جشع الإنسان ـ هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

جشع الإنسان ـ هادي معزوز"عجبا لهؤلاء الإغريق لكم كانوا يعرفون أسباب العيش، بالصورة والشكل والأصوات والكلمات، والإيمان بأولمب المظهر، هؤلاء الإغريق كانوا سطحيين من شدة عمقهم...  " 
                            ـ فريدريك نيتشه ـ

    هل استطاع الانسان أي يعيش؟ أن يجرب معنى الحياة ويحس به، هل نحن متصالحون مع أنفسنا أم أننا نتوهم ذلك؟ ما معنى أن نحيا هنا، في العالم وبجانب الآخرين؟ وإلى أي حد استطعنا تحقيق الأفضل؟ ومن المسؤول عن هذا الذي حصل الآن؟ أسئلة وأخرى تشكل عمود هذا القول أو قل هذا الامر، ونحن نقارب الإنسان مرة أخرى، نقاربه من زاوية فلسفية ميتافيزيقية محضة، مادام الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعيش ميتافيزيقيا، حيث سنقلب هنا قيما لصالح أخرى، مسلطين الضوء على جانب معتم في الإنسان، والذي لن يكون إلا الجشع والطمع في المزيد كلما تحقق المراد.
إن الإنخراط في الحياة ليس يعني بالضرورة أن ننخرط في الحضارة وأن نعيش مرحلة الثقافة، لقد كان الإنسان قديما وفي عصور جد غابرة يعيش هو الآخر دون أن تكون لديه سيارة أو جهاز تلفاز، أو مركبات فضائية تحاول حل لغز الكون، والحال أنه عندما نتأمل ما قلناه آنفا سنلاحظ أن جهاز التلفاز جاء نتيجة طلب لاشعوري للتعب الذي أصبح يحفنا من كل الجوانب، من خلاله نقضي وقت الفراغ إما في التفرج على نكبات وكوارث الآخر، أو الاطلاع على آخر الأنباء أو مشاهدة فلم يعيش حياة مفترضة أو حياة كانت ستكون هي الواقع، أو التلصص على الحياة الخاصة لباقي الكائنات... السيارة هي الأخرى لا تقل أهمية عن التلفاز، إنها نتيجة للثورة الصناعية ظاهريا، لكنها وجه من أوجه جشع الإنسان باطنيا، أي قطع مسافة كبيرة جدا في أقل وقت ممكن، ما الداعي من طلب هذا الاختصار؟ ومتى كانت السرعة معيارا للانخراط في العيش؟ الدليل هو أن المسافة التي أصبحنا نقطعها بسرعة كما نعتقد، ستصبح بطيئة جدا بعد سنين معدودة، الانسان حاليا من خلال هذا الأمر يظن أنه متحضر على الذين سبقوه، وأنه يسافر من مدينة إلى أخرى في ظرف قياسي وجيز، لكن إذا تمعنا في الامر جيدا سنلاحظ أنه أمر تافه جدا أن تضع السرعة كمعيار للتقدم، بعبارة أخرى الإنسان القديم الذي كان يقطع مسافة في وقت طويل يعيش هو الآخر نفس السنين التي يعيشها إنسان الألفية الثالثة، وما يقوم به الأول أي الإنسان القديم وهو في طريقه نحو مراده، لا يقوم به الثاني وإن كان سيصل قبله بفرق شاسع جدا، المعادلة واضحة تماما لا تفوق للأول على الثاني وليس هناك أي انتصار للثاني على الأول.
 

   إن تأمل قبة السماء ليلا أمر يثير الاستغراب، يجعلنا نتقرب من الكون ومن حقيقة وجودنا أكثر من ذي قبل، إنه طقس أنطولوجي لا نَمَلُّ من إحياءه وإن كنا نُكرره دوما، نحاول أن نفهم شيئا بقي عالقا بين ظهرانينا، نحاول أيضا تفسير لغز وسبب وجودنا، في مقابل ذلك سيكون قولي صادما للبعض عندما سأقول بأن اكتشافات اليوم ليست تقل أهمية على اعتقادات الأمس، كل حقبة تفسر ما تفسر وفق إمكانياتها، ولو حدث أن ادعى شخص قبل مائة قرن من الآن أن البيغ بونغ هو أصل الكون وأنه ليس هناك كون واحد وإنما أكوان لا متناهية، أعتقد تمام الاعتقاد أنه سيُنعت بالسَّفَهِ والخُبلِ والعَتَهِ، سيقول كلاما غير مفهوم، من ثمة سيكون مرفوضا تمام الرفض من طرف الكل، اليوم يعتبر هذا القول هو الأصح لدى غالبية الناس، وإذا قال شخص بأن إلهة اسمها "غايا" جاءها إله من أقصى الأقاصي اسمه "كرونوس" ثم تزوجا فوجد العالم سيسخر منه الجميع وسيعتبرون كلامه قولا أصيب بيأس الحقيقة منذ أمد ليس بالقريب، أي أن الدرس الذي يجب فهمه هو أن العلم ليس تطورا للإنسان الحالي على الإنسان القديم، وإلا فلنقارن كوكبنا عند اللحظة الإغريقية وما يوجد عليه الآن، النتيجة يعرفها الكل طبعا.
    قد يكون ما نعتقده تطورا وتحضرا وانخراطا في الإنسانية بأرقى أشكالها، مجرد وهم نحاول به تبرير جشعنا، إذ لا محالة من أن أحفادنا سيسخرون من تخلفنا ومن بدائيتنا مثلما نسخر اليوم من تخلف أسلافنا، لكن الشيء الوحيد الذي يربط كل الإنسان هو فعل شيء ما، هو تحقيق هدف ما إن نبلغه حتى نسعى لآخر، ربما هذا الشيء هو الذي جعل منا كائنات لا تشبع من جوعها واحتياجاتها، إننا نركض وراء شيء يسير بنفس السرعة التي نسير بها، بل إنه يسخر منا إذ كلما ازدادت سرعتنا كلما ازدادت سرعته، مثلنا كمثل الطفل الذي يسابق ظله، فلا هو متوقف ومقتنع بوهمه، ولا بقادر على تجاوزه، هكذا نحن وهكذا سنبقى حسب مؤشرات العصر والتاريخ، بهذا وبهذا فقط، سنكون قد وصلنا إلى حقيقة عيشنا وهل نحن فعلا نعيش وجودنا.
    إن أهم شيء نحاول القبض عليه دون إدراكه ونيله هو السعادة، هذا المفهوم من اختراع الإنسان لوحده، لا تعني السعادة الضحك بملإ الارتياح، كما ليست تدل على تحقيق حلم أو طموح، مادامت أحلامنا لا تتوقف، السعادة شيء لا يمكن التفكير فيه، إنه مجرد وهم وضعه الفلاسفة كي نضع نصب أعيننا عِلَّةً للعيش une raison de vivre، وإلا فإن المنظومة الإنسانية ستنهار برمتها، ربما أفشى نيتشه السر خاصة في كتابه الشهير le gai savoir، عندما أكد بأن الحقائق مجرد أوهام ليس إلا، أي أن السعادة هي الأخرى لن تكون إلا سرابا ربما صنعناه هربا من الحقائق الحقيقية les vérités véritables  لأنها جوهرها مرعب ومخيف على غرار حقيقة الجمال والحق والخير... والحال أن مجموع الأبحاث الأثرية تبين أن الإنسان القديم ـ القدامة في الأسبقية التاريخية ـ كان هو الآخر يمتاز بحسه المرهف من خلال عملية تربية الحيوانات الأليفة، وطقوس العبادة والزواج والموت والألم والعيش ضمن عشائر.
    إن المعنى القريب من حقيقة الحياة هو أن نعيش بمعزل عن كل جشع، أن نتنفس الحياة خارج إطار القيم، لأن القيم في نهاية الأمر مجرد حيطة وحذر ليس إلا، وصناعتها دليل على افتقادها، إنها مطلب وليست قوة مكتسبة، لقد صنع الإنسان الشفقة والرحمة لأن داخله عنيف وشرير، ثم صنع الإنسانية فرارا من الجانب اللاإنساني فيه، والحال أن مطلب التسامح يدل على غيابه، وحقيقة الجمال هي فرار من البشاعة علما أنه لا جمال إلا جمال العادة، مادمنا قد اعتدنا على شيء دون غيره، وقيمة الخير جاءت بعد قيمة الشر لأن الإنسان شرير بطبعه لا يمكن أن يعيش ضمن جماعة خارج القانون وبمنأى عن السلطة، لقد وُضع القانون كي يلجم الناس على جشعهم نهاية المطاف، وما الدعوة للسلم إلا دليل كون أننا نعيش الحرب، وما عيشنا للحروب بشتى أنواعها المادية والمعنوية سوى أمَّارة على حبنا للقتل باسم أشياء وهمية جعلناها حقائق ثم أصبحنا نؤمن بها، فلنتأمل حروب الماضي السحيق جدا وحروب الحاضر كي نخلص أن الإنسان كلما اعتقد نفسه متحضرا كلما سقط في براثن الوحشية والفظاظة.
    ما الذي نريد أن نصل إليه إذن؟ سؤال اهتم به الفلاسفة منذ زمن بعيد بل ومنذ ظهور الفلسفة، هناك صعوبة معقدة للإجابة عليه، هل نعيش كي نحقق استمرارا كبيرا في الحياة؟ أم إننا نعيش لأننا وجدنا هنا، أو بلغة سارتر لأننا انبثقنا في الوجود، لا أحد ينكر أن الإنسان سائر نحو تدمير الطبيعة ملحقا بها الخسائر تلو الأخرى، كما أن البيولوجيا ليست تنكر فكرة انقراض الانسان في المستقبل، إما بسبب التقلبات المناخية الكبرى، أو بسبب فكرة نهاية النوع مثلما كانت له بداية، ماذا حقق الإنسان إذن من كل هذا؟ وهل العقل شكل حقا معيار تقدم الإنسان أم انه جنا عليه عندما اخترع القنابل الذرية، والأسلحة الفتاكة، والسياسات البائدة، والسرعة، ووسائل الترفيه، والسياحة، والمسابقات الرياضية...؟
    صفوة القول في هذا الأمر، هو أن جشع الإنسان يكمن أساسا في غياب هدف له، يريد كل شيء ولا يعرف مالذي يريد، بل إنه في أغلب الأحيان لا يريد ما يريد، لقد سقط هذا الكائن الغريب على باقي الكائنات في فخ التيه عندما اخترع أشياء يحاول تطويعها لخدمته، فبات تعيسا بها كالتقنية التي أصبحت تملك الإنسان وتسوقه وفق رغباتها، ناهيك عن البنيات الخفية التي تصنع طرق تفكير الإنسان... بل إن الغرابة هي أن الإنسان نفسه صنع علوما تدرسه وتدرس طرق تفكيره، وما هذه السخرية إلا نتيجة جشعه وغياب فن العيش لديه، في مقابل ذلك ينعم الحيوان بحياة هادئة ربما لأنه لا يملك عقله، أو ان عقله يخصه هو، ومثلما نسخر منه ونعتبره كائنا ناقصا قد يبادلنا هذا الجار نفس الإحساس، إننا ندرس الحيوان وفق خصوصيات الإنسان حيث لم نستطع التخلص من مركزيتنا العَنترية، وما لست داعيا بالعيش على طريقة الحيوان أو العودة إلى طريقة عيش أجدادنا، إذ لا يمكن ذلك البتة والمطلق، بقدر ما أدعو في هذا المقام إلى مراجعة أنفسنا وطرح سؤال العيش والحياة...  
       

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟