التحقيب التاريخي والعولمة ـ ج.لوغوف-2014- ت.محمد أبرقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse13121"نظريا لا يوجد تحقيب متفق عليه،كل دولة تكتب التاريخ العام من منظورها، وذلك المنظور يختلف من قارة لأخرى،من ثقافة لأخرى،من ملة لأخرى،وقد تختلف الآراء والاتجاهات داخل الدولة الواحدة حسب المصالح والعقائد " عبد الله العروي-مفهوم التاريخ(1992)ص.281.
شاءت الأقدار ، سنة2014،أن يغادر عالمَنا المؤرخ المجدِّد"جاك لوغوف"،والذي طالما وضعته تصنيفات المفكرين والباحثين في علم التاريخ ضمن حقل التاريخ الجديد، المؤرخ الذي ترك لنا مؤلفا علميا شيقا يعيد،وبمشروعية منهج المؤرخ، السؤال حول مفهوم النهضة ومدى صحة التأطير الذي طالما تداولته الكتابات التاريخية لمرحلة العصر الوسيط.
الاهتمام بمرحلة الوسيط كان انشغالا فكريا وقضية بحث لدى ج.لوغوف،وله فيه العديد من المؤلفات منها للمثال فحسب:المثقفون خلال العصر الوسيط(1957) حضارة الغرب في العصر الوسيط(1964) المتخيّل في العصر الوسيط(1986)،وفي ثنايا تلك الكتابات بحث عن أجوية ممكنة لسؤال العلاقة بين التاريخ "المعيش" والتاريخ"الطبيعي" للمجتمعات، وطبيعة العلاقات بين التاريخ والزمن،والمدة،منتصرا لمبدأ "تعدد الأزمنة" والتعبير عنها في تصانيف السرد التاريخي المختلفة.
نقدم هنا محاولة ترجمة متواضعة نقترب فيها من مضامين الفصل الأخير من كتاب ج.لوغوف " Jacques Le Goff, Faut-il vraiment découper l’histoire en tranches?, Paris, Éd .Seuil, 2014, 209 pages"

الفصل بعنوان : تحقيب وعولمة .

إن النهضة ،في نظري،وقد نفهم ذلك، ليست في الواقع سوى مجرد حقبة فرعية لعصر وسيط ممتد،والتي تقدَّم في التاريخ المعاصر التقليدي باعتبارها مرحلة متميزة .
إن التحقيب التاريخي،والذي رأيناه في التقليد الغربي،يعود في الآن ذاته إلى أصول الفكر الإغريقي(هيرودوت القرن5ق.م)وإلى بدايات العهد القديم (دانيال.القرن6ق.م) ولم يلج الممارسة اليومية سوى في لحظة متأخرة . وقد فرض نفسه مع تحولات النوع الأدبي التاريخي في مجال التعليم خلال الفترة ما بين القرنين 18م و19م.،ويُلبِّي حاجة الإنسانية في إدراك الزمن والتموقع ضمن مساره،والذي فيه تتطور .لقد سمحت،إذن، التقويمات بالتحكم في الحياة اليومية .
يجيب التحقيب عن نفس الهدف بالنسبة للمدة الطويلة. بالإضافة إلى ذلك،هل ينبغي لهذا الابتكار الذي جاء به الإنسان التلاؤُمَ مع حقيقة/واقعة موضوعية ؟ إنه كذلك،وهو ما يبدو لي. إنني لا أتحدث عن العالم في معناه المادي،بل إنني أثير وفي معنى أكثر تخصيصا،وبمفرد حياة المجتمعات الإنسانية،الإنسانية الغربية: هذه الأخيرة تشكِّل، حسب معرفتنا الحالية،وحدة ذاتية مستقلة بمميزاتها الخاصة،والتحقيب يمثل إحداها.
يبرهن على التحقيب،ويُستَدَلُّ عليه بما يجعل من التاريخ علما، ذلك العلم الذي يتمايز من دون شك عن العلوم الدقيقة/الحقّة، ويستند على أسس موضوعية نسميها :المصادر .غير أن ما تقترحه علينا هذه المصادر يتحرك ويتطور،وتاريخ المجتمعات،كما كان يرى مارك بلوخ، في حركة مستمرة داخل الزمن.
يجب على المؤرخ أن يتحكم في الزمن، وهو في نفس الآن يوجد تحت سلطة ذلك الزمن،وبالقياس مع تغيّر الزمن يصير التحقيب بالنسبة للمؤرخ أداة ضرورية .
لقد قلنا بأن المدة الطويلة،التي أدخلها فرناند بروديل،والتي منذئذ صارت مفروضة لدى المؤرخين،تخلق ضبابية أو أنها تمحو الحِقب . وفي نظري هذا النوع من التنافي/التضاد ليس أحاديا إذ يوجد ضمن المدة الطويلة حيّز للحِقب.
إن التحكم في موضوع كهذا حيوي ومثير  في الوقت ذاته مثلما قد يكون عليه الأمر،والتاريخ يستوجب،كما يبدو لي، مزجا وتوليفا بين الاستمرارية و القطيعة (لا استمرارية)،وهذا ما توفره المدة الطويلة في ارتباطها بالتحقيب .
لقد تركتُ جانبا سؤال مدة الحقب وسرعة تطور التاريخ،لأنه لا يُطرح سوى انطلاقا من الأزمنة الحديثة. 
بالمقابل،فالجازم الذي يفرض ،بالأساس،نفسه بالنسبة للعصر الوسيط والنهضة، أكثر مما هو بالنسبة للمعاصر والحاضر،هو بطء المرور من حقبة إلى أخرى،إذ يوجد القليل من الثورات ،على افتراض أنها قد حدثت. لقد كان "فرانسوا فيري" يحب أن يُذَكِّر بأن الثورة الفرنسية قد امتدت تقريبا طيلة القرن 19م.وهذا ما يفسر استعمال كثير من المؤرخين ،بمن فيهم أولئك الذين اعتمدوا فكرة نهضة مميَّزة،لتعبير "العصر الوسيط والنهضة".وإن كان ثمة قرن يناسب هذا التعريف-وهو ما يصنع من دون شك ثراءه وغناه- فإنه هو القرن 15م.
أعتقد من جهتي أننا نوجد على مقربة من الحقيقة،ومن تحقيب يسمح،في نفس الآن، باستعمال سهلٍ وثريّ للتاريخ،إذا كنّا نعتبر أن حقبا طويلة قد طبعتها حالات تغيُّرات هامة غير أنها ليست حاسمة ورئيسية،هي حقب فرعية ننعتها بالنسبة للعصر الوسيط ب"نهضة" ضمن هاجس الخلط بين "نهضة جديدة/ولادة جديدة" وفكرة تدل على العودة  نحو الوراء والرجوع إلى عصر ذهبيrenaissance ) (.
يمكننا إذن،وأعتقد أنه من الضروري،أن  نحتفظ بتحقيب التاريخ .
من بين الحركتين الرئيسيتين اللتين تعبران الفكر التاريخي الحالي،التاريخ في المدة الطويلة والعولمة (الآتية أساسا من التاريخ العالمي الأمريكي) ليس ثمة واحدة غير متلائمة مع استعمالها .
ما أعيد قوله،إن المدة غير المحدّدة(لم يتحدد قياسها)والزمن الذي تمّ قياسه، كلاهما يتعايشان معا،والتحقيب لا يمكن تطبيقه سوى في مجالات حضارات محدودة،والعولمة تتجه  بعد ذلك نحو إيجاد علاقات بين تلك المجموعات .
لا ينبغي على المؤرخين المزج،فعلا،كما قاموا بذلك بكثرة واعتيادية بين فكرة العولمة وتلك المتعلقة بالتشكُّل الأحادي(التكوّن ببعد أحادي).فهناك مرحلتان في العولمة : الأولى ترتبط وترتكز على الاتصالات ،وإقامة علاقات بين مناطق وحضارات كانت تتجاهل بعضها البعض،والثانية هي ظاهرة احتواء،وإلى غاية اليوم،فالإنسانية لم تعرف سوى أولى تلك المراحل.
إن التحقيب التاريخي بالنسبة للمؤرخين  المعاصرين حقل رئيسي للتحقيق والبحث، والتفكير،وبفضله يتم تسليط الضوء على الطريقة  التي تنتظم وتتطور بواسطتها الإنسانية ضمن  المدّة وفي خضم الزمن .