المصطلحات الحضارية المغربية في رحلة ابن بطوطة: بين التحقيق والترجمة ـ عمر اكداش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

battou-mosquأولا: عوائق ترجمة المصطلح الحضاري:
         بالرّغم من أهمية الرّحْلة، وقِيمة ما ورد فيها من أخبار ومَعلومات، فإنها ظلتْ مجهولة لفترة طويلة. إذ لم يُكْشف عنها إلا في القرن التاسع عشر، بعد أن تَنبَّه المُسْتشرقُون خاصّة لقِيمة ما تَتضمنه من مَعْلومات، ومِيزتها ضِمن الرّحلات، فاتجهوا إليها بالدِّراسة والتّحْليل والتّرجمة والنّشر...
         ويَرجع الفَضْل في إصدار أوّل عمَل مُتكامل للرِّحلة –بعد أن تُرجمت ونُشـِرت مُـقتطفات كَثيرة مِنها- إلى المُسْتَشرقيْـن الفَرنْسيّيْـن دِيفْريمِيـرِي (C. Defremery) وسَانْكِـنِيـتي (B. R. Sanguinetti) بالاعتماد على ثلاث مَخْطوطات للرّحلة. وبهذا، أصْبحت الرِّحلة في مُتناول القَارِئ الغَربي والعَربي الإسْلامي معًا. لأنّهُما نشرَا الرِّحلة في أرْبع مجلدات باللغة العَربية، مَصْحوبة بالتّرجمة الفَرنسية لها. وبعدهما يَرجع الفَضل لمُستشرق ثالثٍ أسْدى خِدمة لهذا التراث، هو هَامِيلتُـون كِـيب (H. A. R. Gibb) الذي تَرْجم مُعْظم الرّحْلة إلى اللغة الإنْجليزية. وقد حاول في أعْماله شَرْح ما غَمَض من الألفَاظ، وتحْديدَ عَددٍ من الأعْلام الجغرافية، والتعريفَ بعدد من الشّخصيات الوَاردة في الرِّحلة. وتُرجمت بَعد ذلك الرِّحلة –كامِلة أو أجْزاء منها- مرّات متكررة إلى لغات عديدة، منها الإسبانية والبرتغالية والروسية والسويدية والفارسية والتركية والهندية واليابانية... وبذلك، ذَاع صِيتها، وأصْبحت في مُتناول جميع القُرّاء.


         وهنا، يَنبغي الإشادة بدَوْر أولئك الأجَانب، الذين بَذلوا أضعاف ما بذله الباحثون العرب[1] من جُهد لإعَادة بَعْث هذا التراث الحضاري. ومن المُفترض أن اهتمامهم بالرِّحْلة نظرًا لما تَحْمله من معْلومات جُغرافية وتاريخِية وحَضَارية هامة[2]. وإذا سَبق أن قُلنا، إنّ ابن بَطوطة اتّخَذ الحَضارة المَغربية التي نَشأ فيها مِعيارا يَقيس عليه ما رآه عند الآخرين، فإنه من الطّبِيعي أن تتسَاقط العَديد من ألفاظها العَامّية ومُصْطلحاتها الحَضارية في رحلته. وإنّه أيْضا، منَ الطبِيعي أن تَنطبع هذه الرّحلة كسَائر الآداب بالطابع المَحلي للمَغْرب ثقافيا ولغَويا وحَضَاريا وسِياسيا واقتصاديا... وفي ذلك تَزْكية للمَثل القَائل إنّ الأدبَ ابْن بِيئته[3]. لقد أتَاح اسْتعماله لهذه الألفاظ السُّقوط في عدة صُعوبات تتعلق بالتّرجَمة؛ هي أن المُسْتشرقين لم يَفهموا القصْد من أغْلب هذه المُصْطلحات، فرَاحوا يبْحثون عنها في قواميس بَعيدة عن بِيئتها، دون التفات إلى دَلالتها المَحَلية. وبطبيعة الحال؛ إن سبب الوُقوع في هذه الأخْطاء هو غِياب مَعْرفة دقيقة باللغة المَحلية المَغْربية وبتفاصِيلها، خُصوصا أنّ البِيئة الثقافية المَغربية تَتشكّل من عِدة لغَات تَتداخل فِيما بَيْنها.
وهناك عِدّة اعْتبارات، مِنها أن هذه المُصطلحات الحَضارية المغربية ذات خُصوصيات مَحلية تشهد على انتمائها للحضارة المغربية. ثم، كون الكثير منها غير مُسْتعمل في المَشرق. بالإضافة إلى إهْمال البَحث في دَلالتها المَحلية والإقليمِية من طرَف المُعْجميين واللغَويِّيـن زمن ترْجمة الرّحلة[4]، خُصوصا مَجْمع اللغة العَربية بالقاهرة. لهذه الاعتبارات، كان لِزَاما على البَاحثين الغَربيِّيـن البَحث عن دَلالتها المَحلية داخل البِيئة المَغربية، وليْس في مَعاجم اللغة العَربية. ولو أن بعضها عربي فصيح، إلا أن أغلبها تأثر بالبيئة المحلية للمغرب.
وقد كان تعامل الترجمات مع المصطلحات الحضارية الواردة في الرحلة عن طريقتين. أولاهما، التّرجمة الحَرْفية للكلمة، وهنا يكتسي المَفهوم طابَع الغُموض. وثانيهما، ترجمة المُصطلح بآخر قَريب من مَعناه ولا يُؤدي المَعنى المَقصود بالضّبط، وهو ما يَترتّب عنه فُقدان النّص لرُوحه الوَطنية والمَحلية[5]، ويُفْضي إلى إسَاءة فَهْم للقِيم والمَبادئ كما سيأتي.
رغْم هذه الإخفاقات التي تَرتبط بترجمة المُصْطلح الحَضاري، فلا نُنْكر جُهود هؤلاء البَاحثين في سَبيل خِدْمة هذا التّرَاث. ويَنْبغي الإشارة، إلى أنّ العَديد منْ هذه الألفَاظ توَصَّل إلى فَهْمِها الغَربِيون، فيمـا عَجَز عن فَهمها المحققون والباحثون العرب، فانْطلقوا يُؤَوِّلون.
ثانيا: التحقيق الحضاري لرحلة ابن بطوطة:
         بَعْد تَدْوين الرِّحلة، انْسدل عليها غِطاءٌ كَثيف، ولم يُعْرف عنها شيء إلاّ بَعد أن تنبّه المُسْتشرقون لقيمتها، ومن ثم اتجه الباحثون إليها بالدراسة والتحقيق. وظهَرت أوّل طبْعة عَربية بمصر بمَطبعة وادي النِّيل سنة 1871م، ثم صدر عن المَطبعة الأزهرية طبعة أخرى سنة 1928م. وقد حُقِّقت الرّحلة بعد ذلك مرات عديدة على يد عدة محققين ودُورِ نشر، وأشهر هذه التحقيقات العربية تحقيق طلال حرب سنة 1987م. إلا أن أغلب هذه الأعْمال، لم تُسْدِ خدمة لهذا التراث بقَدْر ما قامت بعَرْضه وتَشويهه في أغلب الأحيان. وهُناك عِدّة مُؤاخذات على هذه الأعمال، منها اعتمادها على نسخة واحدة للرحلة هي النسخة الباريزية. ومنها نِسْبة المُقَدمة التي وَرَدتْ في الرِّحلة لابن بطوطة، مع أنها لابن جزي. و منها، حَذْف الإضافات التي وَرَدت في الرِّحلة لابن جُزَي، جَهْلا لقيمتها وفائدتها. ثم حذف الكلمات المُتَعلقة بضَبط وشَكْل الأسْماء الجُغرافية... الخ.
         أما بالنسبة للمُصطلحات الحضارية الواردة في الرحلة، فتظهر صُعوبة فهمها من طرف المَشارقة. لذلك، نجد أحيانا اعترافات صريحة في الهوامش بعجزهم عن الوُصول للمَعْنى المَقصود، رغم كون بعضها عربي فصيح. وفي أحيَان أخْرى، أطلقوا العِنان لخيالهم الذي أخْطأ الصَّواب، فانْطلقوا يُؤوِّلون. وانْطلاقا من هذا الغموض الذي يعتري تلك المُصطلحات، سعى بَعْض البَاحثين إلى التّشْكيك في الثقافة اللغوية لابْن بَطوطة، لاحْتواء الرّحلة على "تَعْبيرات غريبة، وأسَاليبَ تُخَالف ما نَعْهَده للفُصَحاء"[6]. وفي السِّياق نفسه، يَرُدّ العَلامة عبد الله كنون رَدًّا لاذِعا على أصْحاب هذا الموْقِف، بأن الألفَاظ الغامضة الوَاردة في الرِّحلة ليْست كلها عامية، بل مِنْها ما هو عربي فصِيح غَيْر جَارٍ على ألسِنة النَّاس في المَشرق. وأنَّ ذَاك أسْلوبٌ مُعْتاد عِنْد الكُتّاب قَديما وحَديثا، ولا حَرَج على الرَّحّالة فيه.
         وقد صَدرت رحلة ابن بطوطة إلى -جَانب التّحقيقات- في شكل مُخْتَصَرات، منها ما أعَادت صياغة الرِّحلة على شكْل قِصَص بضَمير الغائب، أو عَبْر تَهْذيـبها وتَشذِيبها، لِهَدف تَرْبوي يَتعلق بِتدْريسِها في المَدَارِس. وأشهر هذه المختصرات للرحلة كتاب (مُهَذَّب رِحْلة ابْن بَطّوطة) الصّادر عن وزارة المَعارف المِصرية، وقَدْ اعتُبِر هذا الكِتاب بِحَقٍّ تشويها ومَسْخا لهذا العَمل الأدَبي، و جَهلا لقيمته المعرفية[7]. وانطلاقا من مَجال بَحْثنا هذا، ليْس مِن المُسْتبعد ما قد تَقوم بِه هذه المُخْتصرات مِن تَشويه للمُصْطلحات والألفاظ الوَاردة في الرِّحْلة، بِدَعْوى كَوْنها غَيْر مَفْهُومة للقَارِئ[8].
إلاّ أن العمل، الذي نبقى مَدِينين له بمزيد من التَّقدير والاحْترام، هو ما صدر نهاية القرْن المَاضي عن الأكاديمي الدّكتور عَبْد الهَادِي التّازِي، بما بذله من جهود متراكمة في سبيل خدمة هذا التراث المغربي الأصيل. فقد صَدَر سنة 1997م عن أكاديمية المَمْلكة المَغربية تحْقيق عبد الهادي التازي لرِحْلةِ ابْن بطوطة، فكان أكْمَل وأفضل تَحْقيق لهَا وآخِره. ولَمْ يَأتِ هذا العَمَل مِنْ فَرَاغ، إنَّما عَبْر سَيْرورة من الجُهود المُتَواصِلة. منها: الاعْتماد على إحْدَى وثلاثين مَخطوطة للرِّحْلة، وقد تحدَّث عنها بالتَّفصِيل في التّقـديم[9]. ومِنْها إصدار العَمل في أرْبعة مُجَلدات، مع تخْصِيص مُجَلد خامس للفَهَارس، وتَزْويد العَمَل بِمَجْموعة من الخَرَائط والصّوَر. ومنها التعاطي لتراجم أسماء الأعلام الواردة في الرحلة، وتحديد مواقع المناطق الجغرافية التي مَرَّ منها ابن بطوطة. يَنْضاف لذلك شَرْح الألفاظ والمصطلحات الغامضة[10]، وتصحيح الأغلاط والإخفاقات التي وَقع فيها سَابِقوه من المترجمين والمحققين... وغيرها من المزايا كثير.
وقد تناولت العديد من المصطلحات الحضارية المغربية بالشرح والبيان، بعد أن جردتها من رحلة ابن بطوطة، وبعد أن صنفتها وبينت الأخطاء التي وقع فيها المحققون والمترجمون سالفي الذكر. ولا يسعني هنا إلا أن أعدكم بأن أقدم لكم العمل الذي قمت به حول تلك المصطلحات في مقالات موالية إن شاء الله.  


________________________________________
) حسين مؤنس، مرجع سابق، ص.13.[1]
) وقد دخل اهتمام الغربيين بالرحلة العربية أيضا في إطار تهيئ أرضية للاستعمار.[2]
[3]) الحسن الشاهدي، "مصطلحات المحلية المغربية في رحلة ابن بطوطة"، ضمن مجلة المناهل، عدد 59، السنة 24، ماي 1999، ص.310.
[4]) قلت زمن ترجمة الرحلة، لأنه أنْشِئت حديثا مَوْسوعات تهتم بالمصطلحات الحضارية المغربية، منها:
* معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، 22 جزء.
* الموسوعة المغربية للأعلام البشرية والحضارية، عبد العزيز بنعبد الله، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1975.
[5]) محمد أخريف، "مفهوم بعض الأسماء والعبارات عند ابن بطوطة"، ملتقى طنجة حول ابن بطوطة، ص.429.
 
) محمد مصطفى زيادة في إحدى محاضراته، أشار لها عبد الله كنون، المرجع السابق، ص.40.[6]
[7]) حسين مؤنس، ابن بطوطة و رحلاته، ص.8.
ذاكر، عبد النبي: "تجليات الإيروسي في رحلة ابن بطوطة"، مجلة المناهل، عدد59، 1999، ص382/ 383.
[8]) هنا أتأسف على عدم تمكني من الحصول على نسخة لمهذب رحلة ابن بطوطة ولا على أي مختصر آخر غيره، حتى أقف بنفسي على هذه التشويهات والتحريفات.
) الرحلة، مج1، ص.17ـ74.[9]
) وضمنها مصطلحات الحضارة المغربية والمصطلحات العامية.[10]

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟