هل كان ابن خلدون تونسيا؟ ـ دومينيك ماتيلي ـ ترجمة : سعيـد بوخليـط

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse22019تقديم : مؤرخ كبير،وأب السوسيولوجيا الحديثة. إنه،ابن خلدون،الشخصية المشهورة،على امتداد كل أرض تونس.لكن،هل يلزم حقا اعتباره تونسيا،وهو المنحدر من أسرة يمنية، استقرت في الأندلس،وعاش لفترة طويلة بمصر؟.
خلال الحقبة التي عاصرها ابن خلدون،كان العالم العربي يعيش أوج إعادة تشكله.هكذا،يسيطر الكاثوليكيون على قسم كبير من الأندلس،ومصر تحت كنف سلاطين المماليك،أما الشرق الأوسط،فقد اكتسحه الجيش التركي-المنغولي،بقيادة تيمورلنك.
بعد سقوط الموحدين،الذين تمكنوا من توحيد بلاد المغرب،من نهاية القرن الثاني عشر،إلى أواسط القرن الثالث عشر،صار الغرب الإسلامي تحت رحمة ثلاثة دول،هي:المرينيون والزيانيون و الحفصيون.نتيجة لترحاله الدائم،التقى ابن خلدون، أغلب أمراء المنطقة، بل كان رهن إشارتهم.  
وسط ساحة يقطعها شارع بورقيبة،الشارع الأساسي للعاصمة التونسية،وأمام كاتدرائية كاثوليكية وكذا سفارة فرنسا،ينتصب تمثال برونزي،الوحيد من نوعه في هذا المحيط،يظهر شخصا،مهيب الجانب،مرتديا البرنس والعمامة،وممسكا في يده اليمنى كتابا،باعتباره شيئا ثمينا. 
هذا الرجل المبجل بهذه الكيفية،هو عبد الرحمن بن خلدون(1332 -1406)،قاضيا ودبلوماسيا،ورجل بلاط خلال القرن الرابع عشر،لكنه خاصة مفكرا عبقريا، وأحد مؤسسي العلوم الإنسانية الحديثة،وبالنسبة لتونس فتعتبره أحد أبنائها.

فضاءات أخرى عديدة،في العاصمة، تؤبد ذاكرته :شارع على بعد خطوتين من التمثال، دار للثقافة متواجدة في المدينة،غير بعيدة عن هنا،ثم حاضرة سكنية عند ضاحية قريبة،وجامعة خاصة ثم مدارس عديدة،إلخ. إنه حاضر كليا، بين ثنايا الخيال المحلي،كما أن صورته تؤثث العديد من الطوابع، مثلما زينت ورقة عشرة دينار،لمدة طويلة.
يكشف ابن خلدون،عبر كتاباته عن مفهوم يعكس بكيفية مدهشة مفهوما حديثا عن عمل المؤرخ.كتابه ''المقدمة'' الأكثر شهرة،هو توطئة لمؤلفه الضخم :كتاب العبر.الذي تطرق من خلاله،دون خلفية فلسفية أو ميتافيزيقية قبلية،إلى تطور المجتمعات الإسلامية،آخذا بعين الاعتبار معطيات مثل الجغرافية،والثقافية،والاقتصاد.وبنفس كيفية، باحث ينتمي إلى اللحظة الراهنة،فقد ألح على أهمية المصادر،وأصالتها وكذا جدتها وفحصها.
عمله الفكري الجليل،غير قابل للانفصال،عن مسار حياة شخصية اتسمت خاصة بكونها قلقة،وكذا صورة حقبة مضطربة، انتمى إلى سياقها التاريخي.خلال القرن الرابع عشر،أضحى بهاء الغرب الإسلامي مجرد ذكرى،والعالم العربي في مجموعه ينهار.سيطر الإسبان على الأندلس، وأعادوا إخضاع جزء كبير منها.أيضا،المنطقة التي كانت مستقرة في ظل حكم الدولة الموحدية،وبعد انهيار الأخيرة،ستتفكك إلى ثلاثة دول متنافسة تقاسمت المغرب : المرينيون غربا،وآل عبد الودود في الوسط ،ثم الحفصيين شرقا،بحيث ضم مجالهم إفريقيا(الإسم السابق لتونس) وقسنطينة،وطرابلس. لكن، جراء وفاة أي أمير، يصبح استقرار كل واحدة من هذه المملكات، عرضة لأزمات عنيفة، تهم الخلافة على الحكم.
منذ 1250،كانت مصر وسوريا،تحت سيطرة المماليك،وهي دولة عسكرية أسسها عبيد قدامى، ينحدرون من القوقاز.وفي الشرق،سيطر المغوليون، بشكل شبه كلي تقريبا على آسيا الشرقية والوسطى،ويهاجمون البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط،فاستولوا على بغداد ودمشق سنة1400- 1401 .
ولد عبد الرحمان بن خلدون،في تونس عام 1332م(732هجرية).عائلته المنحدرة من اليمن،استقرت في الأندلس،منذ انطلاق الغزو العربي،ثم طردتها معارك الاسترداد الإسبانية، فانتهى بها الأمر،كي تستقر في تونس بعد مرورها من سبتة ،مع بداية القرن الثالث عشر الميلادي.
الفتى ابن خلدون،والذي كان أبوه صاحب تكوين علمي رفيع،سيخضع بدوره لتلقين علمي متين ومتعدد في العلوم القرآنية،وكذا التاريخ والفلسفة والطب.سنة 1348،وفي عمر السادسة عشر،أودى وباء الطاعون بحياة أسرته. لذلك، لم يعد يفكر، سوى في شيء واحد :الوصول إلى مدينة فاس،المركز الثقافي للغرب الإسلامي.في انتظار ذلك،سيختار من طرف إدارة سلطان تونس،وصار اسمه ''كاتب العلامة"،مكلفا بالمراسلات الرسمية للسلطان.
  نتيجة،اجتياح إفريقيا أو تونس من طرف أمير قسنطينة،وجدها بن خلدون فرصة كي ينسحب، قاصدا تبسة  ثم بسكرة وتلمسان،قبل وصوله سنة1354،إلى قصر المرينيين في فاس،حيث مكث هناك لعشر سنين،يشغل وظائف عليا،مثل مستشار وقاض.
بانتقاله إلى غرناطة سنة 1362، صار سياسيا محنكا،وصاحب تجربة، صقلها جراء تقلبات السلطة، وقد اعتقل مابين 1357-1359،مما ساعده على تبلور تأمله حول المجتمعات السياسية.أجبرته دسائس القصر،كي يبتعد عن الأندلس،عائدا إلى المغرب.
بعد، بجاية حيث عاود الخدمة ثانية مع الحفصيين،قادته الأزمات السياسية تباعا نحو تلمسان وبسكرة وفاس.قصد تونس سنة 1378،ثم حج إلى مكة،واختار الاستقرار في القاهرة سنة1383،متقلدا هناك وظيفة القاضي الكبير للمذهب المالكي، وخلال مهمة في دمشق، التقى تيمورلنك، لكنه أخفق في الحصول من قائد الغزاة، التركي-المنغولي،على وعد بخصوص أمن  المدينة.لما عاد إلى القاهرة، استعاد وظيفته القضائية،وتوفي سنة1406،عن عمر يناهز الرابعة والسبعين.
إذا كان إسهام ابن خلدون،في التاريخ والسوسيولوجيا السياسية،محط اتفاق،بل ويراه البعض مصدر إلهام لميكيافيلي ومونتسكيو و أوغست كونت وكارل ماركس وماكس فيبر،ستنصب في المقابل على حياته الشخصية انتقادات قاسية،مؤاخذة عليه جانبه السلوكي الوقح والمنتفع والانتهازي.نندهش،لأنه كان في نفس الوقت،خادما وعدوا،للبعض والآخر،دون إبدائه لأبسط حس وطني.
لكننا ننسى،أن مفاهيم الوطن والأمة، انعدمت  خلال تلك الحقبة، وتحتم انتظار القرن التاسع عشر،بعد الاحتكاك مع الغرب،كي يعرفها الفكر الإسلامي.لم يكن،للولاء من دلالة،سوى في إطار روابط الإنسان بالإنسان.هكذا ، لن يتوانى البعض، عن تغيير ديانته،إن أجبرته الظروف، كما حدث مع المماليك، العبيد السابقين، الذين تحولوا إلى الإسلام.وعلى منوال بربروس،ابن خزفي يوناني،فقد كان القراصنة ''الباربيروسيين''غالبا مسيحيي الولادة،ومجرد مغامرين أو عبيدا ارتدوا عن الدين.
من خلال نسبه وكذا مساره الخاص،يعتبر ابن خلدون شاهدا عن وضعية جد مرنة  ميزت العالم العربي،فترة القرون الوسطى،فقد انتفت الحدود،وتيسر الانتقال بسهولة من منطقة إلى أخرى،كما أن العربية هي ذاتها في كل مكان باعتبارها،لغة للنخب.يستقر الفنانون،المثقفون ورجال الدين،هنا أو هناك،حسب علاقاتهم بالأمراء.
بانتقالنا إلى أوروبا،يمكننا أن نستحضر في السياق نفسه، بيترارك أحد أعمدة الأدب الايطالي،وقد قضى حياته بين فرنسا وإيطاليا.ثم الثيولوجي والفيلسوف إيكهارت ،الذي ألقى دروسه ومواعظه في ألمانيا وكذا فرنسا،ثم ثيولوجي آخر هو غيوم دو كهام،المولود في إنجلترا،وأقام لفترة طويلة في ''أفينون ''Avignon وميونيخ.
طبعا،عاش ابن خلدون قسما كبيرا من حياته، خارج بلده الأصلي، من بينها عشرين سنة في مصر،لكنه لم ينفصل قط عن الغرب الإسلامي وكذا أصوله.ففي القاهرة،واصل ارتداء البرنس الداكن،أي اللباس الخاص بتونس والمغرب عامة. 
إذا أردنا، أن ننسب له تحديدا جنسية معينة،في حالة عدم وجود أي بلد ،يبادر إلى ذلك، فسيبقى في نظر التاريخ، ابنا وفيا لتونس، تبعا لسلالة،حنبعل و يوغورطة وعقبة بن نافع، مؤسس جامع القيروان الكبير أو الوزير المصلح،خير الدين باشا.
هامش:
*للإطلاع  على النص  الأصلي  يمكن  الرجوع  إلى:
 La revue :novembre-décembre ;2015 ;pp ;167-169 .