وشكلت هذه الندوة، والتي احتضنها مقر دار الشعر بمراكش بالمركز الثقافي الداوديات الأربعاء 29 يونيو، استكمالا للنقاش الذي افتتح ضمن ندوة الدار السابقة حول "مسرحة القصيدة" وبرمجة الدار واستراتيجيتها طيلة الخمس سنوات، في محاولة للاقتراب من الأسئلة الجديدة التي تفتحها اليوم انفتاح هذه الأجناس التعبيرية على الفضاءات العمومية، وترسيخها لشعريات المجال المفتوح. وقد سعى كل من الناقد عادل القريب والدراماتورج ابراهيم الهنائي والمسرحي والشاعر عبداللطيف الصافي الى استثمار هذا التقاطع الجمالي، في سعي لاستقصاء الأسئلة التي تجعل من فنون الأداء (المسرح، الموسيقى، الرقص، الدراما،...)، والشعر، بما أمسى ينفتح عليه الشاعر اليوم، ضمن لحظة التحقق القرائي من توظيف للفضاء والجسد والموسيقى، الى التوقف عند هذه الوشائج الغائية وتمثلها معرفيا.
وقدم الفنان والشاعر المهدي حلباس، الى جانب الشاعر والفنان السعيد ابو خالد، لوحة شعرية ممسرحة من مسرحية "منطق الطير" لفريد الدين العطار (إعداد وإخراج ابراهيم الهنائي). شخصية الحلاج، وهي تستدعي الشعر الصوفي بحمولاته الرمزية والاستعارية، تنضاف لهذا الاختيار الدراماتورجي للمخرج ابراهيم الهنائي والذي صاحب فعل انتقال "الشعر" الى تحققه الركحي. وخلال السنوات الأخيرة، أمست الكثير من الفنون الأدائية، وبعضها شكل حضوره القوي في المشهد الثقافي والفني كمسرح الشارع (نموذجا)، تطرح أسئلة جديدة على جماليات تلقي الفرجات الفنية. وتطرح مرجعيات المثن الشعري، في الكثير من الفرجات، بل وارتباطها الوثيق في نماذج من أسئلة "التأصيل"، بعدا نقديا يلامس في العمق طروحات تهم "الجنس الأدبي" في علاقته بفضاءات التلقي، وأيضا قدرة الشعر على خلق شعريات جديدة للتلقي.
هذه الشعريات للمجال المفتوح، وما أمست تفتحه اليوم من عودة الظاهرة الجمالية الى فضائها الآثيري، شكل أرضية مناسبة لموضوع "الشعر وفنون الأداء.. نحو شعريات جديدة للمجال"، ضمن سلسلة ندوات دار الشعر بمراكش، ومن خلال نقاد قاربوا "الشعر وممكنات الفنون الأدائية" و "رهانات المسرح الحساني بين عبور الشعر وحضور الفرجات" و"الشعر والفنون الأدائي، عن تجاوز المنظور التقليداني"، وتجربة "مسرحة القصيدة". إن استدعاء مقولة هولدرلين "ما يبقى على الأرض، هو ما يؤسسه الشعراء"، يلتقي في النهاية مع ما ذهبت إليه المداخلات، تلك العودة القوية اليوم لهذا التلاقي في أفق تجاوز "نمطية السرد".
إن التوقف عند التراث المغربي، من خلال غنى موروثه المادي واللامادي، يشكل تربة خصبة لهذا التلاقي والتقاطع بين الشعر والفنون الأدائية، ويمثل "لغنى" الشعر الحساني وأيضا "شعر التبراع" في علاقتهما بأنماط الفرجات الحسانية "رقصة لكدرة" نموذجا، وضمن سياقات ما أمست تقدمه خشبات الصحراء، نقط تلاقي فعلي لهذا الاستثمار الجمالي. وإذا كان الشعر يرتبط بالأداء، وطبيعة الجانب الأدائي في الشعر العربي، ومن خلال حوامل إشهادية تاريخية حاضرة بقوة، يجعله فنا أدائيا بامتياز. وتحتفظ الذاكرة الجمالية المغربية، ومنذ خمسينيات القرن الماضي، بالكثير من التجارب التي سعت الى استحضار الشعر ضمن مشاريعها الفنية.
يمثل موضوع الشعر والفنون الأدائية، مدخلا أساسيا لتمثل علاقة الأجناس التعبيرية اليوم، ضمن سياق حواري يسعى الى تجاوز البنى المغلقة والحدود الضيقة والمنظورات التقليدانية. بل إن حرص الشعراء على تجاوز أساليب القراءة التقليدية، والبحث عن خلق "جماليات جديدة" لقراءة قصائدهم، أضحى ملمحا جديدة للمشهد الثقافي والفني العربي. لقد امتد هذا المسعى، وضمن هذا الانفتاح التي سعت إليه برمجة دار الشعر بمراكش ومنذ تأسيسها، الى ترسيخ الفعل القرائي للشعر وتلقيه ضمن فضاءات مفتوحة. حديقة مولاي عبدالسلام، عين أسردون (بني ملال) (حدائق الشعر)، الشعر في المآثر التاريخية (قصر البديع، قصر الباهية، القصبات..)، الشعر في الشواطئ (سيدي افني، أكادير)، الشعر في الساحات العمومية (ساحة الحسن الثاني/الداخلة).. تنويع في البرمجة بموازاة السهر على إخراج فني، وتوظيف للموسيقى والفن التشكيلي والمسرح والسينما والرقص والكوريغرافيا وأنماط من فنون الأداء (تجارب شعرية، شعراء حكواتيون، شعراء تشكيليون، الشعر والسينما..)، جميعها تتجه الى فتح أفق خاص لجماليات التلقي للشعر.
واصلت دار الشعر بمراكش، من خلال هذه الندوة، استقصاء الخطاب الشعري استكمالا لسلسلة الندوات، التي برمجتها الدار خلال مواسمها السابقة: (الشعر والترجمة، الهوية، مسرحة القصيدة، أسئلة الحداثة، المشترك الإنساني، أسئلة التلقي، "أسئلة التحولات"، "التوثيق والرقمنة"، "النقد الشعري في المغرب"، "وظيفة الشاعر اليوم"، "الشعر والفلسفة"، "الشعر والصوفية"، أسئلة القيم...). هي لحظة معرفية أخرى، تشكل تحفيزا مضاعفا للتفكير في المنجز الشعري المغربي، على مختلف مرجعياته وتجاربه. ضمن استراتيجية الدار، للمساءلة والتمحيص النقدي، ستتواصل مستقبلا، بمزيد من الانفتاح والمقاربات، سعيا للإنصات البليغ لنبض النصوص، ولجغرافيات شعرنا المعاصر اليوم، وللاقتراب أكثر من نبض أسئلة النقد الشعري وقضاياه المحورية وحواريته مع الفنون.