنية، ومجال استغلالها، وما إلى ذلك. وفي هذا الباب قدر ثمن الجمل الصحراوي بعشر دوكات، في حين بيع ببضعة دنانير فقط أثناء رحلته إلى بلاد السودان.
وكانت تيـﮕورارين من بين أهم نقط تجمع القوافل، "لأن تجار بلاد البربر ينتظرون تجار بلاد السودان، ثم يذهبون جميعا."
أما الفترة الزمنية التي كانت القوافل التجارية تقطع خلالها الصحراء من المغرب في اتجاه بلاد السودان تفاديا للزوابع الرملية والحرارة المفرطة فكان الفصل المناسب لها هو فصل الشتاء، وذلك لانخفاض درجة الحرارة فيه، وتجنب الهلاك من العطش.
ج – الهاجس الأمني
تطرق الوزان كذلك للهاجس الأمني الذي كان يمثل إحدى المشاكل الأساسية التي كانت تواجهها القوافل التجارية أثناء عبورها للصحراء، لاسيما منها التي لم تكن تتوفر على "جوازات المرور" أو "تصريحات الأمان". ويشير في هذا الصدد إلى أن أحد قصور مضغرة، على وادي زيز، كان يقيم فيه "أمير الدائرة، وهو عربي، وله فخذ من قبيلته (...) لا يستطيع أحد أن يخترق إقليمه دون إذنه الصريح، فإذا لقي هؤلاء الجنود قافلة بدون رخصة مرور نهبوها فورا وجردوا التجار والرائدين." ويضيف أن سكان إقليم الخنـﮓ -على وادي زيز نفسه- كانوا يخضعون للأعراب الذين "يسيطرون على الطريق المؤدية من فاس إلى سجلماسة، ويرغمون التجار على أداء مبلغ مالي مرتفع.
د - طرق التجارة العابرة للصحراء
بحكم الأهمية التي كانت تكتسيها طرق التجارة العابرة للصحراء في العلاقات التجارية بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء، وكذا التفاعل الحضاري الذي كان بينهما، فإن المصادر المغربية -ومنها كتاب "وصف إفريقيا"- تقدم مادة وافرة، إذا ما عززت ببحوث حديثة مبنية على التنقيبات والأعمال الأركيولوجية، فإنها ستسمح بالكشف عن حقائق مهمة تساعد على رسم الحالة العامة التي كانت عليها تلك الطرق والتحولات التي عرفتها في المكان والزمان.
وفي هذا السياق، ومع نهاية القرن 15م، وعلى إثر سقوط سجلماسة في قبضة عرب معقل، ووجود التجار الأوربيين بوادي نون من أجل ممارسة النشاط التجاري على ساحل المغرب الجنوبي، تحولت التجارة العابرة للصحراء من طريق سجلماسة، الذي فقد أهميته، إلى طريق درعة الشرقية، إذ يشير الوزان، في هذا الإطار، إلى توافد تجار بلاد السودان على هذه المنطقة من أجل استبدال منتجاتهم وتعاطي سكان المنطقة للتجارة مع تلك البلاد. ويضيف بأن أهمية وادي نون (تكاوست) قد زادت بفضل العلاقات التجارية مع أوربا. وربط الازدهار الذي عرفته تكاوست بالعلاقات التجارية مع بلاد السودان. ويؤكد الوزان أن تكاوست (وادي نون) أصبحت أكبر مركز للمبادلات التجارية بين السودان وأوربا، و سوقا تجاريا مهما لأنها شكلت نقطة التوقف الأولى بعد ودان خلال مرحلة العودة من بلاد السودان. ويشير إلى أن تجارها كانوا يحملون قطعا من الثياب "مرة في السنة لبيعها إلى تنبكت وولاتة من بلاد السودان"، وأنها شكلت سوقا مهما للرقيق إذ أقام بها ثلاثة عشر يوما صحبة "نائب الشريف، لشراء إماء سود يقمن بخدمة هذا الأمير."
ورغم أهمية المحور الغربي في العلاقات التجارية بين المغرب وبلاد السودان، والتي استمدها من توفره على ظروف طبيعية وبشرية ملائمة، فإنه لم يخل من صعوبات ومشاكل تمثل أهمها أساسا في تراجع تجارة القوافل الناجم عن انعدام الأمن بفعل الخطر الذي شكله تحرك البرتغاليين على السواحل الأطلسية -بين سنتاكروز ونهر السنغال- وكذا تحركات عرب معقل بين سجلماسة والساحل الأطلسي، إذ يشير الوزان إلى أن سكان المنطقة كانوا منقسمين إلى ثلاث فرق يكاد القتال لا ينقطع بينها، ويستعين كل فريق على الآخر بالأعراب الذين يناصرون هؤلاء تارة وأولئك أخرى بحسب ما يتلقون منهم من أموال.
وبخصوص المحور الأوسط المباشر: درعة-تغازى-تنبكت، يرى الوزان أنه أصبح يمر عبر منطقة درعة التي أصبحت تكتسي أهمية بالغة في العلاقات التجارية التي جمعت بين المغرب وبلاد السودان، حيث وجدت بها قصور محصنة ومستقلة أبرزها قصر بني صبيح. ويسجل الوزان أن هذه القصور كان يقيم فيها التجار الغرباء عن البلاد. وليس من المستبعد أنه وجد من بينهم تجار سودانيون مما يؤكد هذه الأهمية التي أصبحت درعة تحتلها في العلاقات التجارية مع السودان الغربي.
وفيما يتعلق بالمحور الشرقي: توات–ﮔورارة-ﮔـاو، يرى المصدر نفسه أن قوافل فاس وتلمسان كانت، مع بداية القرن 16م، تلتحق، وهي في طريقها نحو بلاد السودان، بفـﮕــيـﮓ، وتنحدر مع وادي زوسفانة، ثم وادي الساورة المؤدي إلى بستان النخيل تسابيت، وهي ملحقة غربية لتـﮕورارين أو ﮔـورارة.وكان لتوات، كنقطة انطـلاق
للقوافل التجارية بالنسبة لهذا المحور، امتياز كبير عن تافيلالت بحكم موقعها المتقدم جنوبا. وقد أكد الوزان هذه الأهمية حيث أشار إلى أنها شكلت "مجمع القوافل لأن تجار بلاد البربر ينتظرون تجار بلاد السودان، ثم يذهبون جميعا." كما سجل أن سكان واحات توات وﮔـورارة "أغنياء لأنهم اعتادوا الذهاب كثيرا بسلعهم إلى بلاد السودان."
هـ - المراكز التجارية
لعبت المراكز التجارية، التي امتدت على طول وأطراف المحاور التجارية العابرة للصحراء، أدوارا مختلفة في العلاقات التجارية التي جمعت بين المغرب وبلاد السودان، كأسواق تجارية استقطبت تجار شمال الصحراء وجنوبها وأبرمت فيها صفقات تجارية مهمة، وكمحطات سمحت للقوافل التجارية بالتوقف من أجل الاستراحة، والخضوع لتنظيم معين استعدادا لعبور الصحراء، ولأنها كانت بمثابة صلات وصل بإمكان القوافل التجارية أن تتزود فيها بالمؤن والمواد التجارية المختلفة وتعمل على إعادة توزيعها وترويجها، كما شكلت سوقا استهلاكية للمواد التي يصدرها السودان الغربي، ومن بين هذه المراكز:
* سجلماسة: التي كانت حسب الوزان "عبارة عن إقليم يمتد على طول واد زيز ابتداء من الخنك (...) ونزولا نحو الجنوب على مسافة مائة وعشرين ميلا حتى تخوم صحراء ليبيا." أسسها بنو مدرار في أواسط القرن الثاني للهجرة، غير أن ابن أبي محلي السجلماسي-على حد قول محمد حجي- ذكر في تقييده أنها من تأسيس العرب الفاتحين سنة 40هـ، ثم وسعها بنو مدرار، واستولى عليها بعد ذلك الفاطميون الذين أدرت عليهم أموالا طائلة لكونها شكلت مركزا تجاريا مهما في طريق القوافل التجارية المؤدي إلى بلاد السودان، وبعد قيام دولة المرابطين في أواسط القرن الخامس الهجري خضعت من جديد لنفوذ الحكم المغربي "وظلت عامرة أيام الموحدين والمرينيين" إلى أن تم تخريبها قبيل ظهور السعديين "فانتقلت أهميتها إلى القصور المجاورة"، لأن الوزان عندما زارها في بداية القرن 16م وجدها خربة تماما.
ومن أهم القواعد القفلية التي كان لها حضور فاعل وبالغ الأهمية في العلاقات التجارية بين سوس وبلاد السودان:
* تكاوسـت: عرفت ازدهارا كبيرا، حيث أصبحت خلال القرن 16م أكبر مركز للمبادلات التجارية بين السودان وأوربا، كانت تنطلق منه القوافل التجارية وهي محملة بالحياك وأقمشة صوفية من صنع محلي، كانت تجد إقبالا في الأسواق النيجرية، لأن هذه المدينة كانت مركزا لصناعة النسيج، حيث كانت تصنع فيها منسوجات صوفية تصدر إلى ولاته وتنبكت، ويقول الوزان في هذا الصدد: "يباع الصوف فيها بأبخس الأثمان، ويصنع منه الكثير من قطع الثياب الصغيرة التي يحملها تجار المدينة مرة في السنة إلى تنبكتو وولاتة من بلاد السودان." وشكلت تكاوست أيضا أكبر خزان تجاري وسوقا مهما للذهب والرقيق في المنطقة بكاملها، ويشير الوزان إلى أنه أقام بها "لمدة ثلاثة عشر يوما مع نائب الشريف، لشراء إماء سود يقمن بخدمة هذا الأمير."
وتقاسمت مع تكاوست هذه الأهمية بالجنوب المغربي، محطات وقواعد تجارية أخرى لم تقل عنها مكانة وأهمية، نذكر منها:
* تدسـي: ارتبط بها وجود عدد مهم من تجار بلاد البربر وبلاد السودان، وكانت بها مزارع ومعاصر للسكر، إذ يقول عنها الوزان: "تنبت فيها كميات من الحبوب وقصب السكر وأشجار النيلة وفيها أناس يتجرون مع بلاد السودان."
* تيـوت: شكلت، إلى جانب تدسي، مدينة رئيسة بسهل سوس، كانت تستقبل التجار من مختلف الجهات، كفاس ومراكش وبلاد النيجر. وذكر الوزان أن تجار بلاد السودان كانوا يشترون منها مادة السكر.
* إفـرن: تعتبر من المراكز التجارية المهمة التي اشتهرت بها أيضا منطقة سوس. وتحدث الوزان عن غنى سكانها بفضل شرائهم منسوجات كتانية من البرتغاليين بأﮔـادير، وأقمشة غير متقنة الصنع لبيعها في ولاتة وتنبكت مضيفين إليها منتوجات نحاسية من صنعهم المحلي.
* تـوات: أصبحت توات منذ القرن 14م –بسبب تحول الطرق التجارية العابرة للصحراء نحو الشرق وتدهور سجلماسة- نقطة انطلاق القوافل التجارية نحو بلاد السودان، وذكر الوزان أن سكان هذه المنطقة "أغنياء لأنهم اعتادوا الذهاب كثيرا بسلعهم إلى بلاد السودان." وشكلت تيـﮕورارين "مجمع القوافل، لأن تجار بلاد البربر ينتظرون تجار بلاد السودان، ثم يذهبون جميعا."
* ودان : تعتبر من المحطات الصحراوية المهمة التي كان لها حضور وازن وفاعل في العلاقات التجارية بين المغرب وبلاد السودان. ويرى الوزان أن ثروتها ارتكزت على مخزونها من مادة الملح لاسيما منها المستخرجة من إجيل. وإلى جانبها تشيت التي ربطتها علاقات تجارية مع بلاد السودان بفضل الرحلات التجارية التي كان سكانها يقومون بها نحوها.
ومن المراكز التجارية السودانية التي لعبت دورا مهما في العلاقات التجارية بين المغرب وبلاد السودان، نذكر أيضا:
* تنبكت: يرى الوزان أنها أسست من قبل ملك عرف بمنسى سليمان في القرن 7هـ/13م، وأصبحت محطة نهائية للقوافل القادمة من الشمال أو الجنوب عن طريق النيجر، فغدت بفضل ذلك مركزا تجاريا ذاعت شهرته. وقد لاحظ الوزان أن سكانها أغنياء مترفين لاسيما منهم الأجانب المقيمين في البلاد، حتى إن الملك زوج اثنتين من بناته من أخوين تاجرين لغناهما.
* كاغو/كاو: شكلت مع تنبكت محطة لتوقف القوافل التجارية وهمزة وصل بين المغرب وبلاد السودان، كان سكانها -حسب الوزان- من التجار الأغنياء، يتجولون دائما بسلعهم في المدينة، والتجار السود منهم يبادلون الذهب بالمواد المستوردة من بلاد البربر وأوربا.
و - الإطار المنظم للتجارة مع بلاد السودان
فيما يخص الإطار المنظم للتجارة مع بلاد السودان، فقد لعب التجار دورا بالغ الأهمية، إذ كانت القوافل الخاصة تلتحق إما بقافلة المخزن لعبور الصحراء، أو تنتظر تجار بلاد الزنوج الذين كانوا يتوافدون من مختلف جهات بلاد السودان على كل من تيوت وتدسي وتكاوست لشراء سكر سوس والأقمشة الصوفية، من أجل العبور بشكل جماعي.
ولعب اليهود أدوارا مهمة ومختلفة في العلاقات التجارية بين المغرب والسودان الغربي، حيث أصبحوا هم الوسطاء المفضلون بين تجار السودان وسماسرة أوربا، مما جعلهم يحصلون على أرباح مهمة، وفي هذا الإطار، يشير الوزان إلى وجود جاليات يهودية في حواضر منطقة تادلة، ويؤكد أهميتها العددية والنوعية من خلال تراكم ثروات هائلة بين أيديها، فاقت ما هو متوفر في صندوق خزينة ملك فاس الوطاسي، وذلك بفضل حيوية أنشطتها التجارية المستمدة من أهمية الطريق العابر للمنطقة.
وبخصوص تقنيات التبادل التجاري بين المغرب وبلاد السودان، يشير الوزان إلى أن القبائل الصحراوية، كانت تعرض الخيول البربرية لبيعها ببلاد الزنوج –تحديدا في تنبكت وبلاد بورنو- للأمراء الذين كانوا يدفعون مقابل كل حصان خمسة عشر إلى عشرين عبدا. كما استعمل التبر -أي الذهب غير المسكوك أو الخالص- في المعاملات التجارية لاسيما منها الكبرى. أما النقود الصدفية فشكلت بدورها عملة في غاية الجودة بالسودان الغربي، وقد استعملت في العمليات التجارية الصغرى أو العادية.
ي - المواد والسلع التجارية
تنوعت صادرات المغرب نحو بلاد السودان وشملت مواد محلية وأخرى صحراوية في مقدمتها الملح الذي شكل المادة الأساس في هذه المبادلات لندرته وأهميته، ولأنه مادة صحراوية لم تتوفر لا بالمغرب ولا ببلاد السودان، ولأن التحكم في هذه المادة كان يعني بكل سهولة احتكار الذهب الآتي من الجنوب. ويبرر الوزان هذه الأهمية التي اكتساها الملح بإفريقيا السوداء -منذ أزمنة غابرة- وهذه الحاجة الماسة التي جعلت شعوب المنطقة الغابوية تقوم بمقايضته بمعدن نفيس هو الذهب، بقوله: "عندما يأكلون الخبز فإنهم يمسكون بقطعة ملح في يدهم فيلحسونها مع كل مضغة حتى لا يستهلكوه بكثرة."
وبخصوص الملاحات تحدث الوزان عن ملاحة تغازى الشهيرة وذكر أن بها مناجم للملح تشبه مقالع الرخام تستخرج منها هذه المادة من "حفر تحيط بها أكواخ عديدة يسكنها المستخدمون لاستخراج هذا الملح (...) يأتون مع القوافل ويقيمون هناك كمنجميين يستخرجون الملح ويحتفظون به حتى تأتي قافلة فتشتريه منهم. ومن هنا يحمل إلى تمبكتو التي يعوزها الملح كثيرا."
وشكلت التمور غذاء أساسيا لسكان الملاحات المعروفة، ولاسيما منهم أهالي تغازى الذين "لم يكن لهم من قوت إلا ما يحمل إليهم من تمور من سجلماسة ودرعة." كما أن جزءا من السكر المغربي كان يصدر إلى السودان، فمدينة تيوت مثلا كان يقصدها "عدد من تجار فاس ومراكش وبلاد النيجر لشراء السكر."
كما أن جزءا كبيرا من الإنتاج الحرفي المغربي -لاسيما منه الفاسي- كان يصدر إلى بلاد السودان التي اعتبرت سوقا تقليديا لتلك الصادرات، وكانت الأقمشة في مقدمة هذه المنتجات رغم أن صناعتها كانت منتشرة في بلاد السودان، إذ يشير الوزان، في معرض حديثه عن مدينة تنبكت، إلى وجود "دكاكين كثيرة للصناع والتجار" بها ولاسيما منها "دكاكين نساجي أقمشة القطن." لكن إنتاجها لم يكن يفي بالحاجيات المحلية، الأمر الذي استدعى استيراد مختلف أنواع المنسوجات من الشمال الإفريقي، حيث كان تجار سوس يحملون المنتجات النسيجية مرة في السنة إلى تنبكت وولاتة من بلاد السودان.
واكتست الخيول المغربية ببلاد السودان خلال القرنين 15م و16م، طابعا خاصا بفضل الإقبال الكبير الذي لقيته من الملوك السودانيين الأسكيين منهم والبرنويين، إذ يشير الوزان إلى أن "الجياد تأتي من بلاد البربر مع القافلة ثم تعرض بعد عشرة أيام أو اثني عشر يوما على الملك ليأخذ منها العدد الذي يريده ويدفع فيه ثمنا مناسبا." ويضيف "أن فرسا واحدا كان يساوي خمسة عشر أو عشرين عبدا"، و"أن الحصان الذي يساوي عشرة مثاقيل بأوربا يباع هناك بأربعين إلى خمسين مثقالا." لكن هذه العملية لم تكن تخلو من صعوبات ومشاكل، لأن الوزان يؤكد أن ملك بورنو كان يشن الغارة على العدو بالخيول التي قدمها له تجار بلاد البربر ويتركهم ينتظرون إلى عودته، وعلى حد قوله: "ربما مكثوا في انتظاره شهرين أو ثلاثة أشهر، وهم على نفقة في هذه المدن، وعند عودته يجلب معه أحيانا من العبيد ما يكفي لأداء المبلغ الواجب للتجار، وأحيانا يضطر التجار إلى انتظار السنة الموالية لأن الملك لم يكن له من العبيد ما يفي بالثمن فهذه الغارة لا يمكن القيام بها دون خطر إلا مرة في السنة. ولما ذهبت إلى هذه المملكة وجدت فيها عدة تجار مستائين راغبين في ترك هذه التجارة وعدم الرجوع إلى هذه البلاد أبدا لأنهم كانوا ينتظرون قبض الثمن منذ سنة."
ولم تقتصر صادرات المغرب نحو بلاد السودان على المواد المحلية وحدها، بل شملت كذلك سلعا أخرى غير مغربية كان التجار في المغرب يستوردونها من جهات أخرى، لاسيما من أوربا، ويصدرونها إلى بلاد السودان الغربي، فكان هؤلاء يقومون بذلك بدور الوسيط التجاري بين أوربا وإفريقيا جنوب الصحراء. ويشير الوزان في هذا الباب مثلا إلى أن سكان إفرن وتجارها كانوا أغنياء بفضل شرائهم منسوجات كتانية من البرتغاليين في أﮔـادير وكذا أقمشة أقل جودة وبيعها بالسودان. ونظرا لارتفاع أثمنة هذه الملبوسات، فإنه ليس من المستبعد أن تكون قد خصصت للملوك وحاشيتهم وكذا لكبار التجار، ذلك أن "أبسط قماش أوربا" كان "يباع بأربعة مثاقيل للكنة." والقماش الرفيع مثل "المنتشينو" و"المينمو" يباع بخمسة عشر مثقال، "أما القماش البندقي الرفيع كالقرمزي، والبنفسجي والأزرق فيصل إلى ثلاثين مثقالا."
واحتلت مواد أخرى، مثل الأواني الخزفية والرخامية والزجاجية، والأسلحة النارية والبيضاء...، أهمية كبيرة ضمن لائحة صادرات المغرب نحو السودان الغربي. ويشير الوزان في هذا الإطار إلى أن "أقبح سيف أوربي لا يزيد ثمنه على ثلث مثقال يساوي هناك أربعة مثاقيل أو ثلاثة على الأقل."
وبخصوص دور السودانيين في تفاقم ظاهرة الاسترقاق، لاحظ الوزان أثناء زيارته لمملكة صونغاي، الأعداد الكبيرة من الرقيق بأسواق تنبكت وكاغو والتي كانت تباع بأثمان معقولة، وفسر ذلك بالغارات التي كان يقوم بها الملك ضد جيرانه. يقول الوزان في هذا الإطار إن ملك تنبكت "كان يحارب الأعداء من جيرانه وممن يمتنعون عن أداء الخراج إليه، وإذا انتصر باع في تونبوكتو كل ما أسره من القتال حتى الأطفال." كما ذكر أن صاحب مملكة بورنو كان يستقبل تجارا من بلاد البربر أتوه بالخيل ليستبدلوها بالعبيد، ويقول في ذلك أن هذا الملك كان يشن الغارة على أعدائه بتلك الخيل ويترك التجار ينتظرون إلى عودته فإن كان عدد الأسرى يكفي لأداء المبلغ الواجب للتجار، أخذوا الثمن وذهبوا، وإلا اضطر هؤلاء الانتظار حتى السنة الموالية إذا لم يكن للملك من العبيد ما يفي بالثمن، "ذلك أن هذه الغارة لا يمكن القيام بها دون خطر إلا مرة في السنة."
وفيما يتعلق بظاهرة الاسترقاق، يزودنا الوزان ببعض المؤشرات الإحصائية التي تبين استغلال العبيد كهدايا، إذ يشير إلى أن شيخ منطقة تانسيتا بدرعة قدم هدية إلى ملك فاس خمسين عبدا وعشرة خصيان وخمسين أمة. كما يعطينا فكرة عن اختلاف أسعار الرقيق حسب المكان والجنس أو النوع والسن. ففي بداية القرن 16م، تم بيع عبد بفاس بعشرين مثقالا، وبيعت أمة بخمسة عشر مثقال، وبيعت فتاة بكاغو عمرها خمسة عشر سنة بست مثاقيل، وفتى بنفس المبلغ، وغلام بثلاثة مثاقيل، وعبد مسن بنفس الثمن.
ويقدم الوزان كذلك، معطيات في غاية الأهمية حول دور المعادن النفيسة في الحياة الاقتصادية بالمغرب خلال القرن 16، إذ يشير إلى أن صناعة هذه المواد كانت من بين الأنشطة الأساسية التي مارسها اليهود في المغرب، واستخدموا يدا عاملة مهمة في صناعة المجوهرات وصناعة خيوط الذهب. وسجل في هذا الصدد وجود عدد مهم من الصناع اليهود الذين مارسوا هذا النشاط في كل من تدسي ودرعة على الطريق الرابط بين فاس وتنبكت، وبرر تعاطي اليهود لهذا النشاط بكون المسلم لم يكن بإمكانه ممارسة مهنة صائغ على اعتبار أن بيع المصوغات الذهبية والفضية بثمن أعلى مما يساوي وزنها كان بمثابة ربا.
واحتكر اليهود عملية سك النقود بدور السكة، وأكد الوزان وجودهم بكثرة داخل القصور الفلالية كما في قصري "تبعصامت" و"المامون". وقد وجدت دور أخرى لسك النقود والعملات بكل من فاس ومراكش وإفرن.
خـلاصـة
يتضح من خلال ما سبق أن كتاب" وصف إفريقيا "يشكل حقيقة مصدرا نفيسا، وسندا مرجعيا لا غنى عنه لدراسة جوانب مختلفة من تاريخ العلاقات التجارية بين المغرب وبلاد السودان في بداية العصر الحديث خاصة، نظرا لما يزخر به من معطيات قيمة في غاية الأهمية، من شأنها، إذا ما استغلت بشكل جيد، أن تساعد على إعادة بناء ورسم صورة واضحة عن الروابط والوشائج العميقة التي جمعت بين الطرفين المغربي والسوداني، والتي كان لها الفضل في ظهور تراث مغربي–إفريقي مشترك سيظل شاهدا على تلك الروابط والصلات.