إدوارد سعيد: الإستشراق وصناعة هوية الشرق... - كمال السكيس

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تخبرنا أحدات الصراع التي يعيش على وقعها الشرق الأوسط منذ سنوات عديدة أن أصل الخلاف أبعد من كونه صراعا دينيا وسياسيا أو حثى اقتصاديا بل يتعدى ذلك لأسباب تاريخية ذات بعد إديولوجي_هوياتي... فبمجرد فتح قناة للأخبار نكتشف حجم الصراع الذي تعاني منه هذه المنطقة؛ صراع دموي لاينتهي، إذ تنتقل المنطقة من حرب لأخرى دون أن تتوقف عجلتها ما جعلها المنطقة الأكثر دموية على الإطلاق...
وأمام هذه الظروف الغريبة التي تعيش على وطأتها المنطقة، تستدعي الضرورة التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء هذا الواقع الأليم الذي تحوّل إلى أحدات روتينية استسلمت لها المنطقة؛ الشيء الذي يدفعنا للعودة والانفتاح على واحد من المفكرين الذين غاصوا في الدهاليز السوداء لهذه المنطقة وخبروا كواليسها وما كان محاطا بيها عبر مراحل تاريخية مضت،إنه واحد من رواد الدراسات الإستشراقية وأحد مؤسسي التيار النقدي الكولونيالي... المفكر الفلسطيني_الأمريكي"إدوارد سعيد" الذي حاول بفعل دراسته لخطاب الاستشراق تفكيك وتشريح واقع المنطقة تاريخيا وفكريا والأهم اديولوجيا عبر ثلة من كتبه... واستنتج أن سبب هذا الصراع هو "صراع هوياتي" تعود جدوره إلى التأثير العميق للإستشراق في تكوين وإنشاء هوية الشرق الأوسط جغرافيا وسياسيا...
يعتبر "إ. سعيد" من رواد الدراسات ما بعد الكولونيالية، بمعنى الدراسات التي عملت على تحليل العلاقات الثقافية بين الغرب، المركز، والذي يمثل القوة والسلطة، وبين الشرق الهامشي الخاضع والتابع. وقد تأسست هذه الدراسات وفق مرجعية نقدية تسعى إلى تحليل الخطاب الامبريالي عبر كشف ذلك التفاعل الخفي بين المعرفة والإنتاج الثقافي من جهة، والسلطة السياسية من جهة ثانية، وهذا الحقل المعرفي مدين بشكل كبير إلى التوجه الفلسفي النقدي الذي وضع لبناته كل من الفرنسي "ميشيل فوكو"، والايطالي "أنطونيو غرامشي" ، بالإضافة الى بعض كوادر مدرسة فرانكفورت، "ثيودور أدورنو"، و"ماكس هوركهايمر"[1]. ويعتبر "إدوارد سعيد" من ضمن أهم رواد هذا المجال خاصة عبر كتابه الشهير "الإستشراق؛المعرفة؛ القوة؛ الإنشاء"...

يرى "إ. سعيد" أن الاستشراف (orientalisme) أسلوب فكري قائم على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق والغرب ويرتكز على آلية الهيمنة، فهو الأسلوب الغربي الذي تم اتباعه لبسط السيطرة على الشرق (...) وامتلاك السيادة عليه ثقافيا وسياسيا وجغرافيا..،من أجل إعادة إنتاجه وتدبره على أسس وقواعد إيديولوجية؛ هذه القواعد تهدف إلى إنشاء هوية (هوية إنشائية) وبنائها عن طريق بث تصورات وأفكار في تلك المجتمعات، وتأصيل الأبحاث الاستشراقية. فتشكيل الوعي في منطقة الشرق الأوسط إلى يومنا هذا مرّ عبر تمرير أطروحات وإنشاء توجهات إديولوجية ودينية تخدم بالموازاة لمصالحها الخاصة أجندات فكرية وثقافية خارجية،إنه كما كان يصرح "إ. سعيد" دائما المبحت الذي وضع السجادة الحمراء للاستعمار المستمر إلى يومنا هذا بألوان وأشكال مختلفة...فالمعرفة المثمتلة في الإستشراق هي الدراع الاديولوجي للمركزية الغربية لتشكيل هوية الشرق وإعادة إنشائه واستغلاله،بمعنى أخر ساهم هذا المبحت في شرقنة الشرق وتكوين رؤية سياسية وإديولوجية حوله..
فبأي معنى يتحدث "إ. سعيد" عن تواطؤ الإستشراق - كمبحث أكاديمي - مع المركزية الغربية، أين يتجلى دوره في إنشاء خريطة وهوية جديدتين للشرق؟ وبمعنى آخر؛ كيف شكّلت السلطة الإمبريالية الشرق الأوسط؟

خطاب الاستشراق. ..حين تكون الثقافة خادمة للامبريالية.
يتوقف المفكر عند هذا التحالف في كتابه "الإستشراق" 1978، وبالضبط في الفصل الأول المعنون ب"مجال الإستشراق" ليزيل اللثام عن دونية النظرة الغربية للشرق مبرزا في هذا الصدد كيفية انخراط المعرفة الأكاديمية (الإستشراق) مع السلطة-بالمفهوم الفوكوي- ؛ فالثقافة تصير خادمة للإمبريالية وتوفر لها جميع الظروف لفرض الهيمنة، فالمركزية الغربية تخلق المعرفة وتراها على أنها المعرفة التي يجب أن تكون وتسود... إذ أن أراء المستشرقين والسياسيين الغربيين ومعرفتهم لمصر مثلا، هي مصر نفسها، والشرق شرق بهذا المعنى في الثقافة الغربية من خلال زاوية نظر الإستشراق. ويؤكد أن الإستشراق هو سعي لتمثيل الحقيقة الثقافية للشرق وفق ثنائية القلب للشرق والعقل للغرب.
حسب تحليل "إ. سعيد"، فالمعرفة قوة والعلوم تتحالف مع السلطة لبسط السيطرة، وفق شعار من" يمتلك السلطة يمتلك الحقيقة -الحقيقة العلمية بالأساس"- ويعطي صاحب "الثقافة والإمبريالية" مثالا على هذه الدراسات ،مشيرا إلى ما قام به "نعوم تشومسكي" فيما يتعلق بدراسة العلاقة الفاعلة بين حرب فيتنام وبين مفهوم البحت الموضوعي الذي استخدم كذريعة لتغطية الأبحاث العسكرية التي دعمتها الدولة الأمريكية[2]. فالمستشرق ينظر لنفسه على أنه "إنسان صنع عوالم جديدة كما كان الله مرة صنع العوالم القديمة"[3]. فتشكيل كينونة وهوية الإنسان الشرقي في مقابل الإنسان الغربي، بمتابة الهدف الأسمى للمستشرق الذي أعادت أبحاثه بناء لغات الشرق وعاداته بل حتى عقلياته، ليصبح "الشرق صنعة" كما قال المستشرق الإنجليزي "دزرائيلي"[4] في روايته "تانكرد"، فألزم الشرقي بصفة الجاهل وغير العارف بمصالحه. وأن الغربي أكثر دراية بها، هـكذا صنعت هوية مهجّنة للانسان الشرقي من زاوية برغماتية اديولوجية...ويصير وفق هذا المعنى الشرق هو ما يخلقه الغرب عبر الكتابات والأبحاث التي تنطلق من قاعدة نظرية مفادها أن الشرق قابل لأن يخضع و أن تعاد هيكلته واحتوائه وتحديد هويته وطريقه عيشه وتفكيره حسب المقاس الغربي.
ولنتحدث بلسان المفكر، فقد عملت الإمبريالية على تشكيل الشرق واحتجازه في قالب فكري وهو قالب الإستشراق، هذا الأخير شكل في حوار الإمبريالية مع الشرق جسر الوصول والاختراق؛ إذ لعب دورا مهما في التعرف على الشرق بوصفه تجريدا مثاليا يمكن اكتشافه وتوجيهه، عبر كشف أعماقه الروحية والمعرفية؛ فوضع الأصبع على تورط الثقافة التي صارت أداة لإخضاع الشرق في إطار معرفي يساهم في تسخيره كمستعمرة دائمة لأن "الاستعمار هو نتيجة خروج تصور معين للثقافة من كونها ثقافة ضمن ثقافات قائمة، ثقافات ممكنة، إلى ثقافة قطعت مع ظروف إنتاجها إلى أن تسود ثقافات أخرى وتهيمن عليها"[5] . وفي هذا الصدد يصبح الإستشراق _من حيث هو حقل، مجموعة من الأفكار_، ثقافة تكونت عن الشرق، وعملت على اختزال الآخر (الشرق) من زاوية نظر الأنا (الغرب)، بمعنى صناعة الآخر وفق توجه الذات المهيمنة... فالاستشراق، وفقاً لوجهة النظر هذه، وعلى الرغم من شعاراته المعرفية/الانسانية، ومرجعيته الأكاديمية، إلاّ أنه يشكّل مجرد تبريرا إيديولوجي لطبيعة هذه الهيمنة.
فنجاح الاستشراق إذن يكمن في تركه أثرا بالغا؛ ففتوحاته لم تقتصر على الجانب السياسي والجغرافي بل تعدته إلى ما هو فكري صنع بفاعليته سلطة سيطبقها على بنيات المجتمع الشرقي وجغرافيته، ليتسرب ويساهم في تكوين كيان المنطقة من جديد، ويردف "إ. سعيد" أن من ضمن الأسباب التي دفعته للاهتمام بدراسة الإستشراق؛ باعتباره إرثا امبرياليا تكمن في فاعليته اللاحقة، وفائدته وسلطته في وضع بصماته على الكائنات الإنسانية والمناطق الجغرافية،ليتحول هذا الشرق إلى شبه اختراع أوروبي..

المركزية الغربية؛ الإستشراق كإديولوجيا للهيمنة على الشرق…
يكشف لنا "إ سعيد" بتحليل نقدي معمق معالم السيطرة الثقافية الغربية التي تحمل مطامع امبريالية تنص بالأساس على جعل الآخر بعيدا ومهمشا لا يقبل الإدماج؛ وفي الوقت نفسه جعله قريبا وتابعا يحتاج للمساعدة والدعم، فمفكرنا أولى أهمية كبيرة لتفكيك خطاب المركزية الغربية؛ وكيفية سعيها لتمثيل الآخر؛ وإلغاءه، فعملية السيطرة الواسعة النطاق على الشرق، هذه العملية التي أقدم عليها العالم الغربي، امتزج فيها ما هو عسكري بما هو معرفي-إيديولوجي، لكن الهدف واحد، هو فرض الهيمنة عبر إعادة صياغة الشرق، وإعطائه شكلا جديدا، يخدم مصالح الإمبريالية.
فقد سعى خطاب الإستشراق الى صنع كينونة وهوية جديدة للشرق، وفق معادلة تضع الإنسان الشرقي داخل قوالب إيديولوجية بالأساس معنونة في خانات التخلف، الجهل والوحشية تجعله مسخرا دوما للإمبريالية. فالكولونيالية تأسست على توجه تمثيل الأخر عبر فرض السيادة عليه وتحقيق الهيمنة على البشرية جمعاء، لأنها من منظورها هي الثقافة التي يجب أن تسود العالم. وقد استطاعت المركزية الغربية وفق اديولوجيتها " الأنا المفكرة/ المركز"صياغة وصفة لخلق التبعية الدائمة لها... لتصير بموجبها تناءية الثقافة/العلم خادمة مطيعة لأطماعها الرأسمالية الإمبريالية، إذ ساعدت في صنع استيهامات وانحيازات على أسس اديولوجية لا زال صداها محفورا إلى اليوم.
فكان هدف هذا التوجه المعرفي هو التحكم الدائم في الشرق "الهامش/التابع" عبر بسط السيطرة وإعادة إنتاج المجتمعات حسب ما يروق مصلحة الانسان الغربي. فيصف "إ سعيد الاستشراق بكونه نوع من الاسقاط الفكري الغربي على الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق بالاستناد على الدراسات المتوارتة للمستشرقين باعتبارها عامل قوة لفرض الهيمنة والتحكم في رؤية الناس وتشكيل وعيهم للوقائع والأفكار وفق معايير دخيلة ومستوردة، فهو الوسيلة المعرفية والفكرية التي فتحت أبواب الاستعمار والتحكم في الشرق إلى يومنا هذا...
فالشرق الأوسط الآن ممزق الهوية بسياسات عظمى واقتصاديات النفط والثنائية الساذجة المؤلفة من إسرائيل المحبة للحرية والديموقراطية ومن العرب الأشرار (...) الإرهابيين..هذا الاختزال الغربي للشرق هو ما جعل "إ سعيد" يأخد على عاتقه مسؤولية الدفاع عن هوية الشرق وجغرافيته والكشف عن تناقضات خطاب الاستشراق ومرجعيته الاديولوجية التي ظلت تخفي أنيابها الامبريالية التوسعية. فكونه عانى من ويلات المنفى والاغتراب وتشظي الهوية باعتباره لاجئا عاش نيران الحرب التي دفعته للنزوح ببين فلسطين ولبنان ومصر، ساعده في لإطلاع عن قرب ومعايشة واقع المنطقة وهي تتغير كينونتها وهويتها...
هذه الأوضاع التي عايشها منذ طفولته ساعدته في تكوين وعي عميق لواقع المنطقة؛ مع فهم التحالفات السياسية التي أبرمت تحت الستار وأمامه هو بالذات باعتباره "الشاهد الذي لم يشاهد شيئا"[6] حيث كان الشرق الأوسط مسرحا لها، وعاش زلازل تاريخية حركت كيانه، أبرزها تسوية فلسطين وسقوط الجيوش العربية[7] وبالتالي إقامة دولة إسرائيل. والتجليات والآثار التي لحقت بالشرق الأوسط نتيجة ذلك...

عنصرية الغرب...الإستشراق والتلاعب بالتاريخ
كان مطمح "إ سعيد"، هو كشف التوجه العنصري والاديولوجي لخطاب الاستشراق الذي يسعى لتشييء الآخر (الشرقي العربي) من خلال إعادة رواية التاريخ والكشف عن انخراط خطاب الاستشراق في تزوير الحقائق والتلاعب بالتاريخ، فعمل من أجل هذا المسعى إلى سرد القضية الفلسطينية وإعادة تدوين التاريخ من وجهة نظر المستعمَر عبر تجربته الذاتية (كنتاج للاستعمار/الاحتلال) التي تفيض بالذاكرة الجماعية، فهاجسه هو بناء تصور جديد للذات والهوية وتحطيم النمطية التي أسستها الأدبيات الإستشراقية، وذلك لكشف الوعي الزائف الذي تم تكوينه حول الشرق، لقد كان واعيا أن الحرب العصرية _كما تؤكد الأدبيات النقدية_ هي في ميدان الفكر والأدب وليس فقط في ميدان السياسة، فالرواية هي أفضل حرب "طالما كل الحروب قد خسرت وفشلت لماذا لا نجرب الرواية ... إدوارد سعيد كان أخطر حرب على إسرائيل أخطر من كل الحروب التي خضناها"[8]، فقد كان يؤمن أن الحرب الحقيقية المستقبلية ستكون في ميدان الأفكار والمفاهيم وتشكيل الرؤى، ومن أجل هذا الهدف سعى لمواجهة البقايا الفكرية للاستشراق والتأتير العميق الذي خلفة في البنى الفكرية نظرا لتقل الاديولوجيا الى وجهّته وكانت مرجعيته على مستويات متعددة...
ولإعادة سرد التاريخ من زاوية غير التي تبتنها المركزية الغربية يتوقف "إ. سعيد" عند إحدى الفجائع التي ارتكبتها الامبريالية/الاستعمار في حق الإنسانية، وبالتحديد الإنسان العربي - الفلسطيني، ليبدأ نبشه الأركيولوجي في التاريخ مستفيدا من الدراسات النقدية لكل من "فوكو" و "غرامشي"، مؤكدا على أنه عندما يتعلق الأمر بالإمبريالية فكل الأبحاث تخدم مصلحتها، فهي قادرة على تسخير العلوم والتاريخ لخدمة مطامعها، ما يستدعي ضرورة إعادة النظر في تلك التصورات الغربية الواهمة، والقائمة على توجه عنصري كخطاب يسعى لفرض الهيمنة و"تهجين الثقافات وتوحيدها[9]. فجل مؤلفات "إ. سعيد" تمتل رحلة للبحت عن الهوية كفعل مقاومة للإمبريالية التي مزقت خريطة الشرق الأوسط وعجنت جغرافية المنطقة وانتهت بتسليم فلسطين لإسرائيل، وهذا السعي سينجح من خلال كشفه للميكانيزمات التي تقوم عليها الأدبيات الإستشراقية ومرجعيتها الاستعمارية والاديولوجية. هذه الأخيرة ساعدت على الهيمنة والاستيلاء عبر نوع من التعالي الذي يضع الشرق في خانة من الدونية والسخافة.
فكان هذا طريقه للدفاع و إثبات الذات والهوية المشرقية/الفلسطينية، عبر سرد تاريخ التحكم في المنطقة وتغيير جغرافيتها والانتهاء باستعمارها... لأن التاريخ .اختراع ... زيف ... سرد موهوم"[10] مادام يخدم الخطابات الرسمية والاديولوجية الاستشراقية التي تبنت رؤية ذات بعد واحد تنطلق من مرجعية فكرية وسياسية تخدم المركزية الغربية... وعلى هذا الأساس كان التحدي هو سرد التاريخ واعادة صياغة الرواية من وجهة نظره كنتاج للاستعمار، في هذا الصدد طرح تساؤلين مركزيين هما : من نحن؟ ومن أين جئنا؟ إلا أن أي إجابة تبقى صعبة المنال وغير متحققة فعليا لأنها مرتبطة بالمنفى، بالأخر المتسلط[11]، من هذه النقطة ينطلق في تحديد هويته بربطها بصورة الأخر المهيمن أي الغرب. فتعريف الهوية مرتبط لديه بالمنفى والطرد من المكان.
وابتغى من وراء هذا البحت الأركيولوجي إعادة تدوين التاريخ من خلال إعادة الاعتبار للهوية الفلسطينية وكشف النقاب عن كواليس الاستعمار والاحتلال اللذان غيرا من خريطة الشرق الأوسط... وهذا ما يفسر لنا ذلك الرد العنيف الصادر من طرف إسرائيل بعد صدور بعض مؤلفاته، فقد شنت عليه وسائل الإعلام الصهيونية هجوما مسعورا وتم تهديده بالقتل، واتهم ولقب بأستاذ الإرهاب، لذلك خصصت له ثلة من الباحتين الأمريكيين لتكذيب رواياته ودحض أطروحاته[12]، لأنه نجح في كشف كواليس وخفايا الأطماع السياسية التي دفعت الغرب للتلاعب بالجغرافية التقافية والفكرية للشرق الأوسط وتزوير التاريخ بأبشع الوسائل، وذلك بالاعتماد على خطابات النصوص الإستشراقية التي تحمل مرجعية مؤدلجة جاهزة، تهدف إلى إعادة إنتاج الهيمنة، واستنساخ هوية مهجّنة للإنسان الشرقي / الفلسطيني. فقد رافقه في كل أعماله همّ كتابة هوية خارج الخانة التبسيطية للأحكام الإستشراقية التي تخلق الشرقي وبمعنى ما تلغيه ككائن إنساني"[13].
لقد كان تمام الوعي أنه أحد منتجات البيئة الاستعمارية، ما أوجب عليه إنماء اليقظة للمقاومة الفكرية والتاريخية لكسر سلطة هذا الخطاب عن طريق صياغة تعريف ذاتي للهوية يصير بمقتضاه الإنسان الشرقي قادرا على استكناه معناه كإنسان يستطيع فهم الماضي وتغيير الحاضر واستشراف المستقبل ...
نخلص القول أن الإستشراق كمعرفة بالشرق أنتج خطابا؛ وهذا الخطاب حامل لسلطة تقلب الحقائق، وتنتج هيمنة وإلغاء للخصوصية التي تنفرد بها كل هوية عن الأخرى إلى درجة إفراغها من المعنى، إلى جانب التمهيد للاستعمار والتحكم في مصير الشرق، هنا تتجسد سلطوية خطاب الإستشراق كتجسيد فعلي لسيادة القوي الذي يعطي الشكل والمعنى... فالاستشراق في الأصل لا يقدم إلا معرفة ذاتية وإديولوجية للغرب عن الشرق، باعتباره اختراعا لهوية وحضارة وثقافة عربية لم توجد قط؛ حيث أن استعاراته وأفكاره صارت مع مرور الوقت مشرعنة كحقائق للإنسان الشرقي، ومن ثمة أصبح خطاب الإستشراق ثقافة وسياسة توجه وتتحكم في هذه المنطقة، ولم يعد مسألة أكاديمية هدفها المعرفة فقط، إنما حاملا لخفايا إيديولوجية تعمل على إعادة انتاج الشرق الأوسط وفق مصالح سياسية واقتصادية بحثة مستمرة الى يومنا هذا..،[14]

 

[1] حفناوي بعلي، آفاق الأدب المقارن العالمية في تصور الناقد إدوارد سعيد، مجلة عالم الفكر، دراسات في الأدب، العدد 4، المجلد 35 أبريل- يونيو 2007، ص 10.
[2] إدوارد سعيد، الإستشراق، المعرفة.السلطة.الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب، الطبعة السابعة 2005 ، ص 40
[3] إدوارد سعيد، الإستشراق، مصدر سابق، ص 144.
[4] مستشرق، سياسي وبريطاني يهودي، زار الشرق الأوسط وفلسطين، أشار إليه إدوارد سعيد في مؤلفه الإستشراق، ص 35، كتب مجموعة من الروايات "سبيل" و" تانكرد أو الصليبية الجديدة " من خلال هذه الرواية الأخيرة وفق بين نزعتين: نزعة تمسكه بجذوره اليهودية من جهة ومطامع بريطانيا الامبريالية الراغبة في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط من جهة أخرى.
[5] محمد موهوب، ترجمان الفلسفة، المطبعة والوراقة الوطنية، الطبعة الأولى 2011، ص 102.
[6] إدوارد سعيد، خارج المكان، ترجمة فواز طرابلسي، دار الأداب، بيروت، الطبعة الأولى 2000، ص 153
[7] يعبر إدوارد سعيد عن هذه الحرب بطريقته الساخرة المعهودة بمعادلة ستة ضد واحد، حيث خاضت الجيوش العربية حرب الستة أيام وانهزمت هزيمة شنعاء أدخلت العرب في عالم ضبابي مجهول.
[8] علي بدر، مصابيح أرشليم: رواية عن إدوارد سعيد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية 2009، ص: 13.
[9] حفناي بعلي، مجلة الفكر، مرجع سابق، ص 18.
[10] علي بدر، مصابيح أرشليم: رواية عن إدوارد سعيد، مرجع سابق، ص: 13.
[11] شيلي واليا، صدام ما بعد الحداثة: إدوارد سعيد وتدوين التاريخ، ترجمة عفاف عبد المعطي، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2006، ص: 37.
[12] اتهمت إسرائيل إدوارد سعيد باختلاق وتزييف الحقائق في مؤلفاته فادعوا أن سعيد لم يعش في فلسطين ولم يولد في القدس فقد شنت عليه وسائل الإعلام الصهيونية هجوما وهدد بالقتل، واتهم ولقب بأستاذ الإرهاب يقول مجيبا" خلاصة تلك التحريات المزيفة في معظمها هي (إثبات) أني لست فلسطينيا حقا مع أن الكاتب ( يقصد محام إسرائيلي اسمه جستس رايد فاينر: مقالة نشرها في مجلة كومنتري الأمريكية وهي المدافعة عن اليهود ) بدا عاجزا عن تحديدي هويتي الفعلية ... وكانت عملية التزوير كلها معدة بهدف سياسي محدد هو إظهار أنه لا يمكن الوثوق بالفلسطينيين عندما يتحدثون عن حق العودة. فإذا كان مثقف بارز يكذب، فما بالك بما قد يقدم عليه الناس العاديون من أجل استعادة أرضهم ، تلك التي لم تكن لهم أصلا؟.." إدوارد سعيد مقدمة كتاب خارج المكان للطبعة العربية، ص 10.
[13] إدوارد سعيد، الاستشراق، مصدر سابق، ص 59.