نبذة عن اليهود في تاريخ المغرب ـ سهام لعسري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

le chant223يعود الحضور اليهودي في الشمال الإفريقي لماض سحيق، منذ ما يناهز 28 قرنا، حيث تشير بعض المصادر التاريخية أن هدم الهيكل الأول المنسوب للنبي سليمان سنة 586 ق.م، نتج عنها لجوء عدد كبير من اليهود، وتؤكد  أيضا بعض المصادر الأثرية المتمثلة في العثور على حجارة كانت قد وضعت من طرف يواب بن سرويا (قائد جيش الملك داوود)، كعلامات حدود في كل من جربة وطنجة وفاس ووادي درعة والتخوم الصحراوية المغربية، ليقتفي أثر سكان فلسطين الأصليين[1]، وكان مجيؤهم مع البحارة الفينيقيين[2] ، وتمركز حضور هذه المجموعات العبرية خصوصا في منطقتي وليلي وشالة، حسب ما تؤكده الآثار والنقوش في هذا الصدد بالإضافة إلى أخبار التلمود وبعض الأحبار.

وقد عرف الوجود الروماني في موريطانيا الطنجية نشاطا دينيا مكثفا، خصوصا في منطقتي سوس ودرعة، حيث تمكن اليهود من معايشة البربر بل تمكنوا بجميع الطـرق بإقناع عدد كبير منهم باعتناق الديانة اليهودية [3]، إلا أن الرومان كانوا لهم بالمرصاد، وعملوا بدورهم على قدم وساق على القيام بعملية تبشير بالدين المسيحي في صفوف اليهود والبربر على السواء، واعتبارها ديانة رسمية تندرج ضمن مقاليد حكم الروم في موريطانيا الطنجية. وقد ذكر حاييم الزعفراني أن الرومان كانوا متسامحين مع اليهود ومنحوهم حقوقهم المدنية، بل وازدادت وتيرة الدخول في اليهودية بين السكان المحليين والأجانب.[4] إلا أن اكتساح الوندال للمنطقة في ق 5 ق.م أي 430 ق.م، أدى إلى طرد الرومان من أرجاء المعمور، وعاش اليهود من أكثر العهود استقرارا وتسامحا وعادوا لممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية، إلا أن الأوضاع تأزمت مع دخول البيزنطيين سنة 533 ق.م الذين قاموا بمناهضة اليهود واستلموا بذلك مشعل روما وذلك يعود لتحالفهم مع الوندال، وعادت المسيحية من جديد تخترق البنيات الاجتماعية، وتم غلق المدارس والبيع[5] ،إلا أن محاولات بيزنطة لتمسيح البرابرة ومحق دابر اليهودية لم يكتب له النجاح.


وجاء الفتح الإسلامي سنة 683 م، وبالرغم مما نواجهه من فراغ بما يتعلق بالفترة بين العهد الروماني الأخير وبداية هذا الفتح، فقد ذكر ابن خلدون:
« وكذلك ربما كان بعض هؤلاء البربر دانوا بدين اليهودية أخذوه من بني إسرائيل(..) وكما كانت نفوسة من برابر إفريقية وقندلاوة ومديونة وبهلولة وغياثة وبنو فازان من برابرة المغرب الأقصى حتى محا إدريس الأكبر الناجم بالمغرب من بني حسن بن الحسن جميع ما كان في نواحيه من بقايا الأديان والملل...»[6]

 وبدأت بذلك عمليات الأسلمة، وظهرت شخصية الكاهنة-اليهودية البربرية- والتي يحكى أنها تصدت للفاتحين العرب حتى الموت، إلا أن  أصراف ذكر أن اليهود استقبلوا أسياد العرب فتبنوا اللغة العربية كلغة تواصل بينهم وبين أبناء جلدتهم في المشرق.

وتذكر مصادر القرن 14 م أن إدريس الأول عندما وصل للمغرب الأقصى، وجد فيها تشكيلة قبلية متنوعة مسيحية، يهودية، ووثنية، وقام بتوحيد القبائل وحقق تأسيس أول دولة إسلامية بالمغرب، ومعه تم تحديد الوضعية الاجتماعية والدينية لليهود في إطار التشريع الخاص بحماية أهل الذمة، وعندما تولى ابنه إدريس الثاني الحكم، أصبحت فاس مركزا ثقافيا عامة وللثقافة اليهودية خاصة، حينها ظهرت الإرهاصات الأولى للنحو والشعر العبريين، كما يوضح وجود نخبة من رجالات الدين بفاس كالحاخام إسحق الفاسي وموسى بن ميمون والحاخام أشير بن يحيال، إلى جلاء مكانة الفقه اليهودي في الشريعة اليهودية منذ زمن الأدارسة، وانتشار استعمال اللغة العربية الفصحى في إنتاج مؤلفاتهم[7]، وقد ترك إدريس الثاني اليهود مستقرين داخل أسوار فاس القديم، واستمروا على ذلك الحال حتى تأسيس الملاح في عهد المرينين.

أما اليهود في العهد المرابطي فإنهم عاشوا حياة الانزواء والعزلة، ولم يكونوا مندمجين مع المسلمين[8]، حيث كانت مدينة مراكش ممنوعة على اليهود الذي كانوا يستقرون بأغمات[9] إلا لقضاء أغراضهم التجارية نهارا، وقد كانت أحوالهم العامة في هذا العهد متأزمة ولم يشهدوا ازدهارا فكريا ولا ثقافيا، حيث تراجعت مكانة اللغة العربية واستعمالها في انتاجاتهم الفقهية مقارنة مع العهد السابق، إلا أن التاريخ لم يسجل حربا دينيا بين المرابطين واليهود.وفي المقابل فإنهم تعرضوا من طرف الموحدين لويلات من العذاب وأيامهم لم تكن أقل هولا، وقاموا بضغط كبير عليهم لاعتناق الدين الإسلامي، وألزموهم أن يلبسوا وخصوصا أيام المنصور ثيابا سوداء وطاقيات كبيرة، ثم تغير أيام الناصر لملابس وعمائم  صفراء[10]، ولا يخفى أن اليهود خافوا كثيرا من بطش الموحدين حتى اضطروا أن يعلنوا إسلامهم، وقد ذكر صاحب المعجب ما قاله المنصور الموحدي متوعدا:

«لو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم وجعلت أموالهم فيئا للمسلمين»[11].

 وتحسنت الأوضاع مع المرينين حيث استعادوا معهم معنوياتهم، خصوصا أن العديد من يهود الأندلس هاجروا إلى المغرب وأثروا على الحياة الاجتماعية واستقروا في كبريات المدن وخولوا لهم امتيازات اقتصادية واسعة[12] لم يسبق لليهود أن نالوا مثلها، كما عملوا في وظائف سياسية هامة لدى ملوك الدولة، وتم عزلهم في حي خاص بكل مدينة يتجمع فيها أكبر عدد منهم فصارت تسمى بالملاح، إلا أن الأجواء سرعان ما تعكرت وتأزمت بسبب مقتل السلطان عبد الحق المريني، و وزيره اليهودي أهارون بطاش سنة 1465 م، ومنذ هذه الواقعة لاقى اليهود اضطهادا شديدا وقتل خلق عظيم منهم وأسلم العديد مجبرين، وهذا راجع لخرق اليهود القانون الذي رسم منذ الدولة الإدريسية ألا وهو "قانون الذمة"، والذي يمنع اليهود من مزاولة وظائف عمومية من سلك الدولة.

وقد تيسر الأمر لبنو وطاس وتحكموا في البلاد، بالرغم من أنهم لم يحظوا ببيعة من كل أرجاء البلاد، وفي عهدهم تم تسليم مفاتيح غرناطة للإسبان سنة 1492 م، وطرد منهم المسلمين واليهود والذي يطلق عليهم بالموريسكين، وقد أحدثت هذه الهجرة نقلة نوعية في التشكيلة الاجتماعية اليهودية والتي ساهمت في إضافة عنصرا جديدا إلى جانب اليهود الأصليين (التوشابيم) وهم اليهود الأندلسيين (الميكورشيم)، وعرفت الحركة التجارية رواجا حتى أنهم ربطوا اتصالاتهم مع يهود الواحات السوسية وصولا إلى بلاد السودان[13]، وأدخلت العديد من المهارات الصناعية والحرفية من الأندلس، كل هذا ساعد في تكوين هؤلاء ثروات طائلة، وفرضت عليهم جزية ضخمة -ذالك لتغطية المصاريف العسكرية للدولة- وألزموا لبس ثياب سوداء مع قطعة ثوب حمراء وفرضت عليهم نعال خاصة بهم.

بعد صـعود السعديين إلى سدة الحكم نشط اليهود في البلاد، بالخصوص مع مجيء أفواج أخرى من الأندلس سنة 1609 م،وحظوا بعناية وعطف كبيرين من طرف السلاطين، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر عائلة بالاش والدور التجاري المهيمن الذي لعبته بين المغرب والدول الأوروبية.

عموما امتاز العهد السعدي بتسامحه مع اليهود ، بل وحظيت أغلب الملاحات بحماية سلطانية، حيث بلغ عدد اليهود بمراكش العاصمة آنذاك وحدها 6 آلاف في عهد المنصور، وهذا من جملة ما ذكره دوفردان أن اليهود عاشوا أجمل حقبة في تاريخهم[14].حتى أصبح اليهود يحتفلون بانتصار السعديين على الإيبيرين في معركة وادي المخازن، وذلك لنجاتهم من التمسيح القسري الذي رغب البرتغال والإسبان القيام به عند السيطرة في ربوع الدولة السعدية.

إلا أن العهد العلوي كان عهدا استثنائيا بالنسبة لليهود، حيث نالوا مكانة جليلة لدى جل السلاطين العلويين، سواء في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولم يستثنى من هذه القاعدة إلا المولى اليزيد الذي حاول القضاء على الطائفة اليهودية، حتى أنه خصص جائزة قدرها 10 مثاقيل لكل من أتى يحمل رأس يهودي[15]. وبرز اليهود بقوة في كل المجالات سواء السياسية حيث تقلدوا مناصب دبلوماسية مع الدول الأوروبية، أو اقتصادية متمثلة في التمثيل التجاري في البحر الأبيض المتوسط، وبروز ظاهرة "يهودي البلاط"، خصوصا أن ما يسر لليهود الوصول لهذه المكانة أن الفقهاء كانوا يحرمون ربط علاقات مع دار الكفر، واعتبروا اليهود وسيطا متميزا ويصلح لهذه المهمة باعتبارهم من أهل الكتاب.

أما فيما يخص الحديث عن اليهود في القرن التاسع عشر، باعتباره قرنا دينامكيا والذي شهد بداية التدخل الأوروبي في المغرب وإقرار السيطرة، وعرف أيضا بزمن الحمايات القنصلية الأوروبية، فإن فوضعية اليهود في هذه الفترة من فترات تاريخ المغرب، تختلف كثيرا عن مثيلاتها، لأن هذا القرن تميز بنفسه الإمبريالي، وتعاقبت أحداثه التي زادت الأمر خطورة وتعقيدا وساهمت في تضييق الخناق على المغرب، كاحتلال الجزائر سنة 1830 م، وانهزام إيسلي 1844 م ،ومعاهدة بريطانيا التجارية سنة 1856، وهذه الأخيرة التي كانت عنصرا من العناصر الفعالة في تفتيت المغرب العتيق حسب جان لوي مييج [16]، حتى ظهور الإرهاصات الأولى للحماية على المغرب.

وقد عملت الدول الأوروبية الامبريالية التي تغلغل كيانها في المملكة الشريفة، استغلال الظروف الصعبة التي كان يعيشها اليهود بهدف تحقيق مصالحها الشخصية، حيث دخل العديد منهم بوابة الحمايات القنصلية ليتمتع  بكافة الإمتيازات ومن بينها التخلص من وضعيته كذمي.

[1] -حاييم الزعفراني،ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب،ترجمة :أحمد شحلان وعبد الغني أبوالعزم، الطبعة الأولى,  الدار البيضاء, ,1987 ص: 9.
[2] -ابراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج:1, دار الرشاد الحديثة, الدار البيضاء, 2009 ص: 56.
[3] - وقد تناول العديد من الباحثين أمر تهويد البربر واعتبرها البعض ان جل اليهود الموجودين بالمغرب الأقصى بربر أصلا إلا أن الأبحاث الميدانية في أواسط الناطقين بالبربرية في المغرب والتي جرت بين ملاح جنوب المغرب ووديان الأطلس تشير بجلاء إلى ان التعليم التقليدي لدى هذه المجموعات كان يستعمل اللغة البربرية كأداة تفسير وترجمة للنصوص المقدسة حسب ما ذكره h.z.hirschberg.
[4] -نفس المرجع. ص: 10.
[5] -روبير أصراف،محمد الخامس واليهود المغاربة،ترجمة: علي الصقلي ومحمد گلزيم، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1997.ص :31.
[6] -ابن خلدون،العبر ودين مبتدأ والخبر،تحقيق: أبوالصهيب الكرمي, بيت الأفكار الدولية.
[7] -عبد الكريم بوفرة"اليهود في المغرب"معلمة المغرب ج: 21 ,نشر مطابع سلا, 2005.ص:7679-7681.
[8] -إبراهيم حركات،المغرب عبر التاريخ،ج: 1. ص: 216.
[9] -حتى أننا نجد بساتين أغمات في العهد المرابطي يختص بها اليهود وحدهم تقريبا.
[10] -نفس المرجع ص: 305.
[11] -عبد الواحد المراكشي،المعجب في تلخيص أخبار المغرب،تحقيق: محمد سعيد العريان، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1963 .ص:305.
[12] -نفس المرجع ج:2 .ص :94.
[13] -إبراهيم حركات،المغرب عبر التاريخ،ج: 2،دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009 .ص: 192.
[14] -Gaston DEVERDUN,  Marrakech des origines à 1912, Edition techniques Nord Africaines, rabat, 1959.p :446-450.
[15] -روبير أصراف،محمد الخامس واليهود المغاربة، مرجع سابق .ص:58.
[16] - نفسه. ص : 64.