ميشال فوكو ومفهوم الإبيستمي ـ تقديم وترجمة: أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

كتب جوينيي باتريك (Juignet Patrick) هذا البحث ورأى النور على صفحات موقع "philosciences.com" يوم ثاني أبريل 2015. فمن هو جونيي باتريك، يا ترى؟
ولد في باريس عام 1952، درس الطب في نيس واهتم بعلم النفس والفلسفة في نفس الوقت. بعد عام من العمل في طب المستعجلات، تخصص في الطب النفسي وتابع تكوينا في التحليل النفسي. أطروحته لنيل الدكتوراه في الطب ورسالته في الطب النفسي التي تلتها، كلتاهما تناولت التحليل النفسي وعلم النفس المرضي، فضلا عن مختلف الكتب والمقالات التي نشرت بعد ذلك. كطبيب نفسي متحرر، بدأ ممارسة العلاج النفسي للأطفال والبالغين منذ عام 1986.
بموازاة ذلك، قام بتدريس علم النفس المرضي في مدارس الممرضين والمساعدين الاجتماعيين، كما قدم محاضرات لطلبة دبلوم الدراسلت العليا في الطب النفسي وطلبة الدراسات المعمقة في علم النفس الكلينيكي..وبعد أن توقف نشاطه كممارس في عام 2015، يكرس الآن نفسه وجهده لتاريخ الأفكار والفلسفة.
تتخلل عمل ميشال فوكو قطائع عديدة. وسوف نركز هنا على الفترة التي يمكن تحديدها تقريبا بين عامي 1965 و 1975، وهي الفترة التي طور واستخدم فيها مفهوم الإبيستيمي. وكان لهذا المفهوم حضور استغرق مدة قصيرة؛ ظهر في "الكلمات والأشياء" في عام 1966، تم التخلي عنه بعد عشر سنوات، لأن ميشيل فوكو اعتبر أن استخدامه أدى إلى طريق مسدود.

1.    تعريف أولي لمفهوم الإبيستيمي
كلمة إبيستيمي تأتي من الجذر اليوناني επιστήμη، وهو ما يعني العلم أو المعرفة. وبشكل عرضي، خلال مناقشة مع نعوم تشومسكي في عام 1971، كشف ميشيل فوكو عن نيته بهذه الطريقة: أسعى إلى "فهم تحولات المعرفة في كل من المجال العام للعلوم وأيضا ضمن المجال العمودي إلى حد ما الذي يشكله مجتمع وثقافة وحضارة في لحظة معينة ". يشير إبيستيمي عصر ما إلى طريقة في التفكير، في تمثل العالم، من شأنها أن تمتد على نطاق واسع إلى جميع الثقافات.
أصل هذه الفكرة عن الإبيستيمي يأتي من الجمع بين مساهمتين معاصرتين في الابستيمولوجيا الفرنسية: فكرة القطيعة الابسيمولوجية التي تقدم بها غاستون باشلار (المستعادة والمؤكدة من قبل لويس ألتوسر) ومنهج جورج كانغيليم الذي كان يصبو إلى إيجاد التماسكات الإبسيمولوجية في فترة معينة، لأنه لم يكن يؤمن بالتطور المستمر للعقل والعلوم .
في "الكلمات والأشياء" (1966) و"أركيولوجيا المعرفة" (1968)، وصف ميشيل فوكو ثلاثة إبيستيميات متعاقبة: إبستيمي عصر النهضة، إبستيمي العصر الكلاسيكي، وأخيرا إبستيمي العصر الحديث. يجمع البحث الذي أجراه فوكو بين الفلسفة العامة والتاريخ والإبستيمولوجيا. ضمن مسعى بنيوي، حاول النظر بعين الاعتبار للمنظومة المفاهيمية التي أنتجت معارف عصر معين. ولكن مع "أركيولوجيا المعرفة" (1968)، تغير الموضوع بالفعل وركز فوكو على "الخطاب"، على حساب الفكر والممارسة.
في "الكلمات والأشياء"، كتب ميشال فوكو: "لن يتعلق الأمربمعارف وصفت ضمن تقدمها نحو الموضوعية التي يستطيع علمنا اليوم أن يتعرف فيها أخيرا على ذاته؛ ما نود أن يشمله النور، هو الحقل الابستيمولوجي، الإبيستيمي [...] الذي يصف الشروط الممكنة للمعرفة: بدلا من التاريخ بالمعنى التقليدي للكلمة، بل الأمر يتعلق بالأركيولوجيا ".
أظهر هذا المسح الأركيولوجي انقطاعين رئيسيين في الثقافة الغربية: الأول الذي افتتح العصر الكلاسيكي (نحو منتصف القرن السابع عشر)، والثاني حدث في بداية القرن التاسع عشر، على أعتاب الحداثة (الكلمات والأشياء ، ص 13). في مقابلة معه جرت عام 1972، أوضح ميشال فوكو: "ما أسميته في "الكلمات والأشياء"، بالإبيستيمي ليس له علاقة بالمقولات التاريخية. أعني به كل العلاقات التي كانت موجودة في وقت واحد بين مختلف مجالات العلوم [...]. كل هذه الظواهر (الخاصة) بالعلاقة بين العلوم أو بين الخطابات المختلفة في مختلف القطاعات العلمية التي تشكل ما أسميه إبيستيمي عصر ما" (مقابلة 1972).
في وقت لاحق، سوف يعطي تعريفا جديدا للإبيستيمي "باعتباره الجهاز الاستراتيجي الذي يجعل من الممكن فرز، من بين جميع البيانات الممكنة، تلك التي سوف تكون قادرة على أن تكون مقبولة ليس داخل نظرية علمية، ولكن داخل حقل العلمية، الذي بموجبه يمكننا أن نقول: هذا صحيح أو خاطئ. هو الجهاز الذي يجعل من الممكن فصل، ليس الصحيح عن الخاطئ، ولكن ما ليس علميا عن ما هو علمي "(مقابلة عام 1977). الأمر يتعلق بتوضيح وفهم كيف تمارس القاعدة المعرفية، الضمنية من جهة أخرى، تأثيرها على الفكر العلمي في وقت معين.
2- لمفهوم الابستيمي جانبان
تسليط الضوء على أي إبيستيمي هو بحث عن شبكة "من خلال تقنية شاقة وبطيئة" تتطلب تبحرا عميقا ودقيقا. لقد ظل فوكو غامضا بشأن أسلوبه الذي نقترح إعادة تشكيله، مع كل التحفظات، لأنه سوف لن ينال موافقته إلى الأبد. وقد تم تشكيل هذه الفكرة من خلال الجمع بين وجهة نظر بنيوية ووجهة نظر أركيولوجية.
أ-    وجهة النظر البنيوية
يدافع فوكو عن فكرة أن ما يحدد إنتاج المعارف إنما هو نظام غامض، بنية تتحكم في مختلف المعارف. يتعلق الأمر بالشفرات الأساسية للثقافة التي نشارك فيها، تلك التي تتحكم في لغتها، في خطاطاتها الإدراكية، في تراتبية ممارساتها. هذه الشفرات تحدد المحتوى التجريبي الذي يمكن للمشاركين في هذه الثقافة الوصول إليه. وتشكل هذه البنية نظاما صوريا غامضا يستعصي على الأفراد إدراكه ويجسد "شبكة غير مدركة من الإكراهات". هذه القواعد والبنيات غير معروفة للعلماء في كل مجال من مجالات المعرفة، فهي لاشعورية، غير صريحة.
ب-    وجهة النظر الأركيولوجية
الطريقة التقليدية في تصور تاريخ الأفكار وضعت بحزم موضع تساؤل. لقد انتقلنا من مسلك زمني إلى رؤية من خلال عصور إبستيمية متقطعة. ففي لحظة معينة، يتشكل نظام مستقر، إبيستيمي، يتحول لاحقا إلى إبستيمي آخر. هذا هو السبب في أن فوكو فضل مصطلح الأركيولوجيا على مصطلح التاريخ. إنها ليست مسألة إعادة رسم مسار، وإنما هي نبش أشكال دفينة، أساسات. يقول ميشال فوكو، في مقابلة مع الفيلسوف فونس إلديرس في عام 1971، إنه استخدم في "الكلمات والأشياء" الطريقة الأركيولوجية المتمثلة في المقارنة بين مجالات مختلفة من المعرفة (بيولوجيا، اقتصاد، لسانيات من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر ) وفي إبراز كيف تخضع هذه المجالات لقوانين أو قواعد مشتركة تجعلها تتواصل فيما بينها.
تصف الأركيولوجيا الأحداث الثقافية وفقا لحالتها الظاهرة: تقول لنا كيف يتم تعديل التكوينات الداخلية لكل معرفة، تحلل تحولات المراجع التجريبية، تدرس وضعها (التكوينات) مقارنة بغيرها، تبرز المبادئ الأساسية المنظمة لفضاء المعرفة العام,
الأركيولوجيا هي: "الفكر نفسه وقد عاد مجددا الى جذور تاريخه" ( الكلمات والأشياء، ص. 230).
إجمالا، كل عصر ثقافي يمكن تحديده، وفقا لميشال فوكو، من خلال إبيستيمي؛ أي من خلال مجموعة من الإشكاليات والفرضيات وطرق البحث، التي تشكل ثابتا في هذا العصر. مثلا، البحث عن "التشابه" هو ما قاد الفكر الذي يمتد من عصر النهضة إلى العصر الكلاسيكي، في حين أن البحث عن "النظام" هو ما ينظم العصر الحديث. بالنسبة لميشال فوكو، ليس هناك "تقدم" في السيرورة الثقافية على مر التاريخ، حيث أن التغييرات تنتج عن المرور من إبيستيمي إلى آخر. هذه الاجنيازات لا تتم بفضل اكتمال المعارف، ولكنها تتوقف على أحداث ثقافية غير محددة إلى حد ما، انقطاعات غامضة ( الكلمات والأشياء، ص 299).
"تحليل كهذا [...] لا ينتمي إلى تاريخ الأفكار أو العلوم: بل هو دراسة تحاول أن تكتشف انطلاقا من ماذا كانت المعارف والنظريات ممكنة" (الكلمات و الأشياء، 13). ميشيل فوكو، بعيدا عن تاريخ الأفكار أو العلوم، يبحث عن شروط إمكانها والمصفوفة الثقافية اللامفكر فيها التي شكلتها. وفقا له، الإبيستيمي يحدد المعرفة ونمط وجود ما ينبغي معرفته. (الكلمات والأشياء، صفحة 68).
2.    اللحظات الإبستيمية الثلاث في الغرب
يصف فوكو ثلاثة إبيستيميات في الغرب: إبستيمي عصر النهضة، الإبيستيمي الكلاسيكي، وأخيرا الإبيستيمي الحديث. كما هو الحال في "تاريخ الجنون" الصادر قبلا، نجد قطيعتين إبسيمولوجيتين؛ هما الانتقال من عصر النهضة إلى الكلاسيكية ومن العصر الكلاسيكي إلى الحداثة.
بالنسبة لفوكو، فإن فكر عصر النهضة تهيمن عليه رؤية كوسمولوجية (كونية) للعالم ضمنها ينتظم كل شيء. في هذا الفكر يهيمن البحث عن المحاكاة، عن التشابه وعن التماثلات. في الكتاب الكبير للطبيعة تظهر المؤشرات التي تشير إلى نظاميته، لمن يعرف كيفي يقرأها.
في الإبيستيمي الكلاسيكي، ليس هناك غير الهوية والاختلاف من أجل الوصول الى تصور للعالم. منطق بور - رويال، ديكارت، هوبز، لابنيتز، كل ذلك ساهم في تشكيل بنية من الرموز والعلامات. إضفاء الطابع الرياضياتي على الطبيعة ومكننتها ساهما في ترتيب علامات (اللغة) التي من خلالها يمكن اقتراح تصور معين. "كانت موهبة اللغة الكلاسيكية دائما (تتلخص) في رسم صورة: سواء كان الخطاب طبيعيا، تحصيلا للحقيقة، وصفا للأشياء، عينات من المعارف الدقيقة، أو معجما موسوعيا" (الكلمات والأشياء، 332).
إنما مع كانط افتتح عصر الحداثة. في هذا الإبستيمي الأخير، أصبح العمل، الحياة واللغة مواضيع للدراسة. انتقلنا من التاريخ الطبيعي إلى البيولوجيا، من تحليل الثروات إلى الاقتصاد، من فقه اللغة إلى النحو و اللسانيات. موصوعات جديدة للمعرفة تم تحضيرها: الإنتاج حل محل التبادل (بالنسبة للاقتصاد)، الحياة محل الكائنات الحية (بالنسبة للبيولوجيا) واللغة محل الخطاب (بالنسبة لفقه اللغة). ظهر الإنسان، من خلال العلوم الإنسانية (التي هي جزء من الإبيستيمي الحديث)، كموضوع للمعرفة. كل هذه العلوم الجديدة تغيرت في طبيعتها وشكلها، وهناك قطيعة مع تلك التي سبقتها.
في الحداثة، يظهر الإنسان كموضوع للدراسة وهذا هو التحدي المعرفي الجديد والكبير. الإنسان كموضوع للمعرفة يقدم نفسه في شكل غامض من "أنثروبولوجيا"، مفهومة كتفكير عام، نصف موضوعي، نصف فلسفي، حول الإنسان (الكلمات والأشياء، ص. 15)، الشيء الذي لخصه في هذه الصيغة الصادمة: "في تحليل التناهي، الإنسان هو زوج غريب تجريبي - ترنساندانتالي" (الكلمات والأشياء، 329).
تماما كما جرى تصوره في الفلسفة، اقتيد الإنسان، خلال دراسته الموضوعية، إلى أن يتحول إلى موضوع، وأن يتوزع بين موضوع ترنساندانتالي وموضوع تجريبي.
بالنسبة لفوكو، تحتل العلوم الإنسانية المضمار الذي تخلت عنه الفلسفة. ميشيل فوكو يعين لها ثلاثة مجالات: المنطقة النفسية، والمنطقة الاجتماعية ومنطقة الأدب والأساطير.ولكن في وقت لاحق، اتهم فوكو العلوم الإنسانية بارادة التحكم التي من شأنها أن تكون قناعا للقوة. ثم سيطور فكرة تبعية المعرفة إلى السلطة، الأمر الذي سيؤدي به إلى التخلي عن مفهوم الإبيستيمي.
4- الإبيستيمي ليس حقبة ولا حضارة
مفهوم الإبيستيمي هو بالتأكيد قابل للنقد، ولكنه أقل إثارة للجدل من مفهوم "روح العصر" المستخدم كلاسيكيا. كلمة الروح، حتى ولو استعملت من قبيل المجاز، تحمل دائما شبهة مثالية، ما يجعلها قابلة للنقد. مصطلح "الحقبة" هو مصطلح تاريخي يميز فترة من الزمن من خلال ربط المظاهر الاجتماعية بقيام نظام سياسي معين. العصور التاريخية لا تتطابق بالضرورة مع تطور الفكر. روح العصر عبارة فضفاضة ذات طابع سوسيوثقافي. مصطلح حقبة مهم لتحديد لحظة في التاريخ، ولكن كلمة الروح هي من الغموض بحيث تبدو عديمة الفائدة في تاريخ الفكر.
الإبيستيمي ليس لحظة حضارية (على الرغم من أن فوكو يشير إلى ذلك)، وهو مفهوم له معنى أوسع من معنى حقبة تاريخية. بالنسبة إلى نوربير إلياس، "تتمثل سيرورة الحضارة في تعديل الحساسية البشرية والسلوك في اتجاه محدد" (دينامية الغرب، ص.181). وستأتي هذه السيرورة من حقيقة أن الاعتماد المتبادل بين الناس يولد نظاما محددا. وتقتصر المعرفة، من جانبها، على طريقة التفكير، بقدر ما تأخذ شكلا محددا في وقت معين. وهي مدرجة في السيرورةة الحضارية، لكنها تتجاوز ذلك. يمكننا مقارنة أقوال فوكو مع أقوال الفيلسوف وعالم الاجتماع نوربرت إلياس الذي بحسبه يجب أن يكون الفكر المجرد مؤرخنا، لأنه يشارك في المجتمع ككل. وهذا يعيدنا إلى الحذرالابيستيمولوجي المتمثل في استعادة السياق الحضاري الذي يتشكل فيه الفكر الفلسفي والعلمي في حقبة ما.
5- نقد نتائج ميشال فوكو
يمكننا تقديم ثلاثة انتقادات:
- ظل فوكو غامضا بشأن البنية التي ادعي أنه حددها، كما هو الحال بشأن أصلها (لا اجتماعية، لا بيولوجية، لا ترنساندانتالية ). إن الطريقة التي يبرز بها الإبيستيمي الجديد "غامضة"، كما يقول فوكو (الكلمات والأشياء، ص. 113). حديثه وصفي، دون تقعيد، هو بالتالي مجموعة ثقافية متجانسة وليس بنية مجردة.
- المجموعات الثلاث (عصر النهضة، العصر الكلاسيكي، العصر الحديث) التي وصفها فوكو تشكلت في مقابل تشوهات في الواقع. إن تعريف الإبيستيمي، كما هو محدد من قبل فوكو، يصعب توحيده تماما، إلا بلي عنق المعطيات، لأن بعض مظاهر الثقافة العالمة لا تندرج في الإطار الزمني والمفاهيمي المحدد هكذا.
- في "الكلمات والأشياء"، يصف فوكو الانتقال من إبيستيمي إلى آخر باسم "الانقطاع"، "الطفرة"، "الحدث الراديكالي"، "القطيعة". هذه المصطلحات تم فرضها من قبل الفكر البنيوي الذي يريد أن نقفز من بنية إلى أخرى، كل واحدة تشكل كلا متجانسا. إذا كانت الإبيستميات متمايزة، فهي ليست عازلة والمرور من أحدها إلى الآخر عن طريق قطيعة مفاجئة، كما قال المؤلف، من الصعب إثباته.
بعد تقديم هذه التحفظات، لا يتعين عليها أن تحجب عنا الفائدة من هذا الإجراء. يمكن توجيه النقد للطريقة التي وصفت بها الإبيستيميات المختلفة، لكن يجب تمييز المحتوى المشكوك فيه عن الفكرة العامة للإبيستيمي أو للقاعدة الابستيمية. إنها مسألة إضفاء الطابع الفردي على قاعدة مكونة (بكسرة مضعفة على الواو)، ليس فقط من وجهة النظر التاريخية والوصفية، ولكن من خلال البحث عن بنية الخلفية (متماسكة، لكن ليست صريحة) التي تطبع المعرفة. هذه الاجراء يعطي معقولية للطفرات الثقافية (أو، على الأقل، يدفع للبحث لها عن معقولية). إنه يسلط الضوء على الطابع الجماعي والمشترك للمعرفة.
بعد العمل الذي قام به ميشال فوكو، يبدو واضحا أنه في لحظة معينة من التاريخ وفي ثقافة معينة، تكون طرق التفكير متجانسة نسبيا، ثم تتغير ليعاد تشكيلها بطريقة أخرى في الحقبة المقبلة. فالطريقتان للنظر في تطور الأفكار، إما كتقدم غائي بحكم وضعهما النهائي، أو من منظور مثالي من خلال تأمل - تحقيق الأفكار الأبدية، تظهران بعد عمل ميشال فوكو، غير مناسبتين. ومن المؤكد أنه من عصر إلى آخر، لا نفكر بنفس الطريقة، لأن رؤية العالم تتغير بقوة. ويلاحظ جورج كانغيليم "أنه لا شيء ينقص من جدارتها، إذا كانت قراءة السيد فوكو تزرع في قلب تاريخ العلوم الخوف المعمم من المفارقة التاريخية" ("موت الإنسان أو نفاد الكوجيتو"، 1967).
هل يمكننا استخدام وتطوير مفهوم الإبيستيمي على الرغم من أنه تم التخلي عنه من قبل ميشال فوكو؟ ربما نعم وبطرق مختلفة. سوف نقدم بعض الاقتراحات الموجزة التي تحتاج إلى تطوير.
6- استخدام آخر للمفهوم الإبيستيمي ممكن
قد يبدو من المفيد تركيز مفهوم الإبيستيمي على المظاهر الفلسفية والعلمية، لأن الظاهرات الأدبية والفنية هي أكثر تعددا في الأشكال وتستجيب بشكل أقل لفكرة الإبيستيمي. المظاهر الاجتماعية، والعادات، والفنون، والأزياء، ليست بالضرورة متجانسة ومتوافقة ومن الصعب أن تظهر أنها تستجيب لبنية مشتركة كامنة. من خلال التقليص من توسع هذا المفهوم، يصبح من السهل استخدامه .ومع ذلك، والحالة هاته، فإن أي إبيستيمي ليس بالضرورة متجانسا ويحتوي على جوانب متناقضة مع المبادئ التي يهيمن عليها.
فكرة البنية مثيرة للاهتمام، بمعنى أنه يمكن أن ترتبط مع وجهة نظر شمولية في نظرية المعرفة، أي أن كل مفهوم هو جزء من الكل الذي ضمنه يأخذ معناه. على خلاف ذلك، فإن وجهة النظر البنيوية تقتضي، إذا تم تطبيقها بدوغمائية، الانقطاعات الجذرية بين الابيستيميات، وهو أمر مشكوك فيه. وباعتراف الجميع، يبدو أنه يمكن للمرء أن يحدد من وجهة نظر تجريبية فترات متميزة خلالها تنتشر مجموعة من الأفكار، حتى وإن لم يتقاسمها الجميع،، تفرض ذاتها، وتظهر نفسها بوضوح وبقوة في المجتمع وفي تطوره. ولكن هناك قيود وانتقادات تفرض ذاتها:
- هناك إشكاليات تعبر كل العصور. على سبيل المثال، السؤال "ما هو الإنسان؟ هو سؤال حاضر دائما في الفلسفة منذ أرسطو. ولا يمكن أن ندعي أن الإنسان هو "اختراع تبين أركيولوجيا فكرنا بسهولة تاريخه الحديث، وربما نهايته القريبة" (الكلمات والأشياء، ص.398). التساؤل عن الإنسان يجتاز كل العصور. وسيكون من الأفضل القول أنه وفقا للمعيار الحالي، سنجيب على سؤال الانسان عن طريق تعبئة الموارد المفاهيمية المختلفة والموضوعات البحثية. ما يظهر مع الحداثة هي موضوعات جديدة من المعرفة تتعلق بالإنسان.
- هناك تيارات فكرية غير متجانسة مع إبيستيمي عصرمن العصور. هذا الاعتراض صحيح بالبداهة، لكنه غير مبطل. هناك أيضا تجانس وأصالة إبيستيمية في فترة من الزمن ضمن الثقافة الغربية. معظم المؤلفين في فترة وثقافة محددتين يفكرون وفقا لمفاهيم تشكل نوعا من القاعدة الفكرية. تشكل هذه المجموعة تيارا مهيمنا (حتى لو كانت متنازعة، لأن بعص المؤلفين، وأحيانا مؤلف واحد، يشاركون في التيار المهيمن وفي الذي يعارضه).
يعني الإبيستيمي أن أي مؤلف عالم في فترة محددة يفكر، عن وعي أو بدونه، انطلاقا من مفاهيم ومن رؤية للعالم تحدد إشكاليات ضرورية. وصف إبيستيمي ما هو إلا إعادة اكتشاف وتلخيص تماسك هذه الطرق في التفكير التي تغذي الفضاء الفكري في لحظة معينة من التاريخ. إن الإبيستيمي بهذا التصور يربط مجموعة منظمة من المبادئ التي يمنحها شروط إمكانها بالمعرفة الفلسفية والعلمية في تلك اللحظة التاريخية.
من أجل استعمال صيغة عامة جدا من يورغن هابرماس، الذي يؤكد على الجانب الأنطولوجي، يمكن لنا أن نقول إن الإبيستيمي هو شكل من المعرفة يحدد "للعلوم، أفق المقولات الذي لا يمكن تجاوزه في كل مرة، يمكن لنا أيضا أن نقول: هو ما يحدد بشكل قبلي تاريخ فهم الوجود "(الخطاب الفلسفي للحداثة، ص. 305).
- خاتمة
يكمن أحد أدوار الفلسفة في التساؤل حول الكيفية التي تكون بها الفكر والمعرفة. وفي هذا السياق، يقدم فوكو اقتراحا مثيرا للاهتمام، وهو تقديم مجموعات إبيستيمية متجانسة وبناءة بالنسبة لمختلف المعارف، التي أسماها بالإبيستيمي. هذا المفهوم يدعو إلى التفكير في الفكر مع وضمن المجموع الذي ينتمي اليه.
مفهوم الإبيستيمي يفرض مبدأ الحذر الابيستيمولوجي الذي مؤداه ألا نسند بسذاجة معاني حديثة لكتابات الماضي. إذا كان هناك العديد من الإبيستميات المتميزة، فهذا يقتضي أن نفس المفهوم لا يعني نفس الشيء في العصور القديمة، في عصر النهضة وفي الوقت الحاضر. وهذا يعني أنه من غير المنصف تفسير خطابات الماضي وفقا لمفاهيم الحاضر، بل على العكس من ذلك، يجب علينا أن نتعلم التفكير مثل أولئك الذين سبقونا في إطار إبستيميهم. إن الموقف الفوكوي يقتضي ناريخانية المفاهيم، وأكثر من ذلك البحث عن بنية أو على الأقل عن تماسك بينها (المفاهيم).
لا تشذ الفلسفة عن هذه القاعدة، و يندرج تطورها بالتالي ضمن الإبيستيميات المتعاقبة. ومن شأن أخذ هذا بالحسبان أن يجعل من الممكن تفادي التقاط التفسيرات النكوصية التي تشوه محتواها (الابيستيميات) بصورة منتظمة. ولا ينبغي علينا أن نسقط طريقتنا في المعرفة على مؤلفات الماضي أو فلسفات الثقافات الأخرى. بل على العكس من ذلك، يجب علينا أن نسعى إلى إعادة استخدام المفاهيم من خلال استرجاعها في إطار بإستيميها. هذا ما حمله آلان دي ليبيرا على عاتقه، لما اقترح مقاربة أركيولوجية للفكر الفلسفي ضمن دروسه في الكوليج دو فرانس التي بدأت في عام 2013..
إنها تاريخانية خاصة، من نوع بنيوي، تلك التي يقترحها ميشال فوكو. هي تنضم، بشكل غير مباشر، الى وجهة نظر التاريخية في الابيسنيمولوجيا التي تريد لكل مفهوم أن يكون جزء من مجموعة ضمنها يأخذ معناه. إذا قمنا بتغيير مجموعة (من الإبيستيميات)، تؤدي عندئذ المفاهيم أدوارا مختلفة. إن الكشف عن الطابع التاريخي لمفهوم ما لا يعفي مناقشته. أن يكون هذا المفهوم أو ذاك ثمرة بنية إبستيمية مرتبطة بالزمن والسياق الاجتماعي التاريخي لا ينفي الحكم على مدى صلاحيته وفائدته.
المقال الأصلي: JUIGNET Patrick: Michel Foucault et le concept d'épistémè