الكتابة التاريخية بين "الاحتراف" و"الهواية"(*) ـ كرزيستوف بوميان ـ ترجمة: عبد الأحد السبتي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstract-anfasse2333عندما نتصفح الفهارس واللوائح البيبليوغرافية، فإننا نلاحظ أن الكتب المصنفة في خانة "التاريخ" تتوزع على عدد كبير من الفروع والأصناف. فما هي يا ترى، في وقتنا الراهن، الانتماءات المهنية للمؤلفين الذين وضعوا كل هذه الكتب التي يتم إحصاؤها؟ إن غالبيتهم تنتمي إلى أوساط الأساتذة، والباحثين، ومحافظي الخزانات ودور الأرشيف، وكلها فـئات تشغل مهنا لها صلة بعمليات تحقيق المصادر، ونشر المقالات، والمونوغرافيات، والدراسات التركيبية، والمؤلفات المدرسية، والكتب التعميمية التي تتحدث عن الماضي البعيد أو القريب، وتتناول أحيانا قضايا الحاضر. وقد ينتمي المؤلفون إلى عالم الصحافة، فيتناولون في كتبهم أحداثا راهنة، أو أحوال الأحزاب السياسية، أو وقائع الحملات الانتخابية، وقد يحكون حياة شخصيات بارزة على الساحة العمومية. وهناك أيضا الأدباء الذي تستهويهم بشكل خاص الكتابة البيوغرافية أو التأليف حول بعض الحقب أو الأحداث المثيرة التي شهدها الماضي. وفي الأخير، هناك الهواة الذين يؤثثون أوقات فراغهم بدراسة مواضيع مثيرة مثل أسرار طائفة الهيكل[1]، أو ألغاز الحرب العالمية الثانية، أو قضايا التجسس، أو  بعض القصص الغرامية من الماضي، أو بعض القضايا الشهيرة.. التاريخ، الصحافة، والأدب.
من السهل على المرء أن يتذرع بمقتضيات الاحتراف، فيعلن أن كتابات المؤرخين الجامعيين تنتمي دون غيرها إلى مجال التاريخ، وأن ما عداها مجرد كتابات صحفية أو أدبية لا تستحق الاحترام، وتجوز الاستهانة بها، بل وربما جاز احتقارها. لكن هذا الموقف لا يخلو في الواقع من تعسف، وهو يفتقر إلى الفعالية. ففي مجتمعاتنا المعاصرة، لا يحتكر المؤرخ المحترف مهمة تحديد مضمون التاريخ ورسم حدوده. فالرأي العام يدلي هو كذلك بمواقفه في هذا الميدان. فهو يقيم علاقة تفاوض دائم مع المؤرخين المحترفين، ويمارس عليهم مختلف أشكال الضغط، كي يوجههم الوجهة التي توافق ميوله. وفي المقابل، يضطر المؤرخون إلى إقناع الرأي العام بمشروعية التصورات التي ينطلقون منها لإنجاز أبحاثهم. ومن المستبعد أن يجمع المؤرخون المحترفون أنفسهم على إقصاء الكتابة الصحفية والأدبية من مجال التاريخ، بل إن كثيرا منهم على وعي بأن إقصاء غير المحترفين موقف يتسم بالتعسف.

يستحيل علينا أن نقيم، في الوقت الراهن، جدارا سميكا بين نموذج "مؤرخ الزمن الحاضر"، وبين نموذج الصحفي الذي يدرس الوثائق العمومية والخصوصية، ويبحث بدقة في صحافة الفترة المدروسة، ويغوص في المذكرات، والنشرات الإحصائية وغيرها من الإصدارات الرسمية، ويسجل الاستجوابات مع الأشخاص الذين ساهموا في الأحداث. ففي الحالتين معا، يتم البحث بطرق مماثلة، ولو أن هناك اختلافا في أسلوب تقديم النتائج، مع أن هذا الاختلاف ليس أمرا واردا في جميع الحالات. ومعلوم أنه خلال القرن التاسع عشر، كان التاريخ الجامعي يحيط نفسه بسور منيع، ويعتقد أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالأرشيف العمومي، وبالتالي فكل تاريخ يمنع فيه الاطلاع على الأرشيف المذكور، أي خمسين سنة على العموم، هو عمل يعتبر من قبيل الممارسة الصحفية والسياسية. غير أن القرن الفارط لم يكن يعرف "تاريخ الزمن الحاضر"، وهو مجال تم ابتكاره في فترة متأخرة.

والواقع أن كتابة مثل هذا التاريخ لم تكن بالأمر الممكن. فمنذ قرون عديدة، تعود الجامعيون على دراسة الماضي بواسطة المصادر، وهي مصادر مكتوبة بالأساس، بينما اعتاد الصحفيون أن يتحدثوا عما شاهدوه أو سمعوه، واعتاد الكتاب والهواة أن يحكوا أحداث الماضي كما رسخت في ذاكرة الأفراد. لذلك كان هناك اختلاف شاسع، من الوجهة الإبستمولوجية، بين كتابات المؤرخين الجامعيين وكتابات غيرهم. فالتأليف الجامعي يتولد عن معرفة غير مباشرة بفضل وساطة الأرشيف، وتأليف الصحفيين والأدباء والهواة يرتبط بالمعرفة المتداولة والذاكرة. وهذا الاختلاف كان يؤدي إلى اختلاف آخر في مستوى المكانة الاعتبارية. فالتاريخ كمعرفة غير مباشرة لم يكن يرقى دائما إلى مكانة العلم بكل ما لهذه الكلمة من أبعاد، ومع ذلك فقد كان تخصصا أكاديميا يحترم قواعد المجتمع العلمي، خاصة في مستوى الإدلاء بالحجج، لذلك كان أصحاب هذا التاريخ وأتباعه يرفضون أن يعترفوا بالصفة "التاريخية" للماضي الذي يقوم على المعرفة المتداولة والذاكرة، وكان هذا الصنف من الكتابة يطمح أن يعترف به داخل عالم "الآداب"، لذلك يبذل المؤلفون قصارى جهودهم ليستجيبوا لرغبات قراء من نوع معين، لا يهمهم الإدلاء بالحجج بقدر ما يهمهم أن يستمتعوا بنصوص سردية تتوفر على حد أدنى من الجودة الفنية. ومن ثم نشأ صراع حول تحديد مضمون كلمة "تاريخ". هل هو علم أم فن؟ ومن له أحقية الحسم في هذا الإشكال؟

خلال المائة سنة الأخيرة، تضاءلت هذه الفوارق نتيجة لعدة عوامل. فقد دخلت المعرفة الغير مباشرة الحياة اليومية وممارسات مهن عديدة، ولا سيما مهنة الصحافة، وعرف التاريخ الجامعي من جهته عدة تحولات. فقد انفتح على الحاضر دون أن يتخلى عن مبادئه المنهجية، حيث أصبحت أرصدة حديثة من الأرشيف في متناول الباحثين. وفي آن واحد، أصبح المؤرخ يتوفر على كمية هامة من المصادر التي تساعد على دراسة مواضيع معاصرة، من بعض الجوانب على الأقل، وبشكل غير مباشر. ويتعلق الأمر بأنواع مختلفة من الوثائق العمومية، وبالمعطيات الإحصائية، والصور الثابتة والمتحركة، والاستجوابات التي تم تسجيلها مع شخصيات بارزة أو مع أفراد مغمورين. إن الحدود الفاصلة بين كتابات الجامعيين وبين كتابات معظم الهواة لا زالت حدودا تطابق الخط الذي يفصل بين المعرفة العلمية وبين المعرفة المتداولة التي تستكمل معطياتها بواسطة الذاكرة. غير أن الأمر يختلف فيما يخص الصحفيين، والأدباء في معظم الأحيان. ففي هذه الحالات يحصل التمايز داخل المعرفة غير المباشرة ذاتها، إذ تظهر حدود تفصل بين الصيغ المختلفة لهذه المعرفة. وهي قضية سوف نعود إليها في وقت لاحق.

من الجائز أن نحكم بالتعسف على كل محاولة تسعى لإقامة تعارض بين تاريخ المؤرخين المحترفين، وبين تاريخ الأدباء أو الهواة، على أساس الاهتمام الذي يوليه هؤلاء للكتابة البيوغرافية، أو للأحداث الطريفة، أو للحوادث غير ذات الشأن الكبير، أو لكل أنواع الأحداث مهما كان شأنها. ذلك أن التاريخ الجامعي لم يسبق له أن أعرض عن الاهتمام بسير الشخصيات، بل إن أعمالا شهيرة اهتمت بمواضيع من هذا النوع، سواء في القرن التاسع عشر أو في القرن الحالي، وقد وضع مثل هذه الأعمال مؤرخون شهد لهم بدور هام في تجديد الكتابة التاريخية. وفي مستوى آخر الحدث، نلاحظ أن التاريخ الجامعي أعاد الاعتبار للحدث بعد ما ظل هذا الأخير موضوع إهمال، وينبغي أن نذكر بأن النظرية البروديلية منحت للحدث مكانته إلى جانب البنيات والسياقات. ثم إن التاريخ ظل يقصي الحدث الطريف خلال مدة طويلة، وبعد ذلك أعاد إليه الاعتبار، حيث ظهر أن هذه الأحداث تساعد أكثر من غيرها في الكشف عن سلوكات بعض الفئات الاجتماعية وعقلياتها.

وباختصار فخلال القرن التاسع عشر، ظل المؤرخون الجامعيون يرفضون أن يمنحوا صفة التاريخ لمؤلفات توضع خارج نطاق مهنتهم، لأن جل هذه المؤلفات لا تنتمي إلى المعرفة العلمية، ولا تستجيب للمعايير التي تميز، من الناحية المبدئية، بين التاريخ الجامعي الذي يحتكر المشروعية العلمية، وبين ما عداه من الخطابات التي تتناول الماضي كموضوع للدراسة. وهكذا فالتاريخ باعتباره تخصصا معرفيا، وعلما قائما بذاته، ظل فيما مضى يتعارض مع التاريخ كجنس أدبي، وهو تعارض قام، منذ القرن السابع عشر، على مستويات إبستمولوجية، ومؤسساتية، واجتماعية، وجمالية. والواقع أن عددا كبيرا من المؤرخين أنتجوا أعمالا تنتمي بصورة واضحة، إلى عالم الآداب الراقية، لكن هذا الإنجاز لم يكن جزءا من متطلباتهم المهنية. هناك إذن، بين التاريخ والأعمال الأدبية الفنية، حاجز يعاد فيه النظر ويعاد بناؤه باستمرار، غير أن المؤرخين الجامعيين لم يعد لهم ما يكفي من المبررات الإبستمولوجية ليرفضوا الاعتراف بالصفة التاريخية لتلك الأعمال العديدة التي ينتجها مؤلفون لا ينتمون إلى دائرة التاريخ الجامعي.

أنماط المعرفة غير المباشرة:
ومع ذلك فهناك فوارق لا يستهان بها بين التاريخ الجامعي، الذي يكتبه المؤرخون المحترفون، وبين التاريخ غير الاحترافي، الذي يؤلفه الصحفيون والكتاب والهواة.

فهذان النوعان من الكتابة التاريخية لا يتطابقان، إذ يدرس الأول بعض الحقب والمواضيع التي لا تهم الثاني، وهي مجالات تتطلب تكوينا وأدوات لا يتوفر عليها المؤرخ غير المحترف. وهكذا فإن دراسة التاريخ القديم تستحيل بدون إتقان "اللغات الميتة"، وفهم كتابات لا تعتمد النظام الأبجدي. والبحث في تاريخ العصر الوسيط يتعذر على من لم يتمكن من عدد من العلوم المساعدة مثل البيبليوغرافيا، وعلم الوثائق (الديبلوماتيك)، وعلم الأنساب. وتاريخ السكان يقوم على توظيف التقنيات المتطورة التي بلورها التحليل الديموغرافي. والتاريخ الاقتصادي للقرنين التاسع عشر والعشرين يتطلب تطبيق مناهج الحساب الاقتصادي. هذه حقول تخص الباحثين المحترفين، وفي أفضل الحالات، لن يتمكن الصحفي أو الكاتب أو الهاوي سوى من تعميم نتائج أعمال الآخرين.
ويذهب الاختلاف إلى حد أبعد. فالبحث التاريخي يمارس حاليا من طرف:
ـ المتخصصين في الوراثيات. ويتمكن هؤلاء من إعادة تركيب مسلسل تعمير الإنسان للأرض.
ـ الأركيولوجيين. فبفضل تقنيات فيزيائية تساعد على تحديد الزمن، يتمكن هؤلاء من التعرف على الحقب التي عاشت فيها مجتمعات ما قبل الكتابة، والكشف عن بنياتها السياسية ومعتقداتها وظروف عيشها.
ـ الأطباء الذين يدرسون الأمراض القديمة بواسطة بقايا العظام.
ـ المتخصصين في البيولوجيا وعلم الحيوان وعلم المناخ..
وباختصار، فإن نطاق اهتمام التاريخ الجامعي أوسع بكثير من نطاق اهتمام تاريخ غير المحترفين، سواء من حيث الزمن والمجال.

إن عدم التطابق بين حقول الاهتمام، بين التاريخ الجامعي والتاريخ غير المحترف، هو في آن واحد أساس اختلافات أخرى. فعمل المؤرخ يتكون من مستويات ثلاثة، وهي البحث، وتأويل الوقائع، والكتابة. وهنا يختلف المؤلفون في الأهمية التي يولونها لهذه المستويات. فقد يطمح المؤرخ إلى أن يعترف له بجودة الكتابة الأدبية، لكن زملاءه يحكمون على عمله على أساس المجهود الذي بذله في مستوى البحث، والإضافات التي قدمها في مستوى الوقائع، والمراجعات التي يتيحها فيما يخص الأفكار المتداولة حول الماضي. ويأتي التأويل في المرتبة الثانية، وتأتي الكتابة في المرتبة الثالثة. ولم يتغير هذا التراتب رغم "الانقلاب" الذي أحدثه الاهتمام المتزايد باللسانيات[2]. غير أن التاريخ غير الاحترافي لا يحترم التراتب المذكور، حيث يولي مستوى البحث أهمية أقل من الأهمية التي يوليها لجمالية الكتابة ولما تخضع له الوقائع من أحكام سياسية أو دينية، أو إيديولوجية، أو جمالية، أو أخلاقية.

ويختلف المؤلفون كذلك في العلاقات التي يقيمونها مع الذاكرة. ففي وقتنا الحاضر، أصبح كل تاريخ يدخل في نطاق المعرفة غير المباشرة، وهي معرفة تتعارض مع الذاكرة من الناحية المبدئية. لكن المسافة بين المعرفتين تتفاوت كثيرا من حالة إلى أخرى. فالتاريخ الجامعي يقيم مسافة أكبر مع الذاكرة حين يبتعد عن قضايا الحاضر، أو عن المجموعات التي ينتمي إليها المؤرخ، وعن أمته بشكل خاص. وعلى عكس ذلك، فحين يتعلق الأمر بتاريخ الزمن الحاضر، أو بماض قريب من المؤلف بشكل أو آخر، فإن التاريخ يقترب من الذاكرة، إلى درجة يضطر معها المؤرخ إلى مواجهة عنصر الذاكرة ويصعب عليه أن يتجنب التأثر بها في بعض الحالات، وقد لا يعي المؤرخ بمفعول هذا التأثير. وبما أن تاريخ غير المحترفين يهتم أساسا بالزمن الحاضر والماضي القريب، فإنه يطابق مجال الذاكرة بشكل تام، ويرتبط بها على العموم، ولو أنه يتعارض معها في بعض الأحيان، حيث يواجهها بواسطة وثائق تتناقض معها أو تكشف عن ثغراتها.

ومن اللازم أن نضيف أن التاريخ الجامعي ذاته يعرف تنوعا عميقا. تتنوع المجلات والحقب والمواضيع المدروسة، ويتطلب كل واحد منها مهارات خاصة في ميادين اللغات وأشكال الخطوط والتقنيات التي تساعد على استخراج معلومات عن الماضي من خلال الآثار التي تركها الماضي، من سميوفورات[3] أو أشياء أو أجسام. إنه تنوع بديهي، لكن هناك جانبا يتطلب المزيد من التوضيح لأنه لا يتبادر إلى الذهن، وهو أن التاريخ الجامعي يعرف تنوعا ينتقي أنواعا معينة من شواهد الماضي، ويوظفها وفق منهج معين، ويتحدث عنها بطريقة معينة. وفي كل هذه الجوانب يختلف المؤرخون باختلاف الغايات التي يتوخونها، والطرق التي يختارونها لتحقيق تلك الغايات. ويمكن أن نميز هنا بين أربعة اتجاهات:

ـ التاريخ كعلم إنساني. في هذه الحالة يميل المؤرخ إلى دراسة الوثائق العمومية، ويسائلها بإمعان كي يتمكن، على المستوى الذهني، من إعادة تشكيل المؤسسات التي أنتجت تلك الوثائق والظروف التي أنتجت فيها، أي العادات، والمعايير السائدة، والأحداث، وطبائع الفاعلين المعنيين. فانطلاقا من بعض خصائص الوثائق المستعملة، مثل نوعية حوامل النص المكتوب، والخطوط المستعملة، وأشكال الخواتم. وكما أن هذه المقاربة –التي يمكن نعتها بالأخلاقية- تنطلق من معرفة مختلف مستويات اللغة، من معجم، وصيغ، وعناوين، ونحو، وطرق ضبط التواريخ، تعمد هذه المقاربة إلى الخروج ببعض التأويلات بناء على نظرية تسمح بالانتقال من الحاضر إلى الماضي، وفق فرضية تقر بثبات المبادئ التي تتحكم في الطبيعة الإنسانية.

ـ التاريخ كعلم تأويلي. في هذه الحالة يتجه المؤرخ نحو الأعمال الفنية، من فنون أدبية وتصويرية، وذلك من أجل إعادة تركيب الطرق التي استعملها أصحاب هذه الأعمال كي يضفوا عليها تلك الصفات التي تجعلها محط إعجاب أجيال قد تبعد كثيرا عن تاريخ ابتكارها. وقد طبقت هذه المقاربة كذلك على المجال السياسي، إذ تعتبر بعض الإنجازات، كالدولة، من بين الأعمال الفنية. ولا يهتم الدارس هنا إلا نادرا، بالأعمال الفنية في مستواها المادي، لكنه يتتبع بدقة دلالات هذه الأعمال، ويتوصل إلى فهم نشأتها، بناء على مقاربة نفسانية ذات منحى تأويلي تبرر الانتقال من الحاضر إلى الماضي، وبناء على فرضية تقر بأن الحياة الفكرية والعاطفية للأفراد تختلف باختلاف الموقع الذي يحتلونه داخل تاريخ الفكر.

ـ التاريخ كعلم اجتماعي. في هذه الحالة يفضل الباحث دراسة شواهد يكون لها طابع تكراري. تسمح هذه الشواهد بإمكانية التناول الإحصائي، وهو ما يتيح إلقاء الضوء على ظواهر الاستمرار، والانقطاع، والانتظام الخفي، والعلاقة القائمة بين بعض المتغيرات. ففي صلب هذه المقاربة، لا وجود للمؤسسات، أو للأفراد المبدعين، بل توجد المجموعات، والفئات، والساكنات. وهنا يتم التأويل بنفس حركة الانتقال من الحاضر إلى الماضي، بناء على معطيات قابلة للمعالجة الكمية، من الناحية المبدئية على الأقل، ويعتمد الباحث على نظريات تخص كل واحدة منها ميدانا محددا: الاقتصاد، أو علم السكان، أو السكن، أو علاقات الهيمنة. ويفترض في كل نظرية أن تكشف عن آليات التحول التي يعرفها كل ميدان من هذه الميادين.

ـ التاريخ كعلم طبيعي. وهنا يطبق المؤرخ التقنيات التي صاغتها علوم الفيزياء، والحيويات الجزيئية، والدمويات، والوراثيات، على البقايا التي تركها الإنسان، أي منتوجاته المختلفة في مستوى ماديتها، أو تأثير أنشطته على جسده، أو على المناخ وعالم الحيوان والنبات. فكل هذه البقايا والشواهد تكون موضوع ملاحظات وعمليات تجريبية يخرج منها المؤرخ باستدلالات حول الماضي اعتمادا على النظريات العلمية التي يفترض فيها أن تبرر تحديد زمن المواد المدروسة، أو إعادة تركيب البيئات الطبيعية أو الثقافية التي أنتجت فيها تلك المواد.

إن كافة هذه الطرق المتبعة في ممارسة البحث التاريخي هي في آن واحد أنماط في معرفة الماضي بواسطة المصادر. لكن هذه الطرق تختلف فيما بينها إلى درجة أنها تطرح مشاكل عويصة حين يريد الباحث أن يوفق بين نتائجها. ففي كل حالة من الحالات، تندرج النتائج ضمن إطار مفاهيمي آخر يفترض فيه أن يمكن العقل من فهمها، ونحن لا نتوفر على نظرية عامة للتاريخ يعترف بها مجموع المؤرخين، وتتيح القيام بعملية تركيب مجموع النتائج. ففي هذه النقطة بالذات تتدخل في عمل المؤرخ، وبشكل كبير، المسبقات ذات الطبيعة الدينية، والإيديولوجية، والفلسفية، وحتى الجمالية، وهي أحكام توجه بحث المؤرخ، بدون أن يكون واعيا بذلك، حيث تدفعه إلى تفضيل موضوع معين، وحقبة معينة، وبلد معين، لكنها تقتصر، بالنسبة للبحث، على القيام بدور الناظم، وإلا لما كان البحث يستحق صفته العلمية. لكن حين يتعلق الأمر بتركيب النتائج في تاريخ يحاول أن يجمع الإسهامات التي تقدمها مختلف أنماط المعرفة غير المباشرة، فإن الأحكام الدينية، والإيديولوجية، والفلسفية والجمالية تلعب دورا أساسيا، ومن غير المحتمل أن يتم الأمر بشكل مغاير في المستقبل.

ترتبط الكتابة التاريخية، إلى حد كبير، بالعمليات المعرفية الضمنية التي تحدد مضمون ذلك التاريخ. فالتقرير الذي يسجل الملاحظات والتجارب، حتى إن تعلق الأمر بعمل فني، سوف يكون أقرب إلى بحث في العلوم الطبيعية منه إلى بيوغرافيا كتبها مؤرخ يتبع منهج الهرمينوطيقا، أو إلى مونوغرافيا تم تصورها في إطار التاريخ كعلم إنساني. فهناك فرق يظهر بسرعة بين نص أدبي وآخر تملأه جداول الأرقام، وخطوط بيانية، ورسوم بيانية نسيجية، ورموز كيماوية وفيزيائية، ومعادلات. بيد أن كلا من النوعين يستحق، من حيث المبدأ، أن يندرج ضمن نطاق التاريخ. غير أن الكتابة التاريخية ترتبط كذلك بالجهاز المفاهيمي الذي يستدعي لتفسير الوقائع أو تيسير تفهمها، أي لمنحها قدرا من المعقولية، وبالتالي فالكتابة التاريخية ترتبط كذلك بما يحمله المؤرخ من مسبقات دينية، أو إيديولوجية، أو فلسفية، أو جمالية. لذلك لا توجد كتابة تاريخية واحدة، بل توجد كتابات تختلف كثيرا فيما بينها.

التاريخ كوحدة عضوية:

هكذا يتسم التاريخ بالتعدد، سواء تعاملنا معه كمعرفة، أو تأويل، أو كتابة، وحتى لو اعتبرنا أن التاريخ هو مجموع من يمارسونه. لذلك فكل حديث عن التاريخ ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار هذا التعدد الذي لا مفر منه، وإلا لكان الحديث، في أفضل الحالات، يقتصر على أحد أشكال التاريخ، وعلى لا شيء في أسوئها. لكن هل يمكن أن نقترح، بصدد التاريخ، بعض المقترحات بصيغة المفرد؟ هل هناك ما يجمع بين ما تعرضنا له من مختلف أنواع المعرفة والتأويل والكتابة؟ وفي حالة الإيجاب، فما هي القواسم المشتركة بينها؟ وكيف نبرر أن هذه الأخيرة هي أنماط تنتمي إلى التاريخ عوض أن نتعامل مع كل واحد منها بشكل مستقل؟ وإذا اعتبرنا أننا أمام أنماط مختلفة من التاريخ، فكيف نبرر أن التاريخ يعرف مثل هذا التعدد؟ وهل هذه الصفة من خصوصيات التاريخ أم هي ظاهرة تشترك فيها كل العلوم والتخصصات؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن نجيب عنها في نهاية هذا المقال.

هناك قاسم مشترك بين كل هذه الأنماط في كتابة التاريخ، وهو أنها تعتمد عامل الزمن في تعاملها مع الوقائع التي تتناولها بالملاحظة والتأويل والوصف. لا شك أن التعامل مع عامل الزمن يعرف بعض الاختلافات، بين من يتبنى الإطار الكرونولوجي الدقيق، وبين من يكتفي بالإقرار بأن واقعة معينة سبقت أخرى، وأن هذه الأخيرة سبقت واقعة ثالثة. لكن في كل هذه الحالات، يقيم المؤرخ علاقات تنسيق بين وقائع بشرية أو طبيعية مختلفة، ويحدد موقع تلك الوقائع داخل الزمن، وهو في كل الأحوال زمن من نوع معين، إذ أصبحنا نعتبر أن التاريخ يعرف أزمنة متعددة تختلف فيما بينها من حيث الاتجاه والسرعة والطوبولوجيا. لكن هناك علاقة تمفصل بين كل تلك الأزمنة، ثم إن الأزمنة القابلة للقياس تندمج الواحدة داخل الأخرى على شاكلة الدوائر المتداخلة، وتندرج كلها داخل زمن شمولي واحد، لأن قياس الزمن يتم بواسطة ساعات توظف وحدات هي إما من فئة أجزاء الثانية أو من فـئة مضاعفاتها.

من الناحية الكيفية، يختلف الزمن التاريخي عن زمن التطور البيولوجي، ويختلف هذا الآخر بدوره عن زمن تطور الكون، وهذا لا يمنع من أن زمن تاريخ البشرية قطعة من الزمن الكوني. وبهذا المعنى، يجوز القول بأن نفس التاريخ يشمل بضعة آلاف السنين التي تفصلنا عن اختراع الكتابة، وعشرات آلاف السنين من نشاط الإنسان العارف، وهي تندرج ضمن مئات آلاف السنين من وجود البشريات، وتندرج هذه المرحلة بدورها ضمن ملايين السنين من وجود الأنثروبيات، وهي حقبة تدخل في نطاق عشرة ملايير من السنين من وجود الكون. وهكذا فالتاريخ، بمعناه المحدود، يتطابق مع التطور البيولوجي الذي يتطابق بدوره مع تطور الكون. هكذا تم توسيع زمن التاريخ بشكل هائل، وفي نفس الوقت تلاشت الحدود بين الفترة التي سبقت اختراع الكتابة والفترة التي تلته، وتلاشت الحدود بين تاريخ الإنسان وتاريخ الطبيعة. وقد تطورت تصورات الإنسان للزمن خلال القرن العشرين، نتيجة للتقدم الذي حققته الفيزياء والبيولوجيا، وهو تطور لا زلنا لم نتمثل كافة النتائج التي تترتب عنه.

وإلى جانب الاهتمام بعامل الزمن، يتميز عمل المؤرخ بخاصية ثانية، وهي أنه يطالب بالإدلاء بالحجج التي تؤكد الوقائع التي قر بحصولها، وهو ملزم بأن يثبت بأنه يتحدث عن وقائع، لا عن تخيلات، وبأن الوقائع المذكورة هي وليدة عمليات معرفية، وليست وليدة جموح الخيال. فكل خطاب يدعي صفة التاريخ، ويعجز عن تقديم الدلائل على ما يذهب إليه من تأكيدات، هو خطاب يمكنه أن يتسم بالجاذبية، ويمكنه أن يدفع إلى التفكير المتحفز ويغني العقل. غير أنه لا ينتمي إلى التاريخ، بل إلى الأدب، إذ يدخل في نطاق الرواية التاريخية، أو الدراما التاريخية، أو السرد التاريخي. فمنذ أن ظهر التاريخ، ظلت الحجة أحد عناصره الأساسية. وهنا يكمن الحد الفاصل بين التاريخ والتخيل والعمل الأدبي والفني، وهو تمييز جادل كثير من المنظرين في شرعيته خلال العقود الأخيرة[4]، لكن هذه الآراء لم تؤثر في ممارسة المؤرخين بشكل ملموس. ذلك أن واجب الإدلاء بالحجة يشكل إلى حد ما جزءا من هويتهم المهنية ذاتها. فالكاتب يجوز له أن يقول ما شاء، على شرط أن يتقن ذلك القول. أما المؤرخ، بصفته مؤرخا، فلا يجوز له أن يؤكد سوى الوقائع التي يستطيع أن يثبتها بدلائل ملموسة.

إذا كانت ضرورة الإدلاء بالحجة تميز التاريخ عن العمل الأدبي والفني، فإن نوعية الحجج التي يتم الاعتماد عليها هي التي تحدد أحد أوجه الاختلاف بين التاريخ والذاكرة. فالتاريخ  يعترف اليوم بمصداقية الحجج التي تحيل على بقايا من الماضي، وهي شواهد تحدد هويتها، وتنسب إلى وسط محدد، وإلى زمن محدد، وبذلك تتحول هذه البقايا إلى مصادر يعتمد عليها لدراسة الوسط الذي أنتجها، وقد يدرس كذلك الفئات التي استعملتها على ممر الزمن. أما حجج الذاكرة فهي من نوع آخر، من قبيل: "لقد كنت حاضرا، ورأيته بأم عيني"، أو"قال لي، أعرفه، أصدقه". إن الذاكرة تعتبر مثل هذه الصيغ بمثابة البراهين القاطعة التي لا يجوز تكذيبها. فطالما كان التاريخ مجرد تدوين للذاكرة، فقد كان يكتفي بهذه الحجج ويمنحها كامل ثقته. لكن منذ القرن الخامس عشر، تشكل التاريخ كحقل علمي، حيث أصبح يتعارض مع الذاكرة، وطور أساليب عمله من أجل أن يتمكن المؤرخ من التعرف على وقائع لا يستطيع أن يتذكرها بنفسه لأنها حدثت في زمن سابق، وقد تكون من الوقائع التي لم يدركها أحد حين وقعها، وبالتالي فهي لم ترسب في ذاكرة أحد..

إن الملاحظات التي قدمناها تسمح بالخروج بعدد من الخلاصات التي تتصل بكتابة التاريخ. فالخلاصة الأولى خلاصة بديهية، وهي التعدد: هناك اختلاف كبير بين طرق الكتابة التاريخية، إلى حد يتعذر معه القول بوجود وحدة أسلوبية أو سردية تشكل قاسما مشتركا بين الطرق المذكورة. ومع ذلك لا تنسب صفة الكتابة التاريخية للأعمال التي لا تستجيب لمعيار أساسي يتمثل في صياغة علامات التاريخانية: صيغ لغوية أو أيقونية أو خطية تحيل على حجج تثبت ما يؤكده المؤلف داخل النص، وتسمح للقارئ بالرجوع إليها عند الاقتضاء. وقد تعمدت استعمال عبارة فضفاضة، لأن هناك عدة أنواع من علامات التاريخانية: أسماء الأشخاص، وأسماء الأماكن، وتواريخ الأحداث، وإحالات على الهوامش داخل المتن، وهوامش في أسفل الصفحات أو في نهاية النص، ومزدوجات تبرز استشهادا من مصدر مكتوب، ويلي الاستشهاد توضيح هوية المصدر وحتى مكانه عند الضرورة، وملاحق ترد فيها نصوص أو وثائق، أو صور، أو خرائط، أو تصاميم، أو مقاطع استراتغرافية طبقاتية، أو نتائج عمليات قياس.. لكن هناك أيضا علاقات تاريخانية تنتمي إلى مجال اللغة، إذ يحتاج المؤرخ إلى استعمال أسلوب معين وبلاغة معينة.

مهما تعددت علامات التاريخانية، فمن المفترض أنها تفتح أمام القارئ، متى أراد، إمكانية مغادرة كتاب التاريخ الذي هو بين يديه، كي يعاين الحجج النهائية لما أكده المؤرخ: من نصوص، وصور أو أشياء تقع خارج الكتاب، في الخزانات، أو مراكز الأرشيف، أو المتاحف، أو المختبرات، أو في حقول الحفريات الأركيولوجية. وبعبارة أخرى فمن المفروض أن تحيل العلامات المذكورة على كتب موجودة بالفعل في الخزانات، وبإيراد مقتطفات يمكن التأكد منها في الصفحات المذكورة، وبتوضيح أرقام الأرشيف التي تطابق الملفات المذكورة، وبوصف مناظر يمكن زيارتها في مكان معين، وأشياء يمكن معاينتها في متحف معين، الخ. صحيح أن المؤرخ قد يخطئ في هذا الهامش أو ذاك، وقد يستشهد اعتمادا على الذاكرة وحدها، وقد يضع إحالة مكان أخرى. هذه مزالق لا ينجو منها أحد. لكن إذا ما وصف المؤلف أحداثا أو أشخاصا لم يسمع بوجودها أحد، وإذا ما أحال باستمرار على منشورات يستحيل الحصول عليها، وأرشيفات لا توجد في مركز من المراكز المعروفة، وتحف أثرية لا توجد في أي متحف، فمعنى ذلك أننا غادرنا نطاق التاريخ، ودخلنا عالم الكتابة الأدبية، وهو عالم ينبغي أن نقيمه ونحكم عليه وفق مقاييسه الخاصة.

وهكذا فممارسات الكتابة التاريخية تجد مكانها بين مستوى الكتابة الأدبية ومستوى الذاكرة، وقد حاولنا أن نبين أن هذه الممارسات محكومة لا محالة بالتنوع والاختلاف على المستوى الإبستمولوجي والفلسفي والجمالي والأدبي. ولا يسعنا المجال في هذا السياق لإعطاء الدليل على أن التعدد المذكور هو وليد حركة ترسب تركت، على ممر القرون، طبقات متعددة تنتمي إلى عصور مختلفة. وبعبارة أخرى فإن هذا التعدد الملحوظ ما هو، في نهاية المطاف، إلا مظهر من مظاهر تاريخية التاريخ. فالتاريخ يتصف بالتاريخية، شأنه شأن بقية العلوم، بما فيها الرياضيات. وهذه هي الصفة التي ينبغي التأكيد عليها في الختام   

 

(*) صدر هذا المقال في الأصل تحت عنوان:
« L’unité intrinsèque de l’histoire », Le Débat, Paris, n°104, 1999, pp.171-178.
ثم أعيد نشره في كتاب يضم مجموعة من مقالات للمؤلف:
Sur l’histoire, Paris, Gallimard, « Folio/Histoire », 1999, pp.387-404.
وقد استفادت هذه الترجمة من ملاحظات واقتراحات الصديق عبد السلام بنعبد العالي.
[1] - نسبة إلى "هيكل سليمان" بالقدس. ويتعلق الأمر بحركة دينية-عسكرية مسيحية، نشأت بفلسطين، في بداية القرن الثاني عشر للميلاد، وارتبطت آنذاك بالحروب الصليبية.
[2] - استعمل المؤلف عبارة linguistic turn، ويقصد بها مرحلة أواسط القرن العشرين، حيث شهدت علوم اللسانيات تطورا كبيرا، وفرضت عددا من مفاهيمها على علوم إنسانية أخرى مثل الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا.
[3] - خصص بوميان مقالا لمفهوم "السيميوفور" وأهميته في كتابة التاريخ الثقافي. انظر ص191-229 من كتاب في التاريخ المذكور أعلاه.
[4] - يشير المؤلف هنا إلى اتجاه يؤكد على أن الكتابة التاريخية، بالرغم من مكتسبات النقد التاريخي، ما هي في النهاية إلا عملية سردية. ومن الأعمال البارزة ضمن هذا الاتجاه، نذكر كتابي ما وراء التاريخ، ومدارات الخطاب، للأمريكي هايجن وايت Hayden White.