الشرق والغرب عبر التاريخ: بين التنافس والتثاقف ـ د. عبد اللطيف الركيك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse23048مقدمة:
الشرق والغرب هما مجالان جغرافيان عرفا عبر التاريخ تحولات حضارية كبرى كان لها تأثير كبير على تطور المشترك الحضاري الإنساني. كما أن الشرق والغرب مفهومان غير ثابتين في دلالتهما باعتبار اختلاف الكيانات الحضارية بالمجالين عبر التاريخ. علاقة الشرق بالغرب قديمة، وترجع إلى حقب جد موغلة في التاريخ. وإذا كان الغالب في هذه العلاقة في عصرنا الراهن هو الصراع، فإن إرهاصات هذا الشد والجذب في العلاقة بين المجالين تعود إلى فجر التاريخ. وقد تراوحت العلاقات الحضارية بين هذين الكيانين الحضاريين منذ فجر التاريخ بالتنافس تارة والتثاقف تارة أخرى. وإذا كان السائد في مقاربة الموضوع هو التركيز على تطورات العلاقة بين المجالين، خاصة خلال العصر الحديث، فإننا نقترح في هذه المقالة العودة لسبر أغوار هذه العلاقة خلال الفترة القديمة من التاريخ، وذلك سعيا لمحاولة فهم أصول العلاقات الحضارية بين الجانبين، ومعرفة إسهام كل طرف فيما نسميه ب"المشترك الحضاري الإنساني"، مركزين في مقاربتنا على تيمتي: "التنافس" و"التثاقف".

I-الشرق والغرب خلال العصر القديم:
1-إسهامات الشرق القديم في الحضارة الإنسانية:
أمسك الشرق بمشعل الحضارة في العالم القديم منذ فجر التاريخ على حساب الغرب، وشكل ورشة حضارية حقيقية بظهور كيانات حضارية كبيرة بمقاييس العالم القديم. ولاتزال آثار تلك الحضارات الشرقية ماثلة إلى اليوم تسحر ألباب الناس في عصرنا الراهن. فقد تركت لنا الحضارة الفرعونية لوحدها ما يمثل اليوم ما يقرب ثلث آثار العالم، كلها منشئات معمارية عملاقة تشهد بضخامتها وإتقانها وبرسوماتها ونقوشها على حضارة رائدة في ابتكاراتها وعمائرها وفنونها، حيث أذهلت العالم والعلماء بفكرها وعلمها، وأظهرت جانبا مما بلغه الشرق القديم من ازدهار حضاري. بينما يكتنز العراق آثارا ضخمة ومعالم تشهد على ازدهار حضارات شكلت منطلقا لتطور الحياة البشرية في شرق العالم القديم وغربه. وقد كشفت الحفريات الأثرية في سوريا عن بقايا متنوعة ومعالم تبرز تتابع الحضارات التي ساهمت بدور وافر في التطورات الحضارية في الشرق القديم، بحيث لا تكاد تخلو منطقة من المناطق سورية من المواقع الأثرية التي تعود إلى فترات زمنية مختلفة، والتي يزيد عددها على 4500 موقع أثري هام.

بلغت حضارات الشرق القديم أوج ازدهارها وقدمت للعالم القديم الكثير من الابتكارات التي خدمت المشترك الحضاري الإنساني، وجعلت الشرق مركز إشعاع حضاري بامتياز، ما جعل مركز الثقل الحضاري العالمي يميل منذ فجر التاريخ لصالح الشرق القديم. وفي المقابل انتصبت المجالات الحضارية الأخرى في العالم القديم كمجالات مستقبلة ومستلهمة ومتأثرة بحضارات الشرق القديم. ففي العراق، ومنذ الألف الخامس ق.م، ظهرت إحدى أقدم الحضارات الإنسانية، وهي الحضارة السوموية على دلتا الرافدين، حيث قدم بناتها ضروبا من الإبداع من خلال إنشاء المدن وتطور العمارة عبر تشييد القصور والمعابد وبناء السدود وحفر قنوات المياه، كما تقدم فن التعدين وسبك المعادن، وقطع فن النحت شأوا بعيدا من التقدم. وإلى السومريين تعود أولى المحاولات الفلسفية الجريئة الخاصة بأصل الكون والوجود والأساس في مكونات المادة. وإلى هؤلاء أيضا ترجع أعظم مساهمة في المشترك الحضاري الإنساني من خلال ابتكار مرحلة مهمة من مراحل تطور الكتابة، ويتعلق الأمر بالكتابة المسمارية. وفي نفس المجال الجغرافي تقريبا ازدهرت الحضارة الأكادية في أواخر الألف الثالث ق.م، التي عرفت تقدما كبيرا في العمارة والفنون. ومنذ الألف الثالث ق.م ظهرت بالعراق أيضا الحضارة الأشورية التي تميزت بتوسعات مجالية كبيرة جعلت الآشوريين ينشؤون إحدى أكبر الإمبراطوريات في تاريخ الشرق القديم. بعد سقوط إمبراطورية الآشوريين خلفتها في العراق القديم الحضارة الكلدانية التي ساهمت بدورها في استمرار الإشعاع الحضاري للشرق القديم، وإليها تعود حدائق بابل المعلقة، وهي إحدى عجائب العالم القديم السبعة.  كما شهدت المنطقة بروز إحدى أهم الحضارات الشرقية، وهي الحضارة البابلية منذ القرن 18 ق.م، التي تميزت بازدهار المعارف والعلوم المختلفة، وإليها تعود إحدى أقدم التشريعات في تاريخ الإنسانية والتي تعد من أولى الشرائع المتكاملة في العالم حيث تجمع بين القانونين المدني والعقوبات فضلا عن الأحوال الشخصية، ويتعلق الأمر بقانون حمورابي. وفي العصر البابلي حدث تطور مهم في العلوم والمعارف البشرية، حيث انتقلت من أطوارها العملية إلى طور التدوين والبحث، بحيث يصح أن نرجع بداية ظهور العلوم البشرية الحقة إلى هذا العصر. كما عرف البابليون أسسا مهمة في خواص الأعداد وكذلك في العمليات والطرق والمعادلات الجبرية الأساسية، وذلك قبل الإغريق بفترات زمنية. ويرجح أن البابليين هم الذين أسسوا علم الفلك الرياضي، وبدؤوا يدونون ملاحظاتهم وإرصاداتهم أو حساباتهم الفلكية منذ العهد الأكادي. كما تميز العصر البابلي بالاهتمام بالعلوم الطبيعية، ولا شك أنهم توصلوا إلى مقدمات مهمة في علم الفيزياء.
في مصر، ومنذ الألف الثالث ق.م، ساهمت الحضارة الفرعونية بقسط كبير في تطور الحضارة الإنسانية، ومارست تأثيرا كبيرا على باقي شعوب العالم القديم. فقد برع المصريون في فن العمارة وهندسة البناء بشكل كبير، والدليل على ذلك هو بناء الأهرامات بطرق هندسية متقنة. كما كان للفراعة دور كبير في ظهور الكتابة من خلال استعمال الكتابة الهيروغليفية، وبها دونوا أساطيرهم الدينية وما توصلوا إليه من تطور في شتى العلوم على ورق البردي وباستعمال الحبر. كما توصل قدماء المصريين في العصر الفرعوني لابتكار مفاهيم أولية في الحساب والهندسة، والطب، وتطوير علم الفلك، حيث توصلوا إلى تقويم خاص بهم حسب ملاحظاتهم للشمس والنجوم. وعرفت الفنون والحرف والتقنيات تقدما كبيرا بظهور تقنيات جديدة، وقد كان للمصريين-قبل الفينيقيين-فضل كبير على العالم باختراع الزجاج. وقام قدماء المصريين بالعديد من الأعمال الإبداعية المبتكرة والمذهلة للعالم سواء في التحنيط أو الموسيقي والنحت والأدب والرسم...إلخ. كما برع المصريون القدماء في الأدب الديني الذى تناول العقائد الدينية ونظرياتهم عن الحياة الأخرى وأسرار الكون والأساطير المختلفة للآلهة...
ومنذ نهاية الألف الثالث قبل الميلاد ظهر على مسرح الشرق القديم شعب آخر تسلم مشعل الحضارة الشرقية القديمة وأثراها بإبداعاته وابتكاراته الخاصة، ويتعلق الأمر بالشعب الفينيقي الذي استوطن الشريط الساحلي السوري اللبناني. لقد نقل الفينيقيون بحكم موقعهم في شرق المتوسط، وبسبب أعمالهم التجارية التي مكنتهم من التواصل مع شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، إبداعات حضارات الشرق القديم إلى مستوى "العالمية"، وجعلوا إرث حضارات الشرق القديم في متناول الحضارات الأوربية القديمة، ولا سيما الإغريقية منها. لقد أحدث الفينيقيون نقلة غير مسبوقة في التاريخ في مجال التجارة والإنشاءات البحرية من خلال بناء الموانئ وصناعة السفن وتجهيزها، الأمر الذي جعل من هؤلاء المشارقة سادة البحار في العالم، متفوقين بذلك على معاصريهم من الإغريق. فقد انطلقوا بسفنهم وجابوا سواحل البحر الأبيض المتوسط، وتجرؤوا قبل البرتغاليين والإسبان بقرون طويلة على اقتحام مجاهيل المحيط الأطلسي بعد تجاوزهم أعمدة هرقل الفاصلة بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي والنزول بسواحل المغرب القديم. لقد تمكن هذا الشعب الشرقي القليل العدد من تحقيق إنجازات سوف يخلدها التاريخ وإلى الأبد، ولعل أبرزها على الإطلاق هو اختراع الكتابة الأبجدية وتقليص عدد الرموز الكتابية، التي كان قد توصل إليها السومريون والمصريون قبلهم، إلى عدد محدود من الحروف ذات صورة سمعية محددة، وهو الصنيع الشرقي الذي تلقفه وطوره الإغريق بعدما اقتبسوه من الفينيقيين. ويعود الفضل إلى الفينيقيين كذلك في تطوير الكثير من عناصر الحضارة في صورتها التأسيسية مثل علم الفلك والتعدين والصناعات الدقيقة والكمالية، هو ما شهد به الكتاب الإغريق القدامى الذين عددوا الكثير من الجوانب الحضارية التي أخذها الإغريق عن الفينيقيين.

2-النبوغ الحضاري في الشرق والانطلاقة الحضارية في الغرب خلال الفترة القديمة:
في الوقت الذي كانت تسطع فيه أنوار الحضارة الأكثر تقدما من الشرق القديم، كانت حضارات أوربا منكمشة على نفسها، وهي على كل حال ليست بأعرق من حضارات الشرق القديم. ففي الوقت الذي كانت تتقدم فيه حضارات الشرق القديم، كانت حضارة شرق أوربا، ونعني بذلك حضارة بلاد الإغريق أقل إشعاعا. فخلال الفترة المتراوحة بين منتصف الألف الثالث ق.م والألف الأول ق.م كانت بلاد الإغريق تعرف نشوء أنوية حضارية مثل الحضارة الكريتية والمينوية، قبل أن تتعرض لانكسار كبير نتيجة هجوم القبائل الدورية خلال القرن 12 ق.م. وخلال هذه الحقبة المبكرة من تاريخهم عرف الإغريق القدماء استعمال كتابة على شكل صور، كما أحرزوا تقدما في ميدان الإنشاءات البحرية، وفي الفن المعماري. وفي هذه الفترة بدأت صلات مبكرة بين الغرب والشرق القديمين من خلال العلاقات التجارية بين الإغريق من جهة ومصر وفينيقيا وشواطئ آسيا الصغرى من جهة ثانية. ولم تظهر الحضارة الإغريقية بسماتها المميزة وبإبداعاتها المؤثرة إلا منذ الألف الأول ق.م من خلال نظام الدولة المدينة. خلال هذه الفترة المبكرة من التاريخ الإغريقي حدث تلاقح مع حضارات الشرق القديم متجسدة في الحضارة الفينيقية، وقد طغى على هذا التلاقي الشرقي والغربي طابع سلمي وتبادل حضاري. فعلى امتداد ستة قرون ظل خلالها الفينيقيون المشارقة يجوبون ضفاف البحر المتوسط لم تحدث أي مواجهة بين الجانبين. وذلك لأن الفينيقيين كانوا تجارا وبحارة مسالمين كان غرضهم التبادل التجاري، ولم يكونوا يستهدفون التوسع المجالي في البلاد التي ينزلون بها بسفنهم. وعلى العكس، فقد رحب الإغريق بالحضارة الشرقية الفينيقية لما كانت تحمله تلك الحضارة إلى بلادهم من ابتكارات حضارية تعكس باكورة حضارات الشرق القديم، فلعل هذا ما يفسر سماح الإغريق للفينيقيين بالاستقرار بعدد من الجزر الإغريقية خلال مرحلة التوسع التجاري الفينيقيين، حتى أن أول الجزر التي نزل بها الفينيقيون في حركتهم نحو الغرب كانت جزرا إغريقية مثل قبرص وكريت ورودس والسيكلاد وغيرها. وخلال العصر الكلاسيكي من تاريخ الإغريق(القرن 5 ق.م) حدث أول صدام مباشر بين حضارة الغرب الأوربي في صيغتها القديمة وحضارات الشرق، وذلك من خلال اندلاع حروب بين الإغريق وإحدى الشعوب ذات المنشأ والتأثير الحضاري الشرقي، ويتعلق الأمر بالقرطاجيين. وكان الصدام مع قرطاج نتيجة للتنافس على النفوذ التجاري بغرب البحر المتوسط وقد امتد هذا الصراع الحربي عبر القرنين 5 و4 ق.م، وهو الصراع الذي انتهى إلى تقسيم النفوذ على الجزيرة بين الإغريق والقرطاجيين. كما تجلى الصراع بين حضارة أوربا القديمة وكياناتها السياسية وحضارات الشرق فيما يعرف بالحروب الميدية التي خاضها الإغريق ضد الفرس الميديين خلال القرن الخامس ق.م بعد عزو الفرس للمدن الإغريقية بآسيا الصغرى. وبتمكن المقدونيين من السيطرة على بلاد الإغريق خلال القرن 4 ق.م انطلق شوط آخر من الصراع بين حضارات الشرق والحضارة اليونانية، وهو الصراع الذي برز أكثر في عصر الإسكندر المقدوني من خلال غزوه للشرق القديم، حيث تمكن من إخضاع المنطقة والوصول إلى الهند. بعد وفاة الإسكندر المقدوني بدأت تظهر في الشرق معالم التفاعل بين حضارة الإغريق وحضارات الشرق القديم في صيغة عرفت باسم الحضارة "الهيلينستية" في إشارة إلى المسحة الإغريقية التي انضافت إلى حضارات الشرق القديم خلال هذه الفترة.
ورغم طغيان التنافس والصراع الحربي على العلاقة بين الشرق القديم وبلاد الإغريق، فقد قامت بين الجانبين منذ فترة مبكرة تفاعلات حضارية سلمية مهمة. فمعلوم أنه في الوقت الذي كانت حضارات الشرق القديم تعرف أوج ازدهارها كان الإغريق يتلمسون طريقهم نحو تجسيد حضارتهم الخاصة، وفي نفس الوقت ينتظرون صنيع الشرق لاقتباسه والبناء عليه. فلعل هذا ما حصل من خلال اقتباسهم لعدد من مظاهر حضارة الشرق القديم. غير أن بلاد الإغريق قد تمتعت بدورها بأساس حضاري متين أهلها للتفاعل الإيجابي مع عناصر حضارة الشرق القديم من خلال استلهام بعض الجوانب الحضارية الشرقية وتطويرها. ولعل اقتباس الإغريق للأبجدية الفينيقية الشرقية خلال القرن 14 ق.م يمثل نموذجا لهذا الاتجاه. ويمكن التأكيد على أن فترة التلاقح المخصب الذي حدث بين الفينيقيين المشارقة والإغريق كان يمثل بداية لتحول هام في بلاد الإغريق سوف يسفر عن تحول موازين القوة الحضارية من الشرق نحو الغرب. ذلك أن تاريخ أفول حضارة الفينيقيين في الشرق يمثل تحديدا تاريخا لبداية الانطلاقة الحضارية للإغريق في شتى المجالات. ولعل أكثر ما ساهم به الإغريق في المشترك الحضاري الإنساني منذ هذه الحقبة هو تطوير أنظمة الحكم وظهور القوانين والتشريعات. فضلا عن التراث الحضاري الهائل الذي أنتجه الإغريق في العلوم والفكر والفلسفة والأدب...

3-بداية انهيار حضارات الشرق القديم وبروز حضارة الغرب:
إن السؤال المحير الذي يلازمنا وبحثنا فيه أكثر من مرة هو: لماذا انهارت حضارات الشرق القديم بتلك السهولة؟ ولماذا توقفت عجلة البناء الحضاري في الشرق القديم؟ وكيف تبخرت منجزات الشرق القديم دون أن يقع البناء عليها وتطويرها؟ هل استنفذت حضارات الشرق القديم قدرتها على التجدد والاستمرارية؟ أم أنه يمكن فهم ما جرى انطلاقا من قاعدة السنن الكونية في نشوء وسقوط الحضارات والامبراطوريات؟
نستطيع القول بأن القرن 6 ق.م قد شكل مرحلة تحولات هامة في العالم القديم. ففي الوقت الذي صعد فيه نجم الإغريق حضاريا في الجزء الشرقي للبحر المتوسط كانت حضارات بلاد ما بين النهرين تتراجع، في حين كانت حضارة مصر الفرعونية تتوارى في ظروف غامضة، كما خفت بريق الحضارة الفينيقية وتراجع الفينيقيون خلف أسوار مدنهم منذ القرن 6 ق.م في انتظار هجمة الإغريق المقدونيين بزعامة الاسكندر المقدوني مع نهاية القرن 4 ق.م.
يبدو أن الزلازل السياسية التي عرفها الشرق القديم كانت سببا في الانتكاسات التي آلت إليها حضارة المنطقة. فقد عرف الشرق القديم اندلاع صراعات في أكثر من منطقة بين الكيانات السياسية المختلفة أدت إلى تمزيق الكيانات السياسية التي كانت ترعى حضارات الشرق، خاصة بعد تزايد أطماع الإمبراطورية الفارسية الذي جعل المنطقة تقع بين كماشة الفرس والإغريق ثم الرومان والبيزنطيين في مراحل لاحقة. يضاف إلى ذلك أنه في الوقت الذي انطلقت فيه الإغريق نحو الفكر الفلسفي والعلمي بدأ الشرق يعرف نكوصا على مستوى العقلانية، وساد اتجاه نحو المحافظة على الإرث الحضاري الشرقي القديم والانكفاء على الذات الحضارية ومحاربة التجديد والانغماس أكثر في غياهب الفكر الأسطوري والخرافة. ولعل هذه السمة تعد سمة شرقية بامتياز ستتكرر في تاريخ الشرق خلال الحقب الموالية كما سنذكر لا حقا. ارتكز هذا التوجه الفكري المشرقي على نوع من المحافظة التي عكست نظرة للحياة تقوم على تقديس الاستقرار وتعتبره غاية تطلب لذاتها. ولا نستبعد أن ضعف حركة التمدين في الشرق قد كان سببا في تراجع الحضارات الشرقية، وذلك لأن المدن هي منبع الأفكار الجديدة لأنها تجلب خبرات مختلفة وتجارب إنسانية متعددة. وعلى العكس من ذلك، فإن غلبة الاستقرار الريفي في الشرق القديم ربما أدى إلى طغيان المحافظة والرغبة في الاستقرار على نفس النموذج الحضاري ومعادة التطوير والتغيير. كما أن النظم السياسية الشرقية القديمة تمثل على الأرجح سببا في انتكاسة حضارات الشرق القديم، فهذه الحضارات ارتبطت في الواقع بكيانات سياسية كانت ترعاها أكثر من أي شيء آخر، كما كانت تقوم على مركزية مفرطة جعلت حضارات المنطقة ترتبط أكثر بحكام وملوك كان يقع تقديسهم وإكسابهم صفات إلهية، هذا في وقت بدأت تتطور فيه الأنظمة السياسية في بلاد الإغريق وتتجه نحو الديمقراطية تكريس الإرادة الشعبية وتنظيم الحكم عبر الدساتير، وإن لم تكن هذه التحولات السياسية في صيغتها المثلى. كما أن المشارقة لم يُنضجوا ويطوروا ما توصلوا إليه من عناصر حضارية، بل حافظوا عليها بصيغتها البدائية. فمثلا لم يطور المصريون القدماء علم الهندسة والرياضيات بالرغم من تفوقهم في بناء الأهرامات. فلعل حضارات الشرق القديم قد قامت أساسا على تطبيقات عملية، ولم تتعد ذلك إلى التنظير العلمي وإنتاج الأفكار والنظريات.
لقد كانت حضارات الشرق القديم ممركزة حول فكرة الدين الذي يجسده الحاكم، وكان لهذا التوجه حرس يحميه، الشي الذي جعل حضارات الشرق القديم مغرقة في الخصوصيات المحلية وغير قادرة على اقتحام المجالات الحضارية الأخرى والتأثير فيها. إن الأمر كان يتعلق بمنظومات حضارية شرقية منغلقة، وهذا ما جعلها تحمل بين طياتها عوامل فنائها. إن ما ميز تلك الحضارات في العصر القديم، لا زال ساريا المفعول في ثقافة الشرق حتى أيامنا هاته، هو التعلق بعناوين مثل: الاستقرار، الثبات، المحافظة، معاداة التغيير، الإصرار على العيش بنفس الطريقة ولو لآلاف السنين...
وبينما طغى الفكر الأسطوري في الشرق القديم، وترسخت المحافظة، وتعطلت القدرة على الابداع والتطوير، انطلق الإغريق نحو آفاق حضارية رحبة. صحيح أن الإغريق استفادوا على ما يظهر من بروز بعض الأسس البسيطة في الرياضيات والفلك والجغرافيا في بلاد الرافدين ومصر، ولكنهم ذهبوا بعيدا في تطويرها وإخراجها في صورة أكثر نضجا. فقد تجلى الإبداع الحضاري الإغريقي في الاهتمام بالأدب والشعر (هوميروس) والفنون والمسارح والنحت والزخرفة والطب (أبوقراط) والرياضيات (طاليس) والفيزياء (أرخميدس) والفلسفة (أفلاطون) والتاريخ (هيرودوت) والرياضة (الألعاب الأولمبية). كما طوّروا علم الجغرافيا والفلك ورسموا خريطة العالم القديم، وتوصلوا إلى كروية الأرض...
كان ينبغي انتظار منتصف القرن 8 ق.م لكي تنبعث من قلب إيطاليا القديمة مدينة ستتولى بناء إحدى أبرز حضارات الغرب الأوربي، ويتعلق الأمر بمدينة روما. غير أن الحضارة الرومانية لم تصل إلى ذروة قوتها إلا بعد مرور ما يقرب من قرنين على تأسيس روما، حيث انشغل الكيان السياسي الذي أوجدته الحضارة الناشئة بالحروب داخل شبه الجزيرة الإيطالية. ولهذا، فإن الرومان لم يعرفوا انطلاقة حقيقية إلا بعد قيام النظام الإمبراطوري مند 509 ق.م. اعتمد الرومان في حضارتهم على الإرث الإتروسكي في إتروريا بوسط إيطاليا القديمة، كما اتخذوا لأنفسهم الحضارة اليونانية منهجا، فأمدوها بحياة جديدة، ونشروها في كل الأصقاع. بعد أن قويت شوكتهم شرع الرومان في توسيع رقعة إمبراطوريتهم بالاتجاه شرقا، حيث سيطروا على بلاد اليونان التي صارت ولاية تابعة لهم. وما كاد ينتصف القرن الثاني ق.م حتى فقدت الكثير من شعوب الشرق القديم استقلالها بفعل التوسعات الرومانية. فقد دمر الرومان قرطاج، واحتلوها سنة 146 ق.م.، ثم أنهوا حكم السلوقيين في مصر، وسيطروا على باقي مناطق الشرق القديم. وبفضل هذه التوسعات امتدت حدود الجمهورية الرومانية من إسبانيا غربا إلى السواحل الغربية لآسيا الصغرى شرقا، إضافة إلى شمال إفريقيا القديم، وبذلك تكون قد ربطت الغرب بالشرق لأول مرة في التاريخ القديم.
ولما احتك الرومان بالشرق، وامتزجوا ببدورهم بأممه، أخذوا عنها الكثير من العلوم والمعارف لكنهم أخرجوها بطريقتهم الخاصة. ساهم توسع الرومان على حساب بلاد اليونان والشرق القديم في مدهم بجرعات حضارية أغنت حضارتهم وكرست هيمنتهم. فقد تطورت في العصر الروماني الفنون والعلوم والآداب والفلسفة والطب وفن العمارة والنحت وأنظمة الحكم والقوانين والإدارة... لم تكن روما قادرة على إدارة المجال الشاسع الذي توسعت به، فسرعان ما اندلعت الصراعات في الأقاليم، وهو ما أفضى إلى ظهور إمبراطوريتين إحداهما في الشرق وأخرى في الغرب. سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية على يد القائد الجرماني اودكر عندما احتل مدينة روما في عام 476م ويعتبر هذا التاريخ نهاية للتاريخ الروماني، واندحارا مؤقتا لحضارة الغرب الأوربي، وبداية لعصر جديد في أوربا هو العصر الوسيط. أما في الشرق فقد نجح قسطنطين الأول في أن يسيطر على الشرق عام 323م، وبذلك ظهرت الإمبراطورية الرومانية الشرقية والتي عرفت باسم الإمبراطورية البيزنطية التي بقيت قائمة حتى غاية احتلالها من طرف محمد الفاتح في القرن 15م.
لم يتسن للشرق أن يستفيدا كثيرا من اندحار حضارات الغرب الأوربي وسقوط كياناته السياسية، إذ ما إن زالت الاحتلالات المتوالية حتى كان موعد المنطقة مع تطور آخر تمثل في انتشار العنصر العربي بالمنطقة. فما مصير التنافس الحضاري بين حضارات الشرق والغرب بعد الذي حدث في المجالين الحضاريين معا من تراجع ونحن على أبواب العصر الوسيط؟ هل كان العصر الوسيط في أوربا بالفعل عصر انحطاط؟ وبالمقابل هل تحول ذلك العصر في الشرق بعد ظهور الاسلام وتوسعاته بفضل أعمال القومية العربية إلى عصر ازدهار؟ وهل سمح ذلك بميل موازين الحضارة مجددا نحو الشرق؟

II-العصر الوسيط: مصير حضارة الشرق بعد انتشار العنصر العربي:
1-قدم الانتشار العربي بالشرق القديم:
دشن صعود العنصر العربي نحو الشمال وسيطرته على مجالات الحضارات الشرقية البائدة نقطة تحول في تاريخ المنطقة كان لها تأثير على المسير الحضاري للشرق بأكمله. ظل العنصر العربي منكفئا على نفسه بمجاله الجغرافي المحدود بشبه الجزيرة العربية. ورغم ذلك، فإن نزوح العرب إلى الشمال لم يكن قط وليد العصر الوسيط، إذ يعود إلى فترة مبكرة من تاريخ الشرق القديم. لقد بقيت بلاد العرب خلال الفترة القديمة نسبيا بمنأ عن التدخلات الأجنبية، فإذا استثنينا مناوشاتهم مع الآشوريين والبابليين، فقد عاشوا في الواقع عزلة حقيقية في مجالهم، لقد عرفتنا الوثائق الآشورية والبابلية الحديثة ببلاد العرب، إذ ورد لأول مرة في وثيقة آشورية تعود إلى 853 ق.م خلال مشاركتهم كجنود ضمن الجيش الآشوري في معركة "قرقر" بشمال سوريا الحالية إلى جانب جنود آشوريين وفينيقيين ومصريين. لقد عاش العرب خلال الفترة القديمة كبدو على الرعي والترحال والتجارة، إذ تشير الوثائق الآشورية إلى بلاد العرب على أنها بلاد قاحلة تغطيها الأملاح ولا ماء فيها.. ويمكن إرجاع بداية نزوحهم نحو الشمال إلى القرن 8 ق.م، حيث صعدوا إلى مجالات الحضارات الشرقية القديمة من أجل التجارة، لاسيما مع الآشوريين والمصريين. ومنذ هذا التاريخ بدأ استيطان جماعات عربية بمجالات الحضارات القديمة ليصلوا إلى سوريا والأردن ومصر تحت نظر الآشوريين، قبل أن ينتبه هؤلاء الأخيرون إلى خطورة تقدم العرب، فعملوا على محاربتهم. غير أن سقوط الإمبراطورية الآشورية خلال القرن 7 ق.م سمح باستمرار تمدد العرب نحو الشمال، وهو شيء لم يعطله سوى التدخلات الفارسية في المنطقة طيلة قرنين غامضين. وبهذا يكون الشرق على موعد مع تحول كبير تجلى في الاكتساح العربي للمنطقة. ومعلوم أن بعض الأبحاث التاريخية تحاول عمدا الخلط بين العرب وشعوب الحضارات التي نشأت في بلاد ما بين النهرين وفي بلاد الشام وفلسطين من منطلق أن الأمر يتعلق بشعوب سامية، وبمبرر أن أصل صانعي الحضارات الشرقية القديمة ينتمون إلى نفس الجنس السامي، وبالتالي اعتبار حضارات العراق القديم وبلاد الشام وفلسطين بمثابة حضارات عربية، وهو أمر لا يقوم على حجة كافية، والأصح هو اعتبار القومية العربية قومية مختلفة لم تتصل بشعوب الشرق القديم إلا منذ القرن 8 ق. م على الأقل.
لقد أخذت القومية العربية في الانتشار شمالا حيث ضمت مجالات الحضارات الشرقية القديمة في العراق والأردن وسوريا ومصر وبلاد الشام وفلسطين، غير أنهم انتشروا هناك كجماعات مهاجرة عملت على تأسيس كيانات سياسية. وخلال القرن 5 ق.م أشار هيرودوت إلى العرب كقومية متعاونة مع الفرس في مساعيهم لغزو مصر، وقد استعمل لفظ "عرابيا' أو "أرابيا" لنعت مجال استقرار العرب، قاصدا بذلك شبه الجزيرة العربية الواقعة شرق النيل. والراجع أنه بمرور الوقت توغل العرب أكثر نحو الشمال، ففي القرن 1 الميلادي يخبرنا المؤرخ بلينيوس الأقدم بأن بلاد العرب تمتد من الجزيرة العربية جنوبا حتى جبال أمانوس(لواء الإسكندرونة الآن) بتركيا. لقد انتشر العرب، الذين كانوا بدوا لا عهد لهم بالتمدن، بمجالات حضارية عريقة عرفت الاستقرار والتمدن والعمران منذ فترات جد قديمة. لقد تعززت السيطرة العربية على الشرق أكثر مع ظهور دعوة النبي محمد في شبه الجزيرة العربية. والظاهر بأن الحضارة العربية قد عملت على محو مخلفات الحضارات الشرقية القديمة ربما لأسباب ثقافية ودينية واجتماعية برغم القواسم المشتركة بينها وبين تلك الحضارات من حيث اشتراكها مع بعضها في الانتماء إلى الغور الحضاري السامي.

2-حضارة الشرق والغرب خلال العصر الوسيط:
حسب الوثائق المتوفرة، فإن العرب قبل الإسلام لم يتركوا ما يدل على أنه كانت لديهم علوم متوارثة في مجالات مختلفة إذا استثنينا بعض الإرهاصات الأولية في بعض المعارف مثل علم الفلك والرياضيات والطب. وأكثر ما تحفظه وثائقهم هو النبوغ الأدبي، خاصة في مجال الشعر. كما انصرف كل اهتمامهم الاقتصادي نحو أعمال التجارة من خلال تجارة القوافل الموسمية. إن السؤال المحير الذي يظل بلا جواب هو كيفية تعاطي العرب مع إرث الحضارات الشرقية القديمة بعد انتشارهم بمجالاتها؟
بعد استثبات دعوة الرسول محمد في شبه الجزيرة العربية خلال القرن 7 الميلادي، انطلقت التوسعات العربية الكبرى ليس بهدف الاستيطان، الذي حدث قبل ذلك بكثير، وإنما لنشر الديانة الجديدة. وهكذا انطلقت التوسعات الخارجية، خاصة في عهد الخلفاء الراشدين،  فامتدت أراضيها من شبه الجزيرة العربية إلى الشام فالقوقاز شمالا، ومن مصر إلى تونس غربا، ومن الهضبة الإيرانية إلى آسيا الوسطى شرقا، وبهذا تكون الدولة قد استوعبت كافة أراضي الإمبراطورية الفارسية الساسانية وحوالي ثلثي أراضي الإمبراطورية البيزنطية. وفي عهد الدولة الأموية أصبح العرب يحتكمون على مجال واسع من آسيا وأوربا وإفريقيا، إذ امتدت السيطرة العربية من أطراف الصين شرقا حتى جنوب فرنسا غربا، إضافة إفريقية والمغرب والأندلس وجنوب الغال والسند وما وراء النهر. وفي عصر العباسيين وصل المد العربي الإسلامي إلى الهند، بينما صرف العباسيون أكثر وقتهم لشن الغارات ضد البيزنطيين ولمواجهة القلاقل في البلاد المفتوحة في عهد الأمويين، إلى أن سقط العباسيون ككيان يحفظ وحدة العرب والمسلمين سقوطا رمزيا بعد سقوط بغداد سنة 1258م بيد المغول، وفعليا سنة 1519م، ليبدأ مشروع إسلامي وحدوي آخر تحت حكم العثمانيين.
بالرجوع إلى إشكالية مصير حضارات الشرق القديم في ظل السيطرة العربية على المنطقة، نجد أن العرب قد نجحوا في تعريب كل ذلك المجال، ومحو آثار اللغات الشرقية القديمة كالآشورية والفينيقية والمصرية. كما أن العرب في ظل الإسلام قد عاشوا عصرا ذهبيا امتد من منتصف القرن 8 الميلادي لغاية القرن 14 و15 الميلاديين. وقد تخلل هذه الفترة تصدع في العلاقات بين الشرق الذي أصبح إسلاميا والغرب الذي صار مسيحيا، وتجلى ذلك في الحروب الصليبية التي شنها الأوروبيون من أواخر القرن 11 حتى الثلث الأخير من القرن 12 الميلادي، والتي كانت عبارة عن محاولات من مسيحيي غرب أوروبا انتزاع الأراضي المقدسة في الشرق من قبضة المسلمين. لقد تميز العصر الاسلامي بالشرق ببعض الإضافات الحضارية الهامة. فقد ظهر علماء مسلمون ساهموا في تطوير عدة نواح حضارية مثل الفن والزراعة والاقتصاد والصناعة والأدب والملاحة والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا والفلك، من خلال المحافظة والبناء على المساهمات السابقة وبإضافة العديد من اختراعاتهم وابتكاراتهم. وقد كان لتلك الإضاءات الحضارية الإسلامية تأثير على عدد من جهات المعمورة، ومن بينها الغرب الأوربي المسيحي. ولكن هل استثمر العرب المسلمون الإرث الحضاري الشرقي وطوروه إلى أبعد مدى؟ وهل أخرجوا حضارة مادية حقيقية كانت قادرة على إحداث تغيير ملموس في العلاقة بين الشرق والغرب؟ أم أن الأمر لم يتعد مجرد توسعات مجالية؟ ونشر قيم أخلاقية وتعاليم دينية بحتة؟
رغم أهمية الإنجازات التي تحققت، فلا شيء يؤكد استثمار العرب تحت راية الإسلام لمنجزات الحضارات القديمة والبناء عليها وتغيير موازين الحضارة العالمية، خاصة على ضوء العلاقة مع الغرب المسيحي. فقد تقهقرت المنطقة في الكثير من المجالات، وطغى الجانب الديني في حضارة الشرق على حساب التفكير المادي العقلاني، فرغم وجود بعض النقط المضيئة، فإنها لم تكن كافية لإحداث تحولات عميقة في بنية المجتمع الإسلامي تدفع به نحو التطور، وبوسعها استغلال التراخي الوقتي الذي عاشه الغرب الأوربي خلال العصر الوسيط. وهنا لا بد من إعادة النظر في بعض المسلمات، ومنها ما تم ترسيمه في الأبحاث التاريخية بصدد واقع حضارة الغرب الأوربي خلال العصر الوسيط الدي امتد بين القرن 5 حتى القرن 15 الميلادي، من خلال الاعتقاد بأن حضارة الغرب الأوربي قد نزعت نحو المحافظة والجمود وسيادة معتقدات تعتمد على الأساطير والروايات الخيالية والخرافات وسيطرة الكنيسة، وإلا فعلى ماذا بنى الأوربيون نهضتهم خلال العصر الحديث الأوربي؟ كما أن ثمة مقابلة غير سليمة بين عصر وسيط إسلامي مشرق يطبعه الازدهار وعصر وسيط أوربي مظلم ساد فيه الانحطاط في كافة مناحي الحضارة، والحكم تبعا لذلك بأن هذه الفترة قد شهدت تحولات حضارية كبرى لصالح الشرق على حساب الغرب. هذا المنحى، الذي تطغى عليه العاطفة، لم يعد مجديا لفهم حقيقة التحولات التي حصلت في الغرب والشرق خلال العصر الوسيط. فهناك اليوم الكثير من الأبحاث التي راجعت الكثير من المسلمات بهذا الخصوص. لقد تبين أن بأن أوربا قد عرفت خلال العصر الوسيط تطورات ضخمة على الصعيد السياسي والديني والجغرافي تفاعلت فيه مختلف العناصر الأساسية التي كيّفت تاريخ أوروبا خلال العصر الوسيط، وخلقت أساسا حضاريا وقع البناء عليه خلال العصر الحديث الأوربي. ومن ذلك مثلا ازدهار الفلسفة اللاهوتية والشعر والفن المعماري.. ويمكن الاستنتاج، مع استحضار النسبية، بأن تاريخ الغرب الأوربي هو عبارة عن مسار متصل بين الحضارة الإغريقية والرومانية وصولا إلى النهضة الأوربية في العصر الحديث، وأن الحديث عن ثغرة حضارية يمثلها العصر الوسيط أمر مبالغ فيه. إن التراجع الذي حصل في أوربا خلال العصر الوسيط إنما كان تراجعا في التنظيم السياسي بالدرجة الأولى.
وبناء على ما سبق، فإن العصر العرب خلال العصر الوسيط لم يستطيعوا قلب موازين الحضارة لصالح الشرق لعدة اعتبارات. منها أن العرب المسلمين كان كل همهم هو السيطرة السريعة على أوسع مجال جغرافي، دون أن يقع الإعداد لتبعات ذلك التوسع، بحيث لم يستطع العرب إدماج الشعوب التي دخلت في الإسلام، فكان ذلك مقدمة لإحداث ثغرات في الجسد الإسلامي سيتوغل عبرها الغرب المسيحي. ينضاف إلى ذلك اختلاط الدين بالدولة على امتداد التاريخ الإسلامي، هذا فضلا عن السقوط في مستنقع الخلافات الفقهية والعقدية التي شغلت المسلمين لفترات طويلة، وأدت إلى انقسامات مؤثرة سمحت بظهور العديد من الطوائف والفرق الدينية والكلامية المتصارعة. الشيء الذي بث بذور الفرقة والانشقاق داخل العرب المسلمين، وفتح المجال أمام الخلافات السياسية والصراع من أجل السلطة. وقد ترك هذا التناحر داخل الصف الإسلامي الفرصة للغرب لمحاولة شق صفوف المسلمين. وقد جعلت تلك الاحداث البيئة غير مناسبة للابداع العلمي أو الفكري، وساهمت في تراجع المسلمين القهقري على امتداد فترا زمنية مهمة. إن الذي حصل هو تغليب الغيبيات والإيمانيات، وحدث تطويق حقيقي للعقل وتكريس التبعية الفكرية، بالرغم من بعض الفلتات القليلة، فقد جرت عملية شيطنة الفلسفة والفلاسفة، وملاحقة كل من يُعمِل العقل أو يُساهم في تعليم ممارسة التفكير. فتلقت الفلسفة نكبتها الموجعة، ومحن الفلاسفة المسلمين خير دليل على هذا المنحى، ونذكر من بين هؤلاء أبو يوسف اسحاق الكندي وأبو بكر الرازي وابن رشد وأبو نصر الفارابي وغيرهم.
إن كل ما حصل في الشرق خلال العصر الوسيط الاسلامي، وإذا استثنينا التحولات الدينية والأخلاقية، لا يتعدى مجرد تمنيع المنطقة عسكريا وامتلاك القدرة على صد الأطماع الأوربية بفضل الالتفاف القوي حول العنصر الديني الذي طغى على آفاق الشرق خلال هذه الحقبة من التاريخ.

III-العصر الحديث: انكفاء الشرق وبداية انقلاب موازين الحضارة لصالح الغرب
1-عصر التحولات في الغرب الأوربي
يحدد الأوربيون تاريخ بداية العصر الحديث بالانتكاسة العسكرية التي حدثت بعد الصدام مع المسلمين وما تمخض عنها من فتح القسطنطينية من طرف العثمانيين سنة 1453م. ولكن ذلك كان بداية انطلاقة لحضارة الغرب الأوربي خلال القرنين 15 و16 الميلاديين. فقد عرف الغرب الأوربي منذ القرن 15م ثورات حقيقية في كافة المجالات، ترافقت مع تحولات عميقة مست المجتمع الأوربي. فقد أطلق الأوربيون خلال هذا العصر العنان للعقل بفضل حركات فكرية أسست لهذا التوجه، وتخلصت أوربا من النظام الاقطاعي على المستوى الاقتصادي ما فتح المجال أمام نشوء اقتصاد حضري تركز في المدن من خلال أعمال التجارة، وما أتاحته من تراكم الرساميل التي أفرزت طبقة اجتماعية متنورة يعود لها فضل قيادة التحولات اللاحقة وهي الطبقة البورجوازية. كما بدأت معالم الانتقال من الاقتصاد الفلاحي نحو الاقتصاد الصناعي من خلال ظهور الأوراش والمعامل الصغيرة، وهو ما أفضى إلى تراكم الرساميل ونشوء الأبناك. وفي الجانب الاقتصادي أيضا، أتاحت الكشوفات الجغرافية للأوربيين مراكمة المزيد من الثروات التي تم توظيفها في النشاط الصناعي. وقد أسفرت هذه الدينامية الاقتصادية الجديدة عن ارتفاع الانتاج في القطاعين الفلاحي والصناعي، وبرزت الحاجة إلى الأسواق الخارجية لتسويق فائض الإنتاج. الأمر الذي خلق رأسمالية أوربية أصبحت تتطلع إلى الخارج لتحقيق طموحاتها الاقتصادية. وفي هذا السياق أحكم الأوربيون سيطرتهم على محاور التجارة البحرية باكتشاف طرق جديدة تتيح الاتصال بعدد من أنحاء العالم عبر المحيطات بدل البحر الأبيض المتوسط. وقد أدى هذا التفوق التجاري والملاحي الأوربي الذي رافق الكشوفات الجغرافية إلى تطويق كامل للشرق الإسلامي وعزله عن الأسواق التي كان يتعامل معها، وبالتالي إضعافه اقتصاديا. كما انعتقت أوربا خلال هذا العصر من النظام التراتبي الاجتماعي القائم على العسف والاستغلال، وتمكن مفكرون أوربيون كبار من شق الطوق الذي ضربته الكنيسة على الإنسان الأوربي وفرض إصلاحات دينية انتهت بسقوط وصاية رجال الدين على حياة الأوروبيين. كما عرفت أوربا خلال هذا العصر اتحاد الممالك وظهور الدول القومية مع ما صاحب ذلك من تحولات سياسية سترتقي إلى مستوى الثورات خلال القرن 17م من خلال الإصلاحات العميقة التي جاءت بها الثورتان الإنجليزية والفرنسية. وفي الميدان الفكري شهد هذا القرن تطور الفكر العقلي وازدهار الفلسفة التي أعلت من شأن العقل والتفكير العلمي. وقد صاحب ذلك ازدهارا غير مسبوق للكثير من العلوم الحقة والإنسانية.
ولم يكد الأوربيون ينهون مسيرة تحولاتهم المثمرة حتى انبعثت لديهم فكرة الاتجاه نحو الشرق مثلما هي العادة في العصور السابقة مدفوعين إلى ذلك بقوتهم العسكرية المدعومة بحضارتهم المادية لتصفية الحساب مع الشرق عامة، والشرق الإسلامي خاصة. وبهذا بدأ مسلسل الضغط الأوربي على العالم الإسلامي بطرفيه الشرقي والغربي. ففي الغرب أعلن الأوربيون حروب الاسترداد، وتوغلوا في سواحل الغرب الإسلامي. أما في الشرق، فقد عانت الامبراطورية العثمانية من التدخلات الأوربية المستمرة التي اتخذت أشكالا متعددة اقتصادية وسياسية وعسكرية ومالية.

1-الجمود الشرقي في مقابل التحولات الغربية
أما العصر الحديث في العالم الإسلامي، فقد تميز ببروز الإمبراطورية العثمانية في الشرق. لقد ساهمت الإمبراطورية العثمانية في إحداث نوع من التوازن مع قوى الغرب الأوربي في النواحي العسكرية والاقتصادية. وتجلى ذلك في قدرتها على التوسع على حساب مجالات جديدة بما في ذلك الأراضي الأوربية، حيث وقف العثمانيون في أوج قوتهم العسكرية على أبواب فيينا. لقد مكنت القوة العسكرية للعثمانيين من السيطرة على مناطق شاسعة في آسيا وإفريقيا وأوربا، والمحافظة على الكيان العثماني، إضافة إلى توفير موارد مالية مهمة من خلال لعب دور الوساطة التجارية بين الشرق الأقصى والغرب الأوربي. إلا أن هذا التوازن سرعان ما بدأ يختل تدريجيا، خاصة منذ القرن 16 الميلادي لصالح الأوربيين بعدما تمكن الأخيرون من تجاوز دور الوساطة واحتكار الطرق التجارية ما أسفر عن انكماش العثمانيين اقتصاديا، وبداية طور من التدخلات الأوربية في الشأن الداخلي العثماني. لقد عجلت التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية التي عرفتها أوربا منذ القرن 15م في تغيير الموازين لصالح الغرب على حساب الشرق الإسلامي العثماني. وإذا كان العصر العثماني قد شهد بعض التحولات الإيجابية مثل الشروع في إدخال الفكر الصناعي بالمنطقة، ومحاولة الاستفادة من الغرب عبر إرسال البعثات التعليمية إلى الخارج، ومحاولة العمل بالإدارة الحديثة، فإن تلك المحاولات التحديثية النادرة لم تسفر عن إحداث تحول حضاري ملموس، بل بالعكس فالذي حصل هو سيطرة الجمود الفكري وتراجع كبير في عدد من مظاهر الحضارة، فضلا عن التصدع السياسي الداخلي للكيان العثماني، وبداية فترة من القلاقل والتوترات والحركات الانفصالية. لقد أسفرت عملية إخضاع العصر العثماني للمقاربة التاريخية النقدية التحليلية عن بروز تيارين مختلفين واحد يدافع عن التجربة العثمانية ويمدحها ويعدد حسناتها ويشكك في نوايا كل من ينتقدها، وتيار ثان يرى بأن الفترة العثمانية شكلت مرحلة تراجع وفترة ضائعة من تاريخ الشرق.
لقد ترسخت عدد من مظاهر الجمود إبان الحقبة العثمانية بالشرق، حيث تميزت المنطقة بشلل فكري تجلى في تراجع الآداب، وسياسي تمثل في اعتماد نظام حكم مطلق وراثي، وإداري من خلال استشراء الفساد في دواليب الدولة، وعسكري تجسد في عسكرة الدولة. كما تم توريط المنطقة العربية في حروب كثيرة أهمها الحرب العالمية الأولى وما أعقبتها من معاهدات، مع محاولة إضعاف الشعوب الخاضعة للخلافة العثمانية وبخاصة العرب. كما تميزت الفترة العثمانية بصرف كل المجهود نحو الحروب وإهمال التقدم العلمي، وقد مكن ذلك التخلف الغرب من التفوق المادي فاخترع الأسلحة الحديثة ووسائل الصناعة وبدأ عصر الآلة والبخار والكهرباء. وقد أدى تظافر جملة من العوامل الداخلية والخارجية إلى سقوط الكيان العثماني سنة 1923م كآخر دولة خلافة للمسلمين في الشرق. تميز الحكم العثماني أيضا بالانغلاق ما حرم شعوب الشرق من الاتصال بالحضارات الناهضة في أوربا. ولعل هذا ما يفسر محاربة الدولة العثمانية لإصلاحات محمد علي بمصر على النمط الغربي. لقد أدرك مفكرو الشرق خلال أواخر الحكم العثماني بأن الخروج من نفق الجمود لا يمكن أن يتم إلا باقتفاء النموذج الأوربي، وتجسد ذلك في ظهور تياري اليقظة الإسلامية والقومية. وقد أدى نمو الوعي القومي العربي إلى ثورة العرب ضد العثمانيين مقابل التعلق بالوعود البريطانية، وهو المنحى صب في خدمة الأجندة الاستعمارية في المنطقة أكثر من تحقيق المشروع العربي الوحدوي. كما أن التيارات الفكرية العربية والاسلامية قد آلت بدورها إلى الفشل ولم تقدم بديلا حقيقيا أفضل من النموذج العثماني، في وقت باءت فيه بالفشل بعض التجارب الإصلاحية على الطراز الغربي التي عرفتها بعض المناطق العربية، وخاصة تجربة محمد علي في مصر.

3-اختلال التوازن بين الشرق والغرب:
يظهر من خلال المقارنة بين التحولات التي شهدها الشرق والغرب والشرق خلال العصر الحديث بأن هذا العصر قد شكل منطلقا لانعطافة تاريخية حضارية كبرى لصالح الغرب على حساب الشرق، وهو الأمر الذي سيزداد استفحالا في الفترات التاريخية اللاحقة، حيث ما انفكت الفجوة الحضارية بين  الجانبين تتسع أكثر إلى غاية العصر الراهن. فقد تفوق الغرب الأوربي وقام بحزمة منسجمة متكاملة من الاصلاحات، بينما ظل الشرق الإسلامي ميالا نحو المحافظة على النمط الحضاري السائد. إن عمل الشرق الإسلامي خلال العصر الوسيط قد انصب بالأساس على الحفاظ على الكيان الإسلامي من الأخطار المحدقة به من طرف الغرب الأوربي، ولم يتجاوز ذلك إلى محاولة بناء نموذج حضاري مادي قادر على مواجهة آثار التحولات التي كانت تعتمل في الغرب الأوربي. إن ما حدث من تحولات عميقة وجذرية في الغرب الأوربي قاد نحو ترسيخ الحداثة الفكرية والانتاج المادي، قابله من جانب الشرق نزوع مفرط نحو الاستغراق في حالة من الركود الفكري والتصدع المذهبي والدوران في فلك الخلافات الفقهية والانكفاء على النقل على حساب إعمال العقل. فمنذ العصر الحديث تبدّت العلاقة بين الشرق والغرب على النحو التالي: غرب حداثي وشرق محافظ.

IV-التاريخ المعاصر: اندحار الشرق وتفوق الغرب.
1-التحولات الاقتصادية في الغرب.
ارتكز الغرب الأوربي على أساس قوي من تحولات العصر الحديث لينطلق منذ القرن 19م في حلقة متكاملة ومترابطة من التحولات المختلفة طغى عليها الجانب الاقتصادي. فقد أسهمت تحولات العصر الحديث كما بينا سابقا في بروز بوادر الرأسمالية الصناعية والمالية بقيادة الطبقة البورجوازية، وهو ما ترسخ خلال القرن 19م بإعمال الليبرالية الاقتصادية التي ساهمت في ظهور أقطاب صناعية ضخمة. وفي نفس الفترة أيضا بدأت تظهر في أوربا تطورات وابتكارات تقنية متسارعة شملت كافة الميادين، سواء بظهور المحركات(المحرك الانفجاري والكهربائي)، أو الآلات الجديدة التي ساهمت في تطوير مختلف أنواع الصناعات الحديثة(اختراع الجرار وآلة الحصاد)، كما برزت مستجدات هامة في مجال المواصلات أحدثت ثورة حقيقية في مجال النقل بظهور وسائل نقل حديثة برا وبحرا وجوا(ختراع القاطرة البخارية والسفينة البخارية، السيارات، القطارات)، فضلا عن ظهور اختراعات غير مسبوقة في ميدان الاتصال(الهاتف والتلغراف). كما ظهر فاعلون اقتصاديون جدد ساهموا في التحولات الاقتصادية في أوربا خلال القرن 19م مثل الشركات العملاقة والأبناك والبورصات...إلخ. وقد أفضت هذه التطورات التقنية المتسارعة والمترابطة إلى بروز صناعات حديثة في بلدان الغرب الأوربي واستعمال مواد طاقية جديدة. وبهذا، فإن فترة القرن 19 م ومطلع القرن 20م كانت فترة ثورات صناعية كبرى غيرت ملامح الاقتصاد الأوربي وكان لها انعكاس كبير على باقي عناصر الحضارة في البلاد الأوربية.
وبهذه التحولات يكون الغرب الأوربي قد صنع فارقا كبيرا عن الشرق، وبالتالي تكون الموازين الحضارية قد انقلبت هذه المرة بشكل فج لصالح الغربيين، بينما ظل الشرق غارقا في مستنقع الجمود كما توصلنا إلى ذلك سابقا إلى أن أصابته شظايا التطور الغربي في شكل حملة استعمارية تعرض لها المشرق العربي. لقد صنع الغرب الاسلحة الحديثة وأسباب التفوق العسكري فضلا عن السبق في المناحي الاقتصادية، وشرع يخطط للاتجاه نحو الشرق كما هو ديدنه منذ العصر القديم، وذلك بعقد الاتفاقيات العلنية والسرية التي استهدفت استعمار المشرق العربي.

2-إعادة الكرّة من جديد: التوسع الغربي في الشرق.
بينما كان الغرب يصنع مجده في الميادين كافة، سادت حالة من التردي في الشرق مع تصدع الكيان العثماني، ولم يشد عن هذه القاعدة سوى بروز ما سمي بحركة النهضة العربية أو اليقظة العربية خلال القرن 19م، كحركة تنويرية وحالة فكرية واجتماعية سادت بالأساس في مصر وسوريا. غير أن هذا التململ الفكري المتأخر الذي شهده الشرق لم يحقق مقاصده في نهاية الأمر بفعل تضافر عدة عوامل، منها محدودية أفقه، حيث أنه تمحور حول هدف رئيس هو الانعتاق من الحكم العثماني، فضلا عن محدودية تأثيره في طبقات المجتمع المشرقي بحكم طابعه النخبوي الفئوي وتركزه في أوساط معينة، ومحدودية تأثيره المجالي، إذ تركز في بعض البلدان دون أخرى، بينما كان تأثيره محدودا في أغلب رقعة الشرق الجغرافية. وفي الأثناء توجهت نخب عربية أخرى لمحاولة استغلال حالة الانهيار التي كان عليها الكيان العثماني بتنسيق مع القوى الأوربية التي كانت تحركها الأطماع في اقتسام المجال العثماني، وهو ما حدث بالفعل، حيث نكثت تلك القوى عهودها للعرب، وشرعت في فرض الانتداب على المنطقة. 
وهكذا، وبمقتضى اتفاقية سان ريمو لسنة 1920 والتي كانت بمثابة تطبيق علني الاتفاقية سايكس بيكو السرية لسنة 1916م، تم فرض الانتداب الإنجليزي على العراق والأردن وفلسطين، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان. وفي الأثناء استفحلت التدخلات الاستعمارية في المنطقة التي تم تشكيلها على مقاس الغرب الاستعماري. مع ما ترتب عن ذلك من انعكاسات سلبية على المجتمعات المشرقية في المجالات الفلاحية والصناعية والتجارية والمالية بفعل عمليات الاستغلال الاقتصادي الذي تعرضت له بلدان المنطقة، والعسف الاجتماعي الذي عانى منه السكان، فضلا عن تغذية النعرات الإثنية والطائفية خدمة لأجندة الاستعمار البريطاني والفرنسي. وقد ترتب عن أعمال الاستعمار بالمنطقة نشوء حركات تحريرية أفضت إلى منح المنطقة استقلالات شكلية كرست تبعية المنطقة للاستعمار، بالرغم من الثورات التي شهدتها المنطقة بعد موجة الاستقلالات الوطنية، والتي لم تغير في شيء من تبعية الشرق للغرب إلى غاية عصرنا الراهن. فلازالت دول المنطقة تفتقد للقرار الوطني وتدور في فلك الغرب وتخطب وده باعتبار ذلك هو الضمان لاستمرار أنظمة المنطقة. وفي الأثناء تكرست الهيمنة الاقتصادية للغرب بمفهومه الواسع، وتطورت صناعاته واختراعاته التي لا تكاد تنتهي، بينما انتصب الشرق، منزوعا من كل قدرة على التصنيع، كمستهلك نهم للإنتاج الصناعي الغربي.

خاتمة:
عبر هذا المسار التاريخي الطويل الذي يبتدأ من العصر القديم إلى غاية العصر الراهن، فإن السمة الغالبة في العلاقة بين الكيانين الحضاريين الشرقي والغربي هو التنافس. فإذا كانت إمبراطوريات الشرق القديم لم تتوفر لديها الرغبة في اقتحام أوربا القديمة، إذا استثنينا الإمبراطورية الفارسية، فإن الغرب الأوربي ظل ومنذ التاريخ القديم وإلى عصرنا الراهن يتطلع دوما للسيطرة على الشرق في كل العصور التي توفرت له فيها اسباب القوة. غير أن هذا التنافس، ظل يستبطن تفاعلات حضارية لم تنقطع عبر العصور في ظروف السلم والحرب على حد سواء. ومن المفيد التأكيد على فضل الشرق على المشترك الحضاري الإنساني في الطور القديم من تطوره، ولكن الشرق لم يذهب بعيدا في تطوير منتوجه الحضاري بسبب ترسخ قيم المحافظة، وهو ما أفضى إلى سلسلة من التراجعات لازالت تلقي بذيولها إلى اليوم، بينما بنى الغرب حضارته الخاصة، وخصّبها بصنيع الشرق في نواح عدة، ثم طورها عبر العصور وأخرجها في شكل أكثر نضجا بفعل القطع مع المحافظة والاتجاه نحو إرساء الحداثة.
مراجع المقال:
محمود محمد الحويري، تاريخ الدولة العثمانية في العصور الوسطى، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، الطبعة الأولى، القاهرة، 2002.
قيس جواد العزاوي، الدولة العثمانية. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، الدار العربية للعلوم، الطبعة الثانية، بيروت، 2003.
نجيب عازوري، يقظة الأمة العربية، تعريب أحمد بوملحم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، (دون تاريخ).
أحمد مغنية، تاريخ العرب القديم، دار الصفوة، الطبعة الأولى، بيروت، 1994.
محمد أبو المحاسن عصفور، معالم حضارات الشرق الأدنى القديم، دار النهضة العربية، بيروت، 1987.
محمد سهيل طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، دار النفائس للطباعة والنشر، بالطبعة الأولى، بيروت، 2009.
سبتينو موسكاتي، الحضارات السامية القديمة، ترجمة يعقوب بكر، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، بيروت، 1987.
سيد احمد علي الناصري، الاغريق تاريخهم وحضارتهم، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، القاهرة، (دون تاريخ).
محمود فهمي، تاريخ اليونان، مكتبة ومطبعة الغد، الجيزة، 1999.
ابراهيم رزق الله أيوب، التاريخ الروماني، الطبعة الأولى، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1992.
جون كلود مارغرون، السكان القدماء لبلاد ما بين النهرين وسورية الشمالية، ترجمة سالم سليمان العيسى، دار علاء الدين، الطبعة الأولى، دمشق، 1999.
أبو اليسر فرح، الشرق الادنى في العصريين الهللنيستي والروماني، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى، الهرم، 2002.
جون كونتنو، الحضارة الفينيقية، ترجمة محمد عبد الهادي شعيرة وطه حسين، شركة مركز كتب الشرق الأوسط، القاهرة، 2001.
محمد علي سعد الله، في تاريخ مصر القديمة، مركز الاسكندرية للكتاب، 2001.

*كاتب وأستاذ باحث