الجسد بين فوكو ودولوز: من الإنضباط إلى المراقبة ـ ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 "إن دراسات الممارسات التي تقع على هذا الجسد، والذي يوقعها   
كذلك على أجساد آخرين، إنما هو موضوع الفلسفة في هذا العصر"
مطاع صفدي
تقديم
    أكد ميشيل فوكو على أن تاريخ المجتمعات الإنسانية يتأسس على ظاهرة الهيمنة، أي على علاقات القوة  وإرادة الإخضاع. هذا ما مكن الهيمنة عبر كل لحظة من لحظات التاريخ من تثبيت نفسها في شعيرة من الشعائر، وفرض صنوفا من الإلزامات والحقوق وتؤسس قواعد إجرائية دقيقة. لقد أسست علامات ونقشت على الأشياء، بله الاجساد، ذكريات، جعلت نفسها رقيب حساب على الديون، أضحت كونا من القواعد مسعرا لا للتخفيف والتلطيف، بل لإرواء شهوة العنف(1). إنها حقيقة لم تتأكد إلا مع تحديرات فريديريك نيتشه حول مجيء عصر العدمية وإمكانية انتصار قوى النفي والحياة الإرتكاسية وقيمها الخاصة. أخذت هذه التحديرات تتحقق مع أفول قوى الفعل والإبداع التي برزت مع عصر النهضة، وحاولت الإستمرار طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر. لكن تحالف قوى الإرتكاس مع إرادة العدم والرغبة في الهيمنة والتوسع، سيفتح الطريقة أمام ابتكار مؤسسات سلطوية جديدة وتكنولوجيا تأديب ومراقبة موضوعها الجسد والسكان.
1-ميشيل فوكو: الجسد في مجتمع الإنضباط
أ-الجسد بين حقيقة الأنوار واستراتيجية السلطة الحديثة
    شكل القرن 18 منعطفا في تاريخ الفكر، خاصة مع مفكري عصر الأنوار. وكان سؤال إمانويل كانط حول التنوير علامة فارقة في تاريخ  أوربا ودخولها "عصر الحداثة"؛ عصر العقلانية والإصلاح الإنسانوي والعقد الإجتماعي وإشهار مطالب الحرية والمساواة والعدالة. هكذا، فإن المعيار الذي تستند إليه العدالة لم يعد سلطة الملك أو حقيقة الإعتراف، إنما بالأحرى "إنسانية" جميع الأطراف الموقعة على العقد الإجتماعي(2). لكن هذه الإنسانية/إنسانية الأنوار(3)، لا يمكن عزلها عن الإبتكار الجديد لمجموعة من المؤسسات والتقنيات، والممارسات والخطابات، والمعارف والعلوم التي موضوعها الجسد وإمكانية إخضاعه وتأديبه، والسكان(الشعوب) وإمكانية تدجينهم وتنميطهم.

اتخذت هذه الإبتكارات مسارا مستقلا إلى حد ما، لا يبالي بالمطالب الأخلاقية للنزعة الإنسانية ولشريعة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن، بل هدفها إنتاج جسد طيع ومفيد. فالعلوم الإجتماعية ( علم النفس، الديمغرافيا، الإحصاء، علم الإجرام، الصحة الإجتماعية... إلخ) تكونت بادىء الأمر داخل مؤسسات سلطوية معينة (المستشفيات، السجون ، الإدارات) حيث لعبت دورا تخصصيا. كانت هذه المؤسسات بحاجة إلى ممارسات وخطابات أكثر إتقانا وعملانية. إن هذه الخطابات وهذه العلوم المزيفة وهذه النظم التي تدعي أنها علوم اجتماعية قد أعدت قواعد بداهتها الخاصة وأنظمتها الإدماجية والإقصائية الخاصة وحواجزها الفاصلة الخاصة، لكنها فعلت كل ذلك ضمن نطاق التكنولوجيا التأديبية الأوسع(4). وقد تدعم كل هذا البنيان السلطوي والتأديبي بنظام قانوني وحقل قضائي شكلا الارضية  الدائمة لعلاقات الهيمنة وتقنيات الإخضاع المتعددة الأشكال. فلا يجب النظر إلى القانون في اعتقادي -يقول فوكو- من جانب تثبيت الشرعية ولكن من جانب إجراءات الإخضاع التي يقيمها(5).
فوراء إقامة إطار قانوني واضح، مقنن، مساواتي شكليا، وعبر إنشاء نظام من النمط البرلماني التمثيلي. ولكن نمو وتعميم الأجهزة الإنضباطية شكّلا الرافد الآخر المظلم، لهذه العمليات فكان الشكل الحقوقي العام الذي ضمن نظام حقوق متساوية من حيث المبدإ، مدعوما بهذه الأواليات الصغيرة اليومية والفيزيائية، وبكل هذه الأنظمة-السلطوية الميكروسكوبية اللامساواتية في جوهرها واللاتناظرية التي شكلتها الإنضباطات. وإذا كان النظام التمثيلي قد أتاح، بشكل قطعي – مباشرة أو مداورة، ببدائل أو بدون بدائل، أن تشكل إرادة الجميع المركز الأساسي للسيادة، فإن الإنضباطات قدمت، في الأساس، ضمانه لخضوع القوى والاجسام. لقد شكلت الإنضباطات الحقيقية والجسدية الأساس التحتي للحريات الشكلية والحقوقية(6).
سيتعزز هذا البنيان السلطوي وسيحقق اكتماله مع الدور الذي لعبه جهاز الشرطة والبوليس الذي انتقل من التعبير المباشر عن السلطة المطلقة الملكية، ليشمل ليس فقط مجمل الدولة ولا مجمل المملكة كجسم مرئي وغير مرئي يجسد الملك، بل تناولت سلطته ذرات الأحداث والأعمال، والسلوكات والآراء - أي "كل ما يجري"(...). مع البوليس نكون في هذا اللامحدد من الرقابة الذي يسعى تطوريا إلى الوصول إلى الحبة الصغرى، وإلى الظاهرة العابرة جدا في الجسم الإجتماعي(...)، إنها اللامتناهي في الصغر في السلطة السياسية(7). وقد مارس جهاز الشرطة والبوليس وظيفة انضباطية ذات خصوصية متميزة خلال القرن الثامن عشر، دفعت فوكو إلى تحديدها ك"انضباط ما بين الإنضباطات وانضباط ما فوق الإنضباط".
رافق هذه التحولات الفكرية والإجتماعية والسياسية تجديدا في الخطاب التاريخي مناهضا للتاريخ الرسمي المرتبط بطقوس السلطة وسلطة السيادة، إنه تاريخ جينيالوجي يعطي قيمة جديدة للأحداث الفعلية والشخصيات الواقعية وصيرورة المجتمعات(8). سمح هذا التاريخ الجينيالوجي بتكون "حس تاريخي" وتملك "تاريخ فعلي"، تحكمه أولا وأخيرا علاقة قوى تنقلب، أو سلطة تنتزع، أو لغة تتبنى وتستعمل ضد أصحابها، أو هيمنة تضعف وتفتر وتتآكل لتفسح المجال لهيمنة أخرى تظهر بشكل مقنع(9). يمنحنا عصر الأنوار عادة، الرغبة في تذوق طعم الحرية والحق، والإيمان بالعقل والعلم، والوجود في العالم والإستمتاع بالحياة، لكن ذلك يبقى متواريا خلف أنظمة السلطة وعمل قوى التحكم والهيمنة. في خضم هذه التطورات، أخذت مجتمعات الغرب الاوربي تشهد نمو علاقات سلطوية جديدة، انتقلت بموجبها من وضعية هيمنة لاخرى(10). إذ تم تجاوز النموذج القانوني للسيادة الذي تميز بتخلي "الرعايا" عن حقوقهم والخضوع للسلطة المطلقة، والإنتقال إلى علاقات الإخضاع والتاديب والإكراه التي تصنع رعايا من نوع جديد، حملوا إسم "مواطنين" تحت تأثير فكر الانوار. وهذا يدل ظاهريا على اهتمام السلطة بالإنسان؛ بطريقة حياته ومستواها، بصحته وأمنه. وفي كل هذه الإجراءات، كانت السلطة مهتمة بمراقبة وترويض الأفراد والجماعات بواسطة آليات انضباطية مركزة على الجسد وآليات تنظيمية مهتمة بالسكان، هدفها تحقيق هيمنة شاملة ومطلقة على الناس والأشياء، أطلق عليها ميشيل فوكو مفهوم "السلطة الحيوية". فالهيمنة هي بنية سلطوية كلية يمكن أحيانا اكتشاف تفرعاتها ونتائجها حتى في أرق أنسجة المجتمع. لكنها في الوقت نفسه وضع استراتيجي مكتسب ومرسخ تقريبا في مجابهة ذات مدى تاريخي طويل بين خصوم معينين(11).
ب-مآلات الجسد في مجتمع الإنضباط
    من الواجب الإنتباه إلى عملية الوصل والفصل التي ميزت مجتمع الإنضباط بخصوص التعامل مع الجسد؛ فمن جهة الوصل، نعثر على كثير من الأساليب الإنضباطية منذ زمن بعيد – في الأديرة، في الجيوش وفي المشاغل أيضا. أما من جهة الفصل، فقد أصبحت الإنضباطات خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر صيغا عامة للسيطرة. فهي تختلف عن العبودية، وعن الخدمة المنزلية، وعن التبعية السيادية، وعن التنسك وعن "الإنضباطات" من النمط الرهباني(12)، لتتحول إلى "فن للجسد البشري" مع دخوله ضمن آلية للسلطة، التي تهدف إلى صنع أجساد خاضعة وطيعة. فإذا كان البشر قد عرفوا منذ عهود سحيقة معنى الإستغلال الإقتصادي الذي يفصل بين قوة العمل ومنتوج العمل، فإن الإكراه الإنضباطي يقيم في الجسم علاقة ضابطة بين كفاءات متزايدة وبين سطوة متزايدة(13).
يجب التذكير أولا، بأصول نشاة مجتمع الإنضباط، وخاصة بالدور الذي لعبته المرحلة الثالثة من العقلانية السياسية(14)، والمعروفة ب"داعي المصلحة العليا" في التمهيد لبروز مجتمع الإنضباط والتاديب(15). والتي تميزت بدخول الجسد معترك رهانات الدولة الحديثة كموضوع استثمار. ذلك أن ما هو بيولوجي وحسي وجسدي أصبح الأكثر أهمية بالنسبة للسلطة السياسة-الحيوية لدى المجتمع الرأسمالي(16). فالرأسمالية لم تتأمن حسب ميشيل فوكو، لولا تبلور هذه العقلانية السياسية من جهة، ولولا الإدخال المراقب للأجساد في جهاز الإنتاج، وبواسطة تكييف الظاهرات السكانية مع السيرورات الإقتصادية من جهة ثانية. يميز ميشيل فوكو بين مستويين لعمل العقلانية السياسية الحديثة:
-مستوى الجسد:
 ركزت العقلانية السياسية على ترويضه، وزيادة قدراته، وانتزاع قواه، والنمو المتوازي لفائدته وطواعيته، ودمجه في أنظمة مراقبة فعالة واقتصادية، كل ذلك أمنته إجراءات سلطوية تميز الأنظمة أو قواعد الإنضباط" إنها سياسة تشريحية (Anatomo-politique (  للجسم البشري. هكذا تشكلت سلطة أولى على الأجساد التي وضعت على شكل تفريد(17).
-مستوى السكان:
 ركزت هذه العقلانية السياسية على الجسد – الجنس البشري، حول الجسد المخترق بآلية الكائن الحي والقائم مقام الركيزة للسياقات البيولوجية: التكاثر، الولادات والوفيات، المستوى الصحي، معدل أجل الحياة، والتعمير، مع كل الشروط التي يمكن أن تغير هذه الظاهرات، ويتم الإهتمام بها بواسطة مجموعة كبيرة من التدخلات والمراقبات الضابطة: إنها سياسة حيوية (Bio-politique) للسكان. وهنا تشكلت سلطة ثانية ولكن على شكل جماعي، وموجه ليس إلى الإنسان-الجسد، ولكن إلى الإنسان النوع(18).
يخلص فوكو إلى نتيجة مفادها أن أنظمة الجسد وضوابط السكان تشكلان المحورين اللذين انتشر حولهما تنظيم السلطة للحياة. فما حصل في العصر الكلاسيكي من تأسيس لهذه التكنولوجيا العظيمة ذات الوجهين-التشريحية والبيولوجية، المفردة والمخصصة، المتجهة نحو إنجازات الجسد، والمتطلعة إلى سيرورة الحياة – يميز سلطة لم تعد وظيفتها الكبرى أبدا هي القتل، بل استثمار الحياة(19).
الأكيد أن هذا التحول إلى الإهتمام بالحياة في ظل تطور نظام إقتصادي ناشئ مع إيديولوجية ليبرالية، لم يكن استجابة حقيقية لمطالب مفكري الانوار وتجسيدا للائحة حقوق الإنسان والمواطن، بل تلبية لمتطلبات الرأسمالية وصعودها إلى مرحلتها الإحتكارية. كان الإبتكار الجديد للبورجوازية ونظامها السياسي وجهازها الإداري والتربوي هو إلحاق قوى العمل بمسلسل الإنتاج، مع الحفاظ على نظرية السيادة كمبدإ منظم للقوانين التشريعية الكبرى(20). وبالتالي تم تكوين مجتمع تكون فيه القيادة مبنية عبر شبكة موسعة من الأدوات والأجهزة التي تنتج وتنظم العادات والأعراف والممارسات الإنتاجية. عملية تشغيل هذا المجتمع مع ضمان الإمتثال لحكمه، ولجملة آليات احتضانه / أو إقصائه، تتم من خلال المؤسسات الضابطة (كالسجن والمصنع والمصح [العقلي] والمستشفى والجامعة والمدرسة وإلخ...) التي تؤلف الأرضية الإجتماعية، وتطرح منطقا متناسبا مع "عقلية" الضبط والربط(21).
في ظل هذه التحولات السياسية والإقتصادية، أصبح الجسد غاطسا ضمن حقل سياسي؛ فعلاقات السلطة تعمل فيه عملا مباشرا؛ فهي توظفه، وتطبعه، وتقوّمه، وتعذّبه، وتجبره على أعمال، وتضطره إلى احتفالات، وتطالبه بدلالات. هذا التوظيف (الإستثمار) السياسي للجسد مرتبط، وفقا لعلاقات معقدة ومتبادلة، باستخدامه اقتصاديا؛ وإلى حد بعيد كقوة إنتاج، يزوّد بعلاقات سلطوية وبسيطرة؛ ولكن بالمقابل إن تكوينه كقوة عمل لا يكون ممكنا إلا إذا أخذ ضمن نظلم استعبادي (تكون فيه الحاجة أيضا أداة سياسية حسنة التنظيم، محسوبة بعناية ومستخدمة بعناية)؛ ولا يصبح الجسد قوة نافعة إلا إذا كان بآن واحد جسدا منتجا وجسدا مسترقّا(22). لم يعد الجسد غارقا في العنف، كما كان في مجتمع السيادة، حيث انتظمت طقوسية إيقونية ونظرية سياسية للملكية، وأواليات قضائية، تميز وتربط بآن واحد بين شخص الملك وبين متطلبات العرش، وجملة من الطقوس تجد في التتويج والمراسم الدفينة، وحفلات الخضوع، أهم أوقات قوتها وازدهارها(23). بل تشكلت معرفة وحكم أطلق عليه فوكو "التكنولوجيا السياسية للجسد". ارتكزت هذه التكنولوجيا على ضبط حركات الجسد وقواه في الزمان والمكان، بحيث خضع لتشريح سياسي أعدته مؤسسات انضباطية مختلفة. كما نشرت هذه التكنولوجيا سيادتها وآلياتها المميزة والفريدة، على الجسم الإجتماعي بأكمله، وشكلت مجتمعا جديدا و"حداثيا": "مجتمع الإنضباط". لكن "حداثة" هذا المولود الجديد اقترنت بالرقابة على الجسد. وهنا تظهر خصوصية الإنضباط الذي يزيد في قوى الجسد (بالمعنى الإقتصادي للمنفعة) ويقلص هذه القوى (بالمعنى السياسي للطاعة). وبكلمة: إنه يفصل فيما بين قوى الجسد فهو يجعل منها "كفاءة"، أو "استعدادا" من جهة يحاول زيادتها؛ وهومن جهة أخرى يقلب الطاقة أو القوة التي يمكن أن تنتج عنه، ويجعل منها تبعية صارمة"(24).
 
2-جيل دولوز: الجسد في مجتمع المراقبة وإمكانية المقاومة
أ- تقنيات المراقبة في مجتمع الإنضباط ودور "العلوم الإنسانية"
    لا يمكن القبض على لحظة ولادة مجتمع المراقبة، لكن وجب التأكيد على أنه محايث لمجتمعات الإنضباط. فتكاثر المنشآت الإنضباطية رافقه ميول أوالياتها إلى "الخروج من المؤسساتية" أي الخروج من القلاع المغلقة حيث كانت تعمل، والتحول "بحرية"؛ فتفككت الإنضباطات (المؤسسات الإنضباطية) الضخمة والكثيفة المتراصة إلى وسائل مرنة للرقابة يسهل نقلها وتبنيّها. وفي بعض الأحيان، كانت الأجهزة المغلقة هي التي أضفت إلى وظيفتها الداخلية والتخصصية دور رقابة خارجية، منمية حولها هامشا كاملا من الرقابات الهامشية(25). إن تطور مسلسل المراقبة وتقنياتها وأساليبها، يسمح ليس فقط بضبط وتأديب الأجساد، بل بنمو طرق للفحص تجعل المراقبة عنصرا ملازما للإنتاج والسيطرة. وكان أول نموذج طبّق هذه السيطرة بواسطة المراقبة هو المعسكر(المخيم العسكري). فهو مكان ييسّر تنظيما ومراقبة كاملين. المهام التي يؤديها المقيمون فيه محدودة، لكن النموذج شغّال. وسوف يمتد فيما بعد إلى بناء المشاريع المدينية الكبرى، والمدن العمالية، والسجون والمدارس، إلخ(26). استهدفت تقنيات العمارة وأشكال التخطيط والتصميم، زيادة "المرئية" وإتاحة "فحص" متواصل ودقيق للمكان والأجساد (تصرفات، نشاط، سلوك، كلام، حركات الأجسام...). بفضل تمييز أدق لتصرفات الحياة اليومية، يصبح كل شيء ممكن المعاقبة بالقوة. ويصبح اللامتثالي، حتى العابر منه، موضع اهتمام تأديبي(27). لا يمكن إذن الحديث عن الدولة الحديثة والعقلانية السياسية دون الأخذ بعين الإعتبار نشوء وتطور تقنيات التأديب والمراقبة التي ميزت هذه الدولة عن باقي أشكال التنظيم السياسي للمجتمع. مع ضرورة التأكيد على الإهتمام الخاص الذي أولته هذه الدولة وسلطتها إلى الفرد، حين خصّته بعلوم "إنسانية" أخضعته لمسلسل من التجارب وتطبيق المناهج بهدف معرفة حقيقته؛ أسراره البيولوجية والنفسية، وبالتالي تسهيل التحكم فيه والسيطرة عليه. كانت هذه العلوم تتويجا للدور الذي لعبته الرياضيات في اليونان وتقنيات القياس، وعلوم الطبيعة، وممارسات التحقيق في نهاية العصر الوسيط وتطورها في إطار السلطة الملكية والكنيسة.
ب-مولد مجتمع المراقبة وتطور تقنيات التحكم في الجسد
    هكذا تطورت أشكال من الإخضاع والتأديب للأفراد والجماعات، وتم فرض رقابة منتظمة ومستمرة على الجسد والسكان وعلى المجتمع  بأكمله، استجابة لتطور الدولة الحديثة ونظامها الإقتصادي والسياسي، وسعيها إلى تحقيق "نظام رأسمالي خالص وحقيقي" وكوني، وبالتالي بناء "سلطة عالمية سيادية جديدة فوق قومية"، بتعبير مايكل هاردت وطوني نيغري. في ظل هذه التحولات التي شهدها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، أخذ نوع جديد من المجتمعات يُولد، موازيا لمجتمعات الإنضباط، أطلق عليها ويليام بروغ Burroughs "مجتمعات رقابة". تتحدد هذه المجتمعات بكيفية مخالفة تماما لمجتمعات الإنضباط، إذ أن الأساليب السلطوية مثلا تعمل لا بواسطة الحق بل بواسطة التقنية، لا بواسطة القانون بل بواسطة الضبط، ولا بواسطة العقاب بل بواسطة الرقابة، والتي تمارس على مستويات وحسب أشكال تتجاوز الدولة وأجهزتها(28). أخذت إذن تغييرات تلحق بمؤسسات مجتمعات الإنضباط، لكن في ظل نفس الشرط الإقتصادي والسياسي والإيديولوجي؛ أي النظام الرأسمالي-الليبرالي، لهذا وجب التأكيد على:
- حصول عملية الإنتقال من مجتمع الإنضباط إلى مجتمع المراقبة في ظل سيادة نظام رأسمالي حامل لمجموعة من التناقضات والمعرّض لأزمات دورية، لكنه قادر على التجاوز والتجدّد !. قد يعزى ذلك إلى الزواج الناجح بين "الإنتشال الإقليمي النسبي الشاسع للرأسمالية العالمية" و "الإرتجاع الإقليمي في إطار الدولة الوطنية التي تجد اكتمالها في الديمقراطية"؛ أي في ما يسميه جيل دولوز ب"الصياغة الرأسمالية لمجتمع الأصدقاء". لكن شرط الإرتجاع الذي أكد عليه دولوز لن يجد طريقه إلى التحقّق لحد الآن، وبالتالي ترتسم في الأفق ضرورة انطلاق صيرورة ثورية، حيث الثورة هي الإنتشال الإقليمي المطلق عندما تغدو دعوة إلى أرض جديدة أو شعب جديد(29).
- أزمة مؤسسات مجتمع الإنضباط؛ فنحن في أزمة معممة -يقول دولوز- فيما يتصل بكل بيئات التطويق، السجن، المستشفى، المصنع، المدرسة، والعائلة؛ العائلة داخلة في أزمة ككل الداخليات الأخرى (المدرسة، الوظيفة، وإلخ)، لا تتوقف الإدارات المسؤولة عن إعلان إصلاحات ضرورية مزعومة، لإصلاح المدارس، إصلاح الصناعات، المستشفيات، القوات المسلحة، والسجون، لكن الجميع يعرف أن هذه المؤسسات منتهية، مهما كان مدى صلاحيتها، إنها مسألة إدارة إجراءات نهايتها(30).
يرى جيل دولوز أن أزمة مؤسسات الإنضباط تؤشر على بداية بروز نظام هيمنة جديد، مبني على الرقابة الشاملة، مرتكزة في ذلك على ما يسميه نيغري وهاردت ب"آليات التحكم الديمقراطي"، والتي هي دائما محايثة للحقل الإجتماعي ومنتشرة في عقل وجسد المواطن. فسلوكات الإدماج أو الإقصاء الخاصة بالسلطة مستبطنة داخليا لدى الأفراد أنفسهم. فالسلطة أصبحت تمارس دورها انطلاقا من آليات مباشرة تنظم العقول (أجهزة الإتصال وشبكات التواصل، والأجساد، الإمتيازات الإجتماعية ، والمساعدات الإجتماعية...) من أجل استلابهم بالكامل انطلاقا من معنى الحياة، ورغبة الإبداع(31). وهنا وجب الإنتباه إلى عمل رأس المال ودوره في مجتمع المراقبة، مع تلك "الزمنية الجديدة اللانهائية" المبنية على أنماط استهلاكه وأنماط عمله. عبر المتاجر التي لاتقفل أبوابها والتواصل الذي لا يتوقف؛ أي توسيع العمل وبروز نوع جديد من السجن(32). لكنه سجن يختلف عن ذلك الوسط المغلق الإسمنتي والحديدي الذي ميز مجتمع الإنضباط والتأديب. إنه وسط مفتوح، يرزح المجتمع فيه تحت سلطة ترجع إلى المراكز الحيوية للبنيات الإجتماعية وصيرورات تطورها، يتصرف باعتباره جسدا اجتماعيا واحدا، وحينئد تتصرف السلطة باعتبارها مراقبة تكتسح أعماق الوعي وأجساد السكان، وتتوسع عبر إدماج كلي للعلاقات الإجتماعية(33)، وتصير السياسة والتحكم في الأجساد، "سياسة حيوية". هكذا يتميز مجتمع المراقبة بتكثيف وتعميم الأجهزة المطبقة للنظام التأديبي التي تحرك ما في داخل ممارساتنا وعاداتنا اليومية. لكن على عكس النظام التأديبي؛ فالمراقبة تتوسع خارج البنيات المهيكلة للمؤسسات الإجتماعية عن طريق الشبكات المرنة والمتغيرة(34). ومن أهم هذه الشبكات؛ وسائل الإتصال التي أصبحت تلعب دورا مركزيا في الإخبار ونشر المعلومة. لكن المعلومة -حسب دولوز- هي منظومة رقابة لكلمات-أمر تتداول في مجتمع بعينه(35).
3- ماهية "الإنسان الحالي" وإمكانية المقاومة
أ-فوكو: الإنسان كمجموعة قوى تقاوم
    استهدفت الدولة الحديثة وسلطتها إخضاع الأجساد ومراقبة السكان وتسيير الحياة ضمن حيز مكاني ضيق. تطورت ممارساتها مع مرور الزمن وتزايدت تقنيات الضبط والتأديب لتشمل فضاءات واسعة. تطلب ذلك أولا خلق مجموعة من القيم ارتكزت عليها علاقة القوى؛ كالتوزيع في المكان والترتيب في الزمن والتركيب في الزمن-المكان، والبحث ثانيا عن قوة تمارس قبل أن تتملك وتتجسد، تبسط نفسها على الكل، غالبين ومغلوبين (ما دامت تخترق سائر القوى المتواجدة)(36). هكذا حققت المؤسسات الإنضباطية "الإنكشاف الداخلي" بوظيفته أو دلالته الخالصة المتمثلة في فرض سلوك بعينه أو تصرف ما على عدد ما أيّا كان من الأفراد، شريطة أن يكون ذلك العدد غير مرتفع، وأن يكون المكان محصورا، غير مترامي الأطراف. ليس ثمة اعتبار، لا للأشكال التي تتقمصها الدالة فتمنحها أهداف ووسائل (التربية، العلاج، العقاب، الإنتاج) ولا للمواد التي تحصل على هيئتها وتتخذ شكلا، والتي تنصب عليها الدالة ("السجناء، المرضى، تلاميذ المدارس، الحمقى، العمال، الجنود"...)(37). ساهم هذا "الإنكشاف الداخلي" في بسط الدولة الحديثة ومؤسساتها وأجهزتها لسلطتها على الجسد، وإخضاعه لأوامرها ولمنطق حكمها ولعقلانيتها السياسية، وذلك عن طريق ابتكار تقنيات متمركزة أساسا على جسد الفرد. إنها تلك العمليات التي بواسطتها تضمن التوزيع المكاني لأجساد الأفراد (فصلهم، صفهم، جعلهم في سلاسل ومراقبتهم) وتنظيم لحقل الرؤية بشكل كامل(38). في نفس الوقت، شرعت هذه الدولة في ابتكار ممارسات تستهدف تسيير الحياة على أوسع نطاق؛ وهذا يعني "مراقبة" أكبر عدد ممكن من السكان اعتمادا على "التشريح السياسي" و"السياسة الحيوية" و"علوم الإنسان" لخلق تفاعل وتأثير متبادل بين علاقات السلطة وعلاقات المعرفة، بهدف الزيادة في قوة الدولة وبسطها لمراقبة-محايثة للحقل الإجتماعي، تشمل في الآن ذاته، إخضاع الجسد ومراقبة السكان وتدبير شؤون الحياة(39).
توصل ميشيل فوكو في تحليلاته الأركيولوجية والجينيالوجية إلى الكشف عن الطبقات التحتية والخفية التي بنت عليها الدولة الحديثة حداثتها ونزعتها الإنسانية؛ أي مجموع أنظمة الإنسان وضوابطه، لكنه في نفس الوقت، حدد العمل المحايث والضرورى والمستعجل للإنفلات من شرك السلطة وعلاقاتها ومقاومة "موت الإنسان"؛ يقول دولوز بصدد فوكو:"في الإنسان ذاته، يلزم البحث عن مجموع القوى والوظائف التي تقاوم موت الإنسان"(40). لقد فرضت عملية البحث من فوكو، العودة بالمشكل إلى أصوله اليونانية، مع تلك الطرافة التي ستظهر لاحقا، حينما كرسوا نوعا من "الإنفكاك" أو "فك الإرتباط" المزدزج: تم بحسبه فصل الإرتباط في آن واحد بين "الممارسات التي تخول للمرء أن يحسن قيادة نفسه وتوجيه سولوكها" وبين السلطة كعلاقة قوى، والمعرفة كشكل مبني، وكقانون للفضيلة(41). لعل الأمر المهم والمثير الذي استبد بتفكير فوكو هو: "الذات"(42)، وعلاقتها بنفسها وبالآخرين وبالخارج، مع السؤال الكبير والإشكالي:
- هل بإمكاننا إنتاج ذاتية جديدة تكون بؤرة مقاومة؟
- وأية سلطة تلزم مواجهتها؟ وما هي قدراتنا على المواجهة؟
لاحظ جيل دولوز أن فوكو كنيتشه، لا يمكن سوى اقتراح رسوم أولية، بالمعنى الجنيني فقط، لا الوظيفي. كان نيتشه يقول: اعتقل الإنسان الحياة، والإنسان الأعلى هو المؤهل لإنقادها والإفراج عنها في الإنسان ذاته، لصالح شكل آخر وفي اتجاهه(¬-43). أما فوكو، فدعا إلى الإنهمام بالذات والعمل عليها وتكوينها، بهدف تحويل وجودها وتمكينها من الإلتحاق بالحياة الحقيقية. لكن، من الواجب الأخذ بعين الإعتبار مسار تطور تلك التكنولوجيا المنظمة للحياة والتكنولوجيا الإنضباطية للأجساد، فهما تكنولوجيتان للسلطة، تم وضعهما بفارق زمني إلا أنهما مركبتان الواحدة فوق الأخرى(44)، أضف إلى قدرتهما على الإستمرار في الزمان والإنتشار في المكان، والإستفادة من الإبتكارات الحديثة والجديدة لتقنيات التحكم والهيمنة، والتعايش مع مختلف المجتمعات وأنظمتها السلطوية.
يبدو رهان فوكو على الذات وما يسميه بقيادة السلوك، وإمكانية تطوير "سياسة حكم" في صالح الفرد والمجتمع، يبدو رهانا فاشلا، في ظل استمرار نظام رأسمالي ليبرالي وتراجع النقد الموجه له وعدم إبداع بديل عنه. فرغم دخول الجوانب البيولوجية، وحياة النوع البشري ضمن الحسابات السياسية في العقلانية السياسية الجديدة، التي أخذت على عاتقها "صحة السكان وحيويتهم بل وسعادتهم"، فأنظمة الحكم الليبرالية "تتضمن ليس فقط تدخلا مباشرا من خلال أجهزة الدولة المتخصصة المتمتعة بالسلطة، ولكن تطور التقنيات غير المباشرة النوعية التي تسمح بقيادة ومراقبة الأفراد"(45). إن تقنيات القيادة والمراقبة محكومة بمنطق رأسمالي وإيديولوجية ليبرالية وعلاقات سلطوية متصلبة لا تسمح بقيام "علاقة سياسية من الذات إلى الذات"؛ أي حكم الذات وحكم الآخرين، والتي راهن عليها فوكو (الأخير) وهو يقارب "محور الذات". كما أنها لا تفتح أمام الذات إمكانية تشكيل مقاومة مضادة مؤثرة على سيرورة النظام السياسي والإقتصادي وعلى الجسد الإجتماعي، خاصة مع ابتكار أنظمة مراقبة وتوجيه جد متطورة وذات فعالية متزايدة.
ب- جيل دولوز: المقاومة والقدرة على الحياة
    أدرك جيل دولوز بحسه الفلسفي والنقدي تلك السلبية العيانية المتأصلة في الإنسانية، والتي عاش بموجبها الإنسان في ظل أنظمة هيمنة متعاقبة (مجتمع السيادة، مجتمع الإنضباط، مجتمع المراقبة...) تتم فيها ممارسة فاعلية السادة؛ غير أن هذه الفاعلية لا اثر لها دون شهية أولئك الذين يأملون، باسم تلقي الضربات، القيام بمبادلتها. إنهم يناضلون من أجل عبوديتهم وكأنهم يعملون من أجل حريتهم، كما قال سبينوزا(46). لكننا لن نتمكن من فهم هذه السلبية بدون معرفة تلك الخطوط الصلبة التي تدخل في تكويننا، مثل العائلة – الوظيفة؛ العمل – العطلة؛ العائلة – ثم المدرسة ثم الجندية – ثم المصنع –ثم التقاعد. ويقال لنا كل مرة، عند المرور من تقطيع لآخر: إنك لم تعد الآن رضيعا؛ ويقال لنا في المدرسة: لم يعد حالك هنا كما كان عليه في وسط العائلة؛ وفي الجندية، لم يعد الأمر كما كان عليه في المدرسة... يتعلق الأمر، باختصار، بكل أنواع التقطيعات المحكمة التحديد والسائرة في كل أنواع الإتجاهات، تقطيعات تجزئنا إلى أطراف متعددة، إنها رفاف من خطوط تقطيعية – إننا نتوفر في الوقت ذاته على خطوط تقطيعية كثيرة الليونة، وهي جزيئية بشكل من الأشكال، ولا يرجع ذلك لكونها أكثر حميمية أو شخصية، إذ أنها تخترق المجتمعات والمجموعات بقدرما تخترق الأفراد(47). تحدث أشياء كثيرة فوق هذه الخطوط اللينة، مثل الصيرورات، والصيرورات الصغيرة، لكن دولوز يراهن على نوع ثالث من الخط، خط أكثر غرابة: فكما لو أن شيئا ما يجرفنا، عبر تقطيعاتنا، ولكن كذلك عبر عتباتنا، نحو اتجاه غير متوقع وغير موجود بشكل مسبق. إن هذا الخط بسيط ومجرد، ومع ذلك فإنه الخط الأكثر تعقيدا والأكثر التواء: إنه خط الجاذبية أو خط السرعة، إنه خط هروب ذو أكبر انحدار(48). لا يمكن عزل هذه الخطوط عن ذلك الشكل من السلطة الذي حمل إسم "الدولة" وتجهيزاتها(49). إن جهاز الدولة هو بالأحرى تنسيق ملموس ينجز آلة مضاعفة التسنين لمجتمع ما. ليست هذه الآلة بدورها إذن هي الدولة ذاتها، وإنما الآلة المجردة التي تنظم الملفوظات المهيمنة، والنظام القائم لمجتمع ما، وتنظم الألسنة والمعارف المهيمنة، والأفعال، والإحساسات السائدة، والقطع الخطية المتفوقة على القطع الأخرى(50).
يرى جيل دولوز أن العمل الذي تقوم به الدولة وتجهيزاتها، مع الآلة المجردة التي تنجزها، هو إيقاف الحركات وحصر العواطف، وتنظيم الصور والذوات، مع العمل الذي تمارسه على أجسامنا. لكنه بالمقابل، يؤكد على أن كل شيء، في المجتمع، يهرب، وإن المجتمع يتحدد بخطوط هروبه التي تؤثر على الجموع بمختلف أنواعه(...). يتحدد المجتمع، ولكن أيضا التنسيق الجماعي، أولا، بمغادراته الموطنية الطلائعية، وسيولات مغادرته الموطنية(51). هنا يرسم دولوز لوحة، تعكس إمكانية للخلاص:"ينبغي العمل على الهروب، ولكن البحث أثناءه عن سلاح ما"(52)؛ يتمثل هذا السلاح في في طريقتنا في الإدراك والفعل والإحساس، وبأنظمة علاماتنا، وفي مدى قدرتنا على الصبر وارتياد الاقاصي وعبور الحدود واختراقها، والقيام بعمل ما؛ ليس فقط ضد الدولة والسلطة فحسب، وإنما ينجز مباشرة على الذات(53).
هنا، يلتقي دولوز مع فوكو في التأكيد على الأهمية الإستراتيجية للذات في مقاومة عمل السلطة وما تقوم به لإخضاع ومراقبة الفرد والجماعة. لقد دعا ميشيل فوكو إلى ضرورة "الإهتمام بالذات" والعمل عليها وتحويلها إلى "أثر فني"، في حين أكد دولوز على ارتياد "خط الهروب" أو "الكسر". إن خطوط الهروب خطوط واقعية تنجز داخل واقعها، لكنها خطوط تتوفر على أخطارها، لذلك يقدم دولوز تحديره الطريف:"ينبغي أولا رسم خط الهروب، ومعرفة مكان وكيفية رسمه"(54). إن هذه الإحتياطات اللازمة هي التي تميز الكائنات الحرة والمريدة، والتواقة إلى التحول والتغيير. فالأمر يتعلق دائما -مع دولوز وأصدقائه كهيراقليطس ونيتشه- بالصيرورة/صيرورة آخر، سواء تعلق الأمر بالحياة أو المقاومة أو العمل الإبداعي أو الكتابة(55).
خاتمة
    بإمكاننا أخيرا التذكير بلحظات احتفال فلاسفة الأنوار وأتباعهم بميلاد الحداثة ودولة القانون وحقوق الإنسان والمواطن، لكن ذلك لن يمنعنا من التأكيد هنا والآن، على التغييب المقصود للدور الذي لعبته فئة اجتماعية نشيطة شملت الجنود ورجال المعسكرات والمناورة، في بناء الدولة الحديثة ونظامها السلطوي. ففيما كان القانونيون أو الفلاسفة يفتشون في العقد الإجتماعي عن نموذج أولي من أجل بناء أو إعادة بناء الجسم الإجتماعي، كان العسكريون ومعهم التقنيون المتخصصون في الإنضباط يٌعدّون الإجراءات من أجل الإكراه الفردي والجماعي للأجسام(56). لذلك من العبث أن نقول أن الإنسانية تتقدم من معركة إلى أخرى تقدما بطيئا ينتهي باعتراف شامل ومتبادل تحل فيه القواعد المرعبة محل الحرب. ما تفعله الإنسانية أنها تنصب كل ضرب من العنف ضمن منظومة من القواعد وتدمجه، إنها بذلك تمضي من هيمنة إلى هيمنة(57)، مع تكرار السيادة بشكل مختلف، وممارسة التأديب والإخضاع، والتشميل الذي لم يعد حكرا على الانظمة التوتاليتارية، ولكن أيضا على الانظمة المسماة ب"الديمقراطية".
من اللازم الكف عن الإحتفال بمنجزات الحداثة، و"النضج" الذي أتاحه التنوير عندما نقترب من الجسد/الجسم والفكر، ونشاهد فوقه ونقرأ بين ثناياه، أثار التعذيب والقصاص(مجتمع السيادة)، والتأديب والإخضاع(مجتمع الإنضباط)، والمراقبة والتنميط(مجتمع المراقبة). لكن ما يهم من المشاهدة والقراءة، هو التساؤل عن صيرورة الجسد: أجساد "الرعايا" في مجتمعات السيادة، وأجساد "المواطنين" في مجتمعات الإنضباط والمراقبة، مع استمرار نفس العلاقات السلطوية ابتداء من سلطة الكاهن الأبوية إلى "السلطة المدنية" التي تسير بطرق أخرى لتفرض نفسها ككاهن أو راع مجتمعات السيطرة(58)؟.
الهوامش:
1- ميشيل فوكو: نيتشه، الجنيالوجيا والتاريخ، ضمن كتاب: جنيالوجيا المعرفة، ترجمة : أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الثانية، 2008، ص74
2-أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية، ص134.
3-يبرز دريفوس ورابينوف تناقضات عصر الأنوار بقولهما:"في القرن الثامن عشر، ولد الخطاب المساواتي للنزعة الإنسانية حركات سياسية ذات شأن لا سابق له. إنما في الوقت نفسه، وبهدوء أكبر، كان تشديد النظام في المشاغل، وأعمال السخرة التأديبية للمتشردين وتعزيز رقابة الشرطة على كل مواطن تؤمن نمو مجموعة علاقات لم تكن، ولم يكن بالإمكان أن تكون، علاقات حرية وإخاء ومساواة. فبينما كان هناك تقدم أكيد في شأن التمثيل السياسي والمساواة، كانت الأنظمة تحرص على ألا يكون أعضاء المجتمع متساوين من حيث الإقتدار"، أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية، ص124.
أما ميشيل فوكو، فيقول:"إن المراعاة السياسية لهذه الأشياء الصغيرة، من أجل السيطرة على الناس واستخدامهم، برزتا عبر العصر الكلاسيكي، حاملتين معهما مجملا كاملا من التقنيات، ومجموعا ضخما من الوسائل والمعارف، والأوصاف، والوصفات والمعطيات، ومن هذه التافهات، بدون شك، تولد إنسان النزعة الإنسانوية الحديثة"، ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن، ص161.
4- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية، ص144. في هذا السياق، يقول فوكو:"هناك اكتشاف كامل، خلال العصر الكلاسيكي، للجسد كموضوع وهدف للسلطة. وبسهولة تم اكتشاف إشارات تنم عن هذا الإهتمام الكبير الموجه يومئد إلى الجسد-إلى الجسد الذي يلعّب، ويكيّف، ويدرّب، ويطوّع، والذي يستجيب، ويصبح ماهرا، وتتكاثر قواه. فالكتاب الكبير الإنسان-الآلة كتب بآن معا في سجلين: سجل تشريحي-ميتافيزيقي، كتب ديكارت صفحاته الأولى، وأكمله الأطباء الفلاسفة؛ وسجل تكنيكي-سياسي، تألّف من مجمل كامل من الانظمة العسكرية والمدرسية، والإستشفائية، ومن أساليب عملية ورزينة من أجل التحكم أو تصحيح عمليات الجسد"، ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص158.
5- ميشيل فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة وتقديم وتعليق د الزواوي بغورة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص52.
يقول فوكو:"إذا صح أن الشأن القانوني قد أفاد لتمثيل سلطة مركزة أساسيا حول الأخذ والموت، ولو كان هذا التمثيل غير كامل طبعا، فإنه يتنافر تماما مع الاساليب السلطوية الجديدة، التي تعمل لا بواسطة الحق بل بواسطة التقنية، لا بواسطة القانون بل بواسطة الضبط، ولا بواسطة العقاب بل بواسطة الرقابة، والتي تمارس على مستويات وحسب أشكال تتجاوز الدولة وأجهزتها"، إرادة المعرفة ،ص99.
6- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص226.
7- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص220.
يشير جيل دولوز إلى أن "كل أنواع الحرف ستصبح تؤدي وظائف بوليسية محددة أكثر فأكثر: أساتذة، محللون نفسانيون، مربون بجميع أشكالهم، إلخ"، المثقفون والسلطة، حوار بين ميشال فوكو وجيل دولوز، ترجمة زواوي بغورة،
http://www.almadasupplements.net/news.php?action=view&id=6684#sthash.d67TVbqo.dpbs
8- هذه الجينيالوجيا التي تعيد إنشاء منظومات الإنصياع والتطويع لا باللجوء إلى القوة التنبؤية للمعنى بل إلى فعل المجازفة في ضروب الهيمنة والإستيلاء،  ميشيل فوكو: جينيالوجيا المعرفة، نيتشه، الجينيالوجيا والتاريخ، ص72.
9- ميشيل فوكو: جينيالوجيا المعرفة، نيتشه، الجينيالوجيا والتاريخ، ص77 و78.
10- من العبث أن نقول أن الإنسانية تتقدم من معركة إلى أخرى تقدما بطيئا ينتهي بتعارف شامل متبادل تحل فيه القواعد المرعبة محل الحرب. ما تفعله الإنسانية أنها تنصب كل ضرب من العنف منظومة من القواعد وتدمجه فيه، إنها بذلك تمضي من هيمنة إلى هيمنة، ميشيل فوكو: جينيالوجيا المعرفة، نيتشه، مقالة الجينيالوجيا والتاريخ، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الثانية، 2008، ص74و75.
11- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، لبنان، ص201.
12-يشير فوكو إلى اختلاف الإنضباطات عن العبودية لأنها لا تقوم على علاقة تملك للأجساد؛ إذ من أناقة الإنضباط أنه استغنى عن هذه العلاقة المكلفة والعنيفة حين حصل على مفاعيل نفعية على الأقل بمثل منافع الإستعباد. وهي [أي الإنضباطات] تختلف أيضا عن الخدمة المنزلية باعتبارها علاقة هيمنة دائمة، شاملة، مكثفة، غير تحليلية، وغير محدودة وقائمة بشكل إرادة فردية هي إرادة السيد، ووفقا ل"هواه". وهي تختلف عن التبعية السيادية، التي هي علاقة خضوع مقنن، إلى أقصى الحدود، إنما من بعيد والتي تتناول العمليات الجسدية أقل مما تتناول منتوجات العمل والسمات الطقوسية، للولاء. وهي تختلف أيضا عن التنسك وعن "الإنضباطات" من النمط الرهباني التي من وظائفها تأمين التخلي بدلا من التزيّد من المنافع، والتي، إذا كانت تقتضي الطاعة للغير، فهي تهدف بصورة رئيسية إلى مزيد من تحكم كل فرد بجسده هو. ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة، ص159.
13- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص159.
14- يميز ميشيل فوكو بين ثلاث نماذج لتطور الفكر السياسي الغربي والعقلانية السياسية:
- النموذج الأول مرتبط بالعقل العملي الذي يسعى إلى تغيير المزاج وكذلك الحياة السياسية والجماعية انطلاقا من فهم ميتافيزيقي لنظام الكون(أرسطو، توما الأكويني).
- النموذج الثاني تشكل في عصر النهضة، ويقترن به عموما اسم ماكيافيلي.
- النموذج الثالث تمثل في داعي المصلحة العليا للدولة.
15- يقول ميشيل فوكو:"أعد منظرو ومخططو داعي المصلحة العليا برامج مخصصة للتطبيق العملي. لقد أنشأوا عددا من التقنيات الدقيقة المخصصة ل"تنظيم" الأفراد وضبطهم، مع الإستمرار في استخدامهم التيار التقليدي للفكر السياسي من أجل إخفاء مخططاتهم. يعنى مخططو داعي المصلحة العليا بالدولة كغائية بذاتها – دولة متحررة من نظام أخلاقي أوسع وكذلك من المصير الفردي لكل أمير(...). فالعقلانية السياسية لم تعد ترمي، بالنسبة إليهم، إلى السعي وراء  سعادة الأمير أو دعمه؛ إنما هي تسعى، بإخضاع أجساد الرعايا لنظام أكثر صرامة، إلى توسيع مجال السلطة من أجلها بالذات. إن المبدآ الاول لهذه العقلانية السياسية الجديدة هو أن الدولة – لا قوانين البشر أو الطبيعة – تشكل غائية بذاتها. فوجود الدولة وسلطتها يصبحان من اختصاص المعرفة التكنولوجية والإدارية الجديدة، في مقابل الخطاب القانوني الذي أخضع السلطة لغايات أخرى: العدالة، والخير أو القانون الطبيعي"، أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، لبنان، ص125.
16- مايكل هاردت وأنطونيو نيغري: الإمبراطورية، ص59. يتوقف فوكو عند خصوصية اللحظة التاريخية التي تحمل طابع الإنضباطات، بقوله:"هي التي نشأ فيها فن للجسد البشري، لا يهدف فقط إلى تنمية مهاراته، ولا إلى زيادة تبعيته، بل إلى تكوين علاقة من شأنها، ضمن ذات الأوالية، ان تجعله أكثر إطاعة بمقدار ما هو مفيد وبالعكس. وعندها تتشكل سياسة إلزامات هي شغل على الجسد، واستخدام محسوب لعناصره، ولإيماءاته، ولسلوكاته. لقد دخل الجسد البشري ضمن آلية للسلطة تنقب فيه، وتفكك مفاصيله متعيد تركيبه، وهكذا فإن "تشريحا سياسيا" هو أيضا "ميكانيك سلطة" صار قيد الولادة؛ فهو يحدد كيفية التوصل إلى تسلط على جسد الآخرين(...) إن الإنضباط يصنع هكذا أجسادا خاضعة ومتمرسة، أجسادا "طيعة"، ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن، ص159.
17- ميشيل فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع، ص235.
18- ميشيل فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع، ص236.
19- ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية: إرادة المعرفة، الجزء الأول، ص141 و142.
20- إن نظرية السيادة لم تستمر فقط بوصفها أيديولوجية القانون، بل استمرت وواصلت تنظيم القوانين التشريعية لأوربا القرن التاسع عشر انطلاقا من القوانين النابوليونية(القانون المدني 1804، قانون الإجراءات الجزائية 1808، قانون العقويات 1810م). فالنظام النابليوني ليس ببعيد ومعه هذا الشكل من الدولة الذي خلفه، والذي لا يجب أن ينسى أنه كان قد أعد من قبل حقوقيين، ولكن أيضا من قبل جنود، ومستشاري دولة ومن قبل ضباط صغار، ورجال قانون ورجال معسكرات(...).وفيما كان القانونيون أو الفلاسفة يفتشون في العقد عن نموذج أولي من أجل بناء أو إعادة بناء الجسم الإجتماعي، كان العسكريون ومعهم التقنيون المتخصصون في الإنضباط يعدون الإجراءات من أجل الإكراه الفردي والجماعي للأجسام. ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990، ص181.
21- مايكل هاردت وأنطونيو نيغري: الإمبراطورية، ص51.
حدد ميشيل فوكو مجتمعات الإنضباط في القرنية الثامن عشر والتاسع عشر، وتصل تلك المجتمعات لذروتها في مستهل القرن العشرين، مطلقة تنظيم من فضاءات التطويق (enclosure) الواسعة، حيث لا يتوقف المرء أبدا عن المرور من بيئة مغلقة لأخرى، ولكل بيئة قوانينها الخاصة: في البدء العائلة، ثم المدرسة -أنت لم تعد في عائلتك-، ومنها إلى الثكنات –أنت لم تعد في المدرسة-، وبعد ذلك المصنع، ومن آن لآخر المستشفى، ومن المحتمل السجن، النموذج البارز للمحيط المغلق هو السجن، جيل دولوز: هوامش على مجتمعات السيطرة، ترجمة يحيى محمد،  http://www.noonpost.org/فكر/هوامش-على-مجتمعات-السيطرة.
22- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص64.
23- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص66.
24- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص159.
25- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص218.
26- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص141.
27- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص142.
28- جيل دولوز: هوامش على مجتمعات السيطرة، ترجمة يحيى محمد،  http://www.noonpost.org/فكر/هوامش-على-مجتمعات-السيطرة.
يقول نيغري وهاردت:"يتميز مجتمع المراقبة بتكثيف وتعميم الأجهزة المطبقة للنظلم التأديبي التي تحرك ما في داخل ممارساتنا وعاداتنا اليومية. لكن على عكس النظام التأديبي؛ فالمراقبة تتوسع خارج البنيات المهيكلة للمؤسسات الإجتماعية عن طريق الشبكات المرنة والمتغيرة"، أنطونيو نيغري ومايكل هاردت: البيوسلطة في مجتمع المراقبة.
29- جيل دولوز وفيليكس غتاري: ما هي الفلسفة؟ ص113.
30- جيل دولوز: هوامش على مجتمعات السيطرة.
31- أنطونيو نيغري ومايكل هاردت: البيوسلطة في مجتمع المراقبة.
32- حوار مع ميكل هاردت: "الإمبراطورية والسيادة  والصراعات الجديدة"،  ترجمة حبيب الحاج سالم، معهد العالم للدراسات، http://alaalam.org/ar/interviews-ar/item/504-646290317.
33- مايكل هاردت وطوني نيغري: البيوسلطة في مجتمع المراقبة.
34- مايكل هاردت وطوني نيغري: البيوسلطة في مجتمع المراقبة، ترجمة نور الدين عيوش، إضافات، العددان 31و32، صيف-خريف، 2015، ص223.
يقول دولوز:"إن ما يميز وضعيتنا يكمن فيما بعد وما قبل الدولة في آن واحد. إن ما بعد الدولة الوطنية، وتطور السوق العالمي وقوة الشركات المتعددة الجنسيات، وتهييء نظام عالمي، وامتداد الرأسمالية إلى كل الجسم المجتمع، يشكل كل هذا بالتأكيد، آلة مجردة كبرى لمضاعفة سنن السيولات النقدية والصناعية والتكنولوجية. تصبح في الوقت نفسه وسائل الإستغلال والمراقبة والحراسة أكثر مهارة وانتشارا، أي جزيئية بمعنى من المعاني"، جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، 185.
35- جيل دولوز: ما هو العمل الإبداعي؟
36- جيل دولوز: المعرفة والسلطة، ص78.
37- جيل دولوز: المعرفة والسلطة، ص79.
38- ميشيل فوكو: "يجب الدفاع عن المجتمع" دروس ألقيت في "الكوليج دي فرانس" لسنة 1979، ترجمة وتقديم وتعليق زواوي بغورة، دار الطليعة-بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص235.
39- يمثل انبثاق "الحياة كموضوع جديد للسلطة"، لحظة متميزة في تاريخ الدولة الحديثة وعقلانية السياسية، فقد أقلع القانون شيئا فشيئا عما كان يؤسس امتياز من له السيادة، وحق التحكم في الرقاب (عقوبة الموت)، لكنه أفسح المجال في الوقت ذاته لعدد من المذابح والمجازر: لا بالعودة ثانية إلى القانون العتيق الذي يبيح القتل، بل باسم العرق والمجال الحيوي هذه المرة، باسم شروط حياة للسكان تريد أن تكون أفضل، والمحافظة على بقائهم بصورة تريد أن تكون مثلى، فيعامل العدو لا على أنه خصم قانون للعاهل القديم، بل على أنه عامل تسميم وعدوى، يمثل "خطرا بيولوجيا". جيل دولوز: المعرفة والسلطة، ص99.
40- جيل دولوز: المعرفة والسلطة، ص100.
41- جيل دولوز: المعرفة والسلطة، 108.
42- لاحظ جيل دولوز نوعا من التشكك عند ميشيل فوكو وهو يفكر في السلطة، فالتحليلات التي أجراها تبين المأزق الذي تضعنا فيه، في حياتنا كما في تفكيرنا، نحن الذين نصطدم بها في أتفه حقائقنا. يؤكد دولوز على أنه لن يكون مخرج إلا إذا أمسكت بالخارج حركة ما فاقتلعته من الفراغ، مكان حركة تحوله من الموت. ولعل هذا محور جديد متميز، في آن معا، عن محور المعرفة ومحور السلطة. جيل دولوز: المعرفة والسلطة، ص103.
43- جيل دولوز: المعرفة والسلطة،145و146.
44- يقول فوكو:"هناك تقنية انضباطية مركزة على الجسد، وتنتج آثارا فردية، تحرك الجسد بوصفه مجالا للقوة، يجب تحويله إلى جسد مفيد وطيّع. ومن جهة أخرى، لدينا تقنية مركزة ليس على الجسد ولكن على الحياة، تكنولوجيا خاصة بالسكان، وتبحث وتراقب في سلسلة من الأحداث العرضية التي يمكن أن تظهر في مجموعة حية. لا تهدف هذه التكنولوجيا إلى التطبيع أو الترويض الفردي، وإنما تبحث عن التوازن العام، وعن شيء قريب من التركيب الذاتي: كأمن الجماعة مقارنة بالمخاطر الداخلية. إذن هناك تكنولوجيات خاصة بالأفراد وأجسادهم وكيفية ترويضها وتطويعها، وتكنولوجيات خاصة بالعمليات البيولوجية للسكان"، ميشيل فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع، ص140و141.
45- حسين يوسف بوكبر: مفهوم المجتمع المدني عند ميشيل فوكو بين تقنيات الحكم وإمكان المقاومة،
https://modernitysite.wordpress.com/2017/05/25/فهم-ميشيل-فوكو-للمجتمع-المدني-مفهوم-ال/
46- جيل دولوز: بيركليس وفردي، فلسفة فرانسوا شاتليه، ترجمة حسين عجة، https://www.alawan.org/2008/03/11/بيركلس-وفردي-فلسفة-فرانسوا-شاتليه-جي/.
47- جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص159.
48- جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص160.
49- إنها تلك التجهيزات التي حللها فوكو بشكل جيد، واستطاع أن يقطع مع التجريدات الجوفاء للدولة و"لل" قانون، يقول دولوز. انظر جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص164.
50- جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص165.
51- جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص173.
52- جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص173.
53- جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص175.
54- جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص177. يعطي أمثلة لخطورة هذا الخطوط، بقوله:"...تتحول في حد ذاتها بسبب الخطر الذي تفرزه. كليست وانتحاره المثنى، هولدرلين وجنونه، فيتزجيرالد وتحطمه، فرجينيا وولف واختفاؤها"، جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص178.
55- يقول دولوز بخصوص الكتابة:"أن نكتب مفاده أن أن نصير،ولكن لا يعني ذلك أن نصير كاتبا، وإنما أن نصير شيئا آخر(...). تكون الصيرورات المتضمنة داخل الكتابة شيئا آخر تماما حينما لا تعتنق الأوامر السائدة، فترسم هي ذاتها خطوطا هروبية"، جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص59.
56- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص181.
57- ميشيل فوكو: نيتشه، الجنيالوجيا والتاريخ، ص74و75.
58- جيل دولوز: هوامش على مجتمعات السيطرة.