السوي في وقفة النفري ـ خالد بلقاسم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse180941- إشارة
اقترنت التجربة الروحية والكتابية عند النفري بالوقفة التي تقوم لديه على حمولة دلالية باذخة. الاقتراب من هذا البذخ واستنبات أسئلة تضيئه يتطلبان العثور على المسالك القرائية المسعفة. وهو ما يسمح به مفهوم السوي في هذه التجربة. يعد مفهوم السوي من المداخل القرائية التي تتيح الاقتراب من تجربة الوقفة كما يقدمها كتاب المواقف والمخاطبات للنفري. فالعبور إلى الوقفة لا يستقيم إلا بالانفصال عن السوي, الذي يا خد,في خطاب النفري,دلالة متشعبة تتحكم فيها محدوديته من جهة, وتعدد وجوهه من جهة أخرى. تتطلب الوقفة بوصفها لقاء مع الله, أو محاورة بين الواقف والمطلق, خروجا من السوي وحكمه, ثم إلغاء له فيما بعد. فلا وقفة ما بقي للسوي أو الغير اثر,على نحو ما يتبدى مما سمعه النفري في إحدى مناجياته مع ربه,إذ قيل له " أنت عبد السوي ما رأيت له أثرا[1]". ولكن المفارقة هي أن السوي لا حدود له. ذلك ما أخبر به النفري لما قيل له " إذا عرفتك سواي فأنت اجهل الجاهلين,والكون كله سواي[2] ". وهذا ما جعل الانفصال عن حكم السوي انفصالا عن الكون كله. وبهذا يصبح الانفصال تجربة على حافة المستحيل. للسوى امتداد وتعدد لا حد لهما. وهما يؤكدان أن الانفصال عن السوي لا ينحصر في زمن دون غيره, بل يشمل التجربة من خارج مقاييس البداية والنهاية, لأن هذا الانفصال محدد لها. الانفصال تجربة مصيرية في العبور إلى الوقفة. وتحقق العبور لا يعني نهاية الانفصال, بل انه يظل مستمرا في مراقبة لا تقبل بالسهو.

الانفصال هاجس الواقف ورهانه. انه قدره. غير أن موضوع الانفصال, الذي هو السوي, لامحدود. ولا محدوديته تهبه سلطة يغدو الانفلات منها متمنعا,أو اقرب إلى المحال منه إلى الإمكان. وهو ما يعضد انتساب هده التجربة إلى المستحيل. استحقاق هدا الانتساب لا يكون إلا بالمخاطرة بوصفها جزءا من النجاة كما يعبر النفري[3].
2- مفهوم السوي
لا يستقيم تحديد مفهوم السوي بحصر دلالته, على نحو يوهم المحدد بالاطمئنان إلى دلالة قارة, ذلك أن هذه الدلالة تتأسس داخل تجربة يخوضها الصوفي, وبالتالي فان تفاصيل المفهوم لا تتكشف إلا بالإنصات لمختلف أضلاعه التي تبرزها أطوار التجربة. بهذه الأطوار يتبدى ما يتمنع عن الحصر. وهكذا لا يكفي القول إن المفهوم يعني كل ما سوى الله,لأن هدا القول يصمت عن التفاصيل,التي بها يكف السوي عن أن يكون مفهوما بالمعنى التجريدي ليغدو تجربة. إدماج الوعي بأهمية التجربة في تحديد المفهوم يعد موقعا منهجيا يجنب حصر السوي في دلالة جامدة, ويسعف في الانتقال من هذا الحصر إلى الإنصات لآليات الاشتغال التي تجعل هده الدلالة متأثرة بالمظهر الذي تحقق فيه هذا الاشتغال. فدلالة السوي لا يحصرها مظهر معين, لان مظاهر السوي لا حدود لها. ما يقرب من هذه الدلالة هي آلية اشتغالها التي لا تتكشف إلا في المسافة التي يفتحها الصوفي مع السوي, لأن هذه المسافة تضمر تصورا للوجود وللعلاقة المتشعبة التي نسجها الصوفي مع المطلق,بل إن هذه المسافة و المسعى إلى تحصينها هما ما يميز الخاصة عن العامة,على نحو ما نلفي في خطاب النفري.
يتماهى مفهوم السوي,في خطاب النفري,مع المفاهيم الآتية الغير,والوهم, والحجاب. فهي مفاهيم تشتغل بالآليات ذاتها, وتحكمها وشيجة توحد,في الغالب الأعم, مدلولها وان تعددت دوالها. يتحدد السوي, في معناه العام لدى النفري, في تفاعل مع المطلق. فكل ما سوى الله يقدمه خطاب النفري بوصفه غيرا و وهما وحجابا. وتتكشف علاقة الواقف بالسوي,في هذا الخطاب, بما هي علاقة توتر دائم. فبقدر تمنع السوي وسمك حجبه بقدر مسعى الصوفي إلى الفكاك منه والتخلي عنه, لأن تحول هذا التخلي إلى هاجس وجودي هو ما يتيح الخروج من " العموم إلى الخصوص[4]". وبذلك تصبح التجربة مع السوي منطلقا لتحديد العلاقة مع المطلق, ومنطلقا للتمييز بين الذوات والحيوات. فالعلاقة مع السوي وحدود الوعي به أساسيان في التمييز بين الخاصة والعامة. كما أن الخروج عن السوي لا يكون إلا بإدراكه أولا, لأن السوي لا يقدم ذاته بوصفه سوى, وهذا ما يسوغ عده حجابا. فآلية اشتغال الحجاب الإيهام بكونه غير ذلك.
الانتساب إلى الخاصة مرتبط عضويا بركوب مخاطرة العبور إلى الوقفة. عبور متوقف على الانفصال عن السوي. ولا تقوى العامة على هذه المخاطرة ولا تدخل في ممكنها. ذلك أن الوعي بالسوي, الذي يعد منطلق مواجهته, هو ما يحدد حقيقة الإنسان, اهو خاص أم عام.فراس الأمر كما قيل للنفري في هذه التجربة "أن تعلم من أنت خاص أم عام[5] ".
إن الانتساب إلى العموم أو إلى الخاصة انشغال مركزي لدى الصوفية. ولا يتحدد عندهم إلا من داخل العلاقة مع السوي. يوجه هذا الانشغال وعيهم بأن الحياة حيوات. فهي لا تعاش بذوق واحد. بين العامة والخاصة بون يتجلى في التعالق مع الكون. فاعتبار الكون سوى معرفة خاصة لا تتسنى للعموم. من سوى إلى سوى هي رحلة العامة, في منظور الصوفية, لا يقودهم في هذه الرحلة إلا الوهم كما يرى ابن عطاء الله السكندري[6]). والعامة لا يعيشون الوهم بوصفه وهما. إنهم بمنأى عن مساءلة علاقتهم بالسوي, الذي لا يبدو لهم كذلك, لان المحجوب لا يدري[7]).أما الخاصة فيدركون السوي بما هو سوى. وهذا ما يجعلهم في يقظة دائمة تجسدها صلتهم الوثيقة بالوجود. فالصوفي مسكون بالخوف من النسيان, أو ما يدعوه العارفون بالغفلة, لأن النسيان حجاب الوجود. اشتغال الحجب, التي تبعد عن الوجود وتفتح تناسل الوهم, يتم بالية معقدة تراكم نسيان الوجود. وهو نسيان محقق بإيقاع سريع يساير إيقاع الأنفاس. وبإيقاع الغفلة يتحدد إيقاع اليقظة عند الصوفية. من مظاهر هذا النسيان التعالق مع السوي دون إدراك انه كذلك. تعالق قد يفضي إلى الوجد بالسوي. وهو وجد محجوب, لأن كل وجد بالسوي, عند النفري, ابتعاد عن المطلق وحرمان من المجاورة التي هي رهان الوقفة.
للسوي امتداده اللانهائي. فهو ضالع الحضور في حياة الإنسان. الانخراط فيه لا يقود إلا إليه. هذا ما تكثفه هذه الشذرة التي تلقاها النفري "وقال لي الغير كله طريق الغير[8]". بهذا الامتداد يرسي السوي سلطة تتقوى بالغفلة, أي بتلاشي الحيرة. والحيرة الصوفية هي الحذر المستمر من النسيان الذي يحجب الوجود. وتعقد آلية هذا النسيان واشتغاله في موضوع متعدد الأضلاع هما ما يحمي سلطة السوي. فالعادة سوى, والمسافة سوى, واللغة سوى, والعلم سوى, والمعرفة سوى, والنفس سوى. الكون كله سوى كما تقدم. والوقفة,بما هي انفصال عن السوي, يوجهها مسعى السمو عن الكون والتمنع عن الخضوع لأحكامه. ولا يتسنى ذلك إلا بوعي غيرية الكون, أي الوعي بأوهامه التي تنظمه وتجعل الإنسان تحت رق هذه الأوهام. ببلوغ الوقفة يكون الصوفي قد تجاوز صفة الكون, على نحو ما يفهم من الشذرة الآتية " عبر الواقف صفة الكون فما يحكم عليه[9]". علاقة الواقف بالكون علاقة عبور يتغيا منها الانفصال عنه, لأن الواقف لا يقر على كون ولا يقر عنده كون[10]. وهذا مظهر من مظاهر مجابهة المستحيل ورهان من رهانات المجاورة. يوشك فيه الواقف على مفارقة البشرية بالخروج من صفة الكون. جاء في إحدى شذرات موقف الوقفة " وقال لي كاد الواقف يفارق حكم البشرية[11]". لا بد من التنبه إلى كيفية صوغ النفري لهذه الشذرة. فحرصه على انتقاء معجمه في الصوغ يجعل تعبيره عن انفصال الواقف عن بشريته دالا. تعبير يشير إلى دنو هذا الانفصال دون تحققه. فقد كاد الواقف يفارق حكم البشرية وما فارقه. ومن ثم فإن الوقفة تتحدد, وفق هذا الدنو الذي يبرزه فعل المقاربة في شذرة النفري, بوصفها تجربة على حدود المطلق, يبلغ فيها الواقف أقصى ممكنه, وهذا ما يجعل منها تجربة باطنية بامتياز[12]. تجربة يستنفر فيها الواقف إمكاناته ويختبر حدودها القصوى. وما يبلغه يظل دوما دون ما يأمله. إنه موشك دوما على بلوغ ما لا يستقيم بلوغه. وهذا ما يرسخ انتساب الوقفة إلى مجهول لا ينتهي. فالواقف يكون, بناء على دنو خروجه من حكم البشرية, على عتبة تضعه على مشارف المطلق. إنها الحياة بين الإمكان والاستحالة. غنى هذه الحياة يتبدى من الوعي بتعدد السوي وتغييره لمواقعه, على نحو يجعل الوقفة سعيا إلى مواجهة يقظة مع اكتساح السوي. هذا التعدد يمنع,إجرائيا, من رصده. لذلك سنمثل له بالعلم بوصفه مظهرا من مظاهر السوي.
3- العلم بوصفه مظهرا من مظاهر السوي
إذا كان خطاب النفري في المواقف والمخاطبات قد انشغل بالسوي بوصفه محددا للوقفة, فإنه لم يخص مظاهر السوي بالعناية ذاتها, بل اقتصر على بعضها وحرص على التنصيص على تفاوت درجة السوي فيها. ذلك أن هذه المظاهر, وإن اشتركت في آلية السوي التي تحكم اشتغالها فان درجة السوي فيها تفاوتت. وهو ما يضيئه النفري بتمييزه بين العلم والمعرفة. لن نعرض لهذا التمييز, كما لن نعرض لتعدد مظاهر السوي عنده, وإنما سنكتفي بالإشارة إلى أهم هذه المظاهر قبل الإنصات إلى اشتغال السوي في العلم.
أهم مظاهر السوي عند النفري الحرف والعلم والمعرفة, بل إن الحرف يعد أس السوي, وعنه يتفرع المظهران الآخران. ذلك أن دلالة الحرف عند النفري تأخذ بعدا لا نلفيه عند غيره من الصوفية[13]). وقد مكن هدا البعد بول نويا من التمييز بين لحظتين في تجربة الحرف عند النفري. اللحظة الأولى تتحدد بكون السوي فيها لا يدرك إلا بوصفه حرفا," بمعنى أن الخلقية, بتعبير التلمساني, لا تبدأ في الوجود بالنسبة للإنسان إلا عندما تأخذ الأشياء فيها اسما. والاسم ذاته مشكل من حروف[14]. من هنا ينتهي بول نويا إلى خلاصة هامة وهي أن " عالم السوي يبدأ من الله ذاته, لأن غيرية الصفات لا تتجلى للإنسان إلا بالأسماء التي تأخذها[15]". وفي ضوء ذلك تغدو الحروف " نسيج الوجود. فبالكلام تأخذ الأشياء اسما يكشف معانيها[16])". وهذا ما أسعف بول نويا في فهم المقصود من قول النفري " كل شيء حرف[17]". اللحظة الثانية في تجربة الحرف عند النفري يتحدد فيها الحرف بوصفه عاجزا عن بلوغ المطلق. لذلك يتوجب التخلي عنه[18].
ما يهمنا في هذه الإشارة هو ما تنطوي عليه اللحظة الأولى في تجربة الحرف عند النفري. فهي, من جهة, تكشف أن الحرف بما هو سوى يبدأ من الله ذاته, فيما هي تكشف, من جهة أخرى, عن دلالة أوسع تجعل مظاهر السوي الأخرى مرتبطة به.
وهكذا فان مقاربة السوي في تجربة الوقفة تقتضي ملامسة تعدده والإنصات إلى تشابك العلاقة التي تحكم مظاهر هذا التعدد. غير أن هذا المسلك القرائي يحتاج إلى دراسات تفصيلية. لذلك نقتصر في هذه المقاربة الأولية على التمثيل للسوى عند النفري بالعلم.
يقترن العلم في خطاب النفري بالسوي. وقبل رصد حجب العلم عنده يتعين التنبه إلى تمييزه بين علمين, العلم الغيري والعلم المتحصل من تلقاء النفس. وهو تمييز يقيمه استنادا إلى الوقفة. فالوقفة" ينبوع العلم فمن وقف كان علمه تلقاء نفسه, ومن لم يقف كان علمه من عند غيره[19]". فالعلم عند النفري علمان, الأول نقلي يعتمد على التقليد, أي على الغير, والثاني متحصل عن التجربة. العلم المبني على التقليد حجاب. انه سوى, بخلاف الثاني المتحقق ببلوغ أهوال الوقفة وارتياد مجاهيلها, وان ظل هو أيضا دون حقيقة الوقفة.
العلم الغيري لا يعول على التماس الحي للذات مع المعلوم, وإنما على أفكار الغير في بناء موضوعه, ناسيا الأحوال والمقامات, أي دور التجربة في تحصيل ما لا يستقيم بدونها. إنه علم يستند إلى التقليد. وهو بذلك لا يعتمد على ما تحصل في حال غير الحال التي يكون عليها من يتوجه إلى الموضوع, أي المعلوم. العلم الغيري لا يراعي ما يتحصل من تلقاء النفس, أي ما يتحصل عن التجربة, وإنما يقيس الغائب على الشاهد[20]. وبهذا القياس لا يقوم بإبعاد الموضوع فحسب, وإنما بإبعاد الذات أيضا. إبعاد مزدوج يكرس نسيان الوجود. وهو ما يدعو الصوفي إلى التصدي لهذا النسيان, صونا للوجود من حجب تلغيه, ولاسيما أن الصوفي يدرك خصوصية موضوعه التي تتمنع عن التقليد. ليس في مكنة التقليد الذي ينهض عليه العلم الغيري إلا تقوية سمك الحجاب وصون تشعب السوي.
ولا تنحصر غيرية هذا العلم, الذي يتعين على الواقف خضوعا لآداب الطريق التخلي عنه, في التقليد فحسب, وإنما في استناده إلى النظر كذلك. علم النظر لدى النفري, كما لدى غيره من الصوفية, سوى, لأنه ينهض على مقولات وقبليات تعوق الاقتراب من المعلوم. فيها يكون العالم تحت حكم علمه الذي يحجبه عن معلومه, فلا يرى من هذا المعلوم إلا ما يسمح به علمه. وهو لا يرى, في حقيقة الأمر, معلومه بقدر ما يرى أشكالا أخرى لعلمه, لان " من علم علم شيء كان علمه ايدانا بالتعرض إليه[21])". ومن ثم تكون وضعية المعلوم محددة على نحو قبلي في العلم الذي يستمد منه العالم. العلم المنطلق منه هو نهاية العالم. وهذا ما يجعل النهاية مضمرة في البداية, أي أن ما يستمد منه العالم هو مبلغ علمه[22]. وهذا ما يضيء مقصود النفري مما يدعوه رق العلم, مادام العلم لا يظفر إلا بالعلم[23].
العالم عند النفري عبد مكبل بقيود الفكر وبقبليات تتعارض مع وجهة الواقف, الذي يشق المسالك نحو المطلق. وفي قصد هذه الوجهة تنفتح المجاهيل المتجددة دوما, على النحو الذي يجعلها متمنعة عن محدودية النظر, ومتملصة بتجددها عن تصنيفات وقبليات الفكر. هكذا اقترن العلم الغيري عند النفري بالحجب, التي برفعها يتسنى الاحتفاء بوجود مندور لعبور يمكن من ملامسة تجدده. فالعلم الغيري معارض للوجود حسب النفري, لأنه يرسخ نسيان الوجود. يقول " الواقف يرى العلم كيف يضيع المعلوم, فلا يستقيم بموجود, ولا ينعطف بمشهود[24] فما يبنيه هدا العلم منفصل عن الوجود. كما أن تفريعاته حجب منقطعة عن الموجود, لذلك لا يتحقق لها من الشهود شيء. تقسيمات تضيع المعلوم وتقوم بديلا عنه, ومن ثم لا ترجع بمشهود. وهذا ما يوضحه عفيف الدين التلمساني في شرحه لشذرة النفري. يقول " الواقف يرى مزلات أقدام العلماء في مبالغ علمهم فيجد علمهم قد ضيع المعلوم, فإذا انقسم ذلك العلم تم تكن أقسامه إلا أوهاما وخيالات لا أقساما وجودية, فهو إذن لا ينقسم بموجود كما تنقسم المعارف والحقائق الشهودية فان أقسامها وجودية[25]". وهذه الأقسام الوهمية" لا تنعطف بمشهود كما ترجع المدارك الحقيقية بمشهوداته[26]".
لهذا كله نهي النفري عن دخول العلم. جاء في موقف العلم " أوقفني في العلم وقال لي العلم كله لا يحملك ولا يحمل بابك, فلا تدخل إليه. فانك إن دخلت إليه حملته. فإلى أين تحمله؟ إلي؟ تأكلك وتأكله ناري التي حطبها علم العالمين[27]". وهذا النهي عن دخول العلم الذي يتلقاه النفري, في محاورته مع المطلق, يومئ إلى تبعات عدم الانصياع له. تبعات تصل حد الفراق الشاق والقاسي بين الصوفي والمطلق, وهو ما لا يطيقه الصوفي الذي يتوق إلى مجاورة المطلق.
لا يقود العلم, إذن, إلا إلى نفسه. وفيه يكون العالم محجوبا عن معلومه. ولا يرتفع هذا الحجاب إلا في الوقفة, على نحو ما هو واضح في الشذرة التالية " إن العلم لا يوقفك بين يدي, وإنما يوقفك بين يديه, وأنا اخترعتك لي لا للعلم, فلا تقف فيه[28]". وهذا الدخول المنهى عنه إلى العلوم ليس عاما. ما هو منهى عنه هو الدخول بيقين. أما دخول العلوم فيظل ضروريا في الطريق إلى الوقفة, ولكن شريطة أن يكون دخول العابر. فكلما انبنت العلاقة مع العلم على اليقين والتسليم إلا وتحول العلم إلى وهم وحجاب. لذلك ألح النفري على أن " العلم المستقر هو العلم المستقر[29]". ولعل هذا ما يفسر تلقي النفري للأمر التالي " إذا دخلت العلوم فادخلها عابرا, إنما هي طريق من طرقاتك فلا تقف فيه[30]". وبهذا أيضا يتضح الاختلاف بين العلم الغيري والعلم المتحصل عن تلقاء النفس. فالثاني متجدد بتجدد الوقفة, انه عبور دائم بخلاف الأول المهدد دوما بالجمود الذي يكرسه التقليد.
ولما كان العلم الغيري الذي يروم به العالم الاقتراب من المعلوم هو عينه ما يبعده عنه, كما أوضحنا, فان النفري مجد الجهل وشدد على أهميته في العبور إلى المطلق.ولكن الجهل الممجد في خطاب النفري جهل خاص, يتعين توضيحه رفعا لكل لبس. يقول النفري " حد الجهل استتار العلم[31]". وهو تعريف يؤكد أن الجهل يقوم على العلم, أي انه غير منفصل عنه. فالجهل لا يعني انعدام العلم وإنما استتاره فحسب. الاستتار إخفاء وتغطية لما كان قائما من قبل[32]. وهو ما ينسجم مع تجربة الدخول العابر إلى العلم. دخول مبني على الترك. إن دلالة الاستتار تعضد أن الجهل المتحدث عنه جهل عن علم, أي ناجم عنه. ومن ثم فالجهل قبل العلم لا يعول عليه عند النفري. ما يعول عليه هو الجهل بعد العلم. ذلك ما توضحه الشذرة التالية " إذا علمت فجهلت, بنيت على ما لا ينهدم. وإذا علمت فرابطت علمك بنيت على شفا جرف هار فانهار[33]".
فالجهل, في ضوء ما تقدم, تجربة بالعلم وفيه, وليس حالة قبل العلم, أي ان الجهل وقف على من دخل العلم. ومن لم يسلك سبيل العلم يظل بمنأى عن الجهل. وحده من تشبع بالعلم يمكنه بلوغ مقام الجهل. والجهل, فضلا عن ذلك, يتجدد بتجدد العلم. وبهذه الخلفية يمكن أن نفهم قول النفري السابق " العلم المستقر هو الجهل المستقر". فإلى جانب المعنى السلبي الأول المرتبط, كما المحنا إليه سابقا, بتحول العلم الجامد إلى جهل, يتيح هذا القول امكان قراءته من موقع آخر, هو أن تجدد الجهل من تجدد العلم. من لا يجدد علمه لا يوسع جهله. إذا كانت الصلة بالعلم قائمة على العبور, وكان العبور مبنيا على الإفراغ والتفرغ والتطهر, فان رحابة جهل العابر من رحابة علمه. اتساع علم العابر وتغيره الدائم يوسع جهله, وباتساع جهله يتسع علمه. ذلك أن العلم لا ينفرد بالتأثير الأحادي في الجهل, بل الجهل أيضا يؤثر فيه. ومن ثم حاك النفري علاقة متشعبة بين العلم والجهل, مشددا على تاثيرهما المتبادل. ذلك ما تكشفه الشذرة التالية" وقال لي كلما قويت في الجهل قويت في العلم[34]". فالقوة في العلم من القوة في الجهل. بين, إذن, أن الجهل تجربة مع العلم بما هو سوى, غير أن هذا السوي يظل أساسيا في بلوغ الجهل, الذي يتحدد بوصفه عبورا يؤمن الطريق إلى المطلق. من هنا يتمنع فهم الجهل عند النفري مفصولا عن العلم, وعن العلاقة المتشعبة بينهما. وهو ما نستطرد في إضاءته بشذرتين للنفري, جاء فيهما" وقال لي أعدى عدوك إنما يحاول إخراجك من الجهل لا من العلم ", " وقال لي إن صدك عن العلم فإنما يصدك عنه ليصدك عن الجهل[35]". وتأخذ هذه العلاقة مسلكا آخر إذا نحن استحضرنا ما يسميه النفري بالجهل الحقيقي, الذي لا تتسع هذه الدراسة لتفاصيله.
وبالجملة فان العلم في تجربة النفري ليس إلا مظهرا من مظاهر السوي. والتمثيل به لاشتغال السوي لا يطوق تفاصيل التجربة, التي لا تتكشف إلا بما يحكم السوي في المظهرين الرئيسين الآخرين، أي المعرفة والحرف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 [1] - محمد بن عبد الجبار النفري, المواقف والمخاطبات, تحقيق ارتر اربري, تقديم و تعليق عبد القادر محمود, الهيئة المصرية العامة, 1985, ص. 128
[2] - المرجع السابق, ص. 133
[3] - المرجع السابق,ص. 71.
[4]. المرجع السابق, ص. 94.
[5] - المرجع السبق, ص. 116.
[6] - احمد بن عجيبة, إيقاظ الهمم في شرح الحكم, تقديم ومراجعة محمد احمد حسب الله, دار المعارف, القاهرة, ص. 159.
[7] - عفبف الدين التلمساني, شرح مواقف النفري, دراسة وتحقيق وتعليق جمال المرزوقي, تصدير عاطف العراقي, مركز المحروسة, القاهرة, ط. 1, 1997, ص. 78.
المواقف و المخاطبات, م. س., ص. 114.
[8] - المرجع السابق، ص. 80.
[9] - المرجع السابق الصفحة ذاتها
[10] - المرجع السابق، ص. 75.
[11] - Georges Bataille, l’expérience intérieure, Gallimard, Paris, 1989, P. 19.
Paul Nwyia, Exégèse coranique et langage mystique, Imprimerie catholique Dar el-Machreq éditeur, Beyrouth, 1970, P. 365.
[12] - المرجع السابق، ص. 364.
[13] - المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
[14] - المرجع السابق، ص. 366.
[15] - المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
[16] - المرجع السابق، ص. 367.
[17] - المواقف والمخاطبات، م. س.، ص. 74.
شرح مواقف النفري، م. س.، ص. 116.
المواقف والمخاطبات، م. س.، ص. 77.
محمد عبد الجبار النفري، موقف المواقف، ضمن نصوص صوفية غير منشورة، تحقيق وتقديم بولس نويا اليسوعي، دار المشرق، بيروت، 1973، ص. 294.
[18] - المرجع السابق، ص. 205.
[19] - المواقف والمخاطبات، م. س.، ص. 76.
[20] - شرح مواقف النفري، م. س.، ص. 125.
[21] - المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
[22] - موقف المواقف، ضمن نصوص صوفية غير منشورة، م. س.، ص. 20.
[23] - المرجع السابق، ص. 204.
[24] - المواقف والمخاطبات، ص. 177.
[25] - موقف المواقف، ضمن نصوص صوفية غير منشورة، ص. 208. المرجع السابق، ص. 255.
[26] - المرجع السابق، ص. 255.
[27] - ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بدون تاريخ.
[28] - موقف المواقف، ضمن نصوص صوفية غير منشورة، ص. 246.
[29] - المواقف والمخاطبات، ص. 186.
[30] - المرجع السابق، ص. 177.
[31] - المرجع السابق، ص. 255
[32] - ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بدون تاريخ.
[33] - موقف المواقف، ضمن نصوص صوفية غير منشورة، ص. 246.
[34] - المواقف والمخاطبات، ص. 186.
[35] - المرجع السابق، ص. 177.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟