نحن والمستقبل وأثقال التاريخ ـ د. مخلص السبتي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse0103يستلزم التوجه للمستقبل حسن التخلص من أثقال التاريخ وكفاءة التمكن من التحرر من أغلاله ، لكن السؤال الصعب هو كيف ؟
كانت السلفية وسيلة التحرر باعتبارها " رجوعا إلى ما كان عليه السلف الصالح قبل ظهور الخلاف " وهو هو ما دعا إليه ابن القيم وابن تيمية ثم الافغاني من بعدهم ومحمد عبده وعلال الفاسي وغيرهم ، لكنها ما لبثت أن تحولت بعدهم من مجرد استلهام المبادئ الأولى المؤسسة إلى اجترار مستمر لا ينتهي   لإشكالات تاريخ قد مضى ومقتضيات أوضاع قد اختفت  منذ عهود وأزمان ، فإذا السلفية اليوم هي التي تشرف على وضع القيود على العقول والهمم ، بعد أن كانت المبادرة إلى التحرير والتنوير .
في تقديري ، يتطلب التخفف من أثقال التاريخ أمرين :

I.    الانطلاق من الكليات العامة :
بالرجوع إلى سورة الحشر حيث التنصيص على لفظ " شريعة " نرى الأمر بواجب الإتباع لا بمجرد التطبيق : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) [1]  ، فالشريعة هنا منهج حياة يتبع لا مجرد أحكام تطبق ، إنها استرشاد بتعاليم وأحكام كلية واضحة توجه الفكر وتقود الحركة لا مجرد أوامر تنفذ وينتهي  الأمر[2]، وتؤكد سورة الشورى  هذا المعنى ، فما شرعه الله لنا هو نفس ما شرعه لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [3] إنها وصايا وتعاليم صالحة لكل زمان ومكان ، ولا يمكن أن تكون كذلك إلا  كانت كلية وعامة ، ومن هنا فإن ما يدرس تحت عنوان " مقاصد الشريعة " ما هو إلا أبحاث في الشريعة عينها ، فهي القبلة والمقصد ، وغيرها لها تبع ، وإليها محتكم ، وما يحتاج فعلا إلى بيان مقاصده  هو الأحكام  الجزئية المتناثرة في شتى مجالات الحياة ، بدء بالعبادات إلى أحكام الزواج والطلاق والبيوع والمواريث  والاقتصاد ....كل حكم يظل محتاجا للشريعة يهتدي بها ، ولا يمكن أبدا فهم الأحكام  الشرعية منفصلة عن مقاصدها العليا في ذات الشريعة ، سواء كانت  في مجالات الدين أو الدنيا ، فالشريعة  قبلة والحكم الشرعي وسيلة  ، الشريعة مقصد والحكم الشرعي  أداة ، وإنما ينبغي توجيه الجهود في تعميق النظر في مقاصد الأحكام ، كل الأحكام ، وكل حديث عن " مقاصد الشريعة " لا يراعي دقة هذه الضوابط يبعد عن الصواب ولا يقرب منه .

وإذا كانت الشريعة هي منهج حياة ، فإن الحكم الشرعي هو نتيجة هذا المنهج ، وهو جهد ومسار إنساني في اتجاه ما هو رباني ، ولا يعني هذا  ــ ولا ينبغي أن يعني  ــ أن كل الأحكام مطلقة ثابتة على وجه التأبيد ، بل منها ما هو فعلا كذلك كوجوب العبادات وتحريم المحرمات .. ، ومن الأحكام  ما ليس كذلك ، كتفاصيل الزواج والطلاق وأحكام البيوع والعقوبات ..... فينبغي لمجددي كل عهد أن يسارعوا إلى تغيير الأحكام القديمة بأخرى متجددة  أكثر انسجاما مع الشريعة – المقصد .

II.    التمييز بين الإلهي والإنساني :
واضح من خلال ما تقدم أن الشريعة شيء والأحكام المستمدة منها شيء آخر ، ومقتضيات الأحكام أمر ثالث ، وكثيرا ما تم الخلط بين هذه العناصر الثلاثة ، وكان ذلك سببا في انتشار مظاهر سلبية متعددة ،  فالشريعة  أوامر الله وتعاليم دينه الكلية ، وهي ثابتة مطلقة على سبيل الدوام ، تشمل الأمانة والعدل والإحسان...في مجال القيم ، والصلاة والزكاة والصيام ...في مجال العبادات  ، و التشاور والتراضي والوفاء ....في مختلف أنواع العقود المدنية والسياسية .
لكن كيف نميز ؟ وما هي أدوات هذا التمييز ؟
هل بالرجوع إلى معلومات الناس عن الدين ما دام جزء أساسي من المطلوب هو من " المعلومات  " من الدين بالضرورة ، أم بالرجوع إلى الكتاب والسنة ؟ ومن له  أن يحدد أن استدلال شخص  بالكتاب هو عين الكتاب ؟ وأن استدلال آخر بعيد عن الصواب ؟
قد يوصى في ذلك  بالرجوع إلى العلماء ، فهم أهـــل التخصص في الدلالة على أحكام الله ، وهم " الموقعون عن رب العالمين " ،  لكن من له صلاحية  تجريد لوائح المقبولين منهم والمردودين في مجتمع  معين أو مدينة أو قطر ؟ ومن يملك أصلا  تصنيف الناس إلى علماء وغير علماء ؟ ومن له حق التمييز بين المجتهدين منهم وغير المجتهدين ؟ والصالحين وغير الصالحين الذين قد تأتي بهم الأهواء ، أو تميل بهم مغريات النفوذ والشهرة ؟ أو تطيش بهم مصالح المال والأعمال .
 من له إذن  أن يحدد  "أولي العلم" الذين لهم حق الإرشاد  إلى أحكام الله ؟
الجواب عن هذه الأسئلة هام ومصيري ويتوقف عليه مستقبل الأمة ، ورغم أهميته ، فإن الكتابات فيه لم تتراكم بالطريقة التي تطور الخطاب الديني وترشده .
أول خطوة في هذا  أن نتحرر من الأشخاص ونتجه قصدا إلى  النصوص ، فمهما قوي علمنا أو ضعف فالنصوص القطعية  دالة بنفسها غير محتاجة إلى واسطة ، والرسالة غنية بذاتها  عن تعليقات المعلقين وإجماع الأصوليين وقياس المنطقيين ، وهي - بعد أن تكفل الله بحفظها – لا تحتاج إلى أحد من الناس ،  القرآن رسالة الله إلى الأفراد والمجتمعات  ، والحديث بيان طرق التنزيل  ، وانتهى الأمر .
وإذا كان الله قد وعد " بحفظ الذكر " فما الحاجة إلى( إكماله ) بما ليس منه ؟  وما الحاجة إلى إلحاق غيره به ؟ نعم نحتاج إلى فقه الفقهاء وإجماع الأصوليين وقياس المناطقة واستشهادات اللغويين وتفسيرات العلماء ...لكن بصفتها الإنسانية القابلة للصواب والخطأ لا بأي صفة أخرى قد تحمل معاني  العصمة والتقديس .
 والحاصل أن ما صدر ويصدر عن الفقهاء والمفتين  من أحكام وتشريعات إنما هي أحكامهم هم لا أحكام الله ، ونعود مجددا كيف التمييز ؟ وما هي الآليات والوسائل ؟
ما مقترحي الذي سوف أختصره  هنا إلا سعي لتجميع ما تشتت وتفرق  في مصنفات علوم الأصول والمقاصد ، ثم إني بعد ذلك لمتوقف في أمور كثيرة باحث عن الصواب فيها  .
لا يحق لشخص ادعاء معرفة حكم الله إلا إذا توفر لادعائه خمسة شروط :

1.     قطعية الثبوت : أي أن يستمد الحكم من نص موثق  قطعي التوثيق ، وهذا منحصر في القرآن الكريم وما تواتر من الأحاديث النبوية ، والتواتر يرفع توثيق النص من الظني إلى القطعي ، ولا يجوز لشخص أن ينسب لله حكما عن طريق نصوص قد يكون هو أول من يشك في ثبوتها .
2.     قطعية الدلالة :  أي أن يرد النص بغرض بيان حكم ديني معين ، ويكون هذا البيان واضحا لا يحتمل غيره ، فإن احتمل النص وجهان أو أكثر ، لزم الاجتهاد في ترجيح وجه على آخر ، فإن تم الاجتهاد ينبغي ينسب لصاحبه لا إلى الشريعة ، إذ الاجتهاد اجتهاد ،  والوحي وحي ،  ولا يصح الخلط بينهما بحال .
3.     الصفة : أي أن يكون الحكم واردا بصفة الرسالة والتأبيد  ، فقد يكون النص قطعي الدلالة والثبوت ،لكنه لم يأت بصفة التبليغ عن الله على وجه التأبيد ، بل بصفة التصرف بالإمامة أو القضاء ، ولا يصح أن ينسب إلى الدين إلا ما ورد بصفة الدين .
4.     انتفاء الناسخ والمخصص : بحيث لا يكون النص قطعي الثبوت والدلالة والوارد بصفة الرسالة منسوخا أو مخصصا بنص آخر يجعله يحكم سياقا دون سياق وظرفا دون آخر .
5.     انتفاء الضرورة : إذا حلت الضرورة انتفى التكليف بالحكم  ، و قد يكون الحكم قطعيا والتكليف به ظنيا  ، إذ كما تتفاوت حالات الضرورة قوة وضعفا ،   فكذلك  يتفاوت الإلزام بالتكليف قوة وضعفا من شخص لآخر  ومن ظرف لآخر ...فينشأ الاجتهاد في التقدير والتقرير والتعيين ، ولا يكون الاجتهاد إلا معبرا عن حكم الإنسان في النازلة .

استنتاج :
إذا كان التراث مستمر بنا وعن طريقنا ، فإننا أيضا مستمرون به وعن طريقه ، بل لا وجود لنا ولا كينونة بدونه ، فهو المصدر الذي منه أتينا ، وهو الوعاء الذي نضع فيه كل مكتسباتنا ، وهو السجل الذي ندون فيه إبداعاتنا ، قد تكون لنا بدونه إبداعات ، نعم ، لكن من دون سجل نسجلها فيه ، تصبح  هباء منثورا لا يضمه شيء ، ولا ينضم إلى بعضه لكي ينتج شيئا .
على أنه ينبغي التمييز بين التراث في ذاته ، جيده ورديئه ، حسنه وسيئه.. من جهة ، وطرق تعاملنا معه وتوظيفنا له من جهة أخرى  ، فقد نفسد برديئه واقعنا فنعيد اجترار أوهام فندها العلم ، وخيالات  تجاوزها الزمن ، ونبحث عن مبررات ذلك كله في مباحث العلم ونصوص الدين وضرورات السياسة ...وقد نعيد به بعث خلافات قد نسيت ، وأحقاد قد ولت .
 وفي المقابل قد نحسن التوظيف حينما ننطلق من الكليات العامة الحاكمة للتاريخ ، وحينما نحسن تمييز  الثوابت فيه والمتغيرات ، وحينما نضبط مجال الديني فيه والدنيوي ، وحينما نسعى إلى فهم أحداثه ضمن سياقاتها التاريخية ، فنفهم الطرق التي تشكلت ضمنها إنجازاتنا والأسباب التي ساهمت في ظهور عقدنا ، وبتفكيك ذلك كله وإعادة بنائه وفق حاجيات واقعنا  ومتطلبات مستقبلنا يمكننا أن نكون فاعلين ونحن نتعامل مع  التراث ولا نكتفي بأن نكون مجرد مستهلكين .

 

[1]  الجاثية ص 17
[2]  على الرغم من كون الموجه لتلك الأوامر هو الله تعالى الذي لا يسأل عما يفعل فإن أغلبها مرتبط ببيان عللها ومقاصدها فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصيام من أجل تقوية التقوى و"الحجاب" لمنع الأذى والإنفاق لكي لا يتم تداول المال فيما بين الأغنياء فقط ...
[3]  الشورى 11