مدخل موجز إلى علم الاجتماع (3): الاتجاهات الكلاسيكية في علم الاجتماع ـ ذ. إبراهيم بايزو

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

sociologie-illustration-Filliou-365x503في هذه الحلقة، سنحاول أن نتطرق إلى ثلاثة اتجاهات بصمت التاريخ النظري لعلم الاجتماع. وتشكل هذه الاتجاهات في مجملها وما تفرع عنها من مدارس مختلفة ما يسمى بالنظرية العامة لعلم الاجتماع. ومن هذا المنطلق، وقبل أن نعرض لجوهر مرادنا  في هذه الحلقة، أي بيان ما يميز كل اتجاه من الاتجاهات الرئيسية الثلاث والتي درج الباحثون على تسميتها بالاتجاهات الكلاسيكية تمييزا لها عن الإسهامات المعاصرة؛ قبل هذا نرى أنه من اللازم أن نتوقف عند مسألتين اثنتين هما:
ــ   توضيح دلالة عبارة "الاتجاه" وتمييز مدلولها عن مدلول لفظة "المدرسة".
ــ   تحديد معنى النظرية العلمية عموما وفي علم الاجتماع بشكل خاص.
ويتحدد غرضنا وغايتنا من تناول هاتين المسألتين في أمرين إثنين:

أ‌-      الأول: من أجل ضمان تيسير التواصل الفكري لأن المفهومات تشكل أول ركن أساسي في العمل العلمي.
ب‌-  والثاني: لأن نظرية علم الاجتماع لكي تكون كذلك يجب أن تكون علمية ومرتبطة بطابع العلم، ولهذا كان من الضروري تبيان كل ذلك من أجل امتلاك القدرة على التمييز بين مختلف الاتجاهات التي سنعرض لها أيها أكثر علمية وأقرب إلى علم الاجتماع من غيره.



3- الاتجاهات النظرية الكلاسيكية في علم الاجتماع:

1-    بين الاتجاه والمدرسة في العلم:

لتمييز الاتجاه عن المدرسة، ينطلق السوسيولوجي عبد الله إبراهيم من تحديد الفرق بين الاتجاه السياسي والحزب السياسي من خلال تقديم الجواب عن السؤال: "ما هو الفرق بين الاتجاه السياسي والحزب السياسي؟ ولماذا وجود أكثر من حزب سياسي داخل الاتجاه السياسي الواحد؟"[1]

ويقترح كاتبنا الجواب عن هذا السؤال كما يلي:

ــ   يعني الانتقال من الاتجاه السياسي إلى الحزب أو الحركة السياسية الانتقال إلى محسوس خاص، وأرض محسوس خاصة.

ــ   تختلف المحسوسات الخاصة، بين محسوس وآخر، وتختلف الأوضاع المحسوسة، بين وضع وآخر.

ــ   كل محسوس خاص، يقدم قضيته الخاصة، أو قضاياه الخاصة، على صعيد الفكر السياسي، وعلى صعيد الممارسة السياسية، داخل القواعد الفكرية السياسية العامة، وقواعد الممارسة السياسية العامة، العائدة إلى الاتجاه السياسي الواحد.

ــ   يقوم تعدد الاحزاب السياسية، داخل الاتجاه السياسي الواحد، على تعدد المحسوسات الخاصة وتنوعها.[2]

انطلاقا من هذا التصور للفرق بين الاتجاه السياسي والحزب السياسي في حقل السياسة، يتحدد الفرق بين الاتجاه والمدرسة في حقل العلم حيث يصير الانتقال من الاتجاه إلى المدرسة انتقالا من العام إلى الخاص، ومن الممارسة العلمية العامة إلى الممارسة العلمية الخاصة.  "فمع الاتجاه، تمارس وحدة المعرفة العلمية الحديثة، ومع المدرسة، يمارس التعدد داخل الوحدة."[3] فما المقصود بوحدة المعرفة العلمية وبالتالي المستوى الشمولي للمعرفة العلمية الحديثة؟ وفيما تتجلى الخصوصية التي ترسم نطاق المدرسة؟

الجواب نقدمه كما يلي:

ــ   يقصد بوحدة المعرفة العلمية الحديثة وجود مجموعة من التصورات ومنطلقات للنظر إلى المسألة العلمية تخترق مختلف التخصصات العلمية بحيث إنها تسم هذه الحقول المعرفية بوحدة زاوية ومنطلق النظر. وعليه فإن الاتجاه العلمي يمثل حقل التماثل بين الحقول والتخصصات العلمية في انتمائها إلى الكل المتمثل في تصور المسألة العلمية، وحضور هذا الكل في الأجزاء.

ــ   يتحدد نطاق المدرسة العلمية في نطاق التخصص العلمي. وفيها تتجلى خصوصية الموضوع والميدان والمنهج التي تميز كل تخصص أو حقل علمي على حدة؛ كما تتجلى فيها الخصوصيات المناطقية لجماعة ذات العلم الواحد وما تنتجه خصوصية المجتمع من تنوع وتعدد. وبعبارة مختصرة، تتجلى الخصوصية التي ترسم نطاق المدرسة العلمية في مجموع الخصوصيات العائدة إلى علم واحد من العلوم.

2-    مفهوم وخصائص النظرية العلمية في علم الاجتماع:

يكاد يكون هناك اتفاق على أن النظرية العلمية هي: "نسق فكري استنباطي متسق حول ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات المتجانسة يحوي إطارا تصوريا ومفهومات وقضايا نظرية توضح العلاقات بين الوقائع وتنظمها بطريقة دالة وذات معنى، كما أنها ذات بعد أمبيريقي، وذات توجه تنبؤي."[4] فالنظرية العلمية تتميز بمجموعة من الخصائص هي [5]:

أ‌-      إنها تمثيلات رمزية عامة.

ب‌-  إنها نسق من المفاهيم والقوانين المترابطة بالظواهر، ومن وظائفها أنها:

·       تشكل إطارا تفسيريا لمعطيات الواقع،

·       تمكن من وصف ما يحدث من ظواهر متنوعة.

·       تستعمل لتوجيه المعلومات العلمية.

·       تشكل قاعدة أو أساسا للتحليل.

ت‌-  تمكن من صياغة القوانين العلمية بطريقة مختزلة.

وإذا تبين المراد بمفهوم النظرية العلمية وخصائصها الأساسية يبقى أن نشير إلى أن النظرية العلمية في علم الاجتماع كي تكون كذلك يجب عليها أن:

أ‌-      تكون نظرية علمية متصفة بما أشرنا إليه أعلاه.

ب‌-   تعبر تعبيرا واضحا وشاملا عن موضوع علم الاجتماع.

ت‌-  تحمل طابع العلم الذي يميزه عن غيره من العلوم ممثلا في فكرته المركزية وحبكته في الفهم.[6]

3-    الاتجاهات النظرية الكلاسيكية في علم الاجتماع:

يبدو أنه من المفيد قبل الشروع في الحديث عن الاتجاهات النظرية الكلاسيكية في علم الاجتماع أن نشير إلى ثلاث مسائل أساسية هي:

ــ   المسألة الأولى: وتتعلق بكون تصنيف الاتجاهات النظرية عملية شاقة وغاية في التعقيد، ذلك أن المساجلات النظرية غالبا ما تكتسب طابعا تجريديا أكثر مما يغلب على الجدل الذي يدور حول التوجهات والبحوث الأمبيريقية.[7]

ــ   المسألة الثانية: مفادها أن هذا التنوع النظري الذي يميز علم الاجتماع ليس موطن ضعف فيه كما يرى البعض، بل إنه يدل على الغنى والتنوع والحيوية التي تمتاز بها الدراسات الاجتماعية عموما كما أنه يبعد العلوم الاجتماعية عن الاختزالية والتشدد.

ــ   المسألة الثالثة: وهي ذات شقين يتمثل الأول في أن التصنيف الدقيق هو الذي يستند إلى أسس منهجية ونوعية ذات ارتباط بموضوع نظرية علم الاجتماع؛ بينما يتمثل الثاني في أنه لا بد من توافر شروط أساسية في الاتجاه لكي يتم أخذه بعين الاعتبار في التصنيف وهذه الشروط هي: الوضوح والعمومية والتميز والتأثير في مسار العلم[8].

إن الاقتراح الذي نقترحه لتصنيف الاتجاهات في هذه المحاولة يركز على إسهامات المنظرين الأوائل في علم الاجتماع الذين كانت لهم إسهامات هامة متميزة وذات تأثير في تاريخ العلم. حتى إن الباحث في علم الاجتماع في هذا العصر لا يستطيع أن يتجاوز هذه الإسهامات. هذا المعيار الذي اخترناه يقودنا إلى تصنيف النظريات الاجتماعية إلى ثلاثة اتجاهات هي:

ــ   أولا: الاتجاه الوضعي ويضم إسهام كل من كونت ودوركايم وإلى حد ما ابن خلدون.

ــ   ثانيا: الاتجاه الفينومينولوجي ممثلا بالأساس في إسهام ماكس فيبر.

ــ   ثالثا: الاتجاه الماركسي نسبة إلى الإسهام النظري لكارل ماركس.

أ‌-       الاتجاه الوضعي:

تعد الوضعية مقاربة منهجية تحليلية، وهي تستند إلى ذات الفلسفة التي حكمت قانون الحالات الثلاث لأوجست كونت، وتقوم على استبعاد كافة أنماط التفكير والتحليل اللاهوتي والميتافيزيقي من أي تحليل، مستبدلة كل ذلك بالعقل العلمي. وترجع جذور الوضعية في حقيقة الأمر ليس إلى كونت بل إلى أستاذه المفكر سان سيمون حيث اتخذت طابعا تطبيقيا عمليا وليس نظريا كما كان سائدا في المرحلة التجريدية. وقد اعتمدت الوضعية عند هذا المفكر الذي لم يكن يفكر وينظر بمعزل عن واقعه على عناصر أساسية هي:[9]

ــ تحييد الدين والفكر اللاهوتي عن كل مشاركة في الحياة العملية.

ــ وضع أسس مشروع علمي وفكري ومعرفي يقوم على مبدأين أساسين هما:

أ‌-     مبدأ العلمية؛ فلا تعامل بعد الآن مع الظواهر والأشياء إلا من منظور علمي.

ب‌-     مبدأ العلمنة وفيه تحييد وإقصاء  صريح للدين ولأي تفكير ذي أساس لاهوتي.

هذه هي آليات التحليل العلمية التي ضمنَّها سان سيمون للمقاربة الوضعية وهي الآليات التي سنجدها مستعملة في النص الكونتي بطريقة أو بأخرى. وهذه أيضا هي الأرضية المعرفية والعلمية التي سينطلق منها أوجست كونت ليجعل من المقاربة الوضعية أكثر قربا من الواقع والتحليل.

ومبدئيا فالمقاربة الوضعية ستجمع بين مستويين رئيسيين:

ــ     المستوى النظري: عبر قراءة العلوم وتنظيمها وتثبيتها وهو ما قام به سان سيمون.

ــ     المستوى التطبيقي: وهو تطبيق عناصر المقاربة الوضعية في تحليل واقع المجتمع.

ومن هذه الأرضية المعرفية سينطلق أوجست كونت في ترتيب  بيت العلوم. فقد انطلق كونت من خلال قانونه للحالات الثلاث من الفوضى الفكرية التي يقول أنها سادت في عصره حيث إنه في الوقت الذي كان يتم التعامل مع الظواهر الطبيعية من منطلق وضعي، لا يزال التعاطي مع الظواهر الاجتماعية في إطارها اللاهوتي والتجريدي ولذلك كان همه هو ترسيخ التعامل الوضعي مع هذا النوع من الظواهر لأن ذلك هو المسلك الوحيد الذي يمكن أن يذهب حالة الفوضى السائدة.

ويقوم الاتجاه الوضعي في علم الاجتماع الذي أسس له عدة مفكرين لم نتحدث عن إسهاماتهم في تاريخ العلم أمثال سان سيمون وهربرت سبنسر وغيرهم، حيث ركزنا على أوجست كونت وإميل دوركايم لما لهما من دور ومكانة خاصة لدى الدارسين لعلم الاجتماع؛ يقوم هذا الاتجاه على مجموعة من المنطلقات والتصورات الخاصة به يمكن إجمال أهمها كما يلي:

ــ   التأكيد على أن لا مبرر للتميز بين نموذجين للعلم، أحدهما للموضوعات الطبيعية، والثاني للموضوعات الإنسانية والمجتمعية.

ــ   الموضوع الذي يدرسه علم الاجتماع يجب أن يكون شيئا خارجيا، أي يمكن التعرف عليه من الخارج وهذا ما أكد عليه دوركايم بتركيزه على ضرورة دراسة الظاهرات الاجتماعية كأشياء[10].

ــ   التشديد على ضرورة إحلال فكرة القانون محل القوى الخارقة للعادة التي تحكمت طويلا بتفسير الظواهر العلمية.

ــ   التأكيد على ضرورة إخضاع التخيل أو التصوير الفلسفي الذي كانت تقوم عليه المناهج القديمة إلى الملاحظة.

ــ   يستند منهج البحث الوضعي إلى إعطاء العلاقات التي تربط بين الظواهر الاجتماعية أهمية كبرى انطلاقا من أن الفلسفة الوضعية تعتبر نفسها مفسرة للكون ومظاهره وتسعى إلى الكشف عن طبائع الأشياء والقوانين التي تحكمها وهذا بخلاف المناهج القديمة التي لم تعطينا فكرة واضحة عن تحديدها للعلاقات بين مختلف الظواهر وعن الارتباط الحقيقي بينها.[11]

ــ   تنظر الوضعية إلى المجتمع باعتباره كلية اجتماعية تتكون من الأفراد الأحياء والأموات بكل ما تشتمل عليه من بنى ومؤسسات وعلاقات وتراث وسلوكات وثقافات تعبر بانصهارها جميعا عن كلية اجتماعية أو ما يمكن تسميته بـالوجود الاجتماعي. ويشدد كونت ودوركايم على تحليل القدرة الاجتماعية ليثبتا أن الاجتماع الإنساني هو الحالة الطبيعية للإنسان وبالتالي فان المجتمع مقدم على الفرد ولا يزول بزوال أفراده. فالفرد لا يعتبر عنصرا اجتماعيا ولا قيمة له إلا في الأسرة أو المجتمع لأن القوة الاجتماعية مستمدة من تضامن الأفراد ومشاركتهم في العمل وتوزيع الوظائف بينهم، ويمتاز دوركايم على كونت حين يشدد على "أن المجتمعات التي نعيش فيها وننتسب إليها تفرض قيودا وضغوطا مجتمعية على أفعالنا، وأن للمجتمع اليد العليا على الإنسان الفرد. وأن في المجتمع صلابة وثباتا مستقرا يشبه ما في البنى الموجودة في البيئة الطبيعية من حولنا"[12]. وبإيجاز، يؤكد الاتجاه الوضعي على أن الفردية لا يتحقق فيها أي شئ من المظاهر الجمعية دون امتزاج العقول وتفاعل وجدانات الأفراد واختلاف وظائف وتنوع الأعمال ذات الأهداف الواحدة والغايات المشتركة.

ت‌-  الاتجاه الفينومينولوجي:

في مقابل الاتجاه الوضعي، نشأ في ألمانيا بشكل خاص اتجاه مناقض تماما في نظرته لقضايا الاجتماع البشري لما آمن وشدد عليه دوركايم وكونت. وقد عرف هذا الاتجاه بالاتجاه الفينومينولوجي، ويؤكد أنصاره في تصوراتهم النظرية على ما تؤلفه التجربة الحية والخبرة الذاتية، ويصرون على تميز الظاهرة الاجتماعية عن الظاهرة الطبيعية، وأن الطبيعة ليست الإنسان وما يصلح لتعليل الطبيعة لا يصلح لتفهم ماهية الإنسان.

يعتبر ماكس فيبر المؤسس المشهور لهذا الاتجاه ورائده؛ لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن جذور هذا التصور ترجع إلى فلاسفة كبار أمثال هوسرل كما أن علماء اجتماع آخرين كانوا من رواد هذا الاتجاه وعلى رأسهم ألفريد شوتس تلميذ هوسرل وممثل الفينومينولوجيا في علم الاجتماع كما يؤكد عبد الله إبراهيم.[13]

ويمكن تلخيص أهم التصورات النظرية لهذا الاتجاه كما يلي:

ــ   يقع "المجتمعي" موضوع علم الاجتماع ممثلا في الأفعال الاجتماعية داخل ذوات الأشخاص وإدراكهم وفهمهم وتقييمهم لسلوك الآخرين. والخاصيات الخارجية للسلوك ليست أكثر من مؤشرات نصل عن طريقها إلى الموضوع الحقيقي لعلم الاجتماع[14]. بمعنى آخر لا يعتقد فيبر بأن للبنى الاجتماعية وجودا مستقلا عن الأفراد. بل إنه كان يرى أن البنى في المجتمع إنما تتشكل بفعل تفاعل تبادلي معقد بين الأفعال.

ــ   تتجلى المهمة الرئيسية لعالم الاجتماع في فهم النشاط الإنساني والاجتماعي وتأويله، أي العمل على الإحاطة بدلالة النشاط الإنساني والمعاني الكامنة وراء الأفعال الاجتماعية والتي يصبغها عليها الأفراد ما دام أن هذه الأفعال تملك معاني وأهدافا توجهها.

ــ   يأتي التفسير السببي بعد عملية الفهم المشار إليها أعلاه من أجل تأكيد نتائجها. وفي هذا الصدد يقول ماكس فيبر: "أصنع تفسيرا بعد أن أكون صنعت الفهم، أتأكد من الفهم بواسطة التفسير"[15]

ــ   من العناصر الأساسية في التحليل الفينومينولوجي لماكس فيبر مفهوم النموذج المثال وهي نماذج افتراضية قلما توجد في الواقع لكن غالبا ما تتضح جوانب قليلة منها في هذا الواقع. "وما يعنيه فيبر أن النموذج يمثل صورة صافية لظاهرة ما".[16]  وقد استخدم هذه النماذج المثالية في تحليل أشكال البيروقراطية والسوق.

ــ   لا يرجع ماكس فيبر التغير الاجتماعي إلى الصراع الطبقي كما يعتقد ماركس، بل إن العامل الحاسم في ذلك حسب نظره يتمثل في الآراء والقيم التي يحملها الأفراد دون أن يستبعد كليا دور الصراع القائم على أساس الطبقة.

ث‌-  الاتجاه الماركسي:[17]

يحيل الحديث عن الاتجاه الماركسي في نظرية علم الاجتماع إلى رائده كارل ماركس. وعلى الرغم من الإغفال الذي تعرضت له الماركسية بوصفها نظرية في المجتمع في إطار علم الاجتماع التقليدي الغربي لفترة طويلة إلا أن هذه النظرية كانت ولازالت تمارس تأثيرا كبيرا على المشتغلين في هذا الحقل المعرفي، بل إننا لا نكون مبالغين إن قلنا أن توجهاتها هي الأكثر انتشارا في الأوساط العلمية الغربية وغير الغربية في عصرنا هذا.

صحيح أن ماركس كما أشرنا في حلقة سابقة ليس عالم اجتماع فقط؛ إلا أننا هنا سوف نركز على نظرة الرجل إلى القضايا المتعلقة بالنظرية الاجتماعية لأغراض منهجية رغم ما يمكن أن ينطوي عليه ذلك من خطورة وصعوبة.

ويمكن إجمال أهم هذه التصورات النظرية الماركسية كما يلي:

ــ   إن الفكرة الأساسية التي تميز التصور الماركسي عن غيره هي فكرة التغير الجدلي، وتعني هذه الفكرة أن "التغير ينبع من الصراع بين العناصر المتضادة والمتناقضة".[18] وتحيل هذه الفكرة مباشرة على الحتمية التاريخية للصراع أي أن الصراع حسب ماركس هو الطريق الطبيعي لإحداث التغيرات الاجتماعية والتاريخية.

ــ   إن المشاكل والاختلالات التي يعيشها المجتمع الرأسمالي لا تعود إلى الأفراد وأخطاءهم، إنها تكمن في الأساس في النظام والبنية الاجتماعيين؛ وعليه فإن البحث الاجتماعي ينبغي أن ينصب على التحليل العلمي للمجتمع والنظام الاجتماعي كضرورة منطقية  لتحليل المشكلات الاجتماعية.

ــ   يؤكد ماركس على أسبقية الوجود الاجتماعي على الوعي الاجتماعي؛ ويحيل هذا التأكيد على التمييز الذي يقيمه هذا الرجل في البنية الاجتماعية بين ما يسميه النظم الاجتماعية الفعالة والمسيطرة والنظم الاجتماعية المترتبة أو المستجيبة. وفي هذا الصدد يؤكد ماركس على أن البنية الأساسية في المجتمع التي تتحكم وتسيطر على باقي البنيات بما فيها البنية الفوقية تتمثل في قوى الإنتاج والعلاقات الإنتاجية.

ــ   يعمل المجتمع حسب التصور الماركسي من خلال النظام الاقتصادي الإنتاجي ومن ثم فإن السيطرة على وسائل الإنتاج تحدد الوضع الاجتماعي والقوة الاجتماعية أي الوضع الطبقي في المجتمع وهو ما يخلق صراعا طبيعيا بين طبقة الذين يملكون (البورجوازية) وطبقة الذين لا يملكون (البروليتاريا) بحكم تناقض المصالح بينهما.

ــ   يعد مفهوم الاغتراب أحد المفهومات الرئيسية في السوسيولوجيا الماركسية، ويشير هذا المفهوم إلى حالة تتحول فيها العلاقة الطبيعية والسياق الطبيعي للأشياء إلى سياق غير طبيعي.[19] ويعتقد ماركس أن هناك علاقة طبيعية بين العمال وناتج عملهم تتمثل في الوحدة بين العمال كمنتجين وناتج العمل، لكن في النظام الرأسمالي يتم انتزاع فائض القيمة من العمال فيصبح العامل مغتربا عن عالمه الطبيعي حين يفقد ملكيته لناتج عمله. وببساطة، فإن الاغتراب يشير إلى أنه "في ظل النظام الرأسمالي يستنزف الرأسمالي جهود وقوى العامل ليحولها من خلال التبادل والتراكم إلى رأسمال يستخدمه في مزيد من الاستنزاف والتراكم الرأسمالي".[20]

[1] - عبد الله إبراهيم، الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع، ص: 16.
[2] - نفسه.
[3] - نفسه.
[4] - عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع. ص: 10.
[5] - عبد الكريم غريب، المنهل التربوي، ص: 953.
[6] - راجع ما أوردنا عن ذلك عند مناقشة قضية الموضوع وبناءه في علم الاجتماع في الحلقة السابقة.

[7] - أنتوني غيدينز، م.س.ص: 699.
[8] - عبد الباسط عبد المعطي،م.س.ص: 59.
[9] - أكرم حجازي، الموجز في النظريات الاجتماعية التقليدية والمعاصرة، دراسة منشورة في الشبكة العالمية للمعلومات.
[10] - راجع ما كتبناه عن قواعد الدراسة السوسيولوجية عند دوركايم.
[11] - أكرم حجازي،م.س.
[12] - أنتوني غيدينز ،م.س.ص: 702، بتصرف.
[13] - عبد الله إبراهيم، علم الاجتماع، م. س. ص: 70.
[14] - نفسه.
[15] نقله عبد الله إبراهيم في: علم الاجتماع، م. س. ص: 71.
[16] - أنتوني غيدينز، م. س. ص: 71.
[17] - هناك من الباحثين من يذهب إلى أن الماركسية ليست اتجاها قائما بذاته بل هي جزء من الاتجاه الوضعي، كما أن هناك من يعتقد أن الماركسية وإن كانت اتجاها متميزا إلا أنها لم تستطع أن تنتج مدارس داخلها لأسباب متعددة. ونحن نعتقد خلاف ذلك كله، إذ الماركسية رغم قربها من الوضعية والتقائهما في عدد من الجوانب إلا أنها تتميز عنها في كثير من الجوانب الجوهرية كما نشدد على أنه ضمن هذا الاتجاه نشأت مدارس متعددة. راجع في هذا الشأن مقالنا: نماذج من النظريات الماركسية في علم الاجتماع المعاصر، موقع أنفاس.
[18] - محمود عودة، م. س. ص: 101.
[19] - محمود عودة، م. س. ص: 104.
[20] - نفسه، ص: 105.


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟