"الآخر " في فكر الأمير عبد القادر من خلال المراسلات. ـ أ.د. حبيب مونسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

habibemoنص الرسالة:
« ولما رأى الأمير أن بعض القبائل في الساحل القريبة بلادهم من المدن التابعة للعدو مالوا إلى طاعته والدخول تحت ظله وحمايته، أرسل إليهم من العلماء والأشراف من يعظهم ويحذرهم من مقت الله تعالى وغضبه،فلم يجد ذلك نفعا فيهم. ثم هددهم وأوعدهم وأمرهم بالخروج من مواطنهم، واللحوق بإخوانهم المسلمين في الداخلية، فلم يقبلوا، وتمادوا على ما هم عليه. فاعتزم حينئذ على غزوهم، والفتك بهم، ثم توقف في شأنهم واستشار الفقهاء في أمرهم، وبعث إلى قاضي فاس في ذلك، لينظر ما عنده  فيه، وزاد أسئلة أخرى عن أشياء متفرقة عرضت له. ونص ما كتبه إليه:

« الحمد لله حق حمده،والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، من خادم المجاهدين والعلماء عبد القادر بن محي الدين إلى الشيخ الإمام علم الأعلام السيد عبد الهادي العلوي الحسني قاضي القضاة بفاس المحمية،السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد. فما حكم الله في الذين دخلوا في طاعة العدو الكافر باختيارهم، وتولوه ونصروه، يقاتلون المسلمين معه، ويأخذون مرتبه كأفراد جنوده، ومن ظهرت شجاعته في قتالهم للمسلمين، يجعلون له علامة في صدره، عليها صورة ملكهم. هل هم مرتدون أم لا؟ وإن قلتم بردتهم، فهل يستتابون أم لا؟ وما حكم نسائهم، هل هن كرجالهم أم لا؟ وإن قلتم أنهن مثلهم فهل يحكم باستتابتهن أو يقتلن أو يسترققن، كما نقل عن ابن الماجشون أم لا؟ وما حكم ذراريهم؟ هل لنا سبيهم أم لا؟ وهل ما حكاه ابن بطال من الإجماع على أن المرتد لا تسبى ذريته،منقوض بما نقل عن ابن وهب وعن جمهور الشافعية أن المرتد كالكافر الأصلي أم لا؟ وهل يسوغ لنا العمل بما ينقل عن أصحاب مالك t عنه من الأقدمين كابن وهب وأمثاله في طبقته في هذه النوازل وأمثالها مما لم يشهره المتأخرون أم لا؟ ...


أجيبوا أدام الله وجودكم جوابا يشفي المرض ويأتي على الغرض، محيطا بالتفاصيل والجمل،مبينا لنا ما يكون به العمل، مع ملاحظتكم زماننا ووطننا والسلام...»

1- كيفية التعامل مع الآخر:
يقدم لنا النص من خلال الخبر التاريخي جملة من الحقائق التي تتصل أساسا بطرائق الحكم وإدارة شؤون الناس. لأن مدار السياسة لا يقوم فقط على القوة والتحكم، أو على القهر والبطش، وإنما مداره على الدربة والحنكة، ومعرفة كيفية استخدام الطاقات الكامنة في رجالات الدولة الذين يتمتعون بكفاءات وخبرات علمية وعملية، على نحو استغلال العلماء والوجهاء من كل طائفة.
لقد أحسن الأمير عبد القادر استغلال تلك الطاقات واستخدمها أحسن استخدام، حينما بعث عددا من أتباعه إلى شيوخ القبائل التي بدأت تتقرب من الغازي المستعمر وتبادله  تجارتها ومواردها، وتتقرب منه بالمساعدة والمعاونة، يناقشونهم في الأمر،ويثنونهم عن الطريقة التي نهجوها في التعامل مع العدو. فأضحت بذلك وضعيتهم إزاء الدين والوطن غير واضحة في منظور عموم الناس. لذلك ترتب على هذه الوضعية الجديدة إعادة تفسير وتحديد العلاقات التي تربط الذات بالدين والوطن. ومن ثم كان على "الأمير عبد القادر" إعادة تصنيف هؤلاء بحسب ما يمليه  الشرع ويقبله عامة الناس،ويكون فيه رباط متين لوحدة الشعب والتراب الوطني.
إن إعادة تصنيف الناس بحسب قانون "الولاء والبراء" من أهم الأعمال التي يتوجب على القادة انتهاجها في حال الحرب،لأنها الضامن الوحيد الذي يبقي الصف متماسكا،لا يمكن التسلل إليه لا من خلال المجاهرين في تعاملهم مع المستعمر، ولا من خلال المتسترين الذين يعملون في الخفاء. لأن إعلان "الولاء والبراء" يقطع أمام العدو سبل التسلل إلى اللحمة المتماسكة للشعب والدولة. لذلك كانت مبادرة "الأمير عبد القادر" صائبة تعتمد على الحوار، والنصيحة، والتذكير، وإعادة تحديد هوية المستعمر في أذهانهم من جديد.
1-1- الوعظ والتحذير:
كانت مهمة العلماء والأشراف في القبائل التي جنحت إلى الدنيا واستسلم شيوخها لسلطان الإغراء بالمال والجاه والزعامة في ظل الحماية الاستعمارية،مهمة ترغيب وتذكير بغضب الله U وشر انتقامه، يرتبط خطابها أساسا بفكرة "البراء والولاء" التي تتأسس لدى علماء الفقه على قواعد تتصل أساسا بالعقيدة، فترتب الناس بحسب الميل إلى هذه الجهة أو تلك. فقد ورد في كتب العقيدة أن:« الولاء: مصدر ولي بمعنى قرب منه، والمراد به هنا القرب من المسلمين بمودتهم وإعانتهم ومناصرتهم على أعدائهم والسكنى معهم. والبراء: مصدر برى، بمعنى قطع. ومنه برى القلم بمعنى قطعه. والمراد هنا قطع الصلة مع الكفار فلا يحبهم، ولا يناصرهم، ولا يقيم في ديارهم إلا لضرورة. الولاء والبراء من حقوق التوحيد.» ()
فالتعريف الذي يحدد مجالات "البراء"، يرفعه من قطع الصلة المادية إلى قطع العواطف التي يمكن أن تكون مصدرا لها في بادئ الأمر، ومن ثم فلا حب، ولا نصرة، ولا إقامة في ديار الكفر إلا لضرورة من الضرورات القاهرة. وذلك أمر مستنبط من قوله تعالى:  )  يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( (المائدة 51) فهو نهي واضح الدلالة، خال من كل لبس، بل لقد أخبر U -مثلما قال "ابن كثير"- إضافة إلى النهي: « أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: ) وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ  إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( » () فبمجرد أن يتولاهم الواحد من الناس، تنقلب هويته إليهم فيصير منهم، ولا يشفع له في ذلك دم أو أنتساب أو لغة أو لون. لما في الولاء من انقلاب جذري في الذات فكرا واعتقادا. ومن ثم يمكن فهم موقف الخليفة "عمر بن الخطاب" t حينما قدم عليه "أبو موسى الأشعري" t من البصرة صحبة كاتبه النصراني، فرآه لا يدخل المسجد، فسأل أجُنُبٌ هو؟ قيل له أنه نصراني، فقال: « لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله: وروي: أنه قال له أبو موسى: لا قوام للبصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعني هب أنه قد مات، فما كنت تكون صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة،واستغن عنه بغيره.» () وما يرتكز عليه الخليفة "عمر بن الخطاب" ليس حكما مستنبطا من مزاج شخصي، واختيار أو غلبة سياسية، وإنما هو فهم لحقيقة "الآخر" حينما يضع نفسه في مواجهة الله U إنكارا وكفرا. فكان أمر الله U أشد تفريقا حين يذهب إلى الأصلاب المتلاحمة يفصلها بفيصل العقيدة، وذلك مصداقا لقوله U : ) لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك في كتب قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون (ž (المجادلة 22) فكل من حاد الله U خرج إلى "الغيرية" ولو كان أبا، أو ابنا، أو أخا، أو عشيرة. ما دام الانتماء الحقيقي هو الانتماء إلى الله U .
ومن الأفيد التوقف عند لفظ "حادّ" الذي عين به الله U علاقة "الآخر" بالله U وبرسوله r. ففي هذا اللفظ يتجلى سلوك الكافر ويتعين بما يوافق "البراء". فقد جاء في :« في حديث عبد الله بن سلام: إِن قوماً حادّونا لما صدقنا الله ورسوله. المُحادَّة: المعاداة، والمخالفة، والمنازعة. وهو مُفاعلة من الحدّ كأَنّ كل واحد منهما يجاوز حدّه إِلى الآخر.» () لذلك كان قصد النفي في الآية الكريمة موجها أساسا إلى فئة تعدت حدودها إلى حد غيرها عدوانا وظلما، وقد بيَّتت الإساءة وأظهرت العدوان. فلا يجوز عقلا أن تُبَادَل بالود والعطف. على النقيض من أخرى لم تضمر إساءة ولم تبد بغيا، فالوصية في شأنها واضحة الدلالة في قوله تعالى: ) لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين â ( (الممتحنة 8) وكأن آية الممتحنة تزيد آية المجادلة توضيحا فيما يخص لفظ "حادّ" وتخصص فعله في القتال في الدين، والإخراج من الديار .
إن فكرة "البراء" التي يقصدها "الأمير عبد القادر" في مراسلته للقبائل الساحلية التي أصبحت توالي الاستعمار، تأخذ قوتها من معاني تجاوز الحدود، والقتال في الدين بغية التنصير، والإخراج من الديار من أجل الاستحواذ على الأراضي. ولم يكن خافيا على "الأمير عبد القادر" مراد الاستعمار وخططه في الزحف على بؤر المقاومة مع استمالة بعض العشائر مرحليا خدمة لأغراضه. فحال هؤلاء لا يعالج فقط على المستوى السياسي وحسب، وإنما ينظر فيه من زاوية الشرع. وذلك هو دور العلماء في بعثاته إلى القبائل الساحلية.
1-2- التهديد والوعيد:
جاء في التحفة أن "الأمير عبد القادر" لما رأى:« أن بعض القبائل في الساحل القريبة بلادهم من المدن التابعة للعدو مالوا إلى طاعته والدخول تحت ظله وحمايته، أرسل إليهم من العلماء والأشراف من يعظهم ويحذرهم من مقت الله تعالى وغضبه،فلم يُجْدِ ذلك نفعا فيهم. ثم هددهم وأوعدهم وأمرهم بالخروج من مواطنهم، واللحوق بإخوانهم المسلمين في الداخلية، فلم يقبلوا، وتمادوا على ما هم عليه. فاعتزم حينئذ على غزوهم، والفتك بهم.» () والخبر على بساطته يحمل المسلك الاستراتيجي الذي يعتمده "الأمير عبد القادر" في التعامل مع خصومه من المسلمين وغيرهم. فقد رأينا من قبل فيما تجلت مهمة العلماء والأشراف، لتحديد هوية "الآخر" وتعيينه، والفصل بينه وبين بقية الموالين له. فلما تعذر هذا المسلك، وقوبل الطلب فيه بالرفض، كانت الخطوة التالية أشد وقعا على شيوخ القبائل المائلة إلى الاستعمار. فلم تحمل لغة الخطاب نبرة التهديد فقط وإنما أرفقها بأمر الخروج من الأراضي الواقعة تحت طائلة العدو.
قد يتسرع البعض ويستنكر هذا الطلب من " الأمير " ويرى فيه تخل عن الأرض للغزاة، وإفساحا للمجال أمامهم للتقدم إلى غيرها من الأراضين. وذلك وهم مردود من عدة جهات. إن "الأمير " يدرك أنه يتعامل مع مستعمر قادم من وراء البحار، وأن سبل إمداداته بطيئة، وأنه سيكون دائما في حاجة ماسة إلى المدد الداخلي الذي لن يناله إلا بالحرب والسطو. وتلك مهمة شاقة بالنسبة لجيوش معزولة. وأن خطته الكبرى في استمالة بعض القبائل التي ستعمل على إمداده بما يحتاج إليه من مؤن وحيوان وعلف، وتؤمن له مسالك السير للتواصل مع وحداته. فإخلاء الأرض من أهلها مؤقتا سيعزل المستعمر في بؤر محدودة تسهل فيها محاصرته، وقطع الطرق أمامه، والكف من تخلله في وسط القبائل المحاذية له.
لقد وجد "الأمير عبد القادر" أنه من الأحوط محاربة هذه القبائل،وكسر شوكتها،والحد من تدخلها إلى جانب المستعمر قبل مواجهته،لأنها لن تتوقف عند الإمداد بالمؤن بل ستتعداه إلى الإمداد بالرجال المقاتلين. وقد حدث ذلك فعلا حينما شارك بعضهم في غزو القبائل الموالية للأمير،واستبسل في الكيد بالمسلمين وإيلامهم، لمعرفته بطبائع القبائل وعاداتهم وتنظيماتهم.
إن هذا المستجد الطارئ في حرب "الأمير" لم يكن ليمر وكأنه شأن خيانة تتم على المستوى السياسي فقط،وأن علاجه سيكون بالحملات التأديبية التي تنتهي بقتل عدد وسجن آخرين، وإنما المسألة في جواز القتل، وأخذ المال، واسترقاق الذرية. ولا يجوز ذلك إلا في "مرتد" جاهر بارتداده، أو في "موال" أعلن موقفه صراحة. ومن ثم فلن يحمل الأمير سيفه إلا إذا كان الشرع يسبقه إلى ذلك. فقد قال صاحب التحفة:« ثم توقف في شأنهم، واستشار الفقهاء في أمرهم، وبعث إلى قاضي فاس في ذلك،لينظر ما عنده  فيه » ()  إنها مجالس استشارة للفقهاء يعقدها "الأمير"  ليسمع فيها رأي الشرع، ثم يوسع الاجتهاد إلى مساءلة " السيد عبد الهادي العلوي الحسني قاضي القضاة بفاس" ليطمئن إلى الرأي إلي ستتحدد من خلاله "هوية الآخر" فيما يتصل بهذا الموقف الخاص.
2- ما حكم الداخل في الآخر باختياره:
إننا لا ندرك أن مسألة "الآخر" من المسائل المعقدة على المستوى الفلسفي والحضاري والديني، إلا حينما نحاول فهم ما يحيط بها من ترابطات تتجاوز المظهر إلى المعتقد والسلوك. وهو ما يثير الحيرة في أذهان كثير من الدارسين، تجد طريقها إلى ما يكتبون في شكل أسئلة واستفسارات قد لا تجد جوابا يرضيها لأنها لا تزال ترى في "الآخر" ذلك "المغاير "في المظهر والثقافة وحسب، وكأنه :« كيان ميتافيزيقي ننشئه إنشاءً يتناسب مع موقف مسبق منه؟ أو مع موقف مسبق من ذاتنا؟ فننشئ الغرب مناقضاً لها، أو مكملاً لها: فيه من القبح بقدر ما فينا من الروعة، وفيه من القوة بقدر ما فينا من الضعف، وفيه من الحرية، بقدر ما فينا وعندنا من الكبت والاستبداد، وفيه من الخسة بقدر ما فينا من النقاء...؟‍. » () ثم يتدرج الباحث قليلا ليجد بينه وبين "الآخر" شيئا أكبر من التصور والتخيل النظري مادام :« ثمة مواجهة بين ال(نحن) وال(هم)،(الآخر)، بكل ما يعنيه الآخر كذلك. وهي مواجهة، الهزيمة فيها ممنوعة كما هو واضح... وإذا كانت قد تعثرت مواجهتنا إلى الآن، فلأننا لم نتعامل تعاملاً صحيحاً لا مع تراثنا، ولامع الآخر. » ()  إنه اعتراف الباحث الحديث الذي لم يحسن قراءة تراثه، والذي لم يسأله يوما عن حقيقة "الآخر" وحدوده. فلم يكن ذلك الأمر بمتعسر على سلف الأمة لأنهم حسموا مسألته في شقين: شق محارب يحادد الله ورسوله، وشق مسالم لا يعترض على الحق. ولم يكن التمييز يراعي رابط الدم، أو اللغة، أو التراب، وإنما كان ينظر إلى رابط الاعتقاد فقط.
كتب "الأمير عبد القادر" بعد الحمد والصلاة على الرسول r يقول:« ما حكم الله في الذين دخلوا في طاعة العدو الكافر باختيارهم، وتولوه ونصروه، يقاتلون المسلمين معه، ويأخذون مرتبه كأفراد جنوده، ومن ظهرت شجاعته في قتالهم للمسلمين، يجعلون له علامة في صدره، عليها صورة ملكهم. هل هم مرتدون أم لا؟ وإن قلتم بردتهم، فهل يستتابون أم لا؟ » ()  فما يشغل "الأمير" الساعة ليس حكم الرأي والتدبير والسياسة، وإنما حكم الله U غير أنه يحدد طبيعة أولئك الذين سيشملهم الحكم بعد الاستشارة. لأنهم:
1-    دخلوا في طاعة العدو الكافر باختيارهم.
2-    أظهروا شجاعتهم في قتال المسلمين.
3-    يتلقون منه أجرا كأفراد جنده .
4-    يجتهدون في الحصول على الشارات والنياشين التي تحمل علامة العدو.
فهل هؤلاء مرتدون؟ إن كانوا كذلك، فهل يستتابون؟ عملا بحكم المرتد؟
أفتت "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" في شأن "المرتد " بقولها: « من كان مسلما ثم ارتد عن الإسلام فهو كافر، يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل.» () وذلك شأن المرتد المفرد، أما ما يعانيه "الأمير" فمختلف في حيث النوع والعدد. إذ ليس في أقوال الموالين للمستعمر ارتداد عن دين، وإنما في أفعالهم موالاة للعدو وحرب على المسلمين. فإن صدق فيهم حكم المرتد ترتب على ذلك جملة من الأحكام تتجاوزهم إلى غيرهم ممن يتصلون بهم.
إن "الأمير عبد القادر" يدرك ذلك جيدا فيفصِّل في رسالته للقاضي قائلا: « ما حكم نسائهم، هل هن كرجالهم أم لا؟ وإن قلتم أنهن مثلهم فهل يحكم باستتابتهن أو يقتلن أو يسترققن، كما نقل عن ابن الماجشون أم لا؟ وما حكم ذراريهم ؟ هل لنا سبيهم أم لا؟ وهل ما حكاه ابن بطال من الإجماع على أن المرتد لا تسبى ذريته،منقوض بما نقل عن ابن وهب وعن جمهور الشافعية أن المرتد كالكافر الأصلي أم لا؟ وهل يسوغ لنا العمل بما ينقل عن أصحاب مالك t عنه من الأقدمين كابن وهب وأمثاله في طبقته في هذه النوازل وأمثالها مما لم يشهره المتأخرون أم لا؟ » () فالتفصيل الوافي سيتيح للقاضي إنزال المسألة في إطارها الصحيح. لذلك نرى "الأمير" يكشف له بادئا عن قضايا فقهية سابقة اضطرب فيها الفقهاء بحسب النوازل التي صدَّرت تلك الفتاوى. فقد قاتل كثير من الصحابة بعضهم بعضا استنادا إلى "تأويل" ولم تكن هناك نية للردة والكفر. والمختلف بين يدي "الأمير" هو الولاء للكافر والقتال إلى جانبه من غير إعلان الردة عن الدين. فقهاء المالكية حددوا حكم المرتد المحارب في قولهم: «( وَإِنْ ارْتَدَّ ) عَنْ دِينِ الْإِسْلَام (جَمَاعَةٌ) بَعْدَ تَقَرُّرِ إسْلَامِهِمْ (وَحَارَبُوا) بَعْدَ ارْتِدَادِهِمْ الْمُسْلِمِينَ كَمُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أُسِرُوا (فَكَالْمُرْتَدِّينَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَصْلِيِّينَ. فَيُحْكَمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لَا بِحُكْمِ الْكُفَّارِ النَّاقِضِينَ لِلْعَهْدِ. فَيُسْتَتَابُ كِبَارُهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا وَمَالُهُمْ فَيْءٌ، وَيُجْبَرُ صِغَارُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ، وَلَا بِحُكْمِ الْحَرْبِيِّينَ. » ().
لقد فرضت النازلة الجديدة على "الأمير عبد القادر"  التمييز بين مرتد معلن لردته كفرا، وبين موال للكافر يأتمر بأمره ويحارب المسلمين من أجله. لذلك لم تعد المسألة متعلقة بالردة، وإنما الردة ستلحق فعل الولاء وتترتب عليه حتى وإن لم يعلنها صاحبها جهرا نهارا. وقد ورد في " فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء " :« السؤال الخامس من الفتوى رقم (6901):
س5: ما هي حدود الموالاة التي يكفر صاحبها وتخرجه من الملة؟..
ج5: موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم هي: محبتهم، ونصرتهم على المسلمين، لا مجرد التعامل معهم بالعدل، ولا مخالطتهم لدعوتهم للإسلام، ولا غشيان مجالسهم والسفر إليهم للبلاغ ونشر الإسلام.» () وهو عين ما نزل بساحة "الأمير" حينما صار أمر القبائل إلى نصرة العدو على المسلمين وقتالهم والاستبسال في ذلك بين أيديهم، وتعليق الشارات على الصدور فخرا واعتزازا. فلم يعد الحديث بذلك عن ارتداد في الدين، وإنما صار الحديث عن كفر ناشئ عن اختيار ومعاملة قد تترتب عليه أحكام الكافر شرعا، فتتعداه إلى أهله وماله.
3- فقه النوال عند الأمير:
تكشف القراءة المتأنية لنص الرسالة عن وجه آخر "للأمير عبد القادر" يتجاوز صورة المحارب والسياسي التي رسمتها كتب التاريخ، التي تتوقف عادة عند الأفعال، ولا تتجاوزها إلى طبيعة الفاعلين فيها، فتفوت بذلك شرطا مهما من شروط الفهم الصحيح للرجال. فلم يكن "الأمير" يحارب الغزاة باعتباره رجل دولة وحسب، وإنما كان يحاربهم باعتباره رجل عقيدة. وهنا محط الاختلاف بين كثير من الدراسات التي تناولت "الأمير" وحاولت تفسير مواقفه استنادا إلى الظاهر من أفعاله وأقواله.
يحدد "الأمير" في مطلع رسالته للقاضي " عبد الهادي العلوي الحسني " موقفه من "الآخر" "المستعمر" "الغازي" باعتباره "كافرا" وطأ أرض المسلمين بغيا واغتصابا. وتلك وحدها مدعاة لمحاربته وصد جيوشه. لا يجد لها "الأمير" في نفسه شكا ولا ريبة، بل ينهض بها بما أوتي من قوة وبسالة، ويجيش لها القريب والبعيد. ويحث الخامل والمتردد، ويحمل الكل على الذود عن بيضة الإسلام.
بيد أن النوازل في دار الحرب كثيرة، تستدعي الفقيه في كل حين، وتجعل المحارب أذنا صاغية لقول الشرع ومطالبه. ومن ثم نجد "الأمير" يعقد المجالس لمراجعة القضايا وعرضها على ميزان الشرع إن تيسر له ذلك. أما إن تجاوز حجمها طاقته أوكلها إلى من هم أدرى بشؤون الدين والدنيا كالعلماء والقضاة.
إن "الأمير" وهو يتوجه إلى قاضي فاس. يدرك أن الرجل بعيد عما يضطرب في سواحل الجزائر عمليا، وما تأتيه القبائل الموالية للغزاة، وأن الحكم فيهم من النصوص وحدها قد لا يناسب نازلتهم، لذلك نجده يقول:« أجيبوا أدام الله وجودكم جوابا يشفي المرض ويأتي على الغرض، محيطا بالتفاصيل والجمل،مبينا لنا ما يكون به العمل، مع ملاحظتكم زماننا ووطننا والسلام » () ومنه ندرك حرمة الدم المسلم لدى "الأمير" فهو يريد تفصيلا وإحاطة بالموضوع، وبيانا للعمل. لأن ما يراه في النازلة إنما هو من قبيل المرض الذي يجب البرء منه قبل مواجهة الأعداء، وإلا لكان وهنا مستمرا في ظهر المقاتلين. وأن الذي طرأ إنما خاص بزمنه ووطنه.