إشكالية علاقة الدين بالفلسفة بالأندلس ـ إبراهيم بورشاشن

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 gran al andalusيطمح هذا العرض إلى معالجة إشكالية علاقة الدين بالفلسفة في الغرب الإسلامي من خلال ثلاثة نماذج؛ نموذج غير موحدي ثم نموذجين موحديين ثم نموذج مغربي حديث. وسنسلك من أجل المعالجة توطئات نحدد فيها مفاهيم : الإشكالية – الدين –ا الفلسفة ثم نثير ما تتضمنه من مفارقات. لنضع هذه الإشكالية في سياقها من تاريخ الفلسفة بشكل عام.ثم نقف عند ابن سيد البطليوسي كتاب الحدائق.ثم ابن طفيل وقصة حي بن يقظانثم ابن رشد وكتابه فصل المقالثم نقف بإيجاز عند الحجوي ومقالته الموسومة بالتعاضد المتين.قبل أن نخلص إلى بعض النتائج في الموضوع.

توطئات :
ما الإشكالية :

الإشكالية هي مشكل فلسفي، والمشكل problème   آت من الكلمة الإغريقية problèma ، إنه الحاجز الذي ينتصب أمام الذات، الكيفية التي يقتحم بها، والجواب الذي نقدمه والذي لا يمكن أن يكون وثوقيا. أن يكون عند المرء حس الإشكال يعني أن ينظر في جميع الاتجاهات، والمشكل الفلسفي يمكن أن يشير إلى مفارقة أو إحراج ، إلى صعوبة ذات طبيعة عقلانية يبدو أنه لا حل لها.


الفلسفة : تشير إلى بحث، استكشاف وحب للحكمة كما يدلنا على ذلك اشتقاق الكلمة، إنها تبحث في موضوعات متعددة فتبحث في الواقع، التاريخ، الانسان، المعطيات الأخلاقية، الدينية...وتسائلها جميعها، يرى أرسطو في الدهشة محركا للناس حول فعل التفلسف حيث تسائل الفلسفة الحقائق المباشرة ..أن نتفلسف يعني أن نسائل الواقع لنفهمه أفضل ونشيد أخلاقا يطبعها العقل، وتختص الفلسفة بمنهج يتميز بالإحساس بالجهل كما نجد عند سقراط، بالشك كما نجد عند الغزالي وديكارت، بتحليل الشروط التي تسمح بالمعرفة كما نجد عند كنط....

الدين : يقول محمد بن الحسن الحجوي : "الدين: أصوله وأحكامه المأخوذة من القرآن الكريم الذي هو قطعي لكونه متواترا ..[والمأخوذة من ] السنة المتواترة [ومن ]خبر الواحد إذا احتفت به القرائن."

تنبع إشكالية الفلسفة والدين من أن الفلسفة تطرح سؤال العقل؛ كيف يؤسس العقل في الفلسفة نظاما معرفيا متكاملا يصل بالانسان إلى كماله العلمي والعملي، وهل يشكل العقل في الفلسفة كفاية معرفية بحيث يمكنه أن يعرف كل شيء ويقدم معرفة مقنعة بكل شيء ويستغني عن كل مدد آخر؟ هل الفلسفة تضاد اللاعقل أم هو جزء من صميم بنيتها؟ وهل المعرفة الفلسفية هي معرفة مطلقة أم إنها معرفة منفتحة؟ وهل يمكن الحديث عن تقدم في المعرفة الفلسفية أم أن المعرفة الفلسفية تراوح دوما مكانها القديم؟ في حين يطرح الدين سؤال الوحي والسمع بحث إن الدين في مواجهة الفلسفة يشكل نظاما معرفيا وأخلاقيا كاملا للانسان؟ فهل الوحي يعارض العقل؟ بل هل الوحي لا عقل كله؟وهل الايمان يفترض إقصاء العقل؟

إن كلا من مفهومي الفلسفة والدين يحملان في ذاتيهما مفارقات أدت إلى حدوث تنافرات بينهما في كثير من المحطات الفلسفية كما أدت إلى لقاءات متوترة تنتصر مرة لصالح الفلسفة ومرة لصالح الدين ومرة لصالح توفيق أو جميع بينهما، جمع تعددت صورة لكنه في النهاية يروم عبر تاريخهما إبراز تآخي الفلسفة والدين تآخيا في المقصد وإن لم يكن تآخيا في النبع.

لقد شكل كل من الفلسفة والدين تحديا حقيقيا للآخر كما يقول محسن مهدي، فالأديان السماوية التي اخترقت الفضاء الهليني تحدت بـشكل كبير الفلسفة. وعندما تنبه الفلاسفة أن المتن الأرسطي ليس بالمتن المقبول من لدن الأديان السماوية، وكان بعض المتكلمين قد قبلوا شطرا من المذاهب الأفلاطونية، وبعض الدوائر الكلامية فقد قبلت بصدر رحب بعضا من الفلسفة الأفلوطينية، وتم، فضلا عن ذلك، الاقتناع بضرورة إقامة علاقة منسجمة بين الفلسفة والدين، عندما تضافرت هذه الشروط، أصبح السؤال الملح عندئذ هو : كيف نذوذ عن أرسطو ونحميه؟

إن هذه المهمة تمت بالعمل على إخفاء أرسطو عن العامة، فتم الذهاب إلى الأديان السماوية مع أفلوطين أولا مشفوعا بأفلاطون الإلهي على أن يظل أرسطو في الخلف لا يقرأ إلا لماما، أو يقرأ فقط من طرف المختصين بشرط أن يكونوا قد هُيئوا بقراءة أفلاطون أولا ثم قراءة أفلوطين من بعده. ليتم، بعد ذلك، تقديم أرسطو في ثوب أفلوطيني من خلال كتاب "أثولوجيا". كما أنه تمت حماية أرسطو بعدم تعليم مؤلفاته وأصبحت تقرأ هذه المؤلفات في جلسات خاصة، كما أصبحت كتب أرسطو تغلف بشروحات أفلاطونية وأفلوطينية محدثة.

إننا نجد منذ الفترة الأولى تنافرا بين الفلسفة والدين في صيغة قوية سيعمل على التقريب بينهما من خلال إضفاء صبغة دينية على الفلسفة مع أفلوطين ليظهر لأول مرة هذه الرغبة في التوفيق والجمع بين الدين والفلسفة وهو الجمع الذي سيبح تقليدا فلسفيا كبيرا فيصبح التقريب بين أرسطو وأفلاطون عنوانا كبيرا للتقريب بين النسق الديني الروحاني والنسق الفلسفي العقلاني. و سنجد في الصيغة الإسلامية للفلسفة هذا التقليد مستمرا مع الفارابي وابن سينا في المشرق ومع فلاسفة الغرب الإسلامي أيضا وإن كان الأمر يحمل من خلال وجه آخر.

فكيف تجلت معالم هذه الإشكالية في مجتمع الغرب الإسلامي قديما وحديثا؟

لقد حرص فلاسفة الاسلام على تقديم جواب لإشكال علاقة الحكمة بالشريعة. فإذا كان الكندي قدم على معالجته في كتابه في الفلسفة الأولى، وإذا كان الفارابي أفرد له فصلا مهما في "كتاب الحروف"، وأفرد له كتاب "الملة"، وكان ابن سينا لم يترك فرصا تمر دون تحديد تصوره للعلاقة كما نجد في كتاب "النجاة" مثلا، وعالجه ابن سيد في كتاب "الحدائق" وأفرد له ابن طفيل صفحات قليلة من رسالته حي بن يقظان، صوره فيها من خلال مشاهد سردية فإن ابن رشد سيخصه بثلاثيته الشهيرة : "فصل المقال" و "الكشف عن مناهج الأدلة" و "تهافت التهافت". وبعد ذلك بقرون سينبري محمد الحجوي للمشاركة في الموضوع من منظور جديد بمحاضرة سيلقيها بمكناس بعنوان "التعاضد المتين بين العلم والعقل والدين".

لكن ما الداعي إلى طرح هذا الإشكال في المجتمع الإسلامي؟

درج الفقهاء، عموما، على تحريم النظر الفلسفي لاعتقادهم التام بالكفاية العلمية والعملية للشريعة، فانبروا يخسسون الفلسفة والفلاسفة في أعين الحكام والجمهور. كما نجد عند ابن حبوس" شاعر الخلافة المهدية "152،   وأبي حفص الأغماتي153، وابن جبير154، والفازازي،155 والكلاعي156 39 وابن حيان الأندلسي صاحب البحر المحيط158 ثم الخليفة المنصور في رسالته التي كتبت عقب نكبة ابن رشد.

وسنحاول انطلاقا من نصوص لهذه العينة من مثقفي العصر أن نستجلي بعضا من الدواعي المعرفية والإيديولوجية التي تقف خلف موقف فقهاء المرحلة من الفلسفة. .

إن فحصنا لنصوص هؤلاء جعلنا نخرج بانطباع عام فحواه أن كثيرا من الدواعي التي تكمن وراء انتصاب هذا العائق في وجه الفلسفة ترجع إلى تأثير أبي حامد الغزالي في مثقفي العصر، فإذا كان "حجة الإسلام" يرجع رفضه للفلسفة إلى سببين كبيرين؛ أولهما موقف الفلاسفة من الدين والمتجلي في رفضهم له واحتقار شعائره، وثانيهما اعتمادهم كتابة فلسفية تقوم على "التهويل" وتستند إلى " التخاييل والأباطيل "160 لينتهي إلى تبديعهم من خلال فحصه القضايا العشرون في تهافته، فإن هؤلاء الفقهاء لا يكاد يخرجون بشكل عام عن هذه الدواعي وإن كان البعض قد استخلص منها مواقف صارمة سواء على المستوى النظري أو على المستوى العملي.

وهكذا، وعلى مستوى تقييم الفقهاء للكتابة الفلسفية نجد بعضهم يحذر منها باعتبارها "جهالات" ليس إلا161 " وأن أكثرها لا يفيد إلا تشكيكا ورأيا ركيكا"، 162 ولذلك أكثر الفقهاء تحذيراتهم من هذه الكتابة الفلسفية ولم ينوا عن الدعوة إلى طرحها،163 مرجعين سبب إقبال البعض على قراءتها إلى خداع ألفاظها ليس غير، فتصبح الفلسفة بهذا كتابة عارية عن الحقيقة وتقوم على معجم لغوي يخدع بـ" لطف رائق"،164 أما نتائج هذه الكتابة فهي كلها ضلال وزور،167 تؤدي إلى الكفر ورفض الشرائع168.

أما سبب هذه النتائج التي تصل إليها الفلسفة و"يتورط" فيها الفلاسفة، فترجع إلى اعتماد الفلاسفة على العقل والمنطق والخيال ؛

أما اعتمادهم على العقل فسببه جهل الفلاسفة بعدم إمكانية استقلال العقل عن الشرع، لذلك فالاعتماد عليه كأداة معرفية وحيدة لا يؤدى إلا إلى باطل، ويحدد الفقيه العلاقة الممكنة بين العقل والشرع ليحذر ممن "حدث عن عقله"،169 محذرا من المنطق لأنه سبب البلاء كله170. وأما الخيال فهو سبب الضلال171.

إن الكتابة الفلسفية إذن عند الفقهاء لا تقوم على أساس علمي لا من حيث شكلها ولا من حيث مضمونها ولا من حيث أدواتها ولا من حيث غاياتها، وقد نتج عن هذا الموقف موقف آخر يعتبر الجهل بالعلوم القديمة من الأمور التي لا تضر المرء شيئا172 لأن العلم كله والحكمة كلها في الكتاب العزبز173، لذلك دعا الفقهاء إلى الاستمساك بالشريعة والاقتصار عليها دون غيرها،174 باعتبار أن الشريعة هي وحدها التي تقول الكلمة الفصل في كل معرفة ممكنة.

أما بالنسبة لتقييم الفقهاء لشخصية الفيلسوف، فالفيلسوف لديهم ليس سوى "مبتدع كافر وملحد"، 175" غبي " " ومغرور" و"كاذب 176،" والفلاسفة بالجملة ليسوا سوى "عصابة من الحمقى والسفهاء "، "والمنافقين"، "والمرائين" ؛ فهم يحتقرون الشرع،177 وتثقل عليهم أحكام الشريعة178، ذاهلين بالتفلسف عن الكتاب والسنة179. وقد بلغ موقف بعض الفقهاء من الفلاسفة حدته بدعوته إلى قتلهم وسفك دمائهم،180 أما إذا وقعت بأحد الفلاسفة نكبة فإن البعض يجدها متنفسا كبيرا لمشاعر العداء والبغض181 وستصبح نكبة ابن رشد في عهد المنصور من الحجج القوية على فساد الفلسفة حيث سيتم توظيف هذه النكبة من أجل تحذير الجمهور من كتابة الفلاسفة.182

وهكذا تشكلت نواة أساسية لمواقف نظرية وعلمية من الفلسفة وأهلها والتي يمكن النظر إليها من خلال موقفين كبيرين :

أولا : دعوة الفقهاء إلى القضاء على الفلسفة والفلاسفة وإلحاحهم على إحراق كتبهم وتحذير الجمهور منهم كما نجد في رسالة المنصور،183 أو تغريبهم وإذلالهم إذا تعذر قتلهم كما يفصح عن ذلك موقف ابن جبير،184 وكما مورس فعلا على فيلسوف قرطبة ومراكش ابن رشد185. 67 ـ

ثانيا : حرص الفقهاء على وضع خط فاصل بين ما يسمى "العلوم المحمودة" و"العلوم المذمومة" كما نجد ذلك واضحا في نونية الكلاعي ووصية ابن الخطيب. أما الأول فنظم قصيدا يحض فيه على العناية بالقرآن والحديث186 وأصول الدين وعلوم الفرائض والاهتمام بالتاريخ والمغازي والحرص على دراسة الفقه على المذهب المالكي187 وأصول الدين على طريقة ابي الحسن الأشعري،188 منبها إلى أهمية الاشتغال بالطب189، لينتهي إلى التحذير من الفلسفة لأن طريقها هو طريق "الكفر"،190 والتحذير من علم النجوم لأن طريقه طريق الجنون والزندقة والتخليط191. وتمضي القصيدة في بيان ما يجب ما معرفته وما لايجب، وهو ما أجمله ابن الخطيب في قوله :" ... فليرو الحديث بعد تجويد الكتاب وأحكامه، وليقرأ المسائل الفقهية على مذهب إمامه، وإياكم والعلوم القديمة والفنون المهجورة الذميمة فأكثرها لا يفيد إلا تشكيكا ورأيا ركيكا ... لا تخلطوا جامكم بجامها إلا ماكان من حساب ومساحة وما يعود بجدوى فلاحة وعلاج يرجع على النفس براحة، وما سوى ذلك فمحجوز وضرم مسجور وممقوت ومهجور"192.

ننظر إلى هذا الموقف الفقهي العام الذي بسطنا بعض خطوطه العريضة هاهنا باعتباره عائقا حال ويحول دون التمكين لفعل التفلسف في المجتمع الإسلامي، خاصة وأن الفقهاء يعبرون عن مواقفهم إما شعرا وإما خطبة وإما على شكل رسائل تجوب الآفاق وهي من الوسائل الإعلامية التي تذيع الخبر وتؤثر في النفوس بتقنيات معينة في التعبير تمتح من حقل البلاغة من أجل الإقناع العاطفي والتأثير الوجداني ومخاطبة الخيال فتخلق رأيا عاما له رد فعل واحد تجاه الفلسفة. وقد أنتج هذا الموقف الفقهي عائقا آخر في وجه الفلسفة يمكن أن نسميه "العائق السياسي" وهو عائق أفصح عن نفسه من خلال مواقف بعض حكام المسلمين المعادية للفلسفة والتي ذهبت بعيدا في القضاء على فعل التفلسف كما نجد في الأندلس قديما مع الحاجب المنصور193، وفي المغرب مع المرابطين وموقفهم من الإحياء، ومع الموحدين وموقف خليفتهم الرابع من ابن رشد، وهي كلها مواقف سياسية غذتها فتاوى فقهية صارمة.

في ظل هذا المناخ العام ستفرض على فلاسفة الإسلام التفكير في علاقة الحكمة بالشريعة، سيكتب ابن سيد حدائقه ويكتب ابن طفيل رسالته حي بن يقظان ويكتب ابن رشد ثلاثيته الشهيرة الفصل والمناهج والتهافت ويكتب الحجوي رسالته التعاضد المتين .

إننا لا ننظر إلى هذه المواقف الفقهية السابقة من خلال وضعها في الزمن الفزيائي وإنما من خلال وضعها في الزمان النفسي الذي لا يعرف متقدما ولا متأخرا. فكما قال صاعد الأندلسي قديما فهذه "العلوم مهجورة عند أسلافهم [يعني أهل الأندلس]مذمومة بألسنة رؤسائهم وكل من قرأها متهما عندهم بالخروج عن الملة مظنونا به بالإلحاد في الشريعة، [لذلك] سكن أكثر من ..تحرك للحكمة..وخمدت نفوسهم وتستروا بما كان عندهم من تلك العلوم..ولم يزل أولو النباهة ...يكتمون لما يعرفونه ويظهرون ما يجوز لهم منه من الحساب والفرائض والطب وما أشبه ذلك..." وهو ما سيعيده القول فيه صاحب النفح بصيغة أخرى وهو ما سيعرفه العصر الإسلامي في المغرب حتى القرون المتأخرة. فنحن هنا أمام بنية نفسية ستتشكل مع الوقت لتنشئ موقفا عاما ثابتا من النظر الفلسفي سيتردد صداه في التاريخ الإسلامي...

فكيف أجاب ذوو النظر الفلسفي من نبهاء الإسلام على دعاوى الفقهاء وأشياعهم من الحكام.

1-   ابن سيد البطليوسي 

عالج ابن سيد إشكال علاقة الحكمة بالشريعة في كتابه الحدائق من خلال موقفين؛ موقف وظف فيه على مستوى الكتابة معجمين مختلفين؛ معجم فلسفي ومعجم ديني، فخلع على الفلسفة إهابا من الدين، وعلى كبار فلاسفة اليونان مسوحا من التدين العميق. وموقف ميز فيه في فلاسفة اليونان بين صنفين: صنف من سخفاء الفلاسفة وجهالهم[1] ؛ كطاليس وزينون، اللذين "غلطوا.. غلطا فاحشا" فزعموا [مثلا] أن الله "يحل الأمكنة"...ويقع تحت الأزمنة، أو يلتبس بشيء من العالم، تقدس عن ذلك وعلا علوا كبيرا"[2]، وصنف من "مشاهر الفلاسفة وزعمائهم، العارفين بالله، والقائلين بالتوحيد" كأرسطاطاليس، وأفلاطون، وسقراط[3].

لقد كتب ابن سيد البطليوسي كتابه "الحدائق" لمعالجة جملة من الإشكاليات الفلسفية التي كانت حديث بعض المجالس الفلسفية. وقد عدد ابن سيد هذه الإشكاليات، وأحصاها في سبع، وعالجها معالجة خاصة؛ حيث نجده حريصا أولا على تقديمها وتحليلها بأسلوب تعليمي عربي فصيح، وحريصا ثانيا على تقريب مضامينها الفلسفية من مقتضى التداول الإسلامي. وهما في نظرنا المساهمة التي قدمها ابن سيد في معالجة الإشكال

إن ابن سيد البطليوسي هو في حقيقته رجل نحو ولغة، لكنه هو كذلك رجل فلسفة وجد في أندلس الانفراج الفلسفي مع ملوك الطوائف حيث ارتفعت الرغبة في طلب العلم القديم. وابن سيد وإن عاصر المرابطين فقد كان كثير الترحال فكان أقرب إلى روح عصر ملوك الطوائف. وهو لم يدخل المغرب قط عكس معاصره ابن باجة. ولعله لهذا السبب استطاع أن يفصح عن همومه الفلسفية وهي هموم لم يعرف بها عند غيره إذ ظل يغلب عليه الجانب الأدبي أكثر ، أما شخصيته الفلسفية فظلت مجهولة لحقبة طويلة.

يعتقد ابن سيد أن سبب سوء الظن بالفلاسفة يرجع كثيرا إلى الأوهام الفلسفية التي تنشأ من "سوء التأول لكلام القدماء من الفلاسفة"، لذلك اتخذ في كتابه هذا نهج تبرئة الفلاسفة مما توهمه عليهم بعض المتفلسفة، كما نجد في الباب الذي عقده ل"شرح قول الحكماء:إن الباري تعالى لا يعلم إلا نفسه"[4]،   فيلجأ إلى أرسطو حجة ينكر بها الأقوال المنافية للتوحيد، حيث إن أرسطو رد أقوال الفلاسفة النازعة إلى تصوير الذات الإلهية وتمثيلها، بل"وضلل قائل[ها] وكفره"، كما يرد عنه ما توهمه عليه البعض من القول بالتمثيل[5]، مؤكدا موقفه الإيجابي من الدين؛ فأرسطو لا يعتبر فيلسوفا حقا إلا خيرا فاضلا مرتبطا بالنواميس، وذلك لا يكون إلا من دين، لذلك يقول أرسطو "اقتلوا من لا دين له"! بل إن أرسطو "يأمرنا بالتسليم لما جاءت به الشرائع،[6]"، لأننا "عاجزون عن فهم ما جاءت به" كما يقول أفلاطون[7].

إن فلاسفة اليونان هم فلاسفة منافحون أشاوس عن القضايا الأساسية للدين، لذلك سيتخذهم ابن سيد مطية ليعبر عن آرائه في الفلسفة وبيان عدم خروجها عن مقتضى التداول الإسلامي، عكس ما فعله الغزالي في تهافت الفلاسفة..

فحول مسألة العلم الإلهي التي أفتى فيها الغزالي في "التهافت"، والتي يبدو أن الجدل قد كثر حولها إلى عصر ابن رشد الذي سيفرد لها الضميمة المشهورة، ينشئ ابن سيد قولا يؤكد فيه علم الله بالجزئيات، ويدفع عن الفلسفة ما نسب إليها في شخص أفلاطون وأرسطو، من أنها لا تتسع إلا إلى القول: إن الله لا يعلم إلا الجزئيات. فهذا أفلاطون -على ما في قوله من التعقب-يؤكد أن "الباري جل جلاله، عالم بالأشياء قبل كونها بخلاف ما يتوهم عليه"، بل إن كبراء الفلاسفة وجلتهم يعتقدون "أن الباري تعالى عالم بكل شيء، لا يغيب عنه مقدار الذرة وما هو ألطف منها، وأنه عالم بضمائر النفوس، ووساوس الصدور"[8]، وهذا نفسه ما أثبتته الشريعة " أن الله عالم بكبير الأشياء وصغيرها" أما الذين قالوا بغير ذلك، فإنما "عرض لهم الغلط، لأنهم يقيسون الله تعالى بالبشر، ويشبهون صفاته بصفاتهم."[9]، وهؤلاء ليسوا حكماء، إنما هم "مبطلون".

وحول قول أرسطو "إن الباري تعالى علة للعالم، على أنه فاعل له، وأنه غاية له، وأنه صورة له" مما يتوهم منه عدم مباينة الله للموجودات، فإن ابن سيد ينبري للدفاع عن أرسطو بردود يبين فيها أن معنى قول أرسطو: أن الله صورة العالم، لا يعني بحال تشبيها، وإنما يعني أن وجود العالم غير ممكن بدون الموجود على الإطلاق، الذي هو "الوجود على الحقيقة".ف"صار كأنه موجود واحد، وصار كأنه صورة له، إذ كان وجوده به كما يوجد يوجد المصور بصورته، وإن كان تعالى لايوصف بصورة"[10]، كما يعني "أنه تعالى أفاض من وحدته على كل موجود ما صارت له به هوية يتصور بها؛ فكل موجود إنما يوجد بتلك الوحدة التي سرت منه إليه بصورته"، كما يعني "أن الباري تعالى هو الذي أخرج العالم من القوة إلى الفعل، أعني من العدم إلى الوجود،[ف]صار من هذا الوجه كأنه صورة للعالم، وإن كان غير صورة على الحقيقة"[11]. وهكذا يتمحل ابن سيد الأعذار الفلسفية لأرسطو، ويجهد في إخراج قوله مخرج التزيه ليلائم المرجعيته الإسلامية التي ينطلق منها؛ وذلك نفسه ما يؤكده في مسألة خلود النفس، حيث يقرر أن "مذهب سقراط وأرسطو وأفلاطون وسائر زعماء الفلاسفة" في ذلك، أن النفس الناطقة "باقية حية لا عدم لها ...وعلى ذلك تدل الشرائع"[12].

عاش ابن سيد -كغيره من فلاسفة الغرب الإسلامي-في مناخ ثقافي ينبو ذوقه عن الفلسفة، وقد حاول ابن سيد في كتابه هذا أن يقدم لمثقفي عصره صورة للفلسفة أقرب إلى صورة الشرائع في أذهانهم؛ فجعل "حد الفلسفة..التشبه بالله تعالى بمقدار طاقة الإنسان"، وجعل الغرض من العلم "القرب من الله تعالى في الصفات"[13]. وجعل البرهان الفلسفي يوافق البرهان الشرعي[14]، وأضفى على الفيلسوف صورة الزاهد في الدنيا، المحب للخير وأهله، المبغض للشر وأهله، المرتبط بالنواميس، المكتسب للفضائل، المطرح للرذائل"[15]، ومن هنا لا نستغرب عندما نجد ابن سيد يجمع في صف واحد، كبراء الفلاسفة وزعمائهم والشافعي وداود وجماعة من علماء المسلمين، عندما يعالج مسألة الصفات وعلاقتها بالذات[16](ص103)، فإن الكل خاضع للفكرة التي لا ترى أهمية علم ما لم يكن وراءه عمل[17]، وابن سيد في هذا كله وهو يقارن بين الفلسفة والشريعة من خلال المقارنة بين "النفس الفلسفية" والنفس النبوية"، يعطي الأسبقية للثانية منهما؛ فالنفس النبوية أشرف النفوس التي في عالم الأركان وأعلاها، ومن خواصها "الإخبار بالأشياء التي ليست في قوة النفس الفلسفية أن تعلمها، لأن النفس الفلسفية إنما تتعاطى النظر في الكليات خاصة"، ولذلك كانت الفلسفة عاجزة عن فهم الشرائع وتعليل أحكامها، ومطالبة بالتسليم لما جاءت به[18].

لقد هيمن على نص ابن سيد هاجس إخضاع القضايا الفلسفية التي عالجها للتصور الإسلامي كما يفهمه، كما هيمن عليه هاجس تبرئة أرسطو وأفلاطون خاصة مما نسب إليهما من آراء تخالف ما تعارف عليه مثقفو العصر من آراء حول التوحيد، والنبوة، وعلاقة الله بالعالم، وخلود النفس، فضحى -من أجل تقريب الفلسفة وتسهيلها-، بالفلسفة الحقيقية لكل من الحكيمين.

 

أبو بكر ابن طفيل

كان ابن طفيل رجل علم ورجل سياسة، ولا نعرف الكثير عن حياته العلمية ولا عن حياته السياسية ، لكن ما يجب الإشارة إليه هو أن ابن طفيل، لم يكن غريبا عن ثقافة عصره، بكل أشكالها ولويناتها، فدرس الفقه والأدب والفلسفة وغير ذلك من العلوم التي أهلته لوظائفه في الدولة الموحدية، وعندما سيتوفى سنة 581 هـ سيحضر الخليفة أبو يوسف يعقوب جنازته كرمز على المنزلة الخاصة التي نالها ابن طفيل في قلوب الأسرة الموحدية، فقيها وطبيبا وفيلسوفا ووزيرا. ويبدو أن هذه المنزلة لم يكن وراءها فقط موسوعته الثقافية الإسلامية بل إن شخصه كان فوق أي تهمة أو ريبة..

 

كان ابن طفيل الوزير والمستشار والطبيب الخاص للخليفة، وكان المسؤول عن السياسة الثقافية للدولة والمنتصر للفلسفة والحريص على التمكين لها، وكان الفقيه -الفيلسوف الحريص على روح الجماعة ووحدتها والتي تعتبر الشريعة ملاكهما والحريص كذلك على جذوة التأمل والذي تعتبر الفلسفة حافزها وميدانا لها. إنه ابن طفيل المدرك للعوائق التي تهدد سلامة الشريعة من جهة كما تفسد النظر الفلسفي من جهة أخرى. إن ابن الطفيل هذا هو الذي كتب قصة حي بن يقظان ولخص فيها مجمل الثقافة الفلسفية الإسلامية كما انتهت في عصره في أسلوب سردي جميل وممتع، كتبها لتعليم الفلسفة ولكن أيضا ليبرز الحد الفاصل بين الشريعة والفلسفة قصده في ذلك أن ينشئ لفعل التفلسف وضعه الخاص ويحفظ للشريعة وظيفتها الاجتماعية بامتياز. وهذا، في نظرنا طبيعة الجواب الذي قدمه.. فكيف تم ذلك؟

. يبدو لنا أنه ابن طفيل سيتقصى طريقة ابن سيد في كتابه فهو سيعمد إلى أن يحسن الظن أولا بالتعبير الفلسفي قبل أن يعمد إلى بيان هذه المحبة الطبيعة بين الفلسفة والدين.

لقد حرص ابن طفيل أن يكتب نصه، كما صنع ابن سيد قبله، بلغة عربية مشبعة بعبق البيان العربي، ليسهل وقعه على الأذن المتمرسة بطرائق اللغة العربية في التعبير. وقد ساعده على ذلك أن الكتابة التي اختارها لرسالته الفلسفية كتابة عامة وليست كتابة خاصة، إذا نحن استعرنا تعبير الفارابي في كتاب الحروف[19]. فصاغ أسلوبه على منوال العبارة القرآنية، من مثل قوله: "وما زال حي بن يقظان يستلطفهم ليلا ونهارا، ويبين لهم الحق سرا وجهارا، فلا يزيدهم ذلك إلا نبوا ونفارا.."، وقوله "فأدخله الماء بقوة إلى أجمة..محجوبة عن الشمس تزاور عنها إذا طلعت، وتميل إذا غربت"، وغير ذلك في النص كثير. أو عندما يضمن أسلوبه آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وهو معطى يحضر من بداية النص إلى آخره، ولكننا نجده بكثافة في الورقات الأخيرة من الرسالة، وهو يصف مجتمع سالمان. من مثل : " وتصفح طبقات الناس..فرأى كل حزب بما لديهم فرحون...ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم"، أو عندما يدرج ضمن عناصر السرد أحداثا- قصصية مستقاة من القرآن والسيرة النبوية، كقصة موسى، وقصة الغرابين، وقصة الرسول(ص) مع حليمة السعدية والتي تذكر كتب السيرة أن حلوله في دارها كان بركة عليها، وهو ما يوظفه ابن طفيل لبيان "بركة" حي على الظبية[20]، ". وكأن ابن طفيل بهذه الإحالة -مع الإحالات الأخرى السابقة- يوحي بكرامة مرتقبة ل"حي"، ويهيئ لها الأذهان.

لقد صاغ ابن طفيل عباراته بأسلوب أدبي مشرق، فاختار الألفاظ السهلة التي تتميز بالعذوبة والسلاسة، وتفنن في اختيار المفردات التي تترك في النفس جميل الأثر، وتمكن لقناعاته عند المتلقي، بعيدا عن التعقيد اللفظي ما وسعه ذلك.

لكن المهمة الشائكة التي كان ابن طفيل يسعى إلى تحقيقها، تتجاوز الشكل الذي صيغت به الرسالة، رغم الأهمية المعتبرة للشكل، فقد أراد ابن طفيل أن يطوع المعاني الفلسفية التي عرضها في رسالته لمقتضى التداول الإسلامي، فكيف ذلك؟ وهل وفق فعلا فيه؟

يظهر هذا الجهد الذي بذله ابن طفيل في تحقيق هذا الأمر في مسألتين: المسألة الأولى تتعلق بإ يجاد أصول شرعية للمعاني الفلسفية، والمسألة الثانية تتعلق بحرص ابن طفيل على نفي كل تعارض بين العلوم الحكمية الفلسفية، وبين ما جاءت به الشريعة. وسنقف عند المسألة الثانية على الخصوص.

والسؤال الذي نطرحه هاهنا، كيف حاول ابن طفيل أن يقرب بين الحكم

والشريعة، هل اختار طريق الوصل، أم اختار طريق الفصل؟

إن الناظر في الرسالة، والمتتبع لمشاهدها، والواقف عند رموزها، يلاحظ حضور التصورين معا عند ابن طفيل؛ تصوران يترجمان عنده الاختلاف في علاقة الفيلسوف بالعابد، التي هي علاقة وصل. وعلاقة الفيلسوف بالجمهور، التي هي علاقة فصل. وقد اكتفى ابن طفيل بمشهدين من أجل إبراز هاتبن العلاقتين.

ففي المشهد الأول، حيث يلتقي "حي" ب "آسال"، وينسجان بينهما حبلا من فهم وتواصل، نجدنا أمام مفهوم الاتصال بين الحكمة والشريعة.

فنحن هاهنا في هذا المشهد أمام "آسال"، وقد أنصت للتجربة الفلسفية الميتافيزيفية ل"حي"، ووعاها، ووجد فيها ما يجيب على كل أسئلته، ف"لم يشك...[بعدئد] في أن جميع الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله عز وجل، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته وناره، هي أمثلة هذه التي شاهدا حي بن يقظان؛ فانفتح بصر قلبه، وانقدحت نار خاطره، وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مشكل في الشرع إلا تبين له، ولا مغلق إلا انفتح،ولا غامض إلا اتضح، وصار من أولي الألباب".

أما "حي" فبعد أن تعرف على شريعة آسال، وعالمها الإلهي "فهم ..ذلك كله، ولم ير فيه شيئا على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم، فعلم أن الذي وصف ذلك، وجاء به، محق في وصفه، صادق في قوله، رسول من عند ربه؛ فآمن به وصدقه وشهد برسالته".

وهكذا ينتهي هذا المشهد، بإبراز هذه المحبة الطبيعية التي تحدث عنها ابن رشد في "الفصل" بين الحكمة والشريعة ؛ حي يؤمن بما جاء به الشرع، ويلتزم بأداء الفرائض، وكأنه يترجم قول الغزالي في المشكاة "الكامل لا تسمح نفسه بترك حد من حدود الشرع مع كمال البصيرة"ويرد على أولئك الذين "اطرحوا تقليد الأنبياء..." كما يقول في رسالته، كما يرد ضمنيا على من نظر إلى الفلسفة كقرين للإلحاد كما زعم خصومها.

وآسال يلتزم خدمة "حي" "والإقتداء به، والأخذ بإشارته، فيما تعارض عنده من الأعمال الشرعية، التي كان قد تعلمها في ملته".، وفي هذا إشارة إلى فضل الفيلسوف- العارف على العابد-العارف.

إذا كان الفيلسوف لا يجد صعوبة في التواصل مع العابد الممثل للشريعة في انفتاحها، كما أبرز لنا ابن طفيل ذلك في شخص آسال، فإن الصعوبة تبدأ عندما يقتحم الفيلسوف فضاء الشريعة في علاقتها بمخاطبيها. في هذا الفضاء يختلط الشك والقلق بسوء الفهم وصعوبة الإدراك، ذلك ما يجسده لنا ابن طفيل في المشهد الثاني.

في هذا المشهد نجدنا أمام موقفين، ينزعان بحي إلى القول بالانفصال.

أولاهما موقف "حي" من الشريعة.

ثانيهما موقف حي من الجمهور.

في الموقف الأول نجد "حي" يقف مستغربا أمام بعض الأمور التي جاءت بها الشريعة، سواء في بعدها العقدي، أو بعدها العبادي. فيطرح أسئلة توحي بالشك، وتنطق بحيرة الفيلسوف. فابن طفيل لا يزال فيلسوفا يوظف المنهجية الفلسفية التي اختزلها الغزالي في قوله إن "الشكوك موصلة إلى الحق" ؛

فبالنسبة للبعد الأول، يتساءل "حي" عن السبب الذي جعل الشريعة، تضرب عن المكاشفة في وصفها للعالم الإلهي، حتى وقع الناس في أمر عظيم من التجسيم، وكأن ابن طفيل بذلك يجد عذرا فيما اتهم به ابن تومرت المرابطين، ويرده إلى طبيعة الشريعة نفسها، التي لجأت إلى ضرب الأمثال لتقريب حقيقة الذات الإلهية، وحقيقة البعث، عوض أن تكشف عن حقيقتهما، فأضلت الناس عن حقيقة التوحيد،وحقيقة البعث!. وكان "حي" قد توصل إلى تصور تنزيهي للذات الإلهية، قائم على نفي الصفات. وإلى تصور روحي للبعث، يعتبر الشقاء إعراضا عن مشاهدة واجب الوجود، والسعادة إقبالا عليه. نازعا في ذلك منزع فلاسفة الإسلام .

أما بالنسبة للبعد الثاني، فيأخذ "حي" على الشريعة، اقتصارها على العبادات، وإباحتها التمتع بالحياة، حتى أعرض الناس بذلك عن الحق؟

فهل في هذين الموقفين حقا ما يشي بنقد للشريعة،؟ وإبراز لتناقضاتها؟

يمكن لقارئ النص، أن يخرج بهذا التأويل، أليس ذلك ما يصرح به ابن طفيل تصريحا ولا يخفيه؟ لكن انسجاما مع منطق النص، ولغته، نجد أن ابن طفيل بنقده "الظاهري" هذا إنما يوظف منهج الفلسفة في المعرفة كما نظر له الغزالي في المنقذ وفي ميزان العمل، وهو منهج الشك في المعرفة، الذي عبر عنه الغزالي بقوله "الشكوك موصلة إلى الحق"، معتبرا أن "من لم يشك لم وينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة"، ووظفه عمليا في المنقذ، كما أراد ابن طفيل أراد أن ينبه إلى أن الفيلسوف عندما ينظر إلى الشريعة في غير سياقها الاجتماعي دون معرفة طبيعة المخاطبين بها، فإنه لا يستطيع فهمها. ولذلك سنجد "حي" عندما سيمر بالتجربة الاجتماعية سيقدر للشريعة وظيفتها الاجتماعية، ويفهم لم صنعت بالشكل الذي صنعت به.

لكن بهذين الموقفين، وضعنا ابن طفيل، في تخوم العلاقة بين الحكمة والشريعة، حيث يهيئنا بهذا "النقد" إلى موقف الفصل، وهو ما سيؤكده في نهاية المشهد الثاني، فعلى أي أساس سيفصل ابن طفيل بين الحكمة والشريعة؟

في رسمه لصورة سالمان، يقدم لنا ابن طفيل، معالم الشخصية الأندلسية التي ينبو ذوقها عن التفلسف، ويعسر عليها فهم الحكمة، ولا تستطيع أن ترتفع إلى يفاع الإستبصار، "لما ركب في طباعه[ا] من الجبن عن الفكرة"، ووقوفها عند ظواهر النصوص، وبعدها عن التأمل والتأويل، الناتج عن نقص فطرتها. فهذا النقص هو العائق الكبير الذي يقف دون هذه الشخصية، وفهم الحكمة، وهو الذي يكمن وراء هذه الخصومة العميقة لها. فهاهو سالمان وأهل جزيرته ينقبضون عن "حي"، لما "ترقى عن الظاهر قليلا، وأخذ في وصف ما سبق إلى فهمهم خلافه". ويشمئزون مما أتى به، ويتسخطونه في قلوبهم. وهي نفس المشاعر التي بودلت بها الفلسفة عبر تاريخها في المجتمع الأندلسي، والتي حاولنا رصد بعض منها في حديث سابق، في حين لم يجد آسال، الذي ربي بينهم، وأسلم نفسه لما أسلموا له نفوسهم من دين، أي حرج في فهم الحكمة، ولم يظهر عليه أي تردد في قبولها، لما شعر به من استنارة أكبر، وفهم لدينه أعمق. لكن للمجتمع منطقه وللخاصة منطقها.

فبعد تأمل "حي" هذا المجتمع، وتصفحه طبقات الناس الذين يكونونه، سيلمس السارد العلة الكامنة وراء موقف الجمهور من الحكمة ؛ إنها النقص الجبلي الذي يعاني منه الجمهور، والذي يحول دونه والحق، ليس لأن الجمهور لا يريد الحق، وإنما لأن ذلك النقص يحول بينه وبين طلب الحق من طريقه، وعدم أخذه بجهة تحقيقه، ويمنعه من تلمسه من بابه وفي ذلك إشارة من ابن طفيل، إلى أن طريق الحق، أساسه التخفف من التقليد الاجتماعي، والاستخدام الحر لأدوات المعرفة من أجل "السياحة" في طلب المعرفة، وهو ما يثقل على الجمهور، ولا يستطيع استساغته، بل ولا يقدر عليه لو أراد.

إن ابن طفيل، في هذا المشهد يعلن عن نظريته في التمايز البيولوجي، بين الخاصة والعامة. ويعلن منع الفلسفة عن العامة منع تأبيد. فالجمهور عنده لاحظ له من الحكمة، وإنما حظهم أن ينتفعوا بالشريعة ؛ فالحكمة والهداية والتوفيق للجمهور فيما نطقت به الرسل فقط أما العارف فخلاصه في هذه العبادة العقلية التي تتجلى فيها عيانا، هذه الحقائق الذي عبرت عنها الشريعة مثالا.

وعاد "حي" وآسال" إلى جزيرتهما ليبرزا بعودتها فشل الفلسفة في أن تجد لها موطئ قدم في المجتمع، لا لإبراز أن الخلاف بين الفلسفة والعقيدة الدينية في الإسلام مستعصي الشفاء، بدليل أن آسال لم تمنعه عقيدته من الاستجابة ل"حي"، مما يدل على أن هذه الشريعة منفتحة على الفلسفة بمعينها الذي لا ينضب من المعاني، والتي يشكل التأويل مفتاحها، والسبيل إلى تآخيها مع الحكمة.

إن مشكل الفلسفة هو مع الجمهور وليس مع العقيدة، إنه كامن في اختلاف فطر الناس في التصديق، كما صور ذلك ابن طفيل، وكما سيفصل ابن رشد القول في ذلك. وإذا كانت الشريعة قد منعت الناس في الخوض في قضايا الفلسفة، كما أشار إلى ذلك ابن طفيل في مقدمة رسالته وهو يتحدث عن بعض هذه القضايا، التي تعتبر أعدم من الكبريت الأحمر، فإن ذلك -كما سيفصل ابن رشد- راجع إلى الخوف عليهم من الحيرة والضلال. وما من سبب لذلك سوى افتقارهم إلى الفطرة الفائقة. أما عندما تحضر هذه الفطرة فإن اسباب الخلاف ترتفع، كما ارتفعت بين "حي" و"آسال". فقد ترجما بعلاقتهما الإتصال بين الحكمة والشريعة، أوالمحبة الطبيعية بين العارف والعابد بلغة ابن سينا، فيصبح العارف عابدا، والعابد عارفا.

إن "الفطرة الفائقة" التي يمتاز بها الممثلين معا للحكمة والشريعة، هي التي مكنت لهذا الإخاء بين الحكمة والشريعة؛ ف"حي" مثال للفطرة الفائقة وتجسيد لها، ولولا هذه الملكة لما استطاع "حي" أن يبلغ ما بلغه من "مقامات". وكذلك "آسال" فتميزه بالفطرة الفائقة، التي تجلت في إقباله على الغوص على الباطن، وعثوره على المعاني الروحية، وحرصه على التأويل، هو الذي نقله تلك النقلة المعرفية والوجودية؛ نقلة المعرفة الحقيقية لحقائق الشريعة، ونقلة الإتصال بالعالم الإلهي.

إن الفطرة الفائقة إذن هي القاسم المشترك بين ممثلي الحكمة والشريعة، وهي التي أفضت بهما إلى هذا التآخي.

أبو الوليد ابن رشد

سيؤكد ابن رشد من بعد ابن طفيل على أهمية الفطرة الفائقة ويجعلها من شروط النظر الفلسفي[21]،ومن شروط التعلم[22]، ويؤكد في أن كتب البرهان لا يقف عليها إلا أهل الفطر الفائقة. فالتلاقي بين المعقول والمنقول يتم لمناسبة صحة الفطرة، وإن الانفصال بينهما يتم لمناسبة نقص الفطرة. فالفطرة الناقصة عائق طبيعي، أمام كمال المحبة التي قامت بين الحكمة والشريعة. وهذه الفطرة هي التي تجعل المرء يعلم أن النظر الشرعي لا يخالف النظر الفلسفي بل يعلم أن الشرع يدعو إلى فعل التفلسف ويجعله كمالا للإنسان كما يفصل في فصل المقال وأن الأدلة القرآنية لا تخالف الأدلة الفلسفية كما بين في المناهج وأن التأمل الذي هو عصب النظر الفلسفي هو أيضا عصب النظر الفقهي كما بين في بداية المجتهد.. وسنقف عند إشكال علاقة الحكمة بالشريعة من خلال مسألة العناية الإلهية.

- تعتبر مسألة العناية من المسائل التي تقاطع فيها القول عند ابن رشد شرعياا وفلسفيا، فقد عرض لها على الأقل في موضعين أساسيين من متنه الفلسفي؛ موضع كان سياقه شرعيا في "المناهج"، وموضع كان سياقه ميتافيزيقا وهو ما تقدمه لنا أواخر مقالة اللام لابن رشد. ففي هذين الموضعين حديث عن العناية، لكن اختلاف السياق سيطبع حديث ابن رشد في كل من الموضعين بطابع خاص.

-في مواجهة علماء الكلام الذين اتخذوا طرقا معتاصة لإثبات وجود الله، وهي طرق تذهب على كثير من أهل الرياضة والجدل فضلا عن الجمهور، وهي مع ذلك طرق غير برهانية ولا تفضي إلى يقين(18)، يقدم ابن رشد دليلين لبيان وجود الله يسمي أحدهما دليل العناية ويسمي الآخر دليل الاختراع. وسنقف نحن عند الدليل الأول الذي آثره ابن رشد بالتفاتة خاصة.

إن دليل العناية عند ابن رشد هو طريق نبه عليه الكتاب العزيز، ودعا الناس من بابه، وهذا الطريق هو "طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها". وينبني هذا الطريق "على أصلين: أحدهما، أن جميع الموجودات التي هاهنا موافقة لوجود الإنسان. والأصل الثاني، أن هذه الموافقة هي ضرورة، من قبل فاعل قاصد لذلك مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق"(19). وبعد أن يذكر ابن رشد بعض الأمثلة على مظاهر العناية التي تثبت أن ما خلق في هذا الكون هو موافق لحياة الإنسان ووجوده، يقول: "ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن منافع جميع الموجودات… ومن تتبع معنى الحكمة في موجود موجود، أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق، والغاية المقصودة به، كان وقوفه على دليل العناية أتم"(20)، ثم يعرض ابن رشد لآيات من القرآن الكريم تشير إلى هذا الدليل.

إن هذا الدليل عند ابن رشد هو أولا دليل موافق "للفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر"، وهذا الطريق هو طريق الخواص والجمهور؛ ويختلفان فقط في التفصيل، إن الجمهور يقتصرون من معرفته على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما الخواص من العلماء فيزيدون على ما هو مدرك بالحس ما يدرك بالبرهان. ومن هنا يعتبر ابن رشد هذه الطريقة شرعية وطبيعية، هي شرعية لأنها يقينية من جهة ولأنها بسيطة غير مركبة أي قليلة المقدمات من جهة أخرى(21)، وهي طبيعية، لأنها برهانية تقنع الجمهور وتفهمهم(22). ومن هنا يعتبر ابن رشد الظواهر الشرعية مقنعة، أي أن التصديق بها أكثر(23). لكن لم يرد ابن رشد أن يخصص كتابا خاصا في العناية التي نبه عليها الكتاب العزيز كما قال.

-إن مسألة العناية من المسائل التي اشترك فيها القول القرآني مع القول الأرسطي، خاصة وأن هذا القول الذي ينتصر إليه ابن رشد له امتدادات في "مناهج الأدلة" ولعل أن يكون ابن رشد على ضوءه قرأه في هذا الكتاب. فكيف يعرض ابن رشد لهذه المسألة التي كتب فيها أرسطو شيئا في آخر مقالة اللام؟

في الجزء الثالث من مقالة اللام يبين ابن رشد أن القصد فيه هو الفحص هل الأشياء الموجودة بعضها من أجل بعض وكلها من أجل الأول كالحال في أعضاء الإنسان مع المبدإ الأول الذي به صار إنسان ما؟ أوليس بينها ارتباط، وإنما وجود بعضها مع بعض بالاتفاق، وهي كلها من أجل شيء خارج عنها؟". ويؤسس هذا البحث على فرضية تزعم "أن كل موجود له خير ما من أجله وجد". ومن هنا يطرح ابن رشد الإشكال بلغته وصيغته فيقول: "هل الخير الذي في الموجودات هو شيء خارج متميز عنها من غير أن يكون لها خير موجود في الترتيب؟… أم الخير الموجود فيها إنما هو في الترتيب فقط من غير أن يكون لها خير متميز عن الكل؟ أم هو في الأمرين جميعا؟"(24). أو بعبارة أخرى، هل الخير الذي من أجله وجدت الموجودات هو شيء خارج عنها متميز منها، أم هو ترتيب بعضها من بعض، أي في وجود بعضها من أجل بعض، أم هو موجود من قبل الترتيب ومن قبل شيء خارج عنه(25). وينتهي ابن رشد من خلال قياس تمثيلي إلى أن "الخير يوجد في… الكل من الوجهين معا… من قبل الترتيب، ومن قبل الشيء الذي من أجله الترتيب وهو المبدأ الأول.. وكان جميع ما دون المبدإ الأول ليس يستوي في وجود الترتيب فيه إذ كان بعضه يوجد فيه الترتيب التام.. وبعضه يوجد فيه عدم الترتيب بالعرض…"(26). "وإذا تؤملت جميع الموجودات التي في العالم وجدت قد رتبت كلها على وتيرة واحدة بل بعضها في ذلك أكثر من بعض.."(27). لينتهي ابن رشد إلى أن جميع الموجودات التي في العالم مرتبة كلها، وأنها كلها موجودة بسبب شيء واحد، وأن أفعالها متوجهة نحو ذلك الواحد، وهذه هي العلة الأولى التي من أجلها العالم.

 

ويؤكد ابن رشد في الأخير أن "هذا هو رأي أرسطو في العناية" ضدا على الذين يزعمون أن الله يتدخل في كل شيء بدعوى "أن الحكيم ليس ينبغي أن يترك شيئا دون عناية، ولا أن يفعل شرا، وأن أفعاله كلها عدل". وضدا على الذين يزعمون أن ليس هاهنا عناية أصلا، ما دام يوجد في هذا العالم كثير من الشرور. ويؤكد ابن رشد مجملا رأي أرسطو في العناية "أن العناية موجودة، وأن ما جرى على غير عناية هو من ضرورة الهيولى، لا من قبل تقصير الفاعل" منبها إلى أن بعض الناس زلوا في ذلك فقالوا بإلهين أحدهما للخير وأحدهما للشر(28).!!

لقد قدم لنا دليل العناية احتفاء ابن رشد بالدليل الشرعي لبساطته وبرهانيته ، إذ أن التأسيس الشرعي ضروري عند ابن رشد للتأسيس الفلسفي.

إن دليل العناية من الأدلة التي احتفى بها أرسطو واشتغل بها الفلاسفة المسلمون من قبل، كما نجد عند ابن سينا، وهو دليل يستنبطه ابن رشد من آيات كثيرة تدل على أهميته عنده. وابن رشد يعتبر هذا الدليل دليلا قطعيا وبسيطا[23]، فهو دليل يقذف بالمرء في قلب الموجودات، موضوع الفلسفة الأثير، تأملا وفحصا من أجل معرفة منافعها. وهذا الدليل يدل، من جملة ما يدل، على الضرورة الموجودة في العلاقات بين الموجودات وينبه على الأسباب سواء كانت أجراما سماوية سخرها الله تعالى "لإيجاد كثير من الموجودات بإذنه" أو كانت نفوسا وقوى طبيعية تحفظ هذه الموجودات[24]. فدليل العناية بما ينطوي عليه من ضرورة يفتح على قضايا فلسفية فصلت القول فيها كثير من الكتب التي عكف ابن رشد على قراءتها وتقريبها.

إن دليل العناية يقدم أكثر من علاقة بالتفلسف، فهو، من جهة، دليل قرآني ولكنه أيضا دليل فلسفي، فضلا عن ذلك فهو دليل منفتح على المعرفة ويحرك التفكير إلى مزيد علم ويقذف بالمرء إلى مصاحبة النصوص الفلسفية الطبيعية والميتافريقية من أجل إحاطة تامة بالمصنوع إحاطة تامة بالصانع هدف المعرفتين الفلسفية والشرعية. ولاشك أن هذه الخاصية التي تكمن في الكتاب العزيز من تنبيه على قضايا فلسفية هامة مما يحرص ابن رشد على التشديد عليها لبيان كيف ينفتح القرآن ببساطته على الفلسفة، ومن الإشارات الدالة في هذا السياق تنبيه الكتاب العزيز إلى مسألة فلسفية هامة وهي مسألة بقاء النفس، فمقارنة الموت بالنوم باعتبار أنهما معا يعطلان فعل النفس، يدل على أن النفس ما دامت في النوم تتعطل عن فعلها وكان هذا التعطل غير مفسد لذاتها بدليل أنها تعود إلى طبيعتها الأولى عند الاستيقاظ، فكذلك عند الموت تتعطل آلة النفس أيضا ولكن النفس لا يمسها من ذلك فساد كما هو الحال في النوم[25]. فالكتاب العزيز ينبه على بقاء النفس أما تفصيل القول في هذا البقاء فدونه استدلالات الفلاسفة التي لا يقدر على الخوض فيها سوى "أفاضل الناس" بتعبير ابن رشد. أي أصحاب الفطرة الفائقة.

محمد بن الحسن الحجوي

يشكل الحجوي مظهرا من مظاهر يقظة المغرب الحديث فهذا الرجل كان قد تحرر من "كهف" المجتمع المغربي المنغلق على انحطاطه بفضل تربيته في حضن أب عالم وتاجر، فكان حرص الأب على أن يجمع ابنه بين ثقافة العالم "التقليدي" وثقافة التاجر "المعاصر"، وكان هذا هو الجسر الذي عبر منه الحجوي إلى العصر في لقاء متوتر بين زمانيين؛ الزمان الاسلامي البطيء والزمان الغربي السريع. لم يخف الحجوي أن عقيدته سنية سلفية وأنه مالكي المذهب بسبب حرص الأب على ثقافته الإسلامية لكن الحجوي، مثل مثل الأبناء الذين قدر لهم أن ينشأوا في أسر منفتحة، سيكون محظوظا؛ فسيوجه أبوه إلى الابتعاد عن خلط المعتقدات بالأوهام والحرص على أن يفرق بين ما هو يقيني وما هو مظنون والتحذير من غلبة العواطف والخيال والحرص على تحكيم العقل والدين على الخيال والعواطف. هذا الجمع في التربية بين التراث الإسلامي الأصيل وبين منهج نقدي شفاف سيمكن الحجوي من الانفتاح على الزمان الغربي وتلقيح زمانه الإسلامي تلقيحا لن تظهره آثاره إلا بعد حين ... لكن ما موقف ابن رشد من إشكاليتنا المطروحة؟

ترك الحجوي مقالة مهمة كان قد ألقاها على هيئة محاضرة بمكناس في خمسينات القرن العشرين وسماها ب "التعاضد المتين بين العلم والعقل والدين" وقد فصلنا القول في هذه المحاضرة في مقالة لنا نشرناها في مجلة مدارات فلسفية ثم أعيد نشرها في الصيف الماضي في مجلة التاريخ العربي ولهذه المحاضرة قيمة علمية كبرى إذ إنها تعبر عن ملمح من "ملامح فكر عقلاني في بداية القرن العشرين" كما نبه على ذلك الأستاذ د. بنسعيد العلوي لكننا هنا نجمل القول في مسألة واحدة فنقول :

لم يخلف الفقيه الحجوي أي أثر فلسفي رغم تقديره للفلسفة وأهلها تقديرا متزنا. لكنه كان مهموما ببيان كيف يتعاضد الدين مع العقل والعلم وهو يوقن يقينا جازما أنه لا يتصور أي تعارض بين الدين والعقل أو بين الدين والعلم. إنه يجهد لرأب الصدع بين دين يجر أذيال تخلف القرون وبين نظر عقلي وفكر علمي أشرف بالغرب على مراقي التقدم، ومن هنا فلم يكن همه هما نظريا وإنما كان القصد من محاضرته هذه إنهاضا للهمم للحاق بركب الآخر الذي اتخذ من العقل دينا ومن العلم إلها يعبد. لكن إذا كان الغرب قد رضي بدينه هذا الرضى فإن ديننا نحن المسلمين لا يخرج في أصوله وأحكامه عن نطاق العقل وهو ما حرص على بيان طول هذه المحاضرة .

يتفق الحجوي مع ابن رشد بل ويشيد به في محاضرته باعتباره فيلسوفا عظيما كما يقول مما يجعلنا نعتبر موقف الحجوي استئنافا لموقف ابن رشد بجهة نظر مختلفة مما سيؤثر على المقاربة وبعض النتائج.

لم يكن الحجوي حريصا، مثل ابن رشد، على بيان الاتصال بين الفلسفة والدين؛ أولا لأنه لم يكن فيلسوفا، ثانيا، لأن الفلسفة في عصرة لم تكن بتلك الهيبة التي كانت في عصر ابن رشد، ثم إن ابن رشد عاش في عصر الغلبة الإسلامية في حين أن الحجوي عاصر أسوأ مراحل الانحطاط العربي الاسلامي. ومن هنا لم يكن بالإمكان أن يكون إشكال الحجوي هو إشكال ابن رشد ولا جواب الحجوي هو جواب ابن رشد رغم أن الحجوي يرى في جوابه بذرة رشدية ويحمد الله "على هذه الموافقة".

في عصر ابن رشد كملت الفلسفة وأصبحت صناعة تتعلم وتعلم وكانت الفلسفة الأرسطية في نسقها المغلق أكبر تجل لذلك، فلم يعد مجال للإبداع في الفلسفة فلم يعد بالإمكان إلا إدماج أرسطو في أديم الثقافة العربية الإسلامية ببيان أن حكمة أرسطو لا تخالف شريعة أحمد وإن بدا لنا تناقض فما علينا إلا اللجوء إلى تقنية التأويل لرفع هذا التناقض، فلا يمكن في نظره أن يخالف صريح الحكمة صريح الشريعة، وهو يقوم بمجهود كبير للرد على المخالف للحفاظ على الشريعة في صفائها وعلى الفلسفة في نقائها للعمل على الجمع بينهما بالفصل بينهما وإن كان ابن رشد يروم من وراء ذلك تطعيم العقل الإسلامي بفلسفة أصبحت علما وعلما أصبح فلسفة. أما الحجوي فهو يتخذ من التغير الطارئ على الفلسفة ومن التميز عن هؤلاء الذين يعج بهم عصره من مقلدي الغرب ذريعة للفصل بين العقل الفلسفي والعقل القطعي، فلم تعد المطابقة بين العقل والفلسفة عند الحجوي ممكنة بل الفلسفة نفسها أصبحت في حاجة إلى أن توافق العقل لأنه كثيرا ما نجد الفلسفة تخرج في أحكامها عن المنطق والعقل، إذا انتهى زمن المطابقة بين الفلسفة والشريعة وجاء زمن المطابقة بين العقل والدين. والعلم والدين وقد كانت رسالة الحجوي بيانا مهما في هذا الأمر حرصت على بيان أن القطعي لا يخالف القطعي من الدين والعقل والعلم.

***

وأخيرا، نختم ها العرض بالسؤال الآتي؟ هل إشكالية علاقة الحكمة بالشريعة أو العقل والدين بعبارة الحجوي هي إشكالية فلسفية أو لا؟

ليست إشكالية علاقة الدين بالفلسفة إشكالية فلسفية، إنها إشكالية مجتمعية- ثقافية فرضت على الفلسفة من خارجها كما رأينا من موقف المناوئين. والغريب أننا لا زلنا اليوم في حاجة إلى هذه الإشكالية لإثبات أهمية التفكير الفلسفي والمنافحة عن استقلالية النظر العلمي . لقد خط الفكر الأوروبي طريقين في حياته الثقافية :خط ديني وخط فكري وحرص على أن يبعد الخطين عن بعضهما البعض فديكارت كان يقول أنا على دين مرضعتي وكان فلسفته قائمة على العقل ... وكنط أسس دينا طبيعيا قائما على العقل دون أن يبخس دينه الذي ورثه حقه لكنه كان حريصا على أن يمضي على منهج الفكر والفكر وحده وأن يخضع لقوانين الفكر وحدها..فهل يمكن القول إن الغرب قد قطع مع إشكالية العقل والنقل وأن الإشكالية بيننا لا زالت في أوجها أم أن عودة الحديث عن الدين اليوم في المجتمعات وعلاقته بالمجتمع وما يثيره من أسئلة ملحة وقوية ظن الغرب أنه قد قطع معها تبرز أن شطايا هذه الإشكالية لا تزال تبرز بين الرماد وأن راهنيتها لا تنازع؟

--------------------------------------

إغفاءة العقل

يغفو العقل

و يجأر من خلالنا الآسلاف

ويلغو الآباء

نعيد الكرة

والغد يتسلل منا

على حين غرة.

152 المعجب ص 311 وحضارة الموحدين للمنوني ص: 114 ومحمد الفاسي مجلة الثقافة المغربية نونبر 1941 العدد 4 ـ 5 وكذلك الذيل والتكملة السفر الثامن تحقيق محمد بنشريفة وعليه اعتمدنا في استجلاء موقف ابن حبوس من الفلسفة ص: 293 ـ 297.

 

153 ـ الذيل والتكملة السفر الثامن ص: 224 ـ 232.

 

154 37 ـ الذيل والتكملة السفر السادس تحقيق إحسان عباس ص: 30 ـ 31ِ.

 

155 برنامج الرعيني تحقيق إبراهيم سبوخ ص: 104 ـ 105 دمشق 1962

 

156 نونية الكلاعي في الوصايا والأدب ضمن مجموع في مخطوط الخزانة العامة تطوان رقم 463 وهو من أبناء القرن الخامس.

 

158 ـ البحر المحيط ج 5 ص 150.

 

160 تهافت الفلاسفة تحقيق موريس بويج الطبعة الثالثة دار المشرق ص37.

 

161 ـيقول أبو حيان " ولما حللت بديار مصر رأيت كثيرا من أهلها يشتغلون بجهالات الفلاسفة ظاهرا من غير أن ينكر ذلك أحد تعجبت من ذلك".

 

162 ـ كما يقول ابن الخطيب، ويقول في نفس المعنى ابن حبوس :

 

سالت علينــــا للشكــــوك جــــــداول   ** بعد اليقين بهــــــا ولمــــا تنفذ

 

163 يقول الفازازي :

 

فاقــــــذف بأفـــلاطــون ورسطــــالــــــــس ** وذويهمــــا تسلـــــك طريقــــا لا حبـــــــا

 

ودع الفلاسفة الذميم جميعهم   ** ومقالهم تحت الأحــــق الواجبـــــــــــــا

 

يا طالب البرهان في أوضاعهم ** أعزز علي بأن تعمـــــر خائبـــــــــــــــا

 

164 يقول ابن حبوس :

 

خدعت بألفاظ تروق لطافة ** فإذا طلبــــــت حقيقـــــة لـــم توجد.

 

167 ويقول الفازاري :

 

عجبا لمن ترك الحقيقة جانبا ** وغدا لأرباب الصواب مجانبـــــــــــــــا

وابتاع بالحق المصحح حاضرا   **   ما شاع للزور المعلل غائبـــــــــــــــا

ولكم إمام قد أضر بفهمـه * كتب تبث الضلال كتائبــــــــــــــــــا.

168 يقول الكلاعي :

 

متابعة الفلسفة كفـر **   ورد للشرائع أجمعينــــــــــــــــــا.

 

169 يقول الأغماتي :

 

هذا كلام للهدي جامــــــع ** فاصغ إليه أيها السامـــــع

الشرع للعقل هدى من يضل ** بينهما برهان قاطـــــــــــع

الشرع للعقل بلا مريــــــــة ** كالشمس للعين سنى ساطع

الشرع متبوع به يهتـــدي   ** من ضل والعقل هو التابع

ويقول : فإياكم والقدماء وما أحدثوا فإنهم عن عقولهم حدثوا.

 

170 يقول ابن جبير :

بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقـــــة   ** إن البلاء موكل بالمنطـــــق

ويقول أيضـــــــا :

تدارك دين الله في أخذ فرقـــــة ** بمنطقهم كان البلاء موكـــــل.

171 يقول الفازازي :

فلر بما اشتد الخيال فعاقــــــه ** دون الصواب هوى وأصبح غالبا.

172 ـ يقول الأغماتي : " فما ضر تلك النفوس الكريمة والقلوب السليمة والألباب العظيمة مازوي عنها من العلوم القديمة".

173 يقول أبو حفص الأغماتي : "فالعلم كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ما ضر من وقف عندها ما جهل بعدهما ". ويقول أيضا : " أنزل الكتاب إليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، هو الشفاء والرحمة وفيه العلم كله والحكمة.

174 يقول ابن حبوس :

اقصر ظماءك في شريعة أحمـــــد ** تسقى إذا شئت غير مصــــرد

وتوخ أعطان الديانة علهــــــــــا   ** تدنيك من حوض النبي محمد

لذ بالنبوة واقتبس من نورهــــا     ** واسلك على نهج الهداية تهتد

175 يقول ابن حبوس :

الدين دين الله لم يعبأ بمـــــــب ** تدع ولم يحفل بضلة ملحــــــــــد

ويقول أيضا :

وتبعقت بالكفر فينا ألســــــن ** لا يفقد التضليل من لم تفقــــــــــد.

176 يقول الأغماتي :

فإياكم والقدماء وما أحدثــــــوا ... فإنهم عن عقولهم حدثوا ، أتوا من الإفتراء بكل أعجوبة ... الأنبياء ونورهم لا الأغبياء وغرورهم".

177 يقول ابن حبوس : قالوا الفلاسفة قلت تلك عصابة ** جاءت من الدعوى [ بما لم يعهد ]

ويقول ابن جبير مخاطبا ابن رشد :

لم تلزم الرشد يا ابن رشد ** لما علا في الزمان جدك

وكنت في الدين ذا رياء   ** ما هكذا كان فيه جــدك

ويقول مخاطبا الخليفة المنصور بعد نكبة ابن رشد :

اطلعك الله ســــر قوم   ** شقوا العصا بالنفاق شقــــا

تفلسفوا وادعوا علوما   ** صاحبها في المعاد يشقــــــى

واحتقروا الشرع وازدروه ** سفاهة منهم وحمقــــــــــا.

178 يقول الأغماتي :

أعيته أعباء الشريعة شقوة   ** فارتد مسلوبا ويحسب سالبا

179 يقول ابن حبوس :

يلغى كتاب الله بين ظهورهم   **وجميع مسنون النبي محمد .

180 ـ يقول ابن حبوس مهددا :

ستنالهم منا الغداة قوارع ** إن تغلهم غولها فكأن قـــــد

وتصوب فيهم سحبنا بصواعق ** تلك التي جلبت منية أربد

من كان يضربهم بسيف واحد ** فأنا أضارب [   ] كذا

ولعمر غيرهم وتلك آليـــــــــــــة ** إن الحمام لجمعهم بالمرصد

ويقول أيضا :

أسفي لو أني نصرت عليهم ** لثلمت في المهجات كل مهنـــد

181 يقول ابن جبير متشفيا في ابن رشد :

الحمد للــــــه على نصره   ** لفرقة الحق وأشياعه

كان ابن رشد في مدى غيه**   قد وضع الدين بأوضاعه

فالحمد لله على أخـــــذه ** وأخذ من كان من أتباعه

ويقول :

الآن قد أيقن ابن رشد ** أن تواليفه توالف

ياظالما نفسه تأمــــــــــل ** هل تجد اليوم من يوالف .

182 فالفازازي يعرض بابن رشد قائلا :

ولكم أمام قد أضر بفهمه ** كتب تبث من الضلال كتائيا

أما ابن الخطيب فيقدم لأبنائه تجربة ابن رشد مع الفلسفة على أنها تجربة فاشلة لحقه منها الأذى لأنها " عادت عليه بالسخطة الشنيعة وهو إمام الشريعة ، فلا سبيل [ إذن ] إلى اقتحامها والتورط في ازدحامها".

183 مما جاء في هذه الرسالة : فاحذروا ـ وفقكم الله ـ هذه الشرذمة على الإيمان حذركم من السموم السارية في الأبدان، ومن عثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه ، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه".

184 يقول : وقد كان للسيف اشتياق اليهم ** ولكن مقام الخزي للنفس أقتل.

185 مما جاء في رسالة المنصور " فلما وقفنا منهم على ماهو قذى في جفن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة وأقصيناهم حيث يقصى السفهاء من الغواة " وهي إشارة إلى نفي ابن رشد الى أليسانة . الذيل والتكملة السفر السادس ص: 26 .

186 نونية الكلاعي ورقة 75.

187 يقول: ـ وكن في المذهب مالكيا ...... ورقة 76

ويقول ايضا : ومالك الرضى لا نشك فيه ** وقد سلك الطريق المتينا

نظرنا المذاهب ما رأينـــــــــا ** كمذهب مالك للناظرينا.

188 وعول في الأصول على اعتقاد ** صحيح من كلام الأشعرينا ـ

189 ـ وعلمه الطب طالعه ودعنى ** ففيه تجربة المجربينـــــا.

190 ـ متابعة الفلسفة كفر ** ورد للشرائع أجمعينا .

191 وإياك والنجوم فــــــلا تردهــــا ** قضاياها يورثك الجنانــــــا

وزندقة ونحسا مستمـــــــــــــــــــرا ** حساب ما يصح للحاسبينا

وبينهم اختلاف في كثيـــــــــــــــر   ** وفي تخليطهم رجما الظنونا.

192 نفح الطيب ج ص 1 ص 255 ـ 256

193 طبقات الأمم لصاعد الأندلس تحقيق حياة العيد بوعلوان دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1985 ص163 ـ 164

[1] نم ص87-88.

[2] نم ص85.

[3] نم ص45-46.

[4] نم ص107-122.

[5] نم ص88 وص89.

[6] نم ص53-54.

[7] نم ص54.

[8] نم ص113وص114-116

[9] نم ص121.

[10] نم ص89.

[11] نم ص92.

[12] نم ص123.

[13] نم ص114.

[14] نم ص124.

[15] نم ص53.

[16] نم ص103.

[17] نم ص53.

[18] نم ص54.

[19] أبو نصر الفارابي كتاب الحروف تح محسن مهدي دار المشرق بيروت ص 152.

[20] يقول ابن طفيل: "إن الظبية التي تكفلت به وافقت خصبا ومرعا أثيثا، فكثر لحمها ودر لبنها، حتى قام بغذاء ذلك الطفل أحسن قيام."

[21] التهافت.ص.361-فصل المقال.ص13-14

[22] مناهج الأدلة.ص156

[23] - المرجع السابق ص 194-195

[24] - المرجع السابق ص 204

[25] - المرجع السابق ص 246