موجات الغلاء في تاريخ المغرب - كريم العرجاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"بلد كطاولة نردٍ، حكمه الطاعون والمجاعات أكثر مما حكمته الأسر المتعاقبة. بضربة خاطفة كانوا يهزؤون بالجيش والعصبية والقبيلة ويحولون الديار إلى أطلال ودُمن"، بهذا النص يختزل لنا الأديب عبد الكريم الجويطي تاريخ المغرب في روايته الموسومة بـ"المغاربة"، مستحضراً بشكل "حتمي" أثر الكوارث والأزمات الطبيعية في صناعة أحداث المغرب ورسم ملامح ماضيه؛ إذ شكلت المجاعات والأوبئة أحد أهم الكوابح الثابتة في تاريخ المغرب، لما خلفته من تداعيات لامست الاقتصاد والمجتمع والسياسة والدهنيات.

والحقيقة، أن أهمية موضوع الغلاء والمجاعات لا تستمد من طابعه التجديدي على مستوى الكتابة التاريخية فحسب، بل أيضا لكونه موضوعاً راهنياً بالنظر لموجة الغلاء التي يكتوي المغاربة بنارها، إذ يعيش المغاربة اليوم على وقع ارتفاع مهول في أسعار مختلف المنتجات الاستهلاكية، وهي موجة غلاء مرتبطة بشروط دولية وداخلية عصفت باقتصادات بلدان ودول عديدة، كما دفعت بالعديد من المنظمات الدولية إلى التحذير من قدوم أزمات اقتصادية خانقة، تهدد الأمن الغذائي العالمي وتنبؤ بمصاعب اقتصادية من شأنها أن تعمق المشاكل الاجتماعية من فقر وبطالة. هذا الواقع الاقتصادي الراهن يفرض على المؤرخ التفاعل معه، على اعتبار أن المعرفة التاريخية معرفة تنطلق من استشكال الماضي وتنتهي باستيعاب وفهم الحاضر، وذلك من خلال تفاعل المؤرخ مع الحدث في سخونته والانطلاق من الانشغالات والهموم المجتمعية الراهنة.

لقد شهد المغرب عبر تاريخه الطويل موجات غلاء كانت وراء إحداث تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية عنيفة، وهي موجات غالبا ما ارتبطت بعوامل طبيعية كان في مقدمتها توالي سنوات الندرة والجفاف وما أعقبها من مصاعب غذائية أرهقت المغاربة وجعلتهم تحت رحمة الجوع، كما ارتبطت في أحيان أخرى بعوامل بشرية كانت الحروب والفتن أهمها.

والواقع، أنه لا يكاد يخلو أي قرن من تاريخ المغرب من أزمات اقتصادية شكل الغلاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية أحد تجليتها الرئيسية، ولعل هذا ما دفع بالبعض إلى نعث الاقتصاد المغربي بـ"اقتصاد السماء" وبكونه "اقتصاداً يقف على حافة المجاعة"، لارتهانه الدائم بما تجود به السماء من أمطار، ولكونه اقتصادا هشا يعتريه عوز تقني ويعتمد نمطاً زراعياً مبنياً على اقتصاد الكفاف، وهو ما يفسر ضعف قدرة الاقتصاد على الصمود أمام سطوة الطبيعة، إذ غالبا ما نتج عن السنوات الرديئة مناخياً حدوث نقص حاد في المحاصيل وفي المواد الأولية الفلاحية، الشيء الذي انعكس على مؤشر الأسعار الذي ظل ينحو منحىً تصاعدياً أرهق جيوب المغاربة وأنذر بانفجار الأوضاع الاجتماعية.

انطلاقا من هذه التوطئة، نقدم للقارئ بعض النماذج لموجات الغلاء التي ضربت المغرب والمغاربة خلال أزمنة تاريخية مختلفة، وهي نماذج وقع اختيارنا عليها لشدة وقعها وما أعقبها من هزات اجتماعية وسياسية وشمت ذاكرة المغرب والمغاربة.

أولاً: مغرب ما قبل الاستعمار: مغرب الهشاشة وتوالي الأزمات الاقتصادية

من الثابت تاريخياً أن المغرب شهد خلال أزمنة البنيات الاقتصادية التقليدية لما قبل الاستعمار توالي وتواتر سنوات عديدة من الأزمات الاقتصادية الناتجة عن الكوارث الطبيعية والحروب والفتن، احتفظت المصادر التاريخية بإشارات وافرة حولها، وقد شكل الغلاء وارتفاع الأسعار أحد أهم تجليات هذه الأزمات، التي لم تكن عوارض اقتصادية بسيطة بل خلفت انعكاسات لامست المستويات الاجتماعية والسياسية وحتى الذهنية.

* فاجعة القرن 16م: الغلاء الكبير 1520-1524م

 في مطلع العقد الثاني من القرن 16م، نابت مجاعة كبرى المغرب، وهي مجاعة امتدت لأكثر من أربع سنوات، انطلق برناردو رودريكس  Rodrigues(B)، في كتابة "حوليات أصيلا"، في وصف حيثيات هذه الفاجعة في فصل عنونه بـ: "عن مجاعة 1521م وكيف باع المسلمون أهلهم"، لينقل لنا مآسي عديدة عرفها المغرب والمغاربة، وهي مآسي ناتجة عن كارثة طبيعية اعتبرت في تقدير عدد من المؤرخين أحد أهم المحن المناخية وأكثرها شدة وخطورة، فهي سنة "الغلاء والجوع الكبير" حسب تعبير أحمد الناصري، وسنة "الجوع الكبير" حسب نعت محمد المهدي الفاسي، و"الغلاء العظيم" على حد قول الجنابي، كما "كانت المجاعة خلالها كبيرة بحيث لم يكن أرخص من الناس، حسب تعبير دييكو دي طوريس.

سبب هذه المجاعة راجع لتوالي سنوات القحط والجفاف وما واكبها من أمراض وأوبئة، ولعل هذا ما يفسر درجة وقع هذه الأزمة، إذ امتدت طوال أربع سنوات عجاف لينضاف إليها الوباء، راسمة بذلك مشهداً قاتماً غلُب عليه الهلع والخوف من كثرة النزيف الديمغرافي والموت الوبائي النتاج عن الجوع، ذلك أن سنة واحدة سيئة المحصول، قليلا ما كانت تنجم عنها مجاعة كبيرة، لاعتماد المغاربة على التخزين والادخار تحسبا لمثل هذه الأزمات، غير أن توالي الجفاف لسنة ثانية أو ثالثة يعد كارثة غالبا ما خلفت نتائج مأساوية.

لقد دفع الغلاء والجوع بالعديد من المغاربة إلى تبني سلوكات عدوانية من خلال انتشار عمليات النهب والسرقة واللصوصية، كما دفعتهم المجاعة إلى تبني أنماطاً غذائية شاذة، ترجمت سعيهم لضمان البقاء، إذ تشير السرديات التاريخية إلى نزوع العديد منهم لنمط عيش بدائي من خلال البحث في ضواحي المدن عن النباتات البرية لسد رمقهم، بل إن اشتداد الأزمة دفع بالبعض منهم إلى أكل الجيف ولحوم البشر في تجسيد حي للنزعة الحيوانية الكامنة في النفس البشرية والساعية لضمان البقاء خلال المحن التي تهدد وجودها.

كما دفعت الفاقة والمجاعة عددا كبيرا من المغاربة إلى بيع أنفسهم والتنصر والهجرة نحو البرتغال بحثاً عن القوت وفراراً من الجوع، إذ يصف لنا مصدر برتغالي معاصر للأزمة الأوضاع بقوله: "بدأت سنة 1522م بذلك القسم من إفريقيا بمجاعة خطيرة سببها جفاف الموسم الزراعي السابق، إلى حد أن المراكب التي كانت تزدحم بنهر أزمور لنقل سمك الشابل الذي كان يصطاد بذلك المكان، أضحت تشحن عددا كبيرا من المسلمين الشباب، ومن الشابات الجميلات القاصرات لنقلهم إلى لشبونة وإشبيلية. وأما عن ثمن شرائهم، فلم يوجد قط بائع اختلف بشأنه مع المشتري، إذا أن عددا منهم ضحى بحريته وقبل ركوب السفن مقابل المؤونة التي تعهد أصحابها بتقديمها لهم. وعانى السكان خلال السنة التالية معاناة أكبر مما تسبب لهم فيه الجفاف. وقد اختطف الوباء أولئك الذين استطاعوا الإفلات من قسوة الجوع بسبب احتياطهم أو ادخارهم للحبوب. ويؤكد أشخاص كثيرون أن ذلك الوباء فتك فتكا كبيرا بالإنسان والماشية".

 

* مأساة القرن 19م: الأزمة الغذائية 1867-1869م

توالت على مغرب القرن 19م سنوات عجاف، لعل أبرزها ما احتفظت به المصادر عن الغلاء الكبير الذي ضرب البلاد نتيجة تعاقب دورات الجفاف في سنوات 1867-1869م، إذ ورد في المتون الاخبارية أن الحال قد اشتد "من كثرة الغلاء ووقع الهيف في الناس ومات عدد كبير من البرد والجوع خصوصا أهل الريف الذين فروا من غلاء الأسعار وعدم نزول المطر"، لتتعمق الأزمة واستفحال ظاهرة احتكار الأقوات، حيث يورد الناصري حول ما وقع بمدينة سلا من هرج ومضاربات: "أهل سلا حرسها الله في غاية الضيق والحرج بسبب ما حصل من غلاء الأسعار وارتفاعها [...] إلى غير ذلك مما زادت قيمته وبلغ ثمنه الغاية من ضروريات الإنسان [...] وسببه هو ما حصل من التفاقم والهرج بين القبائل بحوز المدينة المذكورة وما يقع بينهم من المقاتلة والمضاربة".

لقد كان الغلاء شديدا، دفع بمعظم المغاربة إلى الهجرة بحثاً عن الطعام وفراراً من الموت جوعاً، وهو ما تضمنه نص معاصر للحدث جاء فيه: "وترى أفواج الجائعين، الذين غادروا دواويرهم يهيمون في اتجاه المدن بحثا عن الشغل أو استجداء للقمة العيش، وترى النساء التعيسات لا تغطيهن سوى بعض الأسمال يتنقلن من باب لأخرى طلبا للصدقة، وكثير منهن يحملن على سواعدهن طفلا صغيرا يبحث عبثا في ثدي أمه المتغضن عن الغذاء الضروري للعيش".

لعلها شهادات تعكس قتامة المشهد الذي اتسم به المغرب زمن هذه المأساة، لدرجة أصبح فيها أكل الجيف وذبح الأطفال وسيلة اضطرارية لمقاومة شبح الموت جوعا، وهي وقائع تبرز أهمية المناخ وتطرفاته القاسية وما يرافقه من غلاء في الأسعار في رسم وتوجيه السلوك البشري نحو مسلكيات تنتفي فيها القيم الإنسانية، لتطفوا غريزة البحث عن البقاء بكل الوسائل والسبل الممكنة، عاكسة بذلك صحة مقولة: "الجوع آلة نفسية واجتماعية طاحنة".

ثانياً: المغرب زمن الحماية الفرنسية: عام البون 1944-1945م

تحتفظ الذاكرة الشعبية المغربية بتفاصيل ما يعرف بـ"عام البون" أو "عام بوهيوف"، وهي نعوت للأزمة التي ضربت المغرب خلال فترة عصيبة تظافرت فيها سطوة الإنسان مع سطوة الطبيعية، وتزامنت وظرفية الحرب العالمية الثانية وما واكبها من اجراءات فرضتها سلطات الاستعمار فيما يتعلق بتوزيع وشراء المواد الغذائية.

يرجع أصل تسمية هذه الأزمة إلى الكلمة الفرنسية "Bon" وتعني "وَصْل"، في إشارة إلى الذي كان يوزع على المغاربة كإجراء يتعلق بنظام التموين الذي أقرته الإدارة الاستعمارية لمواجهة الجوع، والذي تمنح بموجبه لحامله كمية من المواد الغذائية خاصة الدقيق والزيت والأرز والشاي.

أما عن أسباب الأزمة، تتفق معظم الدراسات التاريخية أن سنوات 1944-1945م كانتا شديدتا الجفاف والقحط، كما تعرضت البلاد خلالها لأسراب الجراد التي أتت على الأخضر واليابس، وقد تعمقت الأزمة مع تزامنها والحرب العالمية الثانية، حيث عمل المحتل الفرنسي على جعل المغرب خلفية للإنتاج الغذائي من خلال استغلال ثروات البلاد لتغطية حاجياته من المؤن.

كان لهذه الأزمة تداعيات خطيرة، إذ فرضت على أغلب المغاربة تغيير سلوهم الغذائي، فعمدوا إلى استهلاك كل ما يمكن أن يسد رمقهم من كلاب وحمير وقطط، فضلا عن بعض النباتات التي شكلت بدائل غذائية خاصة تلك النبتة السامة المعرفة محليا بـ"يرني"، إذ كانوا يجففون جذورها ويطبخونها لتصبح دقيقا أبيضاً فيصنعون منها خبزهم، كما بلغت الحاجة حسب بعض الدراسات إلى نبش قبور الموتى للاكتساء بأكفانهم.

من جهة أخرى كان لعام البون انعكاسات مزرية، إذ انتشرت الأمراض مثل التيفوس والسل والرمد وهو ما خلف آلاف الضحايا، كما اضطر العديد من المغاربة إلى الهجرة نحو المدن بحثا عن لقمة للعيش تضمن لهم البقاء. هذه محنة وشمت الذاكرة الجماعية للمغاربة، ولا زالت حاضرة إلى اليوم في الوجدان الجمعي باعتبارها محنة تؤرخ لأصعب اللحظات التي عاشها المغاربة خلال تلك الفترة العصيبة.

ثالثاً: المغرب المستقل: أزمات اقتصادية وهزات اجتماعية

لم يسلم المغرب بعد استقلاله من أزمات اقتصادية عنيفة، شكل الغلاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية أهم تجلياتها الكبرى، وتشكل أزمة 1981م وما رافقها من انتفاضات شعبية أهم الأحداث التي اتسمت بالعنف نتيجة حالة الاحتقان الاجتماعي والسخط الشعبي المندد بتدهور القدرة الشرائية للمغاربة وتأزم الأوضاع الاجتماعية.

تعود جذور هذه الأزمة إلى طبيعة السياسة التي نهجها المغرب مع بداية الثمانينيات من خلال تطبيق بنود مخطط "التقويم الهيكلي"، وهي سياسة جاءت نتيجة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عاشها المغرب بعد تراجع إنتاجية الفوسفاط وانخفاض مبيعاته في السوق العالمية، كما سجل الميزان التجاري عجزاً واضحاً، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف حرب الصحراء.

أمام هذا الوضع قررت الحكومة المغربية تطبيق سياسة تقشف قاسية أدت إلى ضرب القدرة الشرائية للفقراء وتصاعد البطالة التي بلغت مليون ونصف المليون عند نهاية سنة 1980، لتعلن وكالة المغرب العربي للأنباء يوم 28 ماي 1981م اعتزام الحكومة المغربية فرض زيادات صاروخية في كل المواد الأساسية: الدقيق 40%، السكر 50%، الزيت 28%، الحليب 14%، الزبدة 76%، وذلك مباشرة بعد زيادات أخرى كانت سنتا 1979 و1980.

نتيجة لذلك، دعت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، التي تأسست سنة 1978م كمركزية نقابية، إلى إضراب وطني عام يوم 20 يونيو 1981، لتشعل لهيب المواجهات النقابية مع الدولة، وقد كان المطلب الجوهري لهذا الإضراب هو: الإلغاء الفوري الكلي والضروري لكل الزيادات التي عرفتها المواد الاستهلاكية الأساسية في 28 ماي 1981. لقد كان الإضراب ناجحا، فالحركة الاقتصادية في الدار البيضاء شلت بأكملها، حيث توقفت وسائل النقل عن الحركة وتوقفت الآلات في المعامل عن الدوران، وقد انخرطت في الإضراب وشاركت فيه النقابات الوطنية للتجار الصغار والمتوسطين والنقابة الوطنية للتعليم العالي والاتحاد الوطني لطلبة المغرب. جوبهت هذه الاضرابات بقمع كبير في حق المحتجين والمتظاهرين، خلف خسائر كبيرة في الأرواح، وقد أطلق على هذه الانتفاضة اسم "انتفاضة الكوميرا" في إشارة للخبز الذي كان يحمله المتظاهرون في مسيراتهم الاحتجاجية.

وخلاصة القول، أن الأزمات الاقتصادية الناتجة عن سنوات الجفاف وما واكبها من غلاء ومجاعات قد شكلت عائقا بنيويا في تاريخ المغرب، إذ قوضت كل محاولة للإقلاع الاقتصادي وأرخت بظلالها على المجتمع الذي عانى من ويلات الغلاء والجوع، كما تمخض عنها واقعا اقتصاديا مريرا أسهم في تنامي سلوكات عكست مكنون الغريزة البشرية التي تسعى لضمان البقاء بأية وسيلة، حتى ولو كانت على حساب انتهاك المحظور.