التوجيه التربوي أداة للتفكير في المآل ـ المختار شعالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

mokhtar-cheaaliينحصر دور مدرستنا في اكتساب مجموعة من المعارف في مجالات متعددة انطلاقا من الاعتقاد أن امتلاك هذه المعرفة المجردة يمكن الأفراد من النجاح في الحياة. غير أن هذا المنظور قد تعرض منذ مدة لانتقادات متعددة ... وتتمثل أهم هذه الانتقادات في كون التلاميذ لا يدركون العلاقة بين ما يتعلمونه في المدرسة وما سيقومون به في الحياة بعد تخرجهم من النظام التعليمي. كما لا يجدون مغزى لوجودهم في المدرسة، ولا معنى للدروس التي تعطى لهم، كونها غير مرتبطة بحاجاتهم إلى فهم ذواتهم ومحيطهم والمآل، وبالتالي فإنها غير جديرة بالاهتمام وغير محفزة على التعلم.
     ذلك  أن التفكير في النجاح في الحياة المدرسية والتفكير في النجاح في الحياة المهنية في المستقبل يحدثان في أوقات منفصلة، حيث لا يتم التفكير في المستقبل إلا أثناء عتبات التوجيه أو بعد نهاية التمدرس، إذ يجد الفرد نفسه أمام نقص كبير في معرفة ذاته وحاجاته واهتماماته ومعرفة الإمكانات المتوفرة في محيطه والتطورات الحاصلة فيه، ونقص في تراكم تجارب وقدرات وخبرة في بلورة مشروع في التوجيه وفي الحياة.

   هكذا يبدو أن تجربة الحياة المدرسية لا تفيد في الإعداد للمستقبل، بحيث لا تتحمل المدرسة مسؤوليتها في مساعدة الأفراد على التخطيط  لمستقبلهم، والتدريب على توظيف مهاراتهم في التخطيط وتحويل أمانيهم إلى مشاريع، والتمرن على اعتماد استراتيجيات لتحقيق طموحاتهم، وبلورة خارطة طريق للولوج إلى الحياة العملية.
   ويترتب عن ذلك أن كثيرا من الاختيارات في التوجيه تتخذ بناء على معطيات واهية تنحصر في معايير نمطية، أو تحت تأثير الحتميات الاجتماعية والاقتصادية أو عن طريق الصدفة، وفي سياقات غير ملائمة تماما. وقلما تؤخذ هذه القرارات بناء على إعداد كاف، وفي سياقات تمكن من الوعي بالمحددات الذاتية والموضوعية المرتبطة بالاختيار، وبلورة هذه المحددات وتوضيحها ومفهمتها. وينتج عن غياب هذا الوعي والإعداد اتخاذ قرارات في التوجيه خاطئة في أغلب الأحيان. ويبدو أن التوجيه الخاطئ قد يشكل أكبر هدر للموارد البشرية. وللوقوف على ذلك يكفي إلقاء إطلالة على مردودية كثير من الناس وجدوا صدفة في مهن لا تلائمهم، إذ أضحت وبالا عليهم عوض أن تشكل مجالا لتحقيق الذات وفرصا للتعبير عن القدرات الإبداعية، وفضاء لمتعة الانتماء والإنجاز وعشق العمل والحياة.
.
 
     يعتبر التوجيه إذن أداة لتلافي هذا الهدر باعتباره، من جهة، آلية لمواكبة النمو الحاصل لدى الفرد من حيث مؤهلاته واهتماماته وحاجاته وقيمه وميولاته واختياراته الدراسية والمهنية. وباعتباره، من جهة أخرى، نافذة على العالم الخارجي وعلى المستقبل تمكن التلميذ(ة) والمدرسة من الإطلالة على التطورات الحاصلة في المحيط وإدراكها ومواكبتها. إنه إذن آلية للتفكير وطرح وفتح النقاش داخل المدرسة حول مسألة المآل والمصير سواء على مستوى كل فرد أو على مستوى الجماعة. وذلك عبر تنمية قدرات على تحليل وفحص المعطيات حول الذات وحول المحيط، وقدرات على التنبؤ واستشراف المستقبل وصياغة السيناريوهات والاحتمالات المستقبلية الممكنة. والعمل على إيقاظ الرغبة لدى المتعلم في الاهتمام بالمستقبل، وتسليحه بكل الوسائل والأدوات والمعارف والكفايات التي تمكنه من مواجهة الصعوبات والغموض الذي يحيط بكل اختيار في التوجيه وفي الحياة، باعتبار أن الفرد سوف لا يواجه مشكلات التعلم فحسب بل سيواجه أيضا مشكلات الاختيارات المتعلقة بالمآل والمصير.
    إن الأسئلة التي تطرحها إشكالية توجيه الأجيال الصاعدة تتعلق إذن بالاهتمام والتساؤل والانشغال بما سيقوم به الفرد في حياته المدرسية وفي حياته في المستقبل في ذات الوقت. إنها إشكالية البحث عن صيغ لوضع الإنسان المناسب في المكان المناسب الذي يمكنه من الإتيان بمساهمته الأصيلة في تطوير ذاته وتحقيقها وتطوير مجتمعه في نفس الآن. ويبدو أن اهتمام السلطات التربوية بهذه الأسئلة النوعية ما زال مؤجلا على الأقل في المستقبل المنظور (وإغلاق مركز التوجيه والتخطيط التربوي دليل على ذلك)، كونها ما زالت منشغلة بقضايا كمية سواء على مستوى التعليم العام أو على مستوى التأهيل المهني، حيث يغيب كليا في هذا الانشغال حضور الفرد/الإنسان ودعم مشروعه الشخصي في التوجيه وفي الحياة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟