مفهوم السعادة بين النظرة اليونانية والإسلامية ـ عبد الحليم مستور

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Abstraction-1024x630تقـــــــــــــــديم عـــــــــام :
            لعل المتأمل في تاريخ الفلسفة، يدرك على أنه يتأرجح بين ثلاثة مباحث كبرى، مبحث انطولوجي يهتم بالوجود من حيث هو موجود، ومبحث ابستمولوجي يعنى بالقضايا التي تنتمي إلى المجال المعرفي وأخيرا مبحث اكسيولوجي يجعل من القيم موضوعا للدراسة. ويعد موضوع السعادة، إحدى المواضيع الفلسفية التي تضاربت حولها آراء الفلاسفة، واختلف في التنظير لها على مر عصور الفلسفة ، وبالأخص المرحلتين اليونانية والإسلامية، مما يضفي على المفهوم صبغة فلسفية، وقيمة معرفية.ويرجع تعدد دلالة ومعاني السعادة، إلى اختلاف المرجعيات الفكرية والمشارب الثقافية فضلا عن المكانة الاجتماعية التي يعتليها كل شخص. فهناك من يرى أن السعادة تكمن في حسن العيش والحياة الكريمة بامتلاك المال والثروات وتلبية الرغبات، وهناك من ينظر إليها باعتبارها سلوكا فاضلا، والمريض يراها في اكتساب الصحة، والغريب في العودة لوطنه، والوحيد في الصداقة، مما يجسد البعد الذاتي في تحديد السعادة، والتركيز على جانبها المادي الملموس. بيد أن واقع الحال يؤكد أن السعادة تشمل الجانب المادي كما الروحي، وإلا ما الغاية من الحديث عن تهذيب الأخلاق، والخلود إلى النفس والبحث عن الاطمئنان الروحي. وغني عن البيان، أن نعرج على الرابط العلائقي بين السعادة والأخلاق، بحيث نجد الغاية القصوى التي من أجلها كانت الأخلاق هي تحقيق وتحصيل السعادة، علاوة عن تحقيق الرفاهية الإنسانية والتي تتجلى أساسا في كمال إنسانيته. فإذا كانت الأخلاق ترتبط بالفرد وكيفية تحقيق سعادته، فإن السياسة تعقد أواصرها مع المدينة، وبحثها الدءوب في الرفع من شأن الجماعة الاجتماعية، انطلاقا من تحقيق سعادتهم العقلية والخلقية.


             وللخوض في مضمار مفهوم السعادة، لا يسعنا إلا الركون إلى الفلسفة الأرسطية لتبيان منزلة السعادة في فكره، باعتبارها فضيلة تتوسط الإفراط والتفريط، فالسعادة عنده مسألة إرادية في تحديدها للقصد، وعقلانية في تحديدها للوسائل الموصلة لهذا القصد، مما يعني أن السعادة فضيلة علمية وعملية. فإذا كانت الفلسفة الأرسطية توضح إلى حد ما نظرة اليونان لمفهوم السعادة على الرغم من بعض الاختلافات، فإننا لا نجد أدنى حرج في العودة إلى الفلسفة الإسلامية، قصد معرفة وجهة نظرها وكيفية تأصيلها وتقعيدها للسعادة، انطلاقا من هرمين فلسفيين لهما وزنهما في الساحة الفكرية. تبوأ ‘الفارابي’ من خلالها لقب المعلم الثاني. إذن كيف نظر "الفارابي" للسعادة ؟


للإجابة عن هذا الإشكال، لابد من الرجوع إلى كتابه “تحصيل السعادة“. الذي نستشف من خلاله أن غاية الإنسانية هي تحصيل السعادة الدنيا في الحياة الأولى، والسعادة القصوى في الحياة الأخرى، اعتمادا في ذلك على فضائل نظرية وفكرية وخلقية والصناعات العملية. وتحقيق السعادة يتوقف على نيل العلم والمعرفة. أما 'ابن مسكويه' فهو الأخر ينظر إلى السعادة بكونها فضيلة نفسانية ناطقة تنال بواسطة العلوم والمعارف، في حين أن الشوائب البدنية تصرف النفس الإنسانية عن فضيلة النفس هذه.


1- السعادة  عند أرسطو:
           يعد كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس" أهم الدراسات التي قام بها أرسطو في مجال الأخلاق بما فيها السعادة,فضلا عن "أخلاق أديمو ",و"الأخلاق الكبيرة ","ثم "رسالة في الفضائل "فهو يربط السعادة بتحقيق بالخير ".
           ترتبط السعادة في نظر "أرسطو" بتحقيق الخير، والسعادة تتحدد باللذة، والفضيلة التي تقود إلى السعادة ليست عاطفة أو قوة بل هي عادة إرادية: إتباع  الاختيار الذي يمليه التأمل والتمعن، فالقصدية المستقيمة هي ما يعطي للفعل الأخلاقي قيمته.  ولعل الظرف الخاص الذي ميز الإطار التاريخي لهذا النوع من الفكر، يجعل من الضروري المزج بين السعادة الذاتية وسعادة المدينة الدولة، وإيجاد انسجام وتناغم بين البعدين.
         لقد أكد "أرسطو" والفكر اليوناني على مركزية الصداقة في العلاقات الاجتماعية. فالسعادة الحقيقية سرعان ما تتحول إلى عشق ميتافيزيقي وإلى سعادة فكرية وروحية (تأثير سقراط وأفلاطون...) كما أن السلوك القويم وفق السعادة يرتبط بتصور فلسفي للسعادة وللنفس البشرية .  
          يشير 'أرسطو' إلى أن كل فن أو بحث أو تفكر يهدف عامة إلى تحقيق خير ما، لذلك كان من الأصح تحديد "الخير" كغاية نقصد إليها كيفما كانت الظروف.غير أن هاته الغايات متفاوتة وتضع لتراتبية معينة، كما أن هناك غايات عامة تحدد غايات ثانوية، أي أن الأولى هي التي تحدد معنى وقيمة الثانية. و في نفس السياق يؤكد 'أرسطو' على وجود غاية قصوى تمر عبر مجموعة من الغايات، ذلك أن الغاية القصوى هي ما تشكل الخير الأسمى.
ويخلص أرسطو إلى أن الخير الأسمى للإنسان هي السياسة، علما أن السعادة مسألة جماعية وليست فردية. فالتجربة الحياتية تلعب دورا في تهيئ المستمع للاستعانة ببعض المعارف، كعلم السياسة والأخلاق، إذ تبقى غاية هذه العلوم نفسها غاية عملية، أما "السفهاء"عديمو التجربة فلا فائدة من تقديم المعرفة السياسة والأخلاقية ين أيديهم. وحدهم الذين يخضعون سلوكاتهم لمعيار العقل وليس الدوافع والانفعالات أهل لهذه المعرفة.
         كما أن لكل شيء غاية، فالغاية القصدية للسياسة هي السعادة، ويقترح "أرسطو" كمنهج تركيبي يوصل إلى الخير الأسمى الانطلاق مما هو معروف نظريا وممارسة، وما هو نسبي ومطلق، لذلك فمن السهل محاورة وإقناع من له تجربة سابقة أخلاقية أو سياسة .
       يصنف "أرسطو" أنواع السعادة كالتالي:
          السعادة المرتبطة باللذة الحسية (حياة الملذات): ونجدها عند السواد الأعظم من الناس الأكثر غلظة (غير أن أرسطو لا يندد بها).
السعادة المرتبطة بأنواع الشرف والتشريفات:ونجدها لدى الطائفة السياسية والتي تجعل من الحياة السياسية موضوع نشاطها .
أما الصنف الثالث فهو الذي يقيم السعادة على أساس التأمل.


         يشير "أرسطو" إلى أن مسألة تحديد الخير تثير إشكالية الموضوعية ومراعاة المعرفة الحقة: فالحقيقة أمر مقدس، يجب أن تعلو على الآراء الشخصية خاصة بالنسبة للفيلسوف. ويقيم "أرسطو" مقارنة بين الإخلاص للصداقة والإخلاص للحقيقة، إذ يعتبر الإخلاص الأول أقل قيمة من الثاني. كما يعترف أرسطو بأن الخير مفهوم معقد وصعب التحديد، فهو كجوهر يمكن أن يعني "الخير الأسمى ",الإله والعقل .وكصفة يعني الفضائل، وكم يقصد به القياس العادل، وكعلاقة يشير إلى كل ما هو نافع. لذلك يمكن أن نحدد الخير من خلال عدة مقولات، لهذا تعددت أشكال الخير والمعارف والفنون الخاصة به. ويراهن أرسطو على تعريف الخير المستهدف في حد ذاته، وليس الخير من جهة المجموعات والأفراد أو الخير الوسائلي.
        يميز "أرسطو" بين الخير من حيث هو غاية لذاته، وما هو غاية وسائلية تدخل في برنامج تحقيق غايات أسمى، وهذا ما ينطبق على السعادة أيضا، فالشرف والمتعة والفكر ليست في نهاية الأمر إلا سبيلا يقود إلى السعادة ,فالسعادة كخير مطلق، تشمل الجميع (الآباء والأبناء,الأصدقاء والمواطنين)، باعتبار الإنسان كائنا اجتماعيا. فالأحاسيس والانفعالات شيء مشترك بين الإنسان والحيوانات لهذا لابد من وأن تكون للإنسان خاصية تميزه تتجلى في السعادة كقيمة.وهكذا يختص الإنسان بنوع مستمر للحياة ,هو نشاط الروح المرافق لأفعال معقولة وهو ما يجعل هذه الأفعال تحضى بصفتي الخير والجمال .


        إذا كانت السعادة ترتبط بالفضيلة بصفة عامة ,فإن الاستعداد الروحي للأخلاق لا يكفي، بل يجب إضافة الاستعداد المعرفي والعقلي، ممارسة وفعلا. وعلى سبيل المثال، لا يكفي للعداء أن يكون على قدر من الجمال والقوة، لا بد له وأن يشارك في مباريات العدو كي يستحق التنويه.
          تميل الروح حسب "أرسطو" إلى الأشياء المتسمة باللذة، والتمتع يختلف تبعا للميولات لدى الأفراد.غير أن غالبية الناس لا تتفق على تحديد واحد للذة .كما أن الفضيلة جميلة في حد ذاتها وعليه تكون السعادة بمثاية الخير الأسمى. مما يعني أن "أرسطو" لا ينفي أن تكون السعادة مرتبطة إلى حد ما بأنواع الخير الخارجية وموارد السعادة المادية (الصحة,الثروة,الجمال...).
          ويتساءل "أرسطو" إن كان بالإمكان تحصيل السعادة؟ يجيب "أرسطو" بالإيجاب,فهي عطاء إلهي، فضلا عن كونها استحقاقا نكتسبه عبر ممارسة الفضيلة وتعلمها. فالسعادة تدخل إذن في مجال الحقل النظري والعملي في نفس الوقت. كما أنها ترتبط في الأخير بعلم السياسة، أي أن تجعل من المواطنين أفرادا سعداء عن طريق ممارسة الصدق وحفظ الشرف. فالسعادة بهذا المعنى خاصية إنسانية تدخل الإنسان في بعد الألوهية.


            يشير "أرسطو" إلى صعوبة الإقرار بسعادة شخص ما بعد موته، لأن ذريته وسلالته هي التي قد تشقى بعد موته.فالإنسان متقلب الأحوال كالحرباء ,لذلك فمن العبث أن نربط السعادة بالأحوال المتقلبة للإنسان ,بل علينا أن نربطها بما هو قار و تابت. ومنه فالسعادة مسألة حكمة وتريث ,ومسألة عقل أو الجانب المتعقل في الروح.
          انطلاقا مما سبق نخلص مع "أسطو" إلى أن السعادة ترتبط بالسلوك وبالفعل آنيا وزمانيا، أي إخراج الفضيلة والسعادة من منطقة الصدفة والقدسية الميثولوجية أو النخبوية الأرستقراطية، فالفرد فاضل بسلوكه وليس بميراتها الرمزي. كما أن السعادة ترتبط بحاضر الإنسان، لكنه حاضر يستشرف الأفضل عبر توجيه السلوك حتى في وجه القدر ودوائر الحياة السلبية.   

2- تصور الفارابي للسعادة  ( 874 – 950 ):

              في مستهل كتابه “تحصيل السعادة“ يتحدث "الفارابي" عن الأشياء الإنسانية التي إذا حصلت في الأمم وأهل المدن، حصلت لهم بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى، والسعادة القصوى في الحياة الأخرى، أربعة أجناس : الفضائل النظرية والفضائل الفكرية والفضائل الخلقية والصناعات العملية .
             وغني عن البيان، أن الفارابي ينظر إلى السعادة، ليس في بعدها الفردي أو بالأدق السعادة الشخصية، وإنما الأمر يتجاوز ذلك إلى السعادة الجماعية التي تعلى بأهل المدن. فإذا كانت الفضائل النظرية هي مختلف العلوم التي يكون الغرض الأقصى منها أن تحصل الموجودات، وهذه العلوم منها ما يحصل للإنسان بشكل فطري، ومنها ما يحصل بتأمل ويأتي نتيجة فحص واستنباط، اعتمادا على التعليم والتعلم. فإن الغرض من ورائها هي التمكن من معرفة الغايات والكمال الأقصى الذي لأجله كون الإنسان، ومعرفة كذلك المبادئ الطبيعية التي في الإنسان. وبما أن الفضائل النظرية لوحدها غير قادرة على تحقيق كمال الإنسان، فإن محتاج إلى مبادئ نطقية وعقلية يتم بموجبها تحقيق كماله،انطلاقا من ميزة العقل التي تخول للإنسان التميز بين ما هو حق وما هو باطل، الخير والشر... وبالتالي التميز بين جميع الأشياء التي بها يبلغ الإنسان ذلك الكمال إذ ينتفع في بلوغها؛ وهي الخيرات والفضائل والحسنات ويميزها عن الأشياء التي تعوق الإنسان في بلوغ ذلك الكمال؛ وهي الشرور والنقائص والسيئات.


             وقد سلمنا سابقا، بأن الفارابي يبحث في الأشياء التي بها تنال السعادة لأهل المدن والاجتماع، كل واحد بمقدار ما له أعد بالفطرة. ويتبين له أن الاجتماع المدني، والجملة التي تحصل من اجتماع المدنيين في المدن، شبيه باجتماع الأجسام في جملة العالم ويتبين له أيضا في جملة ما تشمل عليه المدينة والأمة نظائر ما تشمل عليه جملة العالم. وفي هذا الصدد نجد "الفارابي" يقر بأن المعقولات الإرادية أو لنقول الأفكار الإرادية توجد في الروح في حين أن الأفكار الطبيعية التي تنتمي إلى علم المبادئ توجد في الجسد، وبالتالي السعادة غاية في ذاتها، ما دامت تطلب لذاتها بعيدا عن أية مصلحة حيث السعادة في نظره لا ترتبط بالبدن وليست إشباعا للذة بدنية، لأن هذا الإشباع هو فعل مشترك مع الحيوان لذا يصبح الفعل العقلي التأملي هو ما يميز الإنسان ، فالسعادة لا ترتبط بعالم الحس والجسد إنها لذة عقلية، لكن السؤال الأساس عند الفارابي هو كيف تحصل هذه السعادة، ما دامت غير متوفرة في عالم الحس والإحساس، لا نولد سعداء وإنما نصبح كذلك هو ما يعني أن تحصيل السعادة فعل مشروط بعملية عقلية تأملية تحترس من الجسد وتتجاوز رغباته.
    وهو ما يعني ممارسة فعل التفكير والتأمل والاحتكام إلى المنطق لأن السعادة، لا تحصل إلا بجودة التمييز بين الصحيح والخطأ ، لازم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي ننال بها السعادة ، وهي التي تحصل لنا بجودة التميز وكانت جودة التميز إنما تحصل بقوة الذهن على تحصيل الصواب وقوة الذهن تحصل متى كانت لنا قوة نقف بها على الحق فنعتقده  ونقف بها على الباطل فنتجنبه، بهذا تصبح السعادة أمرا إنسانيا مكتسبا ما دام الإنسان يملك عقلا يتأمل به،و بواسطته يستطيع الوصول إلى عالم الحكمة والمعرفة، فالحكيم وحده سعيد والجاهل حتما تعيس لأن ممارسة فعل التأمل والتفكير يعني لحظة خاصة في حياة الفيلسوف ، لحظة الخروج من عالم الحس ، وعدم الثقة في الجسد والابتعاد عن الإحساس، بالتأمل والتفكير يستطيع الحكيم أن يتصل بالعقل الفعال ويرى الصور النقية الخالصة الطاهرة قبل أن تمتزج بالمادة بعد نزولها إلى العالم الأرضي، وهو ما يعني مكانة الفيلسوف الوسائطية، بين عالم السماء وعالم الأرض، بذلك تصبح مهمته تنويرية  في الوقت ذاته. أي أن السعادة هي الخير المطلق ما دامت معرفة للحقيقة وكل ما يعوق الوصول إليها هو شر مطلق بالضرورة يكون هذا الوصول إلى الحقيقة عن طريق القوة الناطقة النظرية بعيدا عن القوى الأخرى مثل القوة الناطقة العملية أو القوة النزوعية أو القوة المتخيلة أو القوة الحساسة.


السعادة إنما تنال بالأشياء الجميلة وهذه الأخيرة لا تصبر ممكنة إلا بصناعة الفلسفة والتي تحصل بجودة التمييز وقوة الإدراك الذي من خلاله نميز بين الحق والباطل وبالصناعة التي تعنينا على ذلك هي صناعة المنطق الذي تقف عند الحق فتعتنقه ويقف عند الباطل فنتجنبه وبذلك تكون الفلسفة حسب الفارابي هي السبيل الوحيد لنيل السعادة باعتبارها أعظم الخيرات وأكمل الغابات التي يتشوق لها إنسان. وربما هذا التقسيم بين النفس والجسد راجع إلى الأدبيات الأفلاطونية، في خضم حديثه عن ثنائية النفس والجسد، في فلسفته الأخلاقية عندما أقر بأن الإنسان عليه أن يكون زاهدا بمطالب الجسد، لا بل عليه أن يقمعها ويتجاوزها ليحقق إنسانيته الفاضلة عن طريق الحكمة، والشوق الدائم إلى الاتصال بالحقائق الأزلية في عالم المثل حيث وجود النفس.


ويؤكد على أن كل إنسان محتاج لتدبير قوامهم وبلوغ أفضل كمالاته إلى جماعة يقوم كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه فلا يمكن للإنسان أن ينال كماله وسعادته إلا بالاجتماع بجماعة يسودها التعاون والتآزر يسمى الفارابي هذا النوع من الاجتماع الذي يتعاون على نيل السعادة "الاجتماع الفاضل" أما الجماعة التي يقصد الاجتماع فيها التعاون للظفر بالسعادة "المدينة الفاضلة" فهي بمثابة الجسد من جسم الإنسان الذي يتكون من أعضاء مختلفة تتعاون على حفظ توازن الجسد و بقاءه، فكذلك الشأن بالنسبة للجماعة التي لا غنى  لأعضاء ها عن التعاون والتآزر لنيل السعادة ولكي تكون هذه الجماعة فاضلة لا بد أن يقودها حاكم فاضل يجمع بين فضيلتي الحكمة والشريعة. وكما هو الشأن بالنسبة للفضائل النظرية، فإن الفضائل العقلية تستنبط  ما هو أنفع وأجمل باعتباره غاية قصوى عن طريق التعليم والتعلم. وبخصوص الفضيلة الخلقية، فهي مرتبطة بالفعل والممارسة ،التي  تكتسي صبغة خلقية كالشجاعة والقوة عند المجاهدين، وكذا سائر الصنائع التي تتغي غرض يهدف إلى كل ما هو خير، ويميز الفارابي بين الفضائل التي هي أعظم قوة، والجزيئات التي هي أصغرها قوة . فالفضيلة الفكرية التي هي أعظمها قوة والفضيلة الخلقية التي هي أعظمها قوة لا يفارق بعضها بعضا. وأن الفضيلة الفكرية الرئيسة جدا لا يمكن إلا أن تكون تابعة للفضيلة النظرية، وإذا اختلت إحدى هذه الفضائل فهي تؤثر لا محالة عن بقية الفضائل،ومنه عدم تحقيق الغاية القصوى وكمال الإنسان.


             علاوة عن كون السعادة، هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود،إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة...وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام في جملة الجواهر المفارقة للمواد وأن تبقى على ذلك الحال دائما وأبدا، إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال...وإنما تبلغ ذلك بأفعال لا إرادية بعضها أفعال فكرية وبعضها أفعال بدنية... وليست بأي أفعال اتفقت بل بأفعال محدودة... وذلك أن الأفعال الإرادية ما يفوق عن السعادة. وغني عن القول، بأن الأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل. وهذه خيرات هي لا لأجل ذواتها بل هي خيرات لأجل السعادة، والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور وهي الأفعال القبيحة والهيئات والملكات التي عنها تكون هذه الأفعال هي النقائص والرذائل.


          وعموما، يمكن القول على أن السعادة عند "الفارابي" هي “ الخير المطلوب لذاته وليست تطلب أصلا، ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيئا آخر... وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها’’.

3- السعادة عند ابن مسكويه:
                  بادئ ذي بدء، قبل التطرق إلى مفهوم السعادة، لا بأس من أن نعرج على خصائص فلسفة مسكويه الأخلاقية، حيث حاول أن يوفق  في فلسفته بين النظريات اليونانية وبين المنظور الإسلامي للأخلاق. فيكشف في كتابه المشهور “تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق“ عن ربطه بين الأخلاق والتربية، حتى نحصل لأنفسنا خلقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، ويكون ذلك بصناعة وتفكير تعليمي، متوخيا الوصول إلى تربية خلقية سليمة، ولكن وفق منهج تربوي مدروس. فالأخلاق عنده تحصل بالعادة والاكتساب، ويلزمنا شرط اجتماعي لتحقيق السلوك الأخلاقي، بمعنى أخر أن الحياة الأخلاقية الفاضلة لا تتم بطريقة منفردة بل تحصل بالاجتماع الإنساني. كما يرى انه لو فهمت الشريعة فهما صحيحا لكانت مذهبا خلقيا أساسه حب الإنسان للإنسان، فالدين رياضة للنفوس كي تحد من ذاتها في سبيل الآخرين. ومن ثمة، تكون الأخلاق الفاضلة هي الحكم الفصل في تحقيق السعادة الروحية على غرار السعادة المادية ، مما يدل على أن هناك مراتب للسعادة ، صنفها "ابن مسكويه" في مرتبتين أساسيتين: سعادة دنيوية وتظهر من خلال تعلق الإنسان بأحواله الجسمانية كالطعام والشراب مثلا مع تطلعه نحو الأمور الشريفة وسروره بها تلبية لحاجاته الجسمية بطرق وأساليب شريفة. فيذهب "ابن مسكويه" قائلا "صار الإنسان إنسانا، بأفضلية النفس الناطقة وليس النفس البهيمية التي هي أخس النفوس، ولا النفس الغضبية التي هي أوسطهم، فبالنفس الناطقة شارك الملائكة، وباين البهائم،فأهل الكمالات يتفاضلون بعقولهم وسعة معارفهم." (بتصرف) هذه النفس الناطقة هي أسمى النفوس تتصدر المرتبة الأولى حيث تكشف عن صنفان من السعادة وهي السعادة الأخروية أي السعادة الروحانية التي تتم في لذة التأمل والتجرد عن المادة .


فيخلص "مسكويه" أن السعادة جسمية ونفسية معا، لأن للإنسانية  طبيعة مزدوجة نفسية تعكس فضيلة روحانية  يناسب بها الأرواح الطيبة، وجسدية تنم عن فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام ،فهو إذن (الإنسان) مركب من خير جسماني يجعله يقيم في العالم السفلي،وإذا ما ظفر بمرتبة الكمال ارتقى بنفسه إلى مصاف العالم العلوي، ولا تتم السعادة له إلا بتحصيل العالمين معا. فالسعادة الدنيوية على حد قوله ناقصة نظرا لانطلاقها من عالم الحس، فلابد لصاحبها أن يتعرض للألم والحسرات، فعلى سبيل المثال، حتى نشعر بلذة الطعام يجب أن نشعر بألم الجوع. أما السعادة الأخروية هي الأكمل، فصاحبها يتمتع بالخير الأقصى وهو مقيم بروحه بقرب الملأ الأعلى ويستنير بالنور الإلهي، لذلك يكون خاليا من الألم والحسرات. والمرور بالمرتبة الأولى ضروري لبلوغ المرتبة الثانية التي تنعت بالكمال الأقصى.
ومادامت الأخلاق هي غاية السعادة ، فعلينا تهذيب الخلق وتقويمه لبلوغها ، وذلك بالبحث عن السبل الكفيلة للمحافظة عن الأخلاق السليمة، وهذا ما يسمى بالوقاية الأخلاقية. أما العلاج الأخلاقي فهو العمل على استعادة الأخلاق في حالة ضياعها.فالإنسان إما يكون طفلا وعندها يكون تهذيب خلقه حسب تعاليم الشريعة، وإما أن يكون راشدا، حينئذ ينبغي أن يعمل على حفظ صحته بمعاشرة أمثاله من الناس الأخيار وتجنب الأشرار. والتزام الحكمة ،وتحكيم العقل في التصرفات الشهوانية والغضبية. ومحاسبة النفس وكشف عيوبها، وإما أن يكون الإنسان ذا نفس مريضة. وهنا يتوجب عليه أن يجتهد في علاجها.


  استنــــــــــــتاج عام :
         لقد دأب الفلاسفة على التنظير والتقعيد لمفهوم السعادة، انطلاقا من تشبعهم الفكري والمعرفي الذي استمد من بيئتهم الثقافية.إلا أنه ورغم الاختلاف الحاصل في تعريفهم لذات المفهوم،فإن هناك إجماع على أن السعادة مرتبطة بالبعدين الذاتي والموضوعي المتمثل في إدراج السعادة في الجاني الإيطيقي والسياسي على حد سواء. وهذا ما ظهر بشكل جلي في الفلسفة الأرسطية التي أقرت بضرورة إلمام رجل السياسة بفضيلة السعادة. باعتبارها آلية تخول للإنسان الوقوف على جانبه الروحي والمادي، مما يعني أن السعادة عند "أرسطو" تجمع بين الجانب الفكري والعملي، كما أنها لا تبقى حبيسة  اللذة وإشباع الرغبات البدنية، وإنما الأمر يتجاوز ذلك إلى التحصيل العلمي والمعرفي. علاوة عن كون السعادة تتجسد في تحقيق الخير الأسمى. أما بخصوص الفارابي فهو الآخر لا يبتعد كثيرا عن الفكر الأرسطي، حيث عمل على جعل السعادة غاية تطلب لذاتها لا لشيء آخر غيرها، ويؤكد عن علاقة السعادة بالفضائل الأربعة من نظرية وفكرية مرورا بالخلقية فالصناعات العملية. وإذا كان الإنسان لا يولد سعيدا وإنما يصبح كذلك،فإن هاته السعادة لا تتحقق إلا في ظل وجود فكر تأملي. يسعى إلى إسعاد نفسه كما أهله وهذا ما  يتضح من التشبيه الذي أقامه الفارابي بين الجسم والمدينة، كما أقر على أن  السعادة لا ترتبط بسعادة البدن، وإنما الأمر يتعدى ذلك إلى سعادة العقل والفكر، التي لا تتأتى إلا بالتحصيل العلمي والمعرفي.ومن خلال كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق  لصاحبه "ابن مسكويه"، يتضح على أن هذا الأخير يقيم علاقة بين الأخلاق والتربية متوخيا من وراء ذلك الوصول إلى تربية خلقية، نتيجة التعلم والاكتساب وفق أسس وضوابط تربوية دقيقة ومضبوطة . ويرى أن الأخلاق لا تحصل بشكل إنفرادي، بقدر ما تحصل داخل الاجتماع الإنساني حتى تصل إلى مرتبة الأخلاق الفاضلة. ناهيك عن تقسمه للنفس الإنسانية إلى نفس عاقلة وغضبية وشهوانية، فإذا كانت العاقلة صفة بشرية والشهوانية صفة حيوانية،فإن الغضبية تتوسطهما.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟