"حديثُ يسـوع مع السامريـة" بعيُـون القدّيـس أوغسطـين - حمزة فــنـين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

في الإصحاح الرابع من إنجيـل يوحنـا نجد حواراً مشهوراً بين السيد المسيح وامرأة سامرية، ويستمرّ هذا الحوار لـ 42 آيةً تحكي عن أنّ يسـوع، وهو يجتاز السامرة، أتـى على مدينةٍ تُدعـى "سُـوخـار" بقرب الضيعة التي وهبها النبيّ يعقـوب لابنـه يـوسف، فجلس ليستريح من تعب السّفر بجانب بئرٍ هي بئـرُ يعقـوب. وسرعان ما جاءت امرأة سامريةٌ لتستقي ماءً فالتقت بيسوع، الذّي كان مجهولاً بالنسبة لها، ودار بينهما حديثٌ، ليس بالطّويل ولا بالقصير، انتهى إلى معرفة السامرية بالسيد المسيح وأنّه هو المُخلّص فآمنت به وآمن كثيرون من مدينتها بسببها. 

لكن هذا الحديث ليس كأيّ حديثٍ ـــــــ ربما ينطبق هذا على كلّ أحاديث السيد المسيح ـــــــ بل هو ’’ مليءٌ بالأسرار، إنّه طعامٌ للجائع وراحةُ للنّفس المًتعبة‘‘ على حدّ قول القديس أوغسطين الذّي كتب كُتيّباً عن هذا الحديث عنونه بـ "حديث الربّ مع السامرية"[1] حيث قام بتأويلٍ روحيٍّ لهذا الحديث مكتشفاً فيه الأسرار المُحتجبة عن العقول التي لا تفهم سوى لغة الحرف.

يبدأ الإصحاح الرابع من إنجيل يوحنا بتعب المسيح، لكن كيف يتعبُ المسيح؟ ’’ هل قوّة الله التي بها يستريح المُتعبون تصير مُنهكة؟! كيف يتعبُ ذاك الذّي نحنُ بدونه نصير متعبين؟!‘‘[2]. نعم، إنّه قويٌ ومع ذلك فهو يتعب، إنّه قويٌ لأنّه "كلمة الله" الذي قال عنه إنجيل يوحنا: ’’ في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كلّ شيءٍ به كان، وبغيره لم يكن شيء ممّا كان‘‘. (يوحنا، 1: 3،2،1) لكنّه أصبح ضعيفاً لأنّ ’’ الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا‘‘ (يوحنا، 1: 14)، أي أنه ضعف في رحلته الشاقة من خلال الجسد الذي حلّ فيه، لكنّ ضعفه هذا هو الذي يجعل البشرية قوية حسب أوغسطين.

عندما تعب السيّد المسيح جلس قرب بئر، وهذا ليس بدون قصد، بل هو يشير إلى وعد المسيح، كما يؤوّل ذلك الحكيم أوغسطين، ذلك الوعد الذّي يقول: ’’ اِسألوا تُعطَوا. اُطلبُوا تَجدُوا. اِقرَعُوا يُفتَح لكُم‘‘ (متى، 7: 7). أما دلالة البئر فهي هذه الأرض التي نسكنها، هذه الأرض التي وجد الإنسان نفسه فيها بعد ارتكابه الخطيئة. ونفس هذه الدلالة نجدها في القصة الرمزية ذات البعد الروحي التي كتبها السهروردي المقتول بعنوان "الغُربـة الغربية"، حيث وجد الأخوان نفسيهما في بئر عميقة مُكبّلين بسلاسل وأغلال من حديد[3]. وعندما جاءت السامرية لتستقي ماءً، وهي رمزٌ للأمم الغريبة التي لم تعرف المسيح بعد أو هي رمزٌ للبشرية بصفةٍ عامة، طلب منها السيد المسيح أن تمنحه ليشرب، وهو ما استغربَت له لأن اليهود لا يعاملون السامريين كما هو معروف، فردّ على استغرابها هذا قائلاً: ’’ لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذّي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاك ماءً حياً‘‘(يوحنا، 4: 10). لكن ما المقصود بالماء الحي؟ وكيف فهمت السامرية كلامه هذا؟

لم يقصد يسوع بالماء الحي ماءً مرئياً بل ماءً غير مرئيٍ، الماء الذّي من يشرب منه لا يعطش أبداً، عكس الماء الذي في البئر. لكن السامرية لم تستطع فهم هذا واكتفت بالوقوف عند الحرف، وهو ما يظهر جلياً في ردّها عليه: ’’يا سيّد، لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحيّ؟‘‘ (يوحنا، 4: 11). ويضيف أوغسطين أنّ الماء الذي أتت لتستقيه السامرية ليس سوى رمزٍ لمسّرات العالم في عمقها المظلم والتي يتمّ الوصول إليها من خلال الشهوة (الدلو هنا). لكن الغريب هنا أن يسوع قال للسامرية عندما لم تفهمه أن تنادي زوجها! والمقصود بالزّوج هنا هو القلب أو الروح، فالمسيح يتحدّث لغة الروح لا لغة الجسد، فالأولى لا يأتيها الباطل لا من أمامٍ ولا من خلف عكس الثانية التي كلّها باطل وتقود إلى الباطل مثلما قادت السامرية إلى الفهم الحرفي الذي يقتُل عكس الروح الذّي يُحيي كما قال القديس بولس. فمن خلال حضور هذا الزوج يمكن للسامرية أن تفهم مقصود يسوع، أمّا بتغييبه فمثلُها كمثل الحمار يحمل أسفاراً. فالزوج هو الذي يجب أن يسود عليها مثلما يسود آدم على حواء كما ورد في سفر التكوين (3: 16): ’’ [...] وإلى رجلكِ يكون اشتياقك وهو يسـود عليكِ‘‘.

لكنّ السامرية لم تفهم هذا طبعاً فردّت عليه بأن ليس لها زوج، حيث لم يكن لها سوى عشيق تعيش معه بعد أن كان لها أزواجٌ خمسة في الماضي كما عرف ذلك يسوع بدون أن تخبره. لا يواصل القديس أوغسطين حديثه دون أن يقف عند دلالة هؤلاء الأزواج الخمسة، حيث يؤوّلها بأنها تشير إلى الحواس الخمس، فالمرءُ عندما يولد، وقبل أن يتمكّن من إعمال عقله، فالحواس هي التي تسيطر عليه وتقود حياته، وإذا لم يتلقّ الطفل التربية الروحية المناسبة فإن الحواس ستواصل السيطرة عليه إلى أجلٍ غير مسمّى. وبالتالي لن تقوده إلى الحياة الأبدية وإنما فقط إلى الأمور الزائلة التي يتحكّم فيها شيطان الزمن. فالحياة الأبدية لا يمكن الوصول إليها إلا بحياة الروح التي هي اغتراب للجسد عكس حياة الجسد التي هي اغترابٌ للروح. وذلك لأنّ ’’ الله روح‘‘(يوحنا، 4: 24). وهي الآية التي بسببها جعل هيغل المسيحية الديانة الأسمى من بين كلّ الديانات، مثلما جعلها كانط من قبله.

فجأة ’’ قالت له المرأة: يا سيّد أرى أنّك نبي! ‘‘. (يوحنا، 4: 19) وهنا بدأ زوجها يحضر لكنّه لم يأت كاملاً بعد. ذلك أنّها، كما يرى القديس أوغسطين، اعتبرت يسوع نبياً وليس ربّـاً. ثم أضافت قائلةً: ’’ أنا أعلم أنّ مسيّا، الذّي يقال له المسيح، يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا بكلّ شيء‘‘. (يوحنا، 4: 25). حينئذٍ أخبرها يسوع بأنّه هو نفسه المسيح وقال لها أن تصدقه، أن تؤمن به. فبدون الإيمان لا يمكنها أن تفهم، فبالإيمان نسلك لا بالعيان كما قال القديس بولس. حينها تركت السامرية دلوها/ شهوتها وأسرعت لتعلن الحق. إنها مثل ذلك الرجل الذي غادر كهف أفلاطون، بعدما نزع عنه أغلاله، ليتلقّى نور الحقيقة ثم عاد ليخبر أصحابه بما رآه. لكن الفرق هنا أن هذا الرجل لم يتم تصديقه بل تم قتله في حين أن السامرية خرجت للناس وأخبرتهم بما حصل لها مع السيد المسيح فصدقوها وآمن به أناسٌ كثيرون.

هكذا أصبحت تلك المرأة ثمرةً ناضجة وحان وقت الحصاد. إنه حصادٌ روحي، حصاد بالابتهاج بعدما كان الزّرع بالدموع. إنّ حديث الربّ مع السامرية الذي قد يبدو عادياً لأوّل وهلة لهو حديثٌ مليءٌ بالألغاز التي فكّ شفرتها القديس أوغسطين، والذي كانت حياته مثل حياة تلك السامرية. إنّه حديثٌ يؤرّخ لمسيرة ذلك الصراع وسوء الفهم بين لغة الروح ولغة الجسد من جهة، كما يؤرّخ من جهةٍ ثانية، وإن بشكلٍ جزئي وضبابي، لمسيرة الإنسان نحو ملكوت الربّ، في محاولةٍ منه لاسترجاع الاتصال بذلك الفردوس المفقود أو البعد المفقود كما يحلو لرسول الصحراء إبراهيم الكوني أن ينعته.

 

[1]: القديس أوغسطين، حديث الربّ مع السامرية، ترجمة وإعداد الراهب القمص مرقوريوس الأنبابيشوي، مكتبة النسر للطباعة، ط 1، 2007.
[2]: المصدر نفسه، ص 12.
[3]: انظر: "مجموعة مصنفات شيخ الإشراق"، تصحيح وتقديم هنري كوربان. وهذا مطلعُ القصّة:

’’ لمّا سافرتُ مع أخي عاصم من ديار ما وراء النهر إلى بلاد المغرب لنصـيدَ طائفةً من طيور ساحل اللّجة الخضراء. فوقعنا بغتةً في القرية الظالم أهلها، أعني مدينة "قيروان". فلما أحس قومها أننا قدمنا عليهم فجأة ونحن من أولاد الشيخ المشهور بالهادي ابن الخير اليماني أحاطوا بنا، فأخذونا مقيدين بسلاسل وأغلال من حديد وحبسونا في قعر بئرٍ لا نهاية لسمكها‘‘.

وهذا تأويله:

"السفر" يقصد به سفر الروح، "عاصم" يقصد به المعرفة الفطرية، "ديار ما وراء النهر" يقصد بها العالم العلوي الروحي، "بلاد المغرب" يقصد بها عالم الحس، "صيد طائفة من طيور اللجة" يقصد بها تحصيل العلوم الجزئية، "الوقوع في القرية الظالم أهلها" يقصد به الوقوع في العالم الأرضي الحسي، "قوم القرية" يقصد به القوى الجسمانية الترابية، "الشيخ المشهور بالهادي ابن الخير اليماني" يقصد به العقل الأول الذي أفاض الأنفس والأنوار، "السلاسل والأغلال" يقصد بها الغرائز والشهوات، "الـبـئـر" يقصد بها الجسد المادي المظلم.