نصوص قصصية قصيرة جدًّا ـ سهام العبودي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

(تمثيلٌ إيمائي)
ظلَّ منحنيًا لوقتٍ طويلٍ في انتظار التصفيق.. قبل أن تضيء الصالة على جمهور من العميان..!
.
(تضحية)
يقطع الحطَّاب علاقة الشجرة بالأرض، بهذه الطريقة القاسية للانفصال، وبهذين الألمين – الفراق، والضربة الحادَّة المسدَّدة للفأس – نحصل على مقاعد الاجتماع العائلي للعشاء، ونتبادل الحميميَّة!

(فوات)
باقة وردٍ مهملةٌ في المشفى.
الجوريَّات المنكمـشة كانت ستعني شيئـًا لقلبٍ متعب.
كانت ستعني له شيئـًا لو أنــَّه صمد قليلاً.


(نرجسيَّــة)
كانت العصافير تقذف بنفسها على زجاج نوافذ البنايات العاكس، تتكسَّر مناقيرها، وتنفجر حواصلها، وتتحطَّم شِـباك صدورها الهشـَّة.
لم تتصالح العصافير – يومًا – مع صورتها المعكوسة في مرايا المدنيـَّة، ولم تخفِّف المدينة من قسوتها اللامعة؛ كانت المرايا تمتدُّ، وتقصل العصافير..!
(كلامٌ فارغ)
يصله صوتها وهي تحدِّث رفيقةً عبر الهاتف. تعلِّق بين لحظة وأخرى: "مجرَّد كلامٍ فارغ"، "كلامٌ فارغ"، "ما هذا الكلام الفارغ؟".
تمشِّط بأصابعها شعره الخفيف. يرفع رأسه. يسأل: "ولكن يا أمِّي لماذا لا يملأ أحدٌ كلَّ هذا الكلام الفارغ؟!".
.
(ضلال)
اعتاد منذ ابتسمتْ له أوَّل مرَّة أوصل فيها فاتـورة الكهرباء إلى منزلها أن يترك لها وردةً عند عتبة الباب قبل أن يغادر، ومنذ ابتسمتْ أوَّل مرَّة لموزِّع فاتورة الماء اعتاد أن يخطف الوردةَ ذاتــَها من عند عتبة الباب، وهكذا مرَّ الأمر: لم تستلمْ وردتــَها قط، ولم يتنبَّه أحدُهما إلى أنـَّهما يتبادلان بوردةٍ ضالَّة أكبرَ قدرٍ من سعادةٍ تسبَّب بها سوءُ فهمٍ.. على الإطلاق..!
.
(ملاحظة)
أدركتُ – منـذ تلك اللحظة التي رأيتك فيها تستخدم المنديل – ألاَّ شيء يعبر بعفويَّة معك؛ ذاك المنديل لم تأخـذه إلى أنفـك مباشرةً  كما يفعل الناس عادةً، بل مددته على رجلك، ثمَّ ثنيته بشكل مثالي، نفضته مرَّتين ثم ثنيته مرَّة ثانية، كنت تعـدُّ منطقة استقراره على أرنبة أنفـك بكثيرٍ من العناية. ليست هذه صفة الرجل العفوي! كان الأمر يخلو تمامًا من العفوية، والارتجال. كان هذا الشيء العادي الذي يبدو معقَّدًا وهو يصدر منك يرعبني، يجعلني أفكِّر في مصير الأشياء غير العاديَّة، والمركَّبة وهي بين يديك. كنت أفكِّر ولا شعور يخلقه الموقف فيَّ إلاَّ الشعور بالاختناق، والضيق، وهذا الشعور لا يناسبني!
.
(جنازتان)
على النعش المهيب ترقد الوردة، مدقوقة العنق سائلة الروح، لا أحد في زحام البكاء يترحَّم على حياتها القصيرة، أو يمتدح  ثرثرتها السخيَّة بالعبير، ورقـــَّتها الفادحة، أو حتى يفترض أنــَّها ربما تكون قد أنــَّت بشكلٍ طفيف لحظة طيـَّرت ساقها السكِّين؛ كي تــُحمل جثــَّتها: زينةً للجنائز..!
.
 (التكسُّرات)
منعكسة على صفحة الماء رأى الإنسان صورته للمرَّة الأولى، ظلَّ يتساءل – بعدها –  عن احتمال وجود مرآة تنعكس عليها صورة روحه، ظلَّ يتساءل طويلاً، يخطر له السؤال كلَّما رأى صورة جسده، كلَّما حسَّن هيئته في ضوء الانعكاس، كلَّما بدا أجمل بسبب هذا الانعكاس. قلقًا بشأن هندامه الداخلي عاش الإنسان طويلاً، يبحث عن مرآته، شاركته القلق رفقة، تتساءل – معًا – عن هندامها الداخلي. وحين انخرط أفراد الرفقة في ملاحظة سلوك بعضهم البعض لم يعد التساؤل بشأن مرآة الروح مطروحًا بكثافة، جاءت أوقات لم يُطرح فيها السؤال قطُّ، لم تحدِّد الكتب تاريخ عثور الإنسان على مرآته الروحيَّة، كانت تلك المرايا خفيَّة، وكان الكشف عن انعكاساتها يجري بسريَّة تامَّة، يعرف الإنسان أنَّ تلك المرايا موجودة في مكانٍ ما من أجساد الأصدقاء، وحين يدوس الأرض، ويسمع صوت التكسُّرات التي يصدرها الرمل يحدِّث نفسه: أنَّ هذه ربما تكون مرايا السابقين قد تهشَّمت بعد الموت، وأنَّ هذه الشظايا الهائلة التي تملأ الأرض ما تزال تحتفظ بتلك الانعكاسات التي غدت الأرواح – بفضلها – أ كثر أناقة!                       
.
(ضاع في الترجمة)
في ملتقى النضال السنوي، صفَّق الحاضرون كثيرًا للسيِّدة التي ارتدت قميصًا بصورة (جيفارا).
كانت المرأة مأخوذة، ارتفعت بها سحابة الزهو، وصدَّقت الأشياء الكثيرة التي قيلت فيها، وتصوَّرت: كيف أنـَّها كانت ستـُحرم من هذا كلِّه، لو أنَّ البائع المتحمِّس في محلِّ الخردوات استوعب أنَّ: "تشي.. تشي" لم تكن شيئـًا سوى عطستها الغريبة..!
.
(ميلاد)
قبل أن يكتشف الإنسان وجود (الأمنيات) كانت الأشياء الجميلة تحدث وحسب.
لا بدَّ أنَّ أحدًا قد خطر له حينذاك: أنَّ الأشياء الجميلة تلك ستبدو أجمل لو فكَّرنا فيها بشكلٍ مسبق بحيث تغدو منتظرةً على نحوٍ محبَّب!
في تلك اللحظة البعيدة – على الأغلب – ولدت (الأمنية الأولى)، وبعد ذلـك بقليل – وللأسف – ولدت (الخيبة الأولى)!
.
(أنشوطة)
حين التحمت حلقة الطريق الدائري السريع، اختنقت المدينة..!
.
(تعاسة)
حين قلت له: "إنَّ عمر الإنسان يتحدَّد – وفق بعض الثقافات – بـحساب لحظات السعادة فقط" تحسَّس بطنه فجأة، ثمَّ قال:"عليَّ الآن أن أقطع حبل سُـرَّتي؛ فأنا – بهذا الحساب – أكون قد ولدت للتوِّ!".
.
(قشر موز)
لم يصلْ بعد، ولن… على ما يبدو، مرَّ وقتٌ طويلٌ قبل أن يدرك أنَّ قشر الموز كان يُلقى عمدًا في طريقه إليهم..!
.
 (إسعاف)
كلَّما خنقته الحياة أنقـذ نفسه بتنفُّسٍ كتابيٍّ!
.
(صراع)
كانت المسرحيَّة تحتاج إلى ظـلٍّ يلازم البطل..، بعد بحثٍ وقياس لكلِّ الظلال التي تقدَّمت إلى الاختبار، أمكن إيجاد الظلِّ الملائم، بقي هذا الظلُّ مطيعًا في العروض الأولى، كان دقيقًا في متابعة جسده، وكان يُبهر الحضور بسرعة بديهته، وخفَّة حركته، ومرونته التي كانت – دومًا – محطَّ الإعجاب.
لم يعد الظلُّ مطيعًا كما كان؛ بدا له –  بعد عدَّة عروضٍ ناجحة – أن يلعب دورًا خاصًّا، ومستقلاًّ طالما يشيد الجميع ببراعته.
أصبح البطل ينشغل عن دوره بملاحقة ظلِّه المتمرِّد، وأصبح المشاهدون شديدي الانبهار بالأحداث الغريبة المشوِّقة، فيما أشاد النقــَّاد ببلوغ المسرحيَّة حدًّا لا نظير له في التجريب..!
.
(مرثيَّة)
كانوا يسحبون القصيدة إلى رأسه فتنكشف قدماه، يجرُّونها إلى قدميه فيتجلَّى رأسه، كبَّروا: هنا رجلٌ لا تكفيه القصائد..!
.
(عري)
خلعتْ حبَّة القمح نخالتـَها..
كانت الحبَّة بيضاء..
وجميلة..
وقليلة الفائدة..!
.
(وجهان)
كلَّما بان طوله الفارع في رأس الحارة امتقع المارُّون، أسقطوا نظراتهم إلى القاع، ارتدوا صفرة الخوف، لامسُوا الجدران حتى يمرَّ، ويطير آخر خيط دخانٍ لكبريائه..
وكلَّما تمدَّد طوله الفارع على السرير أسقط نظرته إلى القاع، ومصَّ إصبعه كي ينام..!
(عادة)
لم يكن يفيق من انهماكه في فرك أسفل حذائه إلاَّ على صوت زوجته الغاضب، ظلَّت تذكِّره طويلاً بأنــَّه لم يعد نافـذًا؛ فلن يسعه – بعد اليوم – أن يستمتع بالدَّوس على كرامات الآخرين، وقضاء أمسياته في تخليص حذائه منها..!