الجذور المغاربية لموسيقى الجاز والبلوز! ـ محمد المهذبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

الجذور المغاربية لموسيقى الجاز والبلوز! ـ محمد المهذبي    من المعروف أنّ موسيقى البلوز والجاز وما تولّد عنهما من أنماط موسيقية، نشأت لدى الأفارقة الأمريكيين كما يسمونهم في الولايات المتحدة، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد تمت دراسة التأثيرات الإفريقية السوداء بشكل مستفيض باعتبارها أصلا تاريخيا لتلك الموسيقى. غير أنّ ما لم يدرس بصورة كافية إلى حدّ الآن هو تأثير الثقافة العربية الإسلامية، رغم أنّ الجميع يعرف أنّ جانبا لا بأس به من السود الذين نقلوا إلى العالم الجديد ينتمون إلى مناطق غرب إفريقيا التي استوعبت تأثير الثقافة العربية الإسلامية منذ قرون.
    ولكنّ الباحث الموسيقي النمساوي غيرهارد كوبيك قام بسدّ هذه الثغرة عبر دراسة خصائص موسيقى البلوز، حيث يميّز بين نوعين أحدهما يعود إلى منطقة السافانا الإفريقية، في حين أنّ الثاني "دخل المنطقة (غرب إفريقيا) بعد القرن السابع الميلادي بفترة وجيزة عبر طرق التجارة الصحراوية التي أنشأها المسلمون من شمال إفريقيا باتجاه الدول الناشئة غرب القارة على طول نهر النيجر: مالي ثم السونغاي ثم دول الهاوسا، وقد كانت جلّها دولا إسلامية. لقد أطلقت على الأسلوب الأول اسم "الزنجي القديم" وعلى الثاني اسم "العربي الإسلامي" ".* أمّا الباحث صامويل شارترز فقد كان أكثر قطعا حيث يجزم بأنّ الموسيقى الأفرو أمريكية في مجملها تعود جذورها إلى المنطقة الموجودة بين نهر السينغال وجنوب غينيا**، وهي كما نعلم منطقة خضعت لتأثيرات عربية إسلامية عموما ومغاربية على وجه التخصيص.

    قد تبدو هذه النتيجة مثيرة لدى القارئ العربي ولكنها مع ذلك ليست غريبة إذا وضعت في سياق المعطيات التاريخية المعلومة لدى الجميع. أمّا ما يحتاج إلى مزيد البحث والتدقيق فهو مصدر التأثير القادم من "مسلمي شمال إفريقيا". لعلّ افتراض التأثير المغاربي تحديدا لن يكون بعيدا عن الصواب بل يصح أن يكون منطلقا لبحوث علمية جادة.
    لقد كانت مدن مثل القيروان وتلمسان وفاس وغيرها من المدن المغاربية منطلقا لانتشار الحضارة العربية الإسلامية نحو إفريقيا جنوب الصحراء أو بلاد السودان كما كانت تسمّى. وكانت تلك المدن بمثابة منارات إشعاع حضاري ومنطلقا لعلاقات تجارية مكثفة مع غرب إفريقيا عبر القوافل الصحراوية وبقيت مهيمنة لمدة قرون على الثقافة في الغرب الإسلامي بصفة عامة. ويمكن القول بأنّ نشر مبادئ الدين الإسلامي اقترن بنشر اللغة العربية مع ما يرتبط بذلك من ترتيل القرآن والأذكار فضلا عما يمكن أن ينتقل معها من عناصر أخرى مثل الشعر العربي، كان له التأثير الأكبر في الجانب الموسيقي.
    أما في مرحلة متأخرة فيبدو أنّ الطرق الصوفية هي التي تسلّمت المشعل في توطيد العلاقات مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء. فالطرق التيجانية والعيساوية وغيرها تجد جذورها في المغرب الأوسط والأقصى ولا تزال لديها ارتباطات في السنغال ومالي والنيجر مثلا، حيث تلعب دورا اجتماعيا وثقافيا كبيرا.
    لقد تمّ إلى حدّ الآن تناول التأثيرات الإفريقية السوداء في الموسيقى المغاربية وهي واضحة للعيان في الموسيقى الشعبية والصوفية على سبيل المثال. أما التأثير المغاربي في موسيقى غرب إفريقيا عموما فيمكن تأكيده حسب رأينا عبر التركيز على عناصر من بينها الارتجال الذي يكتسي أهمية كبرى في الموسيقى المغاربية والعربية عموما. وإذا كان الارتجال يمثّل أحد مميزات موسيقى الجاز والبلوز وكذلك الموسيقى الإفريقية السوداء، فإنّ تمازج الطريقتين المغاربية والإفريقية هو الذي يتطلب التدقيق عبر دراسة مقارنة.
    أما العنصر الآخر الهام فهو السلّم الموسيقي الخماسي الموجود في المغرب العربي وفي الموسيقى الإفريقية السوداء على السواء. فقد دار الحديث إلى حدّ الآن عن أصول افريقية سوداء أو أمازيغية لذلك السلم دون دراسة تأثيرات الشكل المغاربي في نظيره الإفريقي الأسود. وما دمنا لم نحدّد خارطة جغرافية موسيقية تبين انتقال التأثيرات الموسيقية عبر البلدان على مر القرون مثلما حاول الباحثان كوبيك وشارترز، فإنّ الباب يبقى مفتوحا أمام فرضيات مختلفة لا يمكن التحقق منها إلا بعد البحث التاريخي المعمّق.
    أما الجانب الثالث، فهو الأسلوب الموسيقي. يتحدّث الباحث كوبيك عمّا يسمّيه الأسلوب "العدواني" المتأثر بالثقافة العربية الإسلامية في البلوز. ورغم أنّ ذلك يحتاج إلى التوضيح، فإنّ أهميّته تكمن في إثبات أسلوب متميّز يعود إلى تأثيرات "شمال افريقية" أو عربية إسلامية في الموسيقى الإفريقية السوداء وهو ما يؤكد ضرورة دراسة خصائص هذا الأسلوب الموسيقي.
    وخلاصة القول أنّ ما أكده بعض الباحثين قد يكون كشف ثغرة في البحوث المتعلقة بالموسيقى عندنا أو على الأقل في الثقافة الموسيقية العامة لأنّ العديد من المسائل المذكورة في هذا المقال قد لا تخفى على ذوي التكوين الأكاديمي المتخصص. فالتأثير العربي الإسلامي والمغاربي في الموسيقى الأسبانية والأوروبية، يبقى معروفا لدى عامة الناس. أما تأثير موسيقانا في موسيقى غرب إفريقيا ومن خلال ذلك في الجاز والبلوز فهو أمر لا بد من بحثه بشكل دقيق وتعميم نتائجه. فموسيقى الجاز والبلوز أصبحت عالمية الانتشار والتأثير، ولذا فإنّ إظهار مساهمة المنطقة المغاربية في صنعها بشكل من الأشكال سيكون في ذات الوقت إضافة لما يعرفه الجميع حول مساهمات هذه المنطقة في الحضارة الإنسانية عبر إضاءة جانب كاد يطويه النسيان أو ضعف البحث العلمي الموسيقي لدينا أو ربما غشاوة الأسطورة التي غلّفت نجاح موسيقى الجاز والبلوز بحيث بدت وكأنها انقطعت عن جذورها التاريخية والجغرافية !



* راجع موقع "الأوان" الالكتروني. كما يمكن العودة لنص الحوار الذي نشر مع الباحث النمساوي غرهارد كوبيك باللغة الانجليزية على الموقع التالي  www.afropop.org .
** أنظر في هذا الصدد :
African Journey : A search fort he roots of the Blues in www.wikipedia.org (about Samuel Charters )