المنهج الفقهي في التعامل مع النص والواقع من خلال كتاب الموافقات للإمام الشاطبي ـ إدريس حمادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

نفتتح هذا الموضوع بهذا السؤال: هل حقيقة أن للفقيه منهجا غير المنهج الأصولي في استنباط الأحكام الشرعية من الخطاب الشرعي؟ وإذا كان له منهج خاص به، فأي معنى وظيفي يبقى للمنهج الأصولي الذي وضع أساسا لهذا الغرض، أعني استنباط الأحكام الشرعية من الخطاب؟
أعتقد أنه لا سبيل للإجابة عن مثل هذا السؤال إلا بالإجابة عن سؤال آخر قبله وهو: من هو الفقيه؟ ومن هو الأصولي؟
إذا انطلقنا من فكرة مسلمة لدى علماء الشريعة وهي أن حافظ المسائل المدونة في كتب الفقه ليس بفقيه، بل هو فروعي، وأن الفقيه هو المجتهد الذي ينتج الفروع من أدلة صحيحة فيتلقاها منه الفروعي تقليدا ويدونها ويحفظها، "والفقيه كذلك على حد تعبير الإمام الغزالي هو ذلك الذي يستطيع أن يتكلم في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها"[1]، أما الأصولي فهو "من عرف القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية لأنه منسوب إلى الأصول.. ولا تصح النسبة إلا مع قيام معرفته بها وإتقانه لها"[2]، إذا اتضح هذا تبين لنا أن حديثنا هنا لن يكون شاملا لكل من الفقيه الحافظ والفقيه المجتهد والأصولي، بل يكون قاصرا على الفقيه المجتهد من جهة، والأصولي من جهة أخرى، لسبب بسيط هو أن كلا منهما ناطق عن نظر واستدلال. أما الآخر فهو مردد لما سمعه منهما[3].


من هذا التحديد لمفهوم الفقيه والأصولي يمكن أن نتساءل: هل من فرق بين الأصولي والفقيه حتى يكون لكل منهما منهج خاص يعتمده في مزاولة عمله الاجتهادي؟ أم أن الفرق منعدم ومن ثم لن يكون لهما إلا منهج واحد ينطلق منه كل من الأصولي والفقيه في استنباط الحكم الشرعي؟
لا سبيل للإجابة عن مثل هذا السؤال إلا إذا حاولنا تلمس الفروق الدقيقة بين العلمين: علم أصول الفقه، وعلم الفقه من جهة، وموضوع كل منهما من جهة أخرى، انطلاقا من أن كل منهج يجب أن يكون مشتقا من المادة التي يدرسها.
إذا رجعنا لتعريفات الأصوليين لعلم أصول الفقه، وتحديداتهم للموضوع الذي يبحث فيه وفعلنا مثل هذا في علم الفقه تبينت لنا جملة من المشتركات وجملة من المفترقات:

-أول المشتركات- أن الفقيه لا يكون فقيها حتى يكون عارفا بقواعد أصول الفقه، "إذ يستحيل وجود الفقه الصحيح دون استناده إلى قواعده التي تساعد على استنباطه، وتهدي إلى العثور عليه من أدلته، وهذه القواعد هي علم أصول الفقه"، أو بتعبير آخر "لا يوجد فقه صحيح إلا بواسطته ولا فتوى معتبرة إلا بمراعاة أصوله"[4]، ثم من جهة أخرى إن الأصولي لا يكون أصوليا حتى يكون عارفا بالفقه لأن "معرفة أصول الفقه تتوقف على معرفة الفقه، إذ يستحيل العلم بكونها أصول فقه ما لم يتصور الفقه"[5]، وأيضا فإن "الفقه مدلول أصول الفقه، وأصول الفقه أدلته، ولا يعلم الدليل مجردا عن مدلوله"[6]، أيضا علم أصول الفقه "فيه جزء كبير من الفقه للتمثيل"[7].

-ثانيها- بالرغم من أن كثيرا من الأصوليين والفقهاء ذكروا أن "موضوع أصول الفقه.. كله ثلاثة أجزاء: الأدلة، والاستدلال وهو باب التعارض والترجيح، وصفة المستدل وهو باب المجتهد والمقلد والمفتي والمستفتي، كما أن موضوع الفقه الأفعال من جهة أنها يعرض لها حكم شرعي في مكلف أو لا يعرض لها حكم شرعي كالنائم والساهي، وأسباب الأحكام والشروط والموانع، والحجاج الكائنة عند الحكام كالبينات والأقارير ونحوها"[8]، أقول بالرغم من هذا التمييز بينهما فإن من الأصوليين والفقهاء من ذكر أن موضوع كل منهما مشترك من حيث كان "الفقه مدلول أصول الفقه، وأصول الفقه أدلته، ولا يعلم الدليل مجردا عن مدلوله"[9]، وذكر أنه "إذا علم أن جميع مسائل الأصول راجعة إلى قولنا: كل حكم كذا يدل على ثبوته دليل كذا فهو ثابت، أو كلما وجد دليل كذا دالا على حكم كذا يثبت ذلك الحكم –على أنه يبحث في هذا العلم عن الأدلة الشرعية والأحكام الكليتين من حيث إن الأولى مثبتة للثانية، والثانية ثابتة بالأولى، والمباحث التي ترجع إلى أن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى: بعضها ناشئة عن الأدلة، وبعضها ناشئة عن الأحكام، فموضوع هذا العلم الأدلة الشرعية والأحكام، إذ يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأدلة الشرعية وهي إثباتها للحكم، وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي ثبوتها بتلك الأدلة"[10]. ولعل هذا هو ما عبر عنه الإمام الشاطبي بقوله: "كل مسألة تفتقر إلى نظرين: نظر في دليل الحكم ونظر في مناطه"[11].

هذا عن المشترك الذي يفرض أن يكون المنهج الذي ينطلق كل واحد منه في معالجة القضايا الشرعية موحدا.
أما عن المفترق الذي يفرض غير هذا، فيمكن تلمسه في ملحظين:
ـ الأول منهما أن الفقه في الأصول مقصود بالقصد الثاني، لا يلتجئ إليه الأصولي إلا من حيث الجملة أو بقصد التمثيل، والمقصود بالقصد الأول فيه هو الأدلة السمعية إذ منها تنتزع قواعد المنهج اللغوية والشرعية، بينما المقصود بالقصد الأول في علم الفقه هو الأحكام الشرعية من حيث هي ضابطة لأفعال المكلفين التي هي موضوع علمه، والمقصود بالقصد الثاني هو الأدلة من حيث كان نظره لا يتعلق بها إلا من جهة كونها مصدرا لتلك الأحكام التي هي موضوع اهتمامه.
ثم من جهة أخرى إن التركيز في علم أصول الفقه يقع على الإجمال في المعرفة بالأدلة وبالأحكام لأن علم أصول الفقه عبارة عن "أدلة الأحكام وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة لا من حيث التفصيل"[12]، بينما الفقه يقع التركيز فيه على المعرفة التفصيلية من حيث كان "الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية"[13]، أو هو "العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها، والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها"[14].

ـ الثاني أن اجتهاد الأصولي يتجه نحو تعميم الحكم الشرعي بحيث لا يختص به بعض دون بعض من المكلفين، ولا يختص به فعل دون فعل من أفعالهم حتى ولو كان النص خاصا، لأن "أصل شرعية القياس لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة عام الصيغة في المعنى"[15]، بينما اجتهاد الفقيه يتجه نحو التخصيص حتى ولو كان النص عاما، لأنه لا معنى لتحقيق المناط وتنزيل الحكم على محله إلا "النظر فيما يصح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد"[16]، أو بتعبير آخر، النظر في كل نازلة على حدتها "لأن كل صورة من صور النازلة، نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا، وهو نظر واجتهاد أيضا"[17].

انطلاقا من المشترك والمفترق بينهما يمكن للباحث أن يقرر أن للفقيه المجتهد منهجا عاما يشترك فيه مع الأصولي، ومنهجا خاصا ينفرد به، ومن ثم وجب لتشخيص المنهج الفقهي الحديث عن كل منهما.

المنهج العام:

أما بالنسبة للمنهج العام الذي هو عبارة عن القواعد الأصولية فسنكتفي برسم خطوطه العريضة في الجمل التالية، إذ هو ليس ما نهدف إليه هنا.
قلنا من قبل إن كل منهج يجب أن يكون مشتقا من المادة المدروسة، وقلنا أيضا إن المادة المدروسة في كل من الفقه والأصول هي الأدلة من جهة، والأفعال أو الأحكام الشرعية المتعلقة بها من جهة أخرى من حيث كان "الفقه مدلول أصول الفقه، وأصول الفقه أدلته، ولا يعلم الدليل مجردا عن مدلوله".
لما كان الأمر كذلك كانت القواعد الأصولية التي ترسم طريق التفكير للمجتهد تأخذ بعدين: بعدا يكون الفكر فيه مرتبطا بالأدلة المثمرة للأحكام، إذ منها ينتزع قواعده اللغوية والشرعية المحددة للتعامل مع النص، وبعدا يكون الفكر فيه مرتبطا بالأحكام الشرعية باعتبارها ضابطة لسلوك الأفراد داخل المجتمع الإنساني.
بالنسبة للبعد الأول وجدنا الأصوليين بعد تحليلهم للخطاب إلى عناصره اللغوية: عام، خاص، مشترك-نص، ظاهر-مجمل، مؤول، يجملون أبعاد دلالة الخطاب في ثلاثة فنون: المنطوق، والمفهوم، والمعقول، من حيث كان "اللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه، أو بفحواه ومفهومه، أو بمعناه ومعقوله وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا"[18] واستصلاحا، أو بتعبير آخر: "إن "دلالة الألفاظ على الشيء إما أن تكون بطريق التعليل أو اللغة…" باعتبار أن ليس هناك من فرق بين العلة والدلالة في الإرشاد إلى الحكم وإيجابه، لأن التنبيه بطريق التعليل من اللغة، كما أنه بطريق الوضع من اللغة"[19]، ثم إن لكل فن من هذه الفنون مستويات في الدلالة على الأحكام...

هذا بالنسبة للبعد الأول من المنهج العام المرتبط بالخطاب، وأما بالنسبة للبعد الثاني المتعلق بالواقع أو بالمخاطب وأفعاله، فنجد الأصوليين بالرغم من أنهم لم يعتنوا به عنايتهم بالبعد الأول باعتباره مقصودا بالقصد الثاني فهم مع ذلك قد رسموا الخطوط العريضة للتعامل معه في محطات متفرقة من علم أصول الفقه.

فهناك محطة حددوا لنا فيها نوع المخاطب (الحاكم) الذي يكون خطابه ملزما (خطاب الله –خطاب الرسول- خطاب الأمة)، ومحطة حددوا لنا فيها نوع المخاطب أو ما أسموه بالمحكوم عليه أو المكلف بشروط تتمثل في العقل والإرادة والقدرة باعتبار أن المخاطب لا يكون مخاطبا إلا بتوافر هذه القدرات فيه، ومحطة حددوا لنا فيها نوع الفعل المكلف به باعتبار أنه لا تكليف إلا بفعل، ومحطة حددوا لنا فيها المنهج المتبع في تحقيق المناط أي تحديد ملامح النازلة التي يراد تنزيل الحكم عليها. ثم أخيرا ما عبروا عنه بالنظر في مآلات الأفعال باعتبار "أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك"[20].
هذا عن ملامح النهج العام الذي يشترك فيه كل من الأصولي والفقيه المجتهد والذي هو ضروري بالنسبة إليهما جميعا، إذ عن طريقه سمي الأصولي أصوليا وعن طريقه أمكن للفقيه أن يصبح مجتهدا.

المنهج الخاص:

أما عن المنهج الخاص الذي ينفرد به الفقيه وهو الذي سنتناوله بالتفصيل ومن أجله كان هذا المبحث فيمكن القول عنه:
إذا تقرر أن نظر الفقيه في استنباط الأحكام الشرعية يتجه اتجاهين، اتجاها نحو الأدلة أو الخطاب باعتباره مصدرا تتلقى منه الأحكام، واتجاها نحو الواقع أو المخاطب وأفعاله باعتباره مقصد الخطاب، إذ الشريعة لم تأت لتعمل في فراغ بل جاءت لتقويم سلوك المخاطبين، أو بتعبير آخر، إذا تقرر أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين: نظر في دليل الحكم ونظر في تحقيق مناطه، فإن منهج الفقيه بهذا الاعتبار يتفرع إلى فرعين كالمنهج العام تماما: فرع خاص بتحديد مستويات دلالة الأدلة المثمرة للأحكام (الخطاب) وفرع خاص بتحديد نوع المخاطب المهيأ لتنزيل الحكم عليه أو تحديد نوع الفعل المطلوب منه.

بالنسبة للفرع الأول وجدنا الإمام الشاطبي يذكر: أن "للغة العربية –من حيث هي ألفاظ دالة على معان- نظران: أحدهما من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة دالة على معان مطلقة، وهي الأدلة الأصلية، والثاني من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة وهي الدلالة التابعة"، أي أن "كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به، ونفس الإخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب"[21].

في ظل الدلالة الأصلية والدلالة التابعة يرسم الشاطبي ملامح المنهج الواجب اتباعه في فهم الخطاب، حيث يرى أن الخطاب في حال دلالته على المعنى الأصلي المجرد عن القرائن، يكون لا إشكال ولا خلاف في اعتبار دلالته على الأحكام كالأوامر والنواهي والعمومات والخصوصات وما أشبه ذلك[22].

ويرى كذلك أن لا إشكال في استفادة الأحكام من الخطاب في حال ما إذا ارتبطت بصيغه قرائن محددة للمقصود منه، لأنه في هذه الحال "صار.. للاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع وهي التي وقع الكلام فيها وقام عليها الدليل في مسألتنا"[23].

وبذلك يلاحظ أن للخطاب دلالتين أصليتين: دلالة حقيقية وضعية، ودلالة عرفية استعمالية، أو بعبارة أخرى أصالة الواضع وأصالة المتكلم.
نعم يكون الإشكال حاصلا في حال ما إذا دل الخطاب على معنى تبعي خادم للمعنى الأصلي في بعديه الوضعي والاستعمالي، هل تختص استفادة الأحكام منه بجهة المعنى الأصلي فقط؟ أو بالجهتين معا؟
هذا سؤال يجيب عنه الإمام الشاطبي بعد مناقشة مستفيضة للمسألة في وجهيها بما يلي، قال: "إن الجهة الثانية من جهة القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى، وما دلت عليه هو المعنى التبعي زيادة على المعنى الأصلي وهو المطلوب"[24]، أو بتعبير آخر له: "إن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع فكيف يصح الاستدلال بما هو معترف بعدم مقصوديته"[25]، ويقول أيضا: "فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت، فلا يصح إعماله البتة، إذ لا استقلال لهذه الجهة بالدلالة على حكم شرعي فالصواب إذن القول بالمنع مطلقا"[26].

هذا ورغم هذا الشرح البين فإنه يعود للمسألة في فصل لاحق ليؤكد من جديد ما ذهب إليه، ولكن بأسلوب آخر فيه نوع من التثبيت لما سبق والدفع لما قد يتوهم فيها من وجه دلالة بقوله: إن الناظر "ربما أخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي هي آداب شرعية وتخلقات حسنة يقر بها كل ذي عقل سليم، فيكون لها اعتبار في الشريعة، فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا"[27]، ثم يزيد الأمر إيضاحا لهذا الإشكال بأمثلة عديدة منها:

أن القرآن الكريم أتى فيه الكناية في الأمور التي يستحيا من التصريح بها، ككنايته على الجماع باللباس والمباشرة، وكنايته عن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط، أو بنحوه في قوله تعالى: "كانا يأكلان الطعام".
ومنها أيضا أن من "الأدب في المناظرة ألا يفاجئ بالرد كفاحا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة كما في قوله تعالى: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية"[28].
ومنها الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى وإن كان هو الخالق لكل شيء كما قال بعد قوله: "قل اللهم مالك الملك توتي الملك من تشاء" إلى قوله: "بيدك الخير" ولم يقل "بيدك الخير والشر" وإن كان قد ذكر القسمين معا..
ثم يقول بالرغم مما قد يخيل للناظر في هذه الأمثلة وغيرها "أن الجهة الثانية يستفاد بها أحكام شرعية وفوائد عملية ليست داخلة تحت الدلالة بالجهة الأولى "فإنه يعود ليبطل مثل هذا التخييل بقوله: "إن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني وإنما استفيد من جهة أخرى وهي جهة الاقتداء بالأفعال"[29] باعتبارها مصدرا تتلقى منه الأحكام كالأقوال تماما.

هذا بالنسبة للفرع الأول المتعلق بمستويات دلالة الخطاب من جهة المعاني اللغوية، وأما بالنسبة للفرع الثاني المتعلق بالمخاطب أو بفعله فيرى الشاطبي "أن اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين: أحدهما الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحل مجردا من التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسن النكاح وندب الصدقات غير الزكاة وما أشبه ذلك، والثاني الاقتضاء التبعي وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام أو لمن يدافعه الأخبثان، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي"[30].

في ظل الاقتضاء الأصلية والتبعي يرسم الإمام الشاطبي أيضا ملامح الخطوات الواجب اتباعها "بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه"[31] فيرى أن الخطاب:
أ-إما أن يكون واقعا على محل مجرد من التوابع والإضافات، فالناظر فيه في هذه الحالة له أن يفرد الدليل بمقتضى ما يدل عليه في الأصل[32]، وله أن يأخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع، وقد سلك هذا المسلك كثير من الفقهاء ففرضوا صورا كثيرة عن طريقها عظمت أجرام الدواوين وأعداد المسائل". ومثله المفتي فإنه يصح له لو سئل عن مناط مطلق أن يجيب السائل بمقتضى الأصل "ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز"[33].
ويرى أن نهجه في كلتا الحالتين لا يغير من الاقتضاء الأصلي شيئا، لأنه "لا يظهر فرق بين الأخذين لأن فرض الوقوع المعتاد لا يغير شيئا"[34] أي لا يخرجه إلى الاقتضاء التبعي الذي تراعى فيه العوارض والإضافات.
ب-وإما أن يكون الخطاب قد وقع على محل معين مثل أن تنزل الآية أو يجيء الحديث على سبب معين، أو يتوهم أن بعض المناطات مثل قوله تعالى "فسوف يحاسب حسابا يسيرا" داخل في حكم قوله صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عذب"، فيبين الرسول عليه الصلاة والسلام أنه غير داخل لأن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه، أو يتوهم أن بعضها خارج عنه مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ وقد جاء فيما نزل علي: استجيبوا لله وللرسول الآية" في حين أن الأمر على خلاف ذلك، أو يقع اللفظ المخاطب به مجملا فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه، مثل قوله تعالى: "أقيموا الصلاة".. فإن الفقيه في مثل "هذه المواضيع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة"[35]. وبذلك كله يكون قد جسد الاقتضاء الأصلي.

ج-أما إذا كان الخطاب ليس واقعا على ما يقتضيه في أصله بل واقعا على محل يتضمن توابع وإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء، ووجوبه على من خشي الزنا، وتحريمه على من أصيب بمرض معد.. فإن تصرف الفقيه في هذا النوع من الاقتضاء يأخذ بعدين:
بعداً يرتبط فيه بالأنواع بمعنى أن النظر فيه ينصب على "تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما"[36] كأن ينظر الفقيه في الشخص من جهة العجالة "فيجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له فإنه يوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول من الشهادات والانتصاب للولاية العامة أو الخاصة، وكأن ينظر في الأوامر والنواهي الندبية والأمور الإباحية، ويجد المكلفين والمخاطبين على الجملة، فإنه يوقع عليهم أيضا أحكام تلك النصوص، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة (المتجلية في العقل والإرادة والقدرة) فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في النظر"[37].
والفقهاء قد فرعوا على هذا النوع من النظر الخاص بتحقيق المناط العام مسائل منها قولهم في قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا"، "إن الآية تقتضي مطلق التخيير، ثم رأوا أنه مقيد بالاجتهاد: فالقتل في موضع، والصلب في موضع، والقطع في موضع، والنفي في موضع، وكذا التخيير في الأسارى من المن والفداء، وكذلك جاء في الشريعة الأمر بالنكاح، وعدوه من السنن ولكن قسموه إلى الأحكام الخمسة، ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظرا نوعيا فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي فالجميع في معنى واحد، والاستدلال على الجميع واحد، ولكن قد يستبعد ببادي الرأي وبالنظر الأول، حتى يتبين مغزاه ومورده في الشريعة. وما تقدم وأمثاله كاف للقطع بصحة هذا الاجتهاد، وإنما وقع التنبيه عليه لأن العلماء قد نبهوا عليه على الخصوص"[38].

وبعداً يكون النظر فيه مرتبطا بالأشخاص لا بالنوع، بمعنى أن النظر في تحقيق مناطه يكون أعلى مما سبقه وأدق منه لأنه "نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل"[39]، "فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، لكن ما ثبت عمومه في التحقيق الأول، ويفيد به ما ثبت إطلاقه في الأول، أو يضم قيدا أو قيودا لما ثبت له في الأول بعض القيود. هذا معنى تحقيق المناط هنا"[40]. ثم يضرب أمثلة عديدة لهذا النوع الخاص من التحقيق، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم "سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله. قال: ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله. قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور". و"سئل عليه الصلاة والسلام: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، قال ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله".. ومنها ما جاء في البزار: "يا أبا در ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما"، وفي مسلم، "أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. وفيه سئل أي الإسلام خير؟ قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"، وفي الصحيح، و"ما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر"، وفي الترمذي: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". وفيه: "أفضل العبادة انتظار الفرج"، إلى أشياء من هذا النمط، جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق، ويشعر إشعارا ظاهرا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو حال السائل"[41].

بقي أن نشير إلى أن الإمام الشاطبي يرى "أن الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه، وللشريعة بهذا النظر مقصدان: أحدهما المقصد الاستعمالي العربي الذي أنزل القرآن بحسبه"، "والثاني المقصد الاستعمالي الشرعي الذي تقرر في سور القرآن بحسب تقرير قواعد الشريعة"[42]، بمعنى أن المقاصد إنما تحدد بواسطة السياق في بعديه اللغوي والشرعي.

أما ضرورة السياق اللغوي فلأننا نجد "مما فطرت عليه (العرب) من لسانها، تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه، والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، وآخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا يرتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها"[43].

وأما ضرورة السياق الشرعي فلأن الفقهاء رأوا أن مقصد الشارع لا يتم التعرف عليه إلا عن طريق تجميع النصوص الواردة في القضية المبحوث فيها سواء كانت تلك القضية قد ذكرت في سورة من الخطاب أم في سور منه، بل حتى لو ذكرت في أنواع الخطاب من كتاب وسنة وإجماع فإن نظر الباحث يلاحق سائر أجزائها، ذلك لأن ضابط النظر في هذا المقصد هو "الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية، وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده"[44]، ولذلك نجد الفقيه غالبا ما يحدد الحكمة من الباب في مطلعه.

مجال الاجتهاد الفقهي وطريقته:
هذا على مستوى فهم الخطاب وتحقيق المناط، أما على مستوى تحديد مجال الاجتهاد وطريقته فيلاحظ أن الإمام الشاطبي كذلك قد فرع الحديث فيه إلى فرعين: فرع يتعلق النظر فيه بما تقتضيه الألفاظ من أحكام في علاقتها بمحالها، وفرع يتعلق النظر فيه بما تقتضيه المعاني الشرعية(العلل) من محال يتعلق بها الحكم وهو الدائر بين الأصول والفروع[45].
بالنسبة للفرع الأول المتعلق بالمعاني اللغوية أو بالاجتهاد البياني يرى أن "محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين: وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات"[46]. أو بتعبير آخر له: "إن محال الخلاف دائرة بين طرفين نفي وإثبات ظهر قصد الشارع في كل واحد منهما، فإن الواسطة آخذة من الطرفين بسبب هو متعلق الدليل الشرعي فصارت الواسطة يتجاذبها الدليلان معا: دليل النفي ودليل الإثبات فتعارض عليها الدليلان فاحتيج إلى الترجيح، وإلا فالتوقف وتصير من المتشابهات"[47]. بمعنى أن الخطاب في اقتضائه لأفعال المكلفين طلبا أو نهيا لا يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة: واضح وضوحا جليا لا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو الإثبات وهو الذي أسماه بالقطعي، ومتردد بين الطرفين القطعيين لاحتمال فيه وهو الذي أسماه بالإضافي نظرا "لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين (النفي والإثبات) فيقرب عند بعض من أحد الطرفين، وعند بعض من الطرف الآخر، وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات، فهو غير مستقر في نفسه فلذلك صار إضافيا لتقارب مراتب الظنون في القوة والضعف"[48]، وهذا هو القسم المجتهد فيه، ويضرب له أمثلة عديدة بقصد التأنيس والاستعانة على فهمه منها:

أنه "نهى عن بيع الغرر، ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء والسمك في الماء.. وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين، وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث. وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري، فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره لكثرته في الأول (مع إمكان الانفكاك عنه) وقلته مع عدم الانفكاك عنه في الثاني، فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين آخذة بشبه من كل واحد منهما، فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة ومن منع مال إلى الجانب الآخر"[49].
ـ ومن ذلك أنهم "اتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق، وصار المجهول الحال دائرا بينهما، فوقع الخلاف فيه..
ـ "واتفقوا على أن الحر يملك، وعلى أن البهيمة لا تملك، ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه، هل يملك أم لا؟ بناء على تغليب حكم أحد الطرفين..

ـ واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل في البيع، وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت، واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة..
فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها لأنها دائرة بين طرفين واضحين فحصل الإشكال والتردد، ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به في العقليات أو في النقليات لا مبنيا على الظن ولا على القطع إلا دائرا بين طرفين لا يختلف فيها أصحاب الاختلاف"[50].
أقول بعد أن يوضح الإمام الشاطبي المناطات القابلة للاجتهاد توضيحا كافيا في موضع من كتابه نجده في موضع آخر منه يوضح طريقة التعامل مع هذا القسم الإضافي القابل للاجتهاد، فيذكر من جهة العموم "أن الشارع إذا قال: وأشهدوا ذوي عدل منكم" وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة، وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا، فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة: طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر رضي الله عنه، وطرف آخر هو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف كالمجاور لمرتبة الكفر.. وبينهما مراتب لا تنحصر، وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بلوغ حد الوسع وهو الاجتهاد، فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد.
كما إذا أوصى بما له للفقراء فلا شك أن من الناس من لا شيء له فيتحقق فيه اسم الفقر فهو من أهل الوصية ومنه من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا، وبينهما وسائط كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له فينظر فيه هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى، وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات، إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه، والمنفق وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها"، "وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات وقيم المتلفات"[51].

كما يذكر من جهة الخصوص أن الأوامر والنواهي المطلقة وإن كانت ظاهرا على وزان واحد وحكم واحد فإنها في الحقيقة ليست على وزان واحد ولا على حكم واحد بل هي "بحسب كل مقام وعلى ما تقتضيه شواهد الأحوال في كل موضع"[52]. فالإحسان في قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" ليس مأمورا به أمرا جازما في كل شيء ولا غير جازم في كل شيء بل هو ينقسم بحسب المناطات، فإحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب وإحسانها بتمام آدابها من باب المندوب، وكذلك يقال في إحسان القتلة في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة"[53].
والأمر كذلك في العدل فإنه لا يصح أن يقال إنه أمر إيجاب أو ندب بإطلاق، بل يفصل الأمر فيه، ومن أجل هذا قيل: إن الأوامر والنواهي المتعلقة بالأمور المطلقة ليست على وزان واحد بل منها ما يكون من الفرائض أو من النوافل في الأمورات، ومنها ما يكون من المحرمات أو من المكروهات في المنهيات، لكنها وكلت إلى أنظار المكلفين ليجتهدوا في نحو هذه الأمور"[54].
هذا وحتى لو كان المحل الذي وقع عليه الدليل معينا فإن تعيينه لا يعفي من تحقيق المناط الجديد الذي يراد تنزيل الحكم عليه انطلاقا من أن "لكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ولا هو طردي بإطلاق بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل؟ فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب، وهذا كله بين لن شدا في العلم"[55].
ومثاله إن الأوامر والنواهي وإن أتت في أقصى مراتبها "من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك"[56] مثل قوله تعالى: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"[57] وقوله تعالى: "إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم"[58]، فإنه مع ذلك يكون للعقل مجال من النظر فيها، إذ بتنصيص الخطاب على تلك الغايات يكون قد نبه بها على ما هو دائر بين طرفيها، فينظر العقل "فيما بينها بحسب ما دله دليل الشرع، فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين، كي لا يسكن إلى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم أو مظنة الرجاء لقربها من الطرف المحمود، تربية حكيم خبير"[59].

أما الفرع الثاني فيتمثل في "مجال القياس الدائر بين الأصول والفروع"[60] الذي هو العلة باعتبارها القنطرة التي يتم عن طريقها العبور من الأصول إلى الفروع. والاجتهاد فيها يأخذ بعدين: بعدا يتعلق بالأصل وهو ما اصطلحوا عليه بتخريج المناط وتنقيحه، أي تعيين وصف للتعليل من أوصاف مذكورة أو تخريجه بالاجتهاد إذا لم يكن مذكورا. وبعدا يتعلق بالفرع وهو تحقيق المناط أي بيان وجود علة الأصل في الفرع.. وبذلك يتجلى أن الفقيه يتردد بين طرفين، النص من جهة والواقع من جهة أخرى. كقياسه عليه الصلاة والسلام تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها في النكاح على تحريم الجمع بين الأختين، لأن ما ورد في الحديث من التعليل في قوله: "فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" يشعر بذلك. وقياسه ماء البحر في قوله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" على غيره من مياه الأمطار أو المياه الساكنة في الأرض بجامع وصف الطهور في كل منهما "وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا". وقياسه سائر القرابات من الرضاعة اللاتي يحرمن من النسب كالعمة، والخالة، وبنت الأخ وبنت الأخت، على ما نصت عليه الآية: "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة" بجامع نفي الفارق بينهما، وقضائه صلى الله عليه وسلم باليمين والشاهد قياسا على الشاهدين أو الشاهد والمرأتين...

وبذلك يتجلى أن نظر الفقيه ينصب دائما على ما تردد بين طرفين النفي والإثبات (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات) في مستوى، والأصول والفروع في مستوى آخر، وأن استنباط الحكم لا يتم إلا بترجيح قربه من أحد الطرفين أو بالتأكد من وجود علة الأصل في الفرع.
وأخيرا يتوج الإمام الشاطبي كل ما مر بضابط آخر هو بمثابة التأشيرة التي تجعل من الأمر نافذا أو غير نافذ وهو ما اصطلح عليه بالنظر في مآلات الأفعال. وقد أجمل الإمام هذا الضابط في قوله: "وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله. فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تتقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية"[61]. وبذلك يكون المجتهد وفق هذا الضابط أو القانون "لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو لمصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك..."[62].
والفقيه أو المفتي بعمله هذا لا يكون خارجا عن الشريعة يخبط بواد غير ذي زرع هو وادي الأهواء، بل هو سالك طريقا معبدا تشهد لتعبيده أدلة كثيرة منها: "أن التكاليف.. مشروعة لمصالح العباد.. وأن الأعمال –إذا تأملتها- مقدمات لنتائج المصالح، فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع. والمسببات هي مآلات الأسباب، فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو معنى النظر في المآلات"[63].

بالإضافة إلى ذلك فإن "الأدلة الشرعية والاستقراء التام ان الحالات معتبرة في أصل المشروعية.. كقوله عليه الصلاة والسلام حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه: "أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" وقوله: "لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم.. وحديث النهي عن التشديد عن النفس في العبادة خوفا من الانقطاع.. وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها، فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع. والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع"[64].
وقد جلى ضابط مآلات الأفعال في خمس قواعد هي: قاعدة الذرائع –وقاعدة الحيل- وقاعدة مراعاة الخلاف –وقاعدة الاستحسان- وقاعدة أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفها من خارج أمور لا ترضى شرعا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج"[65].

الخلاصة:
لقد تبين لنا من أقوال العلماء، أن الفقيه لا يكون فقيها حتى يكون عالما بقواعد أصول الفقه، وأن الأصولي عندهم لا يكون أصوليا حتى يكون عارفا بالفقه.
وتبين لنا كذلك من أقوالهم أن موضوع كل من الأصول والفقه مشترك من حيث كان "الفقه مدلول أصول الفقه وأصول الفقه أدلته، ولا يعلم الدليل مجردا عن مدلوله". وكل ذلك يملي أن يكون المنهج الأصولي هو منهج الفقيه، إذ المنهج مشتق من المادة المدروسة.
غير أننا نجد من جهة أخرى أن المقصود بالقصد الأول في علم أصول الفقه هو الأدلة المثمرة للأحكام ومستويات دلالتها، والفقه إنما هو مقصود بالقصد الثاني لا يلتجئ إليه الأصولي إلا من حيث الجملة أو بقصد التمثيل، على العكس من ذلك نجد المقصود بالقصد الأول في علم الفقه هو أفعال المكلفين، والأدلة إنما هي مقصودة بالقصد الثاني لا يتعلق بها النظر إلا من حيث كونها مصدرا لتلك الأحكام الضابطة لأفعال المكلفين. وهو ما جعل بعض الباحثين يقرر هذه الحقيقة. لقد "صار بالإمكان القول إنه إذا كانت مهمة الفقه هي التشريع للمجتمع فإن مهمة أصول الفقه هي التشريع للعقل.."[66].
كما نجد من جهة أخرى أن الفكر في علم أصول الفقه يتجه نحو التعميم والإجمال حتى ولو كان النص خاصا، إذ مهمته هي التأصيل بينما هو في الفقه يتجه نحو التخصيص والتفصيل حتى ولو كان النص عاما، انطلاقا من أن "كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير…". وكل ذلك يملي من هذه الجهة أن يكون المنهج الفقهي غير المنهج الأصولي سواء على مستوى النظر في الأدلة المثمرة للأحكام أو على مستوى النظر في الواقع الذي تطبق فيه هذه الأحكامg

 

المصادر:

ـ البحر المحيط للإمام الزركشي، تحقيق لجنة من علماء الأزهر، دار الكتبي، ، 1414هـ/1994م.
ـ تكوين العقل العربي للدكتور محمد عابد الجابري، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ، 1984.
ـ التلويح على التوضيح للمحقق سعد الدين التفتازاني، دار الكتب العلمية، بيروت.
ـ التوضيح بهامش التلويح للقاضي صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي.
ـ تيسير التحرير للعلامة أمير باد شاه، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
ـ الخطاب الشرعي وطرق استثماره للدكتور إدريس حمادي، المركز الثقافي العربي، بيروت ، 1994م.
ـ شرح الكوكب المنير للعلامة ابن النجار الحنبلي، تحقيق الدكتور محمد الزحيلي والدكتور نزيه حماد، مكتبة العبيكان، 1413هـ/1993م.
ـ شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب، للقاضي عضد الحلة والدين الإيجي، ط.2، 1403هـ/1983م، مصورة عن الطبعة الأميرية، 1316هـ.
ـ شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعبير للإمام الغزالي، تحقيق الدكتور أحمد الكبيسي، مطبعة الرشاد، بغداد، 1390هـ/1971م.
ـ الكاشف عن المحصول في علم الأصول، تأليف أبي عبد الله محمد العجلي الأصفهاني، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت ، 1419هـ/1998م.
ـ المستصفى في علم الأصول للإمام الغزالي، ط.1، مطبعة مصطفى محمد، 1356هـ/1937م.
ـ المنهج الأصولي في فقه الخطاب للدكتور إدريس حمادي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1998.
ـ الموافقات للإمام الشاطبي، تحقيق وشرح الشيخ عبد الله درار، الناشر، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ، 1395هـ/1975م.
ـ نفائس الأصول في شرح المحصول للإمام القرافي، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، المكتبة العلمية، بيروت ، 1420هـ/1999م.

[1] - انظر البحر المحيط للإمام الزركشي، 1/38.
[2] - شرح الكوكب المنير للعلامة ابن النجار، 1/46.
[3] - قال الإمام العز بن عبد السلام في هؤلاء: "هم نقلة فقه لا فقهاء"، البحر المحيط، 1/38.
[4] - الكاشف عن المحصول في علم الأصول لأبي عبد الله محمد العجلي الأصفهاني، 1/14.
[5] - البحر المحيط، 1/47.
[6] - نفسه، 1/46.
[7] - نفائس الأصول في شرح المحصول للإمام القرافي، 1/161.
[8] - نفسه، 1/98.
[9] - البحر المحيط، 1/46.
[10] - التلويح على التوضيح، 1/21، وكذلك تيسير التحرير، 1/18.
[11] - الموافقات.
[12] - الكاشف عن المحصول، 1/84.
[13] - مختصر المنتهي، 1/18.
[14] - التوضيح بهامش التلويح، 1/17.
[15] - الموافقات، 3/51.
[16] - الموافقات، 4/98.
[17] - الموافقات، 4/91-92. وانظر كذلك المنهج الأصولي في فقه الخطاب، ص162.
[18] - المستصفى للإمام الغزالي، 1/145.
[19] - شفاء العليل للإمام الغزالي، ص56.
[20] - الموافقات، 4/194-195.
[21] - الموافقات، 2/67.
[22] - انظر الموافقات، 2/95.
[23] - الموافقات، 3/274.
[24] - الموافقات، 2/101.
[25] - الموافقات، 2/102 بتصرف بسيط.
[26] - الموافقات، 2/103.
[27] - الموافقات، 2/103.
[28] - الموافقات، 2/106.
[29] - الموافقات، 2/107.
[30] - الموافقات، 2/78-79.
[31] - الموافقات، 4/93.
[32] - الموافقات، 3/83.
[33] - الموافقات، 3/85.
[34] - هامش الموافقات، 3/83.
[35] - الموافقات، 3/83.
[36] - الموافقات، 4/97.
[37] - الموافقات، 4/97.
[38] - الموافقات، 4/103.
[39] - الموافقات، 4/98.
[40] - الموافقات، 4/99.
[41] - الموافقات، 4/99.
[42] - الموافقات، 3/274-275.
[43] - الموافقات، 2/65-66.
[44] - الموافقات، 3/413 وانظر المنهج الأصولي في فقه الخطاب، ص99.
[45] - انظر الموافقات، 4/32.
[46] - انظر الموافقات، 4/155.
[47] - الموافقات، 4/295.
[48] - الموافقات، 4/158
[49] - الموافقات، 4/158-159.
[50] - الموافقات، 4/91.
[51] - الموافقات، 4/92.
[52] - الموافقات، 3/138.
[53] - الحديث رواه في الجامع الصغير عن أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع.
[54] - الموافقات، 3/142.
[55] - الموافقات، 4/92 وينظر في الخطاب الشرعي وطرق استثماره، ص152-153.
[56] - الموافقات، 3/140.
[57]  - سورة الحشر: 9.
[58] - سورة التغابن: 17.
[59] - الموافقات، 3/103.
[60] - انظر الموافقات، 4/39 وما بعدها..
[61] - الموافقات، 4/1911.
[62] - الموافقات، 4/194.
[63] - الموافقات، 4/195.
[64] - الموافقات، 4/196-189.
[65] - الموافقات، 4/210.
[66] - تكوين العقل العربي للدكتور محمد عابد الجابري، ص100.