الإنسان والطبيعة عبر التاريخ: مسارات التطور ـ د. عبد اللطيف الركيك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse30122تقديم:
منذ أن وجد هذا الكائن الذي اسمه "الإنسان" على وجه البسيطة، ظل البند الأول في جدول أعماله هو ربح رهان الصراع ضد الطبيعة بقصد تطويعها وتسخيرها لخدمة أغراضه الوجودية. وفي مسار تحقيق هذا المسعى مر الإنسان من عدة مراحل عانى خلالها ردحا من الزمن من تبعات قوة وجبروت وتسلط الطبيعة، وأبدى صنوف التحدي لمقارعتها وإثبات جدارته بالوجود ومكانته في رحابها ككائن أصيل وكأساس لوجود الحياة على الأرض. وفي هذا المشوار الممتد الذي تراوح بين الفشل والنجاح، كان اتجاه الفعل الإنساني، رغم كل النكبات، هو التقدم والتطور في المعركة الوجودية ضد الطبيعة، الشيء الذي قاد هذا الكائن المتفرد من طور العجز شبه الكلي، ومن استخدام الحجارة إلى عصر غزو الفضاء.

I-ما قبل التاريخ: الإنسان الأول وسطوة الطبيعة
يعد وجود الإنسان الأول فوق الأرض من المجاهيل التي لا يزال العلم الحديث عاجزا عن فهم ألغازها وإدراك كنهها وأسرارها المخفية، فقد دشن هذا الإنسان حسب معطيات علمي الآثار والأنثروبولوجيا أولى خطواته في الوجود، وشرع في مشوار صراعه الأزلي مع الطبيعة من القارة الإفريقية، إذ تعود أقدم آثار الإنسان إلى حوالي 7 ملايين نسمة(إنسان موقع طوماي في تشاد). إن شكل هذا الإنسان البدائي ومستوى قدراته الذهنية والعقلية يبقى محل غموض وجدال كبير، بين حقائق العقل ومعطيات النقل، فالنصوص الدينية تقرر مقدما بأنه كان كائنا عاقلا، وأن الله قد بعث له نبيا مرسلا، هو آدم عليه السلام.

إن ما ورد في القرآن عن قصة آدم وحواء ونزولهما إلى الأرض باعتبارهما من المنذرين، وحادث مقتل هابيل كلها قرائن نصية على أن الإنسان الأول الوارد في النصوص الدينية كان عاقلا ومتمتعا بالقدرات الذهنية الكاملة وهو على ما يبدو ليس الإنسان الأول الذي تبحث فيه الدراسات الأنطربولوجية، وذلك بدليل الحوار الذي دار بين الأخوين قابيل وهابيل في الآية القرآنية: "لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ"[المائدة: 28]. إلا أنه يوجد بين ثنايا النصوص الدينية أيضا ما يدفع إلى محاولة التحري والفهم، فقد قال الله تعالي في سورة البقرة(الآية 30): "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ...". وقد اختُلِف في تعليل قول الملائكة هذا، علما بأن هؤلاء لا يعلمون الغيب، وأن ما ورد في كلامهم لا يخص بني آدم، ولا يستبعد أن الأمر يتعلق بجنس آخر من البشر أفسد في الأرض وسفك الدماء في عصور سابقة على خلق آدم. فهل يجوز ربط ذلك بمواصفات الإنسان الأول القردي غير العاقل كما تُعرفنا به الأنطربلوجيا؟
قبل الخوض في مسألة تطور الإنسان الأول والفصيلات البشرية المعروفة التي حددها العلم الحديث، وجب الإقرار بأن قضية الفصيلات البشرية هي جد معقدة وشائكة باعتبار أن لا أحد يعلم لحد الآن وعلى وجه اليقين وبالتحديد متى ظهر أول إنسان على وجه الأرض. وحسبنا أن نطلع القارئ على أهم المعطيات المتوفرة حاليا بهذا الخصوص.
تُظهر البقايا العظمية للإنسان الأول ومخلفاته العائدة إلى العصور الحجرية، سواء على مستوى القوام وشكل الجمجمة وحجم الدماغ وبساطة الإنتاج المادي وتواضع الحياة البدائية التي أنشأها بأن هذا الكائن الأول لم يكن عاقلا خلال هذه المراحل المبكرة من تطوره، وبالتالي كان عاجزا عن استغلال أبسط عنصر من الإمكانيات اللامتناهية التي توفرها الطبيعة. وينطبق هذا الأمر على أربعة أنواع من الفصيلات البشرية التي عاشت قبل الإنسان العاقل، الذي هو جد الإنسان الحالي، في مناطق مختلفة من العالم. ذلك أن أقدم إنسان على وجه البسيطة وفق منطوق العلم، ومن خلال البقايا العظمية-وهو إنسان "أومو"Homo ، الذي عاش في العصر الحجري القديم القديم، وهو على ما يبدو عبارة عن مقدمة للنموذج البشري، لومن صفاته أنه لم يكن منتصب القامة. ثم ظهر بعده الإنسان المسمى الأوسترالوبيتيك(Australopithecus) أو الإنسان القردي الجنوبي منذ حوالي 2,5 مليون سنة ما قبل الحاضر أو أكثر، ، والذي عاش في العصر الحجري القديم العتيق، ووجدت آثاره لحد الآن شرق وجنوب أفريقيا، ولم لم يُعثر على أي بقايا له في الصحراء وشمال أفريقيا تبعا للأبحاث والتنقيبات الأثرية التي أجريت لحد الآن. بعد ذلك ظهر الإنسان المنتصب القامة،(Homo erectus)  وقد عاش في العصر الحجري القديم الأسفل(الزمن الجيولوجي الرابع)، ما بين مليون ونصف مليون ومائتي ألف سنة ق.م. وقد تم العثور على آثاره في شرق أفريقيا وشمال أفريقيا والصحراء والصين وأندونيسيا.
بعده ظهر الإنسان العاقل النيوندرتالي(Neandertal) خلال العصر الحجري الأوسط، والذي عثر عليه لأول مرة في ألمانيا ثم في كل البلدان الأوروبية، ولا يوجد له أي أثر في شمال أفريقيا والصحراء. ولذلك يبدو أنه عمّر أوروبا بالدرجة الأولى ما بين 20000 و 35000 سنة ق.م. وهذا الإنسان هو الذي اهتدى لأول مرة إلى دفن الموتى بدل تركهم في العراء. ثم جاء بعده الإنسان العاقل المسمى علميا بالإنسان العاقل-العاقل(Homo sapien sapien) الذي ظهر ما بين 100000 و 70000 سنة قبل الحاضر، وذلك خلال العصر الحجري القديم الأوسط(الزمن الجيولوجي الرابع)، وعثر على بقاياه في كل من شمال أفريقيا والصحراء، وهو الإنسان صانع الحضارة العاطرية والحضارة الوهرانية والحضارة القفصية. ويعتقد أن قدراته العقلية هي التي أهلته ولأول مرة من اكتشاف النار واستعمالها، والسكن بالمغارات. ويرى العلماء بأن هذا الإنسان يعد بمثابة جد إنسان اليوم.
ثم ظهر إنسان سمي الإنسان ما قبيل المتوسطي(Homme proto mediterranien)  منذ حوالي 22000 سنة قبل الحاضر، في الشرق(فلسطين) وفي ضفاف البحر المتوسط(القسم الشرقي من الشمال الأفريقي)، والذي عرف الفن من خلال الرسم والنحت وأشكال بدائية من الموسيقى. وبعده جاء إنسان مشتى العربي(Mechta el-Arbi) الذي وجدت آثاره في أوربا وفي شمال إفريقيا، والذي عرف بحضارة سميت الحضارة الإيبيروموروزية، وقد ترافق ظهور هذه الأنواع من فصيلة البشريات مع استمرار تطور الإنسان العاقل-العاقل الذي أشرنا إليه سابقا.
ومع الإقرار بصعوبة رصد كيفية ظهور هذه الأنواع وتطورها عبر الزمن وعلاقتها ببعضها والظروف التي نقلت الإنسان من طوره القردي الأول إلى طور الإنسان العاقل، يمكن القول إجمالا بأنه قبل أن يتحول المخلوق البشري إلى إنسان عاقل، كما هو الإنسان اليوم، فقد مر بمجموعة من التحولات البيولوجية والدماغية والعقلية، نتيجة لمجموعة من العوامل المناخية والوراثية، فقد بدأ بالملامح القردية وصولا إلى اكتساب الملامح الإنسانية المعاصرة. وقد ترتب عن ذلك التطور أن انتقل الإنسان من كائن بيولوجي حيواني إلى كائن ثقافي وحضاري، يستعمل اللغة أداة رمزية للتعبير والتواصل، ثم يعنى بالبناء الأسري والاجتماعي. إثر ذلك، شرع الإنسان الأول الإنسان العاقل(جد إنسان اليوم) في تحدي الطبيعة منذ تلك الأزمنة السحيقة، وذلك من أجل البحث عن سبل الحياة والاستمرار من خلال ضمان قوته عبر القطف والقنص، واستعمل أدوات بدائية صنعها من العظام ثم الحجارة في مرحلة تالية ثم الفخار فيما بعد مرورا باكتشاف النار. كما اهتدى إلى ستر عورته من أوراق وأغصان الأشجار، واتخاذ ألبسة بسيطة. وأسفر عجزه عن تفسير الظواهر الطبيعية من حوله إلى ابتكار أولى الأفكار الدينية، فعبد معظم عناصر الطبيعة التي عجز عن تفسير آليات اشتغالها من جبال وأنهار وينابيع وغيرها. كما عمل على تطويع الحيوانات البرية بغية استئناسها ثم تدجينها فيما بعد.
كما تمكن الانسان خلال العصر الحجري الحديث من اكتشاف الزراعة، وصنع أدواتها ما شكل ثورة حقيقية في علاقته بالطبيعة. ثم جاء التحول الكبير في مشوار استغلال وتطويع الطبيعة من خلال اكتشاف المعادن وصهرها وصنع الأدوات منها خلال عصر ما قبيل التاريخ أو ما يسمى بعصور المعادن، فكان أن استعمل النحاس أولا ثم البرونز من النحاس والقصدير ثم الحديد. وقد تأتى له بفضل ذلك صناعة أدوات أكثر مثانة وفعالية من المعادن. ومن بين التحولات التي أتاحها اكتشاف المعادن نذكر صناعة العربات الذي مثّل زبدة ذلك الابتكار الإنساني لجهة تغييره لوسائل النقل التي كانت تعتمد فيما سبق على قوة الدواب.
في مختلف حقب ما قبل التاريخ شرع الإنسان في مسار طويل لاستعمال أنواع من اللغات تطورت فيما بعد إلى الشكل الذي عرفت في فجر التاريخ، كما عبَّر إنسان هذه الحقب عن مكنوناته وأفكاره وانشغالاته بالرسم والنحت على الصخور والجدران، وتمكن من دفن الأموات واتخاذ أنواع من القبور متبعا في ذلك طقوسا جنائزية متنوعة تدل في معظمها على اعتقاد الإنسان على مر التاريخ بوجود حياة أخرى بعد الموت. وبالرغم من أن الإنسان في هذه العصور البدائية قد عاش على المشاع، فإن شواهد كثيرة تدل على اندلاع الحروب والصراعات، ربما من أجل تحوز المنافع الاقتصادية الطبيعية التي اكتشف جدواها بمرور الوقت، والسيطرة على المجال، خصوصا بعد اكتشاف أهمية الأرض بعد  ممارسة الزراعة، أو ربما بفعل تناقض الاعتقادات الدينية واختلاف أنماط الحياة وغياب قواعد التعامل الجماعي التي نمت بشكل مضطرد وصولا إلى إنتاج القوانين والأنظمة خلال العصر التاريخي. كما أحدث الإنسان نقلات نوعية لجهة الاستقرار بدل حياة الترحال، وبالتالي أحرز تقدما ملموسا على مستوى السكن من خلال استخدام الكهوف والمغارات عبر نحت الصخور وصولا إلى إنشاء المساكن الدائمة والاستقرار بمنازل مشيدة، وبالتالي ظهور أولى القرى والتجمعات السكنية والبنيات التحتية، خاصة بعد التعرف على مزايا الزراعة.

II-العصر التاريخي: ابتكار أدوات تفوق الإنسان على الطبيعة
بالتوصل-بشكل تدريجي-إلى استعمال الكتابة يكون الإنسان قد أحدث طفرة كبرى في مسيره لتحدي الطبيعة وصنع آليات السيطرة عليها. ولم يكن ذلك التحول المبهر فتحا سهلا، فقد شغل هذا المسعى حيزا زمنيا طويلا من حياة الإنسان فوق الأرض. فقد مرت هذه العملية من المرحلة التصويرية ثم المقطعية مرورا بإنتاج كم هائل من الأشكال والرموز البسيطة في مصر وبلاد العراق القديم على الأقل خلال الألف الخامس قبل الميلاد، وكذلك الأمر في الشرق الأدنى(الصين القديمة) خلال الألف الثالث قبل الميلاد، ليتمكن الفينيقيون في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد من تطوير ذلك المشترك الإنساني وتقليص الرموز الكثيرة إلى عدد محدود من الحروف، وبالتالي التوصل إلى المرحلة الأبجدية من تطور الكتابة، وهو الإمكان الحضاري الذي ما لبث أن تلقفه الإغريق من الشرق ونشروه.
بانبلاج فجر التاريخ يكون الإنسان قد دشن مرحلة كبرى من الابتكار والإنتاج الحضاري على الصعد كافة، فقد تمكن الفينيقيون القدماء في الألف الثانية قبل الميلاد من اكتشف الزجاج، وفي نفس الوقت ازدهرت مناحي حضارية أخرى في مناطق متفرقة من العالم القديم، مثل تطور العمارة والفنون والآداب والنظم السياسية والأساليب الحربية، وتحسن وسائل العيش، وركوب عباب البحار باستعمال السفن، وظهور كيانات سياسية كبرى وحضارات عظيمة في مختلف ربوع المعمورة ساهمت كل من جانبها في تطوير المشترك الإنساني الذي اسمه الحضارة، بالشكل الذي يجعل نسب هذا الابتكار الحضاري أو ذاك، أو البحث عن أصل مطلق ضربا من الخيال نظرا لتداخل وتشابك عمليات التأثير والتأثر بفعل الهجرات والتوسعات والاتصالات التجارية بين مختلف الشعوب.
كما تميز العصر التاريخي بنمو الأفكار الدينية من خلال تبني عدد لا محدود من الاعتقادات والأرباب والطقوس المرتبطة بها، وفي نفس الوقت استمر نزول الرسالات التوحيدية، حيث شهد هذا العصر ظهور الديانتين اليهودية ثم المسيحية، فتجاورت بذلك الاعتقادات الوثنية مع الأديان التوحيدية.

III-العصر الوسيط: بين الظلمة والنور
بدخول الإنسان العصر الوسيط يكون قد ارتكز على أساس متين من إبتكارات العصر التاريخي في الميادين كافة. إلا أن المتح من ذلك الموروث الحضاري كان متفاوتا في الزمان والمكان، فقد سجل الإنسان الأوربي نكوصا لجهة ضعف الاستفادة من التراث الإغريقي والروماني بالرغم من تسجيل إشراقا حضارية في جوانب معينة، والخضوع لمخاض اجتماعي واقتصادي وفكري وسياسي عسير بفعل تحالف الكنيسة والإقطاع. وعلى خلاف ذلك عاش الإنسان في ربوع أخرى من الأرض أطوارا من التقدم والإزهار مثلما حصل في المشرق والشرق الأدنى.
ففي المشرق شكل انبعاث الديانة الإسلامية إيذانا ببدء مرحلة متميزة. فقد أحدث الدين الجديد تحولات عميقة على المستويات الاجتماعية والقيمية والأخلاقية والاقتصادية والثقافية والعلمية التي عكسها العصر الذهبي الممتد من القرن 8 الميلادي لغاية القرنين 14 و15 الميلاديين. وذلك من خلال حفاظ العرب على الموروث الحضاري والانفتاح على حضارات الأمم الأخرى، فضلا عن إضافاتهم المخصّبة. لتشع بذلك الحضارة الإسلامية على المشرق والمغرب على السواء وتطرق أبوابهما بقوة من خلال عمليات التأثير المتنوعة، وعبر التوسعات التي شملت مناطق واسعة من آسيا وإفريقيا وأوربا. إن هذا البروز الإسلامي هو الذي وضع حدا للعصر الوسيط الأوربي بعد سيطرة العثمانيين على القسطنطينية سنة 1453 للميلاد، حتى ولو كان الأوربيين يحددون ذلك بسقوط غرناطة بالأندلس سنة 1492 للميلاد.

IV-العصر الحديث: بين الحداثة والجمود
 لقد شكل العصر الحديث في مسار تطور الإنسان مرحلة لاختمار وإنضاج الإنتاج الحضاري الذي ستتبدى حسناته بشكل أوضح خلال العصر الراهن مع تباينات شديدة بين مناطق المعمورة. ففي أوربا انبرى الإنسان الأوربي إلى التخلص من ترسبات وأغلال العصر الوسيط بتدشين مرحلة من الانبعاث تجلت في شكل ثورات فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية أوجدت أساسا متينا للارتقاء نحو مدارج الحداثة. كما نجح الإنسان الأوربي من التعرف على ما تبقى من مناطق العالم المأهولة من خلال اكتشاف العالم الجديد.
وفي الأرجاء الأخرى من المعمورة ازدهرت كيانات حضارية وسياسية متعددة في آسيا وفي أوربا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، نذكر من بينها على الخصوص الإمبراطورية العثمانية التي عاشت فترة من الازدهار لا سيما في الميدانين الاقتصادي والعسكري بشكل أعاد للمسلمين الوحدة بعد فترات من الفرقة والانقسام، الشيء الذي مكن من إحداث التوازن في العلاقة مع العالم الأوربي الغربي ردحا من الزمن، قبل أن يقود المحددين الاقتصادي والعسكري إلى خلخلة التوازن لصالح الأوربيين، وبالتالي دانت المعمورة من جديد للأوربيين توسعا ونفوذا وهيمنة.
وبينما عاش الإنسان في نهاية العصر الحديث حالة من الانتظارية انطبعت بطابع الجمود والمحافظة، خاصة بالنسبة للعالم الإسلامي في ظل الحكم العثماني الذي عرف تململات وإصلاحات فاشلة، فقد انطلقت على خلاف ذلك تماما بأوربا مرحلة جديدة تميزت بحدوث ثورات صناعية واكبتها حركة من الاختراعات في الميادين التقنية والعلمية ازدهرت نمت بفضلها القطاعات الاقتصادية، ووصل النظام الرأسمالي إلى مرحلة متقدمة من تطوره وصولا إلى المرحلة الامبريالية الاستعمارية. لقد ترتب عن هذه التحولات جملة من المتغيرات مكنت الإنسان الأوربي من جديد من اعتلاء منصة التقدم الحضاري الذي ترافق مع استحكام رغبات الهيمنة والتسلط التي حولت العالم إلى مجرد مناطق تنافس أوربي، فكان أن شكل الإنسان الإفريقي والأسيوي ضحية لهذا التفوق الأوربي وما واكبه من مآسي.

V-العصر الراهن: جشع الإنسان على حساب الطبيعة
إن التغيرات التي حدثت في نهاية العصر الوسيط وبداية العصر الراهن كنتيجة لتضخم الأنا الأوربية، وما ترتب عن ذلك من توحش استعماري، ليست سوى تحصيل حاصل، لأن امتلاك القوة الجبارة غالبا ما يؤدي إلى حتف الأخلاق-وذلك بعيدا عن النظرات الطوباوية-ولا يمكن أن يحرك في هذا الكائن-الإنسان سوى رغبات الغطرسة والتحكم سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهو ما فعلته كافة شعوب الأرض وبلا استثناء في مراحل قوتها. فلا نظن أن أمة أخرى لو توافر لديها ما توافر للأوربيين من عوامل القوة كانت ستعرض عن الآخرين وتكتفي بالتقوقع في حدودها الجغرافية، وذلك مهما كانت القواعد القيمية والأخلاقية والدينية التي تحكمها. إن الذي يوافق قوانين القوة هو أنها كانت ستسعى إلى التهام الكيانات الأخرى خاصة الضعيفة منها، فالقوي يسعى دائما وفي كل الحالات إلى مصادرة الضعيف. فهذه هي القواعد اللاإنسانية التي حكمت سلوكات الإنسان كما رأينا منذ أقدم العصور وإلى غاية العصر الراهن.
إن استحكام وتغوُّل معيار القوة في علاقات الإنسان هو الذي يفسر كيف أن الإنسان في عصرنا الراهن-وكما في كل العصور السابقة-لم يسخر نبوغه وإبداعاته وابتكاراته للأغراض الخيّرة وحسب لجهة تحسين شروط الوجود الإنساني على البسيطة، وإنما ظل حريصا-وبموازاة ذلك-على بناء عوامل القوة بما يستجيب لطموحاته وأطماعه الهيمنية والإقصائية، وحجب ومنع كل إمكانية لانتقال عوامل التطور من تكنولوجيا وتقنيات إلى الإنسان في مناطق أخرى من العالم حتى يُبقي على شروط وأدوات تحكمه وسيطرته بما يوسع الهوة ويحول دون أي إمكانية للحاق بركبه المتقدم.
لقد شهد العصر الراهن لاسيما خلال القرنين 19 و20 الميلاديين سلسلة من التحولات الاقتصادية والتقنية المترابطة والمتكاملة والتي انعكست على كافة الميادين، وجعلت الإنسان يصل إلى أرقى مراتب التطور عبر التاريخ من خلال تحسن مستوى المعيشة، والتحسن الطبي، وتطور المواصلات ووسائل الاتصال، وتراجع المجاعات واختفائها في عدد من البلدان. فقد توافرت لديه من الوسائل والآلات ما مكنه من استغلال واكتشاف جميع ما في الطبيعة من فوائد ظلت الاستفادة منها متعذرة في الماضي لقصور الجانب التقني، بل بلغ فضول الإنسان مبلغه في محاولات فهم الكون واكتشاف الكواكب، وهو ما قاده إلى النزول على سطح القمر.  

VI-تركيب:
يقودنا هذا السفر الطويل في مسير الإنسان مع الطبيعة والحضارة وتتبع مجرياته إلى حقيقة أن الفعل الإنساني تم عبر سيرورة ممتدة عبر زمن طويل، وأن الإنسان ظلت تتجاذبه خلالها نوازع الخير والشر، وأن الاتجاه فيها كان دوما نحو التقدم والارتقاء رغم قوة المثبطات والمنعرجات. فمن مرحلة الضعف والهوان والحيرة والعجز أمام الطبيعة ارتقى الإنسان في العصر الحالي إلى إنتاج أدوات حتفه من خلال إنتاج كم هائل من أسلحة الدمار الشامل التي بوسعها الإتيان على المشترك الإنساني الذي بنته الإنسانية على مدى عصور طويلة. والظاهر أن إنسان العصور الموغلة لم يكن يدور بخلده قط أن أحفاده سيصلون إلى هذه المرحلة، ليس فقط من إخضاع الطبيعة، وإنما إنهاكها وإتلافها والتعدي عليها.
فقد تفتقت عبقرية الإنسان المعاصر عن صنع أدوات هلاكه وهلاك الطبيعة من حوله. إن مجرد التفكير في امتلاك الأسلحة المدمرة وصنعها وتحوزها يعطي الدليل على اختفاء القيم الروحية والإنسانية للإنسان في هذه المرحلة من تطوره، وهو ما يُجسد اليوم على أرض الواقع من خلال ارتكاب أعمال القتل الجماعي بوسائل أشد فتكا من وسائل العصور الغابرة، وهي الأساليب التي لا يقرها دين ولا عرف ولا مبدأ ولا يقودها سوى أطماع السيطرة المتفشية في أعماق الإنسان المعاصر. وحتى من يدين هذه الفتوحات الشريرة بالمعايير الأخلاقية والإنسانية، فإنه لا يفعل ذلك إلا لأنه عاجز عن صنعها وامتلاكها لدرجة تصبح معها هذه الجريمة-جريمة دمار الإنسان وتخريب الطبيعة- جريمة إنسانية جماعية تلاحق الجميع. فهذه هي حقيقة الإنسان منذ الخلق الأول والمتمثلة في تحوز وسائل السيطرة بشتى أنواعها استجابة لأطماعه الهيمنية.
إن ثمن الاستجابة لغرور الإنسان من خلال إنجازاته على امتداد العصور دفع من طرف الطبيعة بتكلفة باهضة بما لا يسمح بالمزيد من العبث، وذلك ما نراه اليوم في أوجاع الطبيعة المكلومة وتقلباتها وتغيراتها المناخية. ذلك أن السلطة المعرفية للإنسان إنما أدت في محصلة الأمر إلى قهر الطبيعة والإضرار بمصالح الأجيال المقبلة الذين لن يترك لهم شيء من الموارد بعدما نقب الإنسان في العصور السابقة عن كل المنافع الواقعة على سطح الأرض وفي باطنها وعمل على استغلالها استغلالا مفرطا سيعجل لا محالة بنفاذ عدد منها.

على سبيل الختم:
مهما بلغت أذية الإنسان للطبيعة، فإنه لا يؤذي في المحصلة إلا نفسه، لأن الطبيعة تحتفظ دوما بكامل أسرارها وقوتها التدميرية لنسف كافة منجزات الإنسان في لحظة غضب، بينما يبقى الكائن المفضل بنعمة العقل مترنحا في شر ما ارتكبت يداه في حق الطبيعة، عاجزا عن اتقاء ثورتها. إن الإنسان بذلك إنما كسب فقط معركة الوجود كنتيجة غير مضمونة، لأن الاستمرار في الإضرار بالأنظمة البيئية من حوله سوف يقلص من حظوظه في الحياة فوق الأرض في الآماد البعيدة.
مراجع المقال:
-أرسطو طاليس، الطبيعة، ترجمة إسحاق بن حنين، المكتبة العربية، دون تاريخ.
--تشارلز داروين، أصل الأنواع، ترجمة مجدي محمود المليجي، المشروع القومي للترجمة، القاهر، الطبعة الأولى، 2006.
-كارلتون أس كون، إدوارد أ. هنت، السلالات البشرية الحالية، ترجمة محمد السيد غلاب، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة، 1985.
-إيان تاتيرسول، العالم من البدايات حتى 4000 ق.م، ترجمة حازم نهار، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى، 2011.
-جون شالين، الإنسان نشوؤه وارتقاؤه، ترجمة الصادق قسومة، المؤسسة العربية للتحديث الفكري، بترا للتوزيع والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 2005.
-عبد الله عطوي، صراع الإنسان مع البيئة من الإنسان القرد إلى الإنسان العاقل، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1996.
- ستيفن جوولد، منذ زمن داروين تأملات في التاريخ الطبيعي، ترجمة ستار سعيد زويني، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى، 2012.
-سلامة موسى، نظرية التطور وأصل الإنسان، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.

*كاتب وأستاذ باحث

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟