علي الوردي 6 : وعّاظ السلاطين حلفاء الطغاة ـ د. حسين سرمك حسن

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ALWARDI2في كتابه الخطير (وعّاظ السلاطين) وفي معرض تعليقه على سلوك الوعاظ القدماء المتناقض حيث يستنزلون لعنة الله على الفقير حين يغازل جارية من الجواري , ولكنهم يباركون للغني شراءه عشرات الجواري ، يضع علي الوردي هامشا يقول فيه :
( والمدهش في هذا الباب أن بعض الفقهاء يفرقون بين اللواط بالغلام المملوك وغير المملوك . فاللواط بغلام غير مملوك يستوجب في نظرهم القتل أو الرجم . أما من يلوط بغلام له ، فلا يستحق عندهم غير التعزير من القاضي . ومعنى ذلك أنهم يقتلون الفقير الذي يلوط ، أما الغني الذي يشتري الغلمان ليلوط بهم فعقابه أن يقول له القاضي : تف .. قبّحك الله ) (32) .                     
وأعتقد أن اختيار هذا المدخل النوعي لمواجهة وعّاظ السلاطين ، وبهذه الحدّة ، هو أمر مدروس من قبل الوردي ، لأنه من بين أشد المقتربات تأثيرا في المجتمع الذي تحكمه العقليات الدينية الوعظية ، التي تبطن غير ما تُظهر ، هو المقترب الأخلاقي الجنسي ، وخصوصا ما يتعلق بالانحرافات السلوكية الجنسية . فجوهر الفعل الوعظي في المجتمع الإسلامي هو استنزال الويلات على أي شكل من أشكال السلوك اللاأخلاقي في المجتمع حيث نصّب الوعّاظ أنفسهم قيّمين على أخلاق الناس وقيمهم وسلوكاتهم ، معتبرين أنفسهم أنموذجا أخلاقيا متساميا يصعب على العامة بلوغه . وعليه فإن نزع هذا البرقع الأخلاقي وتحقيق التعرية الأخلاقية لمن يتستر بها نفاقا هي ضربة شديدة الأذى .

 

 

وقد كانت هذه الهجمة الانتقادية الكاشفة ممزوجة بالسخرية ، وهو أمر لا يقل تأثيرا عن السمة السابقة . فقد أضفيت هالة من الاحترام المفرط والهيبة المصطنعة على هؤلاء الوعّاظ ، وكانوا في صلاتهم الاجتماعية يدّعون الصرامة والحزم ، ويحذّرون من السخرية ، ويدعون إلى استغفار الله بعد نوبة الضحك الشديد . ولذلك فإن التقرب الساخر من مواضعهم يعد وسيلة جسور للإطاحة بتلك الهيبة التي استغلها الواعظون لتمرير الكثير من مصالحهم وللإبقاء على الإرادة المستكينة للناس . لم يجرأ أحد الكتاب على التحرّش بالوعاظ الدينيين ؛ وعّاظ السلاطين طبعاً ، في الثقافة العربية بهذه الكيفية الساخرة والروح التهكمية في تلك المرحلة . يضرب الوردي مثلا على نفاق الوعّاظ بالقول :
( يُروى أن الخليفة سليمان بن عبد الملك كان يتنزه ذات يوم في بادية ، فسمع صوتا ينادي من بعيد . وكان الصوت رخيما مطربا ، فغضب الخليفة منه إذ اعتبره خطرا على عفاف النساء ، وسببا من أسباب إغرائهن وإفسادهن . فأمر بخُصاء المغنّي ، وخُصي المسكين فعلا ) (33)  .
ويعلق الوردي على هذه الحادثة مستخفا بردود فعل الوعّاظ ، وبما قد يقترحونه على الحكومة (الجليلة) من إجراء يرونه مناسبا للقيم الأخلاقية التي يلهجون بها ، فيقول :
( إن هذه قصة أحسب الوعّاظين يصفّقون لها ويفرحون بها . فهم يرون في عمل الخليفة هذا غيرة على الأخلاق . ولعلهم يودون أن تسير حكومتنا الجليلة على اتباع سنة هذا الخليفة فتخصي المغنين ) (34) .
لكن ما يكمل سخرية هذا التعليق ويوغل فيه هو الهامش الذي يضعه ويقول فيه : (وعلى هذا من المحتمل أن تأمر الحكومة بخُصاء محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ومن لفّ لفهما والعياذ بالله  ) (35)  .
وفي هذا الموقف يطرق أكثر من مرّة على السلوك الإزدواجي لهؤلاء الوعّاظين ، فهم لا يهمهم أن يغني المغني للخليفة الماجن الذي تتمايل من حوله الجواري على صوت المغني ، ولكنهم يهتمون بالفقير حين يغنّي لنفسه أو لأهل قريته ، ويصبّون عليه حمم غضبهم ، ويطالبون بمحاسبته حسابا عسيرا . ويبدو أن هذا الانحياز من قبل الوعاظ إلى السلاطين هو سمة حاسمة في سلوكهم ، والسبب نفعي يجافي أبسط التعاليم الدينية لأنهم يجدون في الحكّام عَرَض الحياة الدنيا التي يأمرون الناس بالزهد فيه :
( ويبدو لي أن هذا هو دأب الواعظين عندنا . فهم يتركون الطغاة والمترفين يفعلون ما يشاؤن ، ويصبون جل اهتمامهم على الفقراء من الناس فيبحثون عن زلاتهم وينغصون عليهم عيشتهم ، وينذرونهم بالويل والثبور في الدنيا والآخرة ) (36).
ثم يطرح السبب الذي يجعل الوعّاظ يتحالفون مع الطغاة المتجبرين فيقول :
( وسبب هذا التحيّز في الوعّاظ ، فيما أعتقد ، راجع إلى أن الوعّاظ كانوا ، وما يزالون ، يعيشون على فضلات موائد الأغنياء والطغاة . فكانت معيشتهم متوقفة على إرضاء أولياء الأمور ، وتراهم لذلك يغضون الطرف عما يقوم به هؤلاء من التعسف والنهب والترف ثم يدعون الله لهم فوق ذلك بطول العمر. ويخيل لي أن الطغاة وجدوا الواعظين خير عون لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم. فقد انشغل الناس بوعظ بعضهم بعضا ، فنسوا بذلك ما حل بهم على أيدي الطغاة من ظلم ( ... ) ينتهز الواعظ الفرصة ، فيهتف بالناس قائلا : إنكم أذنبتم أمام الله ، فحق عليكم البلاء من عنده . والواعظ بذلك يرفع مسؤولية الظلم الاجتماعي عن عاتق الظالمين فيضعها على عاتق المظلومين أنفسهم ، فيأخذون بالاستغفار وطلب التوبة . وبهذه الطريقة يستريح الطغاة . فقد أزاحوا عن كواهلهم مسؤولية كل المظالم التي يقومون بها ووضعوها على كاهل ذلك البائس المسكين الذي يركض وراء لقمة العيش صباح مساء – ثم يلاحقه الواعظون بعد ذلك بعقاب الله الذي لا مرد له ) (37) .
وتتصاعد حماسة الوردي وانفعاله اللتان هما سمتان ( لا علميتان ) حيث أن من المسلمات أن يكون العقل العلمي ، في بحثه للظواهر ، محايدا و ( باردا ) بعيدا عن حرارة الانفعال التي تشوّش صفاء رؤية الباحث ، ولكنهما تكشفان قدرا من الروح الثورية للوردي التي هي ، برغم كل اعتراضاتنا العلمية ، شكلت الأساس لمشروعه الفكري الإنقلابي الذي تزوّد من ذاتيته ومعاناته الشخصية بالكثير من الطاقة المعنوية الضرورية للمواجهة والتصدي في مثل هذا المشروع الحاسم والمكلف . إن الوردي وقد أكد على دور العامل الذاتي ، وعلى لغز الطبيعة البشرية الذي لم يفلح الواعظون في فك شفراته ، يقدم أنموذجا حيا على ( فرديّة ) الطبيعة البشرية بصورة أساسية . فهو لا يستطيع ، رغم كونه باحثا ، أن ينسى القسط الكبير من معاناته من الذل والحرمان والمهانة في طفولته ، عندما كان يكسب قوته اليومي بعرق جبينه كصانع لعطار في سوق الأنباريين بالكاظمية ، فقد أدرك آنذاك القسوة التي يرزح تحتها أبناء السوق والصعاليك ودرجة العذاب والمذلّة التي يذوقونها على أيدي الطغاة والمترفين والجلاوزة كما يسميهم دائما . وأدرك حينها مقدار النفاق الذي يتعاطاه الواعظون :
( حيث هم ينذروننا دوما بعذاب الله ، بينما هم يهشون ويبشون في وجوه الظلمة ويقومون لهم احتراما وتبجيلا . فإذا اعتدى أحد المترفين على صعلوك ، وجدت الواعظين يضعون اللوم على عاتق هذا الصعلوك وحده . أما إذا أخطأ الصعلوك مرة فاعتدى على أحد المترفين ، قامت قيامتهم وأخذت مواعظهم تنهمر على المذنب من كل جانب ) (38) .
إن ( حالة ) الوردي ، هي واحدة من الأمثلة الحيّة على تزاوج ما هو ذاتي بما هو موضوعي ، وعلى أن الموضوعية لا يمكن فصلها عن الذاتية تحت أية ذريعة علمية . إن الحماسة والانفعال اللذين تحدثت عنهما قبل قليل ، واللذين وسما أسلوب الوردي في نوبات متصاعدة تتخلل كتاباته بين وقت وآخر ، يكاد يكون شبه منتظم ، نوبات تنتهي بالسخرية الصارخة أو باستعارة تعبير قرآني أو ديني يراد منه التهكم بالاستنتاج الذي قبله ، هما اللذان أهّلاه كي يطرح حكما صارما على الطغاة في العراق وهو في بداية حياته العلمية :
( لقد حكم الطغاة هذا البلد أجيالا متعاقبة . فاعتاد سكانه بدافع المحافظة على الحياة ، أن يحترموا الظالم ويحتقروا المظلوم . وأخذ مفكرونا يصوغون مثلهم العليا صياغة تلائم هذه العادة الاجتماعية اللئيمة . إن شرّ الذنوب هو أن يكون الإنسان في هذا البلد ضعيفا فقيرا ) (39) .
إن اللوعة ( الذاتية ) التي اختزنها في أعماقه منذ طفولته بسبب المهانة والمذلة التي واجهها في العمل في السوق في سن مبكرة ، تشحن تعبيراته ( العلمية ) فتحيلها إلى تعبير أدبي بلاغي يفلت من تقييدات أي تأطير علمي ، وتجعله ، بل جعلته ، قريبا من المزاج العراقي الحاد ، وفتحت له أبواب ( الشعبية ) ليصبح أكثر كاتب عراقي شهرة ومبيعات كتب ، وما يهمنا الآن هو العودة إلى الحماسة الحارقة المنفعلة التي تشعل إنفعالية النص بطريقة تثير القاريء وتدفعه بقوة إلى موضع المتعاطف والمنحاز رغم أن تعبيرات الوردي تأخذ منحا تحرّشيا وشبه تجديفي :
( وجدت الواعظين ذات مرة وهم يمجّدون أحد الطغاة على ما قام به من شدة تجاه اللصوص والسرّاق . فهو قد استعاد في نظرهم مجد الأجداد واستحق رضى الله ورسوله . لقد نسى هؤلاء الواعظون أو تناسوا تلك اللصوصية الكبرى التي يتعاطاها هذا الظالم المؤمن . إنه ينهب أموال الأمة ويبذرها في ملذاته وملذات أولاده وأعوانه . والله يؤيده في ذلك طبعا !!! فإذا سرق الفقير درهما واحدا زمجر الله عليه!! ، وزمجرت ملائكته معه!! ... وزمجر معهم الواعظون أيضا ) (40) .
( علامات التعجب منّا ) ( ولاحظ أيضا أن الوردي لا يضع المفردات التي قد يُراد بها معنى آخر بين قوسين ، فهو يقصد معانيها الأصلية فعليا وعمدا) .
وقد انعكس هذا العامل الذاتي على الصياغة الأسلوبية التي صممها الوردي لهدف كتابه في ( متن ) المقدمة والتي لا نستطيع فهم فاعلية العامل الذاتي في تشكيلها إن لم نُعد إلى أذهاننا عنوان كتاب الوردي هذا كاملا ، فهو الرائد في الثقافة العراقية ، في وضع عنوان تفسيري تحت العنوان الرئيسي ، وهي السمة الأسلوبية التي رافقته في مؤلفاته كلها :
( وعاظ السلاطين : رأي صريح في تاريخ الفكر الإسلامي في ضوء المنطق الحديث ) .
لكنه الآن ، وبعد موجة انفعاله الصاخبة يعيد رسم هدف كتابه – مشروعه الكبير - في صيغة هجومية أخرى ، تمعن في فضح وعاظ السلاطين ومعهم الطغاة الذين تحالفوا معهم رغم اختلاف أدواتهما وأغطيتهما الفاضح ، فيقول :
( إني أريد من كتابي هذا أن ألفت الأنظار إلى خطر هذا الطراز الخبيث من التفكير . فهو تفكير نما في أحضان الطغاة ، وترعرع على فضلات موائدهم . وقد آن الأوان لكي نتبع اليوم طرازا آخر من التفكير ؛ هو تفكير البقّال والحمّال ، وتفكير البائس والفقير . إن أكثر مفكرينا اليوم يتبعون ، كما قلنا سابقا ، ذلك الأسلوب الذي يصفق للظالم ، ويبصق في وجه المظلوم . لقد آن لنا أن ندرس الطبيعة البشرية ، كما هي في الواقع ، فلا نعزو لها طبيعة ملائكية هي منها براء ) (41) .